أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - ترجمة الروح














المزيد.....

ترجمة الروح


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 840 - 2004 / 5 / 21 - 18:16
المحور: الادب والفن
    


تعرفت إلي حكاية هذا الرجل عن طريق حفيده . رجل لم يقم بشيء خاص أو معروف سوى أنه ترجم نفسه من اللغة العربية إلى إحدى لغات الشمال البارد. فعل ذلك طويلا، يوميا ، وعلى مدى سنوات . أرغمته ظروف قاهرة على السفر من وطنه، وربما الهجرة ، فانتقل إلى الخارج ، وعاش، وتزوج، وأنجب، ولم يستطع خلال تلك السنوات الطويلة أن يعود إلى موطنه ولو في زيارة عابرة . ولم تكن هناك في ذلك الوقت جالية عربية أو أخرى من موطنه الأصلي . فعاش وحيداً ، وبدلاً من أن يقول: “ أحبك ” كان يقول جملة أخرى بنفس المعنى لقرينته ، وبدلاً من أن يقول: "مرحباً" ” قال كلمة أخرى بنفس المعنى لجاره الأجنبي الذي يلتقي به في المصعد كل صباح. لقد ترجم الرجل معنى الكلمات،إلا أن شوقاً قاتلاً كان يتوحش بداخله للإنصات إلى لغة بلده الأصلي ، إلى عينها وغينها وسينها وصادها، ورنينها وطبول إيقاعاتها . كان يريد أن يستمع إلي لغته ولم يكن هناك من يتحدث إليه ، أو من ينطقها لأجله . وكان عليه أن يصنع معجزة : أن يقتطع من نفسه ليطعمها وأن يكون القبلة والفم ، والصوت والأذن ! فصار يخرج كل ليلة إلى الغابات المجاورة الشاسعة الباردة ، يمشى فيها بقدمين في حذاء برقبة طويلة ، ويخوض في الجليد والريح وهو يزعق بكلمات عربية ترن في هواء الليل ، فيعود إليه الصدى حاملا بعضا منها ، ينصت إليه بعطش ونهم ثم يبعث بتحياته بأعلى صوته إلى أخوته ، فيرجع الصدى إليه بأسمائهم وصورهم ، فتنتعش في نفسه ذكريات جولاته القديمة في شوارع مدينته ، فيصيح كما كان يفعل وهو يسير مع أصدقائه في الشوارع ويجلس معهم في المقاهي . وحين يوغل الليل والبرد يقفل راجعا إلى بيته منهكا ، مرتعشا . وما إن يهل الصباح حتى يجفف ندى الليل من ملابسه ، ويرجع من جديد إلى ترجمة نفسه في بيته وعمله وأثناء ركوبه الترام وشرائه الصحف.

ليلة بعد ليلة وعاماً بعد عام كان الرجل يترجم كريات روحه البيضاء والحمراء إلى كريات أخرى من نسيج آخر مشبع بأشياء أخرى . وعندما شارف الخمسين من عمره كانت الترجمة قد محت ملامح وجهه: الحاجبين ، والعينين ، والأنف ، فأصبح الرجل مجرد ساقين تخوضان في الصقيع كل ليلة ، ساق تسبق أخرى ، وصوت يتقدمهما ويشد أزرهما في الريح ، لكي تواصلا الزحف إلي هناك حيث الماضي الذي يرتجف في انتظاره . ولم يبق من الرجل القديم سوى قدمين تفتشان في الغابات عن روح مفقودة . الروح التي يصرخ يناديها ، ثم يرهف السمع في انتظار أن تعود إليه ، فلا يجد سوى الفراغ الضخم والعتمة وظلال الأشجار العملاقة والندى والصمت . يرجع إلي بيته ، ويغسل يديه بالماء الساخن ليطرد البرد منهما . يجلس قرب مدفأة ، يحس بغصة من الكلمات التي تتوحش بداخله باحثة عن منفذ تتنفس منه ، الكلمات التي تختزن في بنائها ونطقها الخريطة الوراثية للعقل والوجدان ، خزائن الأرواح الصغيرة التي تتنهد وتمرض وتندم وتبكي . يجلس مرسلا بصره من خلف الزجاج إلي الغابات المجاورة إلي أن ينعس .

