|
نقطة الخروج في مسرح أوجين يونسكو
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2761 - 2009 / 9 / 6 - 10:40
المحور:
الادب والفن
ثمة نقطة ملتبسة بين الموت ، و الحياة في مسرح أوجين يونسكو Eugène Ionesco ؛ يمكننا أن نطلق عليها نقطة الخروج ، و تمثل اللحظة التي يتحول عندها إدراك الإنسان للعبث إلى نشوة داخلية خفية ؛ تلك النشوة تدفعه إلى إعادة تعريف كينونته انطلاقا من التناقض الأصلي ، و الثراء الدلالي للصوت ، و الجسد . إن العبث يمثل أزمة الإنسان ، و نقطة خروجه في الوقت نفسه عند أوجين يونسكو ؛ فالإيغال في الأداء العبثي يكشف عن بداية التجاوز للمنطق الإنساني ، و التحام الشخصية بمرح العالم حين يبدو كدوال مفككة ، أو مادة قيد التشكل في سياق تحول اللامعقول عن مدلوله المظلم ؛ و في هذه المرحلة تتلاشى الحدود ، و تنبثق الأطياف ، و الأصوات ، و الرؤى متحررة من الألم ، و الوجود التاريخي ، و الأبنية المعرفية التي ينتجها الوعي . و يمكننا تتبع تلك النقطة في ثلاث مسرحيات ليونسكو هي ؛ المغنية الصلعاء ، و الدرس ، و تعلم المشي ، و قد صدرت بالعربية ضمن الأعمال الكاملة ليونسكو ، ترجمة الدكتور حمادة إبراهيم عن هيئة الكتاب المصرية سنة 2006 . في " المغنية الصلعاء " تتبع الشخصية تناقضات اللغة ، و انهيار الوصف العقلاني للموجودات ؛ فسؤال الهوية يظل معلقا في انتشار النماذج المتضادة ، و التي تمثل جميعها الكينونة الفردية . إن يونسكو يبني شخصياته من خلال مفهومي الغياب ، و الانتشار الدلالي اللانهائي ، و كلاهما يناهض أحادية البنية ، و لو كانت نسبية . في حوار السيد سميث مع زوجته مدام سميث يتذكر الأول وفاة الصبي بوبي واتسون ، و أن زوجته لها الاسم نفسه ، و عندما تسأله زوجته عن ملامحها يذكر تارة أنها بالغة الطول ، و الضخامة ، و ليست عادية ، ثم يصفها بالجمال ، و بأنها بالغة القصر ، و النحافة ، و نعرف من الحوار أن بوبي اسم منتشر في العائلة ، و أن أفراد العائلة كلهم تجار جوالون . من هو بوبي ؟ إنه الحركة المضادة للسؤال عن الكينونة ، و هو بهجة الولادة المتجددة دائما من الغياب . إن بوبي يحتل زوجته ، و أعمامه دون أن تتشكل بنيته . إنه يقاوم الموت من داخل الحياة في صورتها الوظيفية لا الفردