|
الدينية واللادينية والإلهية واللاإلهية
تنزيه العقيلي
الحوار المتمدن-العدد: 2761 - 2009 / 9 / 6 - 14:54
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ليأذن لي القراء الأعزاء بهذه المقدمة، التي وضعتها لمن لم يقرأ جميع مقالاتي المنشورة حتى الآن.
كإلهي لاديني، ألتقي كما سبق وبينت، مع اللاإلهيين - أي الملحدين -، ومع عقلاء الدينيين، على قاعدة ثنائية العقلانية والإنسانية. هنا كلامي عن الفريقين الذين يمثل كل منهما من جهة ما الضد مما أتبناه، فالديني هو الضد من اللادينية التي أعتمدها من جهة، واللاإلهي (الملحد) هو الضد من الإلهية التي أعتمدها من جهة أخرى.
وقبل أن أسترسل، أحب ان أبين أني سأستخدم غالبا مصطح (اللاإلهي) للـ (Atheist) و(اللاإلهية) للـ (Atheism)، بدلا من مصطلحي (الملحد) و(الإلحاد).
وأضيف شيئا هنا، أوحت إلي به بعض الردود. شخصيا أجد قاعدة (اللادينية العقلانية) هي القاعدة التي ألتقي عليها مع فريق من الإلهيين، ومع فريق من اللاإلهيين (الملحدين). وقلت العقلانية ولم أقل العقلية، لأن العقلية قضية معرفية نظرية، تمثل منظومة قوانين وقواعد، كما للرياضيات قوانينها، وكما للنحو، وكما للفيزياء، وغيرها من العلوم أو (المعارف)، بما هو أشمل من العلوم. بينما العقلانية هي أقل صرامة في قانونيتها، فهي قواعد يعتمدها عادة العقلانيون، تكون أقل ثباتا من القواعد العقلية، وهنا يجري الكلام عن العقل العملي، مقابل العقل النظري، أو ما يسميه البعض بالحكمة، ولو إن الحكمة استخدمت أيضا أحيانا بمعنى الحكمة النظرية المساوقة للعقلية التي أعنيها. أما العُقلائية فهي الدرجة الأضعف في الثبات، لأن ما يقبله أو يرفضه العقلاء، وما يحبذونه أو يستهجنونه، في زمان ما، هو غير ما يتخذ منه نفس الموقف عقلاء زمان أو مكان مغايرين. العَقلانية إذن هي الدرجة الوسطى فيما هو الثابت والمتغير، ما بين العقلية والعُقلائية.
أحد الكتاب المحترمين راح يُسفّه ويُسخّف ما كتبته عن العقلية، مستخدما نفس أساليب الدينيين في النهج التكفيري الذي يستخدمونه، فهنا نستطيع أيضا أن نتكلم عن نهج تخطيئي بالمطلق، يقترب من النهج التكفيري.
وهذا الذي جعلني أكتب عن (الدينية) عند الدينيين الإلهيين، والدينيين اللاإلهيين. فكلاهما يستخدم نفس الخطأ في دعوى احتكار الحقيقة المطلقة والنهائية، بينما اللادينيون العقلانيون، سواء كانوا إلهيين، أو لاإلهيين، يلتقون رغم التناقض فيما يتعلق الأمر بوجود الله أو عدم وجوده، بأنهم لادينيون، أي لامطلقيون، بل نسبيون. الدينية عندي التي أقصدها هي مساوقة للمطلقية، واللادينية العقلانية مساوقة للنسبية.
كنت في السابق أتصور أن التفكير المطلق، ومنهج دعوى احتكار الحقيقة هو حصرا من ملامح الدينيين بالمعنى السائد للدينية، أي لأتباع الديانات، وكنت أحسب أن اللادينيين لا يمكن أن يقعوا في دعوى المطلق، لكني وجدت مع الوقت بعض اللاإلهيين من اللادينيين يقعون في نفس خطأ الدينيين، لذا سميتهم باللاإلهيين الدينيين، فهم دينيون أيضا، بمعنى أنهم حولوا فكرة اللاإلهية والإلحاد إلى دين، يمتلك وحده الحقيقة المطلقة والنهائية. بينما النسبيون أو ما أسميتهم باللادينيين العقلانيين، سواء كانوا إلهيين أو لاإلهيين، فيرفضون الدين، والمنهج الديني للتفكير والحوار والاستدلال، لأنهم يعتبرون أن الفكر البشري كله نسبي، بما في ذلك ما يتبنون هم من قناعات، فهي نسبية عندهم، ولذا فهم لا يمارسون ما يسميه أتباع الأديان بالدعوة أو التبشير، إلا بمقدار ما هو ترويج لأفكارهم النسبية، دون أن يكونوا حريصين على أن يتبناها الآخرون، كما يفعل الدينيون من الإلهيين واللاإلهيين. فكلاهما يتمنى أن يؤمن جميع الناس بما يؤمنون هم به، ويُسفّهون ويُسخّفون ويُكفّرون من لا يتبنى رؤيتهم.