في الصباح يفكر الرجل وهو يتناول إفطاره أن الكلمات قد تقبل بتغيير موطنها ، لكنها لا تغير نفسها . ويعود الرجل من جديد إلي ترجمة نفسه مع زوجته ، وفي المصعد ، وهو يلقي تحية الصباح على بائع الصحف وفي العمل . في المساء يترجم كلمة " أحبك " الناعمة كالكعكة معانقا زوجته . وحين يعم الهدوء ، يغادر السرير ، ويتلمس الطريق إلي معطفه المعلق في الردهة ، يرتديه محاذرا أن يوقظ أحدا ، ويخرج إلي الغابات المجاورة . يقطع الشارع إلي هناك ، يفكر أن الكلمات هي البشر ، إذا عاشت يعيشون ، إذا ماتت يموتون معها ، وأنها ليست مجرد معان أو صور ذهنية فحسب . ويعي أن غياب اللغة غياب البشر وحضورها يعني حضورهم . الكلمات الشيء الوحيد المنافس لمعنى العقل أو النفس ، لهذا إذا كرر رجل ما نفس الكلمات نقول إنه يكرر نفسه . يسير الرجل وحده وقد دس كفيه داخل جيبي معطفه وحذاؤه يقرع أسفلت الشارع المبلول . للكلمات قدرة على إثارة الانفعالات القوية وتفجير شحنة كهربائية ربما يتمكن العلم ذات يوم من قياس طاقتها ، ولهذا فإننا نتجنب بعض الكلمات ، ونلتف على بعضها بمختلف الوسائل ، ونحاذر الاقتراب من بعضها الآخر ، وأحيانا نستدعي كل ما في أنفسنا من شجاعة لكي ننطق كلمة . ولذلك كان القدماء من مختلف الحضارات يؤمنون بقدرة الكهنة على طرد الأرواح الشريرة بنطق كلمات محددة بنبرة وإيقاع معلومين ، ويثقون أن للكلمات المنتزعة من آلهة السماء القدرة على سحق الخصوم والأعداء. وفى تلك المعتقدات ً أن تدوين اسم كائن ما أو شئ ما كان يعنى خلق ذلك الكائن خلقا من العدم ، كما أن إحراق ذات الاسم يؤدى إلى إحراق الكائن . كان القدماء يعتقدون أن اسم المرء ينطوي على جوهر الفرد ذاته. وكان المتوفى يضمن بقاءه على قيد الحياة بقوة الكلمة أي إذا ما " ظل الأحياء ينطقون اسمه " .

يصل الرجل إلي مشارف الغابات ، ويتطلع إلي الأشجار التي ألقى الليل عليها سواده وسكونه. ينطق الكلمات ، فتبتعد قليلا ، وتحوم لحظة في الجو ، يرهف السمع منصتا إليها حين تعود . وعندما يحس أنه قد تعب من ذلك ، ينظر حوله فلا يجد سوى الصمت وساقين اثنتين تخوضان وحدهما في الريح ، تفتشان عن روح ضائعة في بخار أنفاس هائمة ، روح نادمة لأنها فارقته ، ولأنها لا تستطيع أن تدعه هكذا وحده، ولأنه لا يتركها ، ولا يحيا بها .



***

أحمد الخميسي – كاتب مصري



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فاطمة زكي ونساء الثورة
- كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد
- وجهة نظر روسية في الاستراتيجية الأمريكية لعالمنا
- الشيخ أحمد يـاسـيـن ما الذي اغتالوه .. ؟
- القاهرة تهتف للعراق
- راشـيـل كـوري ضـميـر الـزهرة
- الدكتور أبو الغار وكتابه إهدار استقلال الجامعات
- الصحافة المصرية لحظـات مضيـئـــة
- الرد على العملية الأخيرة في العراق
- محمد صدقي .. وداعا
- البيان الختامي للملتقى الأول للجان الشعبية المصرية لدعم الان ...
- ليس من جدار واحد ينشع دم الفلسطيني
- مضارب الأهواء عمل جديد لإدوار الخراط
- صورة الإسرائيلي في مصر
- ديوان - وطنيتي - قصة الروح الثائرة
- زراعة الكارثة في مصر
- الزهرة السوداء لحضارة الروائي العالمي - كوتزي
- بطاقة لطفل فلسطيني عام جديد .. يا حبيبي
- زهور قليلة في حقل الهزيمة
- عام ثالث .. على - حوار متمدن


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - ترجمة الروح