أقول بكل احترام لذاك الذي استخف بي، وسفّه أفكاري، واعتبرني مبتدئا، وجاهلا بمعرفة ما هو عقلي، لأني لا أتبنى فهمه هو للعقل، إن العقل عندي لا كما تتصوره، أو كما تتصور أني أتصوره. هو ليس جهازا عضويا، كأن يكون الدماغ أو غيره من الأجهزة العضوية، كما إنه ليس بفكرة مجردة، بل هو تعبير عن منظومة من القواعد والقوانين، تشمل الرياضيات والمنطق والفلسفة، مع الفارق بين كل من هذه الميادين الثلاثة في درجة الثبات القانوني، فالرياضيات أعلاها ثباتا، يليها المنطق، ثم الفلسفة. الذي يهمني فيما أستخدمه في التفكير الديني والإلهي، نفيا أو إثباتا، اقترانا أو افتراقا، تلازما أو تفككا، هو الأحكام الثلاثة للعقل تجاه أي مقولة من المقولات، فهي عنده إما واجبة، كوجوب كون الكل أكبر من جزئه هو، وإما ممكنة ككون جزء شيء ما مساويا لجزء آخر من نفس الشيء أو أكبر منه أو أصغر، وإما ممتنعة كدعوى أن الجزء أكبر من الكل من نفس الشيء. وأقصد بـ(العقل) هنا (هذه المنظومة القانونية المعرفية)، وكنت سأقول هذا العلم، إلا إني أخشى أن يفهم ذلك بالعلوم التجريبية فحسب، ولكوني أنتمي إلى المدرسة العقلية، التي ترى أن مصدري المعرفة هما العقل والتجربة، وليس التجربة وحسب، كما عند التجريبيين.
لماذ أقول أن الدينيين من الإلهيين ومن اللاإلهيين متساوون في طريقة التفكير والتعاطي مع الآخر المغاير، لأن كلا منهما يرفضان المغاير، حتى المغاير النسبي، فالدينيون الإلهيون يرفضون الإلهيين اللادينيين، لأنهم لادينيون، ويغفلون عن المشترك بينهما، ألا هي الإلهية. والدينيون اللاإلهيون (الملحدون) هم أيضا يرفضون اللادينيين الإلهيين، لأنهم إلهيون، ويغفلون عن المشترك بينهما، ألا هي اللادينية والعقلانية. فالديني الإلهي لا يرضى عن الإلهي، حتى يتبع دينه، فيكون إلهيا دينيا، والديني اللاإلهي أيضا لا يرضى عن اللاديني، حتى يتبع دينه، فيكون لادينيا لاإلهيا، أي ملحدا. فنجد الإلهي الديني يرتاح لطرح الإلهي اللاديني، عندما يورد الأدلة العقلية لإثبات وجود الله، ويصطف إلى جانبه، ويمتدحه فيما يعرض من أدلة على وجود الخالق، ولكن بمجرد أن يكتشف أنه لاديني، ينفر منه ويتشجنج تجاه، ويرفضه ويسفه أفكاره، ويعتبره جاهلا، وكافرا، ونجسا. وهكذا هو الحال مع اللاإلهي الديني، فهو يرتاح لطرح اللاديني الإلهي، عندما يراه يورد الأدلة على عدم صدق الدين، ويمتدحه ويعتبره رائعا وعبقريا فذا، ولكن بمجرد أن يكتشف أنه إلهي، ويسرد الأدلة على وجود الله، ينفر منه ويتشنج تجاهه، ويسفه أفكاره، ويعتبره جاهلا، غير علمي، وغير عارف بالفلسفات، وبمناهج التفكير، ومتخلفا وإلى غير ذلك. بينما الإلهي اللاديني، لا يجد عنده أية مشكلة مع اللاديني اللاإلهي، بل ولا مع الديني العقلاني النسبي، إن وجد، مع ندرة مثله، وهكذا اللاديني اللاإلهي، لا يجد عنده عقدة تجاه اللاديني الإلهي، لأن اللادينيين سواء كانوا إلهيين أو لاإلهييين، فإنهم نسبيون، ولا يدّعون امتلاك الحقيقة النهائية أو المطلقة.
أقول لمن يخالفني الرأي: بكل تأكيد أنا بالنسبة لك على خطأ، لأن الصواب عندك ما تتبناه وتقتنع أنت به، ولكن عندما تدرك حقيقة نسبية الخطأ والصواب، ستعلم أنك أيضا مخطئ بنسبة ما، ولعلك مخطئ في نفس القاعدة الفكرية الأساس التي تنطلق منها في بناء صرحك الفكري، كما يمكن أن يصدق هذا الافتراض عندي.
الكلام طويل ومفصل، وسيطلع القراء الكرام على هذه التفاصيل مع الوقت. وكما بينت في البداية، إني لست متفرغا الآن للكتابة عن هذا الموضوع، إلا بشكل محدود جدا، بل إني أختار مما كتبته حتى الآن عبر عقد من الزمن أو أكثر، ولم أنشره، بل جعلته مشروع كتاب للمستقبل، ثم رأيت أن أنزل هذه الافكار الآن، بعد مراجعة سريعة، وإجراء بعض التنقيحات. ليست القضية أن أقنع القارئ بصواب ما أذهب إليه، بل من أجل إثارة طريقة مغايرة للتفكير بشأن قضايا الدين والإيمان والإلحاد، فالقضية ليست محصورة في ثنائية الإيمان الديني والإلحاد، أو بين الإلهية الدينية واللادينية اللاإلهية، بل هناك الإيمان اللاديني، أو الإلهية اللادينية، زاعما أن الإلهية واجب عقلي، مع احترامي للأصدقاء الملحدين الذين لا يرون ما أراه، وأن الدين ممكن عقلي، ثبت عندي عدم صدقه في الواقع. فالممكن هو متساوي الطرفين، ممكن الوجود وممكن العدم، أو ممكن الصدق وممكن الكذب، وبالتالي تخضع النتيجة للفحص والدراسة. وحيث إن الدراسة لا يمكن أن تكون خالية من الثغرات مئة بالمئة يبقىة الإثبات كما النفي بالنسبة للمكن ظنيا، بينما الواجب والممتنع العقليان يكونان يقينيين عند من يراهما واجبا أو ممتنعا.
#تنزيه_العقيلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما هي مصادر المعرفة للإنسان؟
-
التلاوة العلنية للقرآن مساس صارخ بكرامة الآخرين
-
بين تنزيه الله وتنزيه الدين
-
خاطرة ستبقى تحوم حولي الشبهات
-
تسبيحة من وحي عقيدة التنزيه
-
عقيدة التنزيه ومراتب التنزيه في الأديان
-
شكر واعتذار وملاحظات للقراء الأعزاء
-
النبوة الخاصة والعامة بين الإمكان والوجوب والامتناع
-
الأنبياء بين الدعوة إليه والادعاء عليه سبحانه
-
بطاقتي الشخصية كإلهي لاديني
-
مخالفة الأحكام الشرعية طاعة لله يثاب عليها مرتكبها
المزيد.....
-
الرئاسة المصرية تكشف تفاصيل لقاء السيسي ورئيس الكونغرس اليهو
...
-
السيسي يؤكد لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي على عدم تهجير غزة
...
-
السيسي لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي: مصر تعد -خطة متكاملة-
...
-
الإفتاء الأردني: لا يجوز هجرة الفلسطينيين وإخلاء الأرض المقد
...
-
تونس.. معرض -القرآن في عيون الآخرين- يستكشف التبادل الثقافي
...
-
باولا وايت -الأم الروحية- لترامب
-
-أشهر من الإذلال والتعذيب-.. فلسطيني مفرج عنه يروي لـCNN ما
...
-
كيف الخلاص من ثنائية العلمانية والإسلام السياسي؟
-
مصر.. العثور على جمجمة بشرية في أحد المساجد
-
“خلي ولادك يبسطوا” شغّل المحتوي الخاص بالأطفال علي تردد قناة
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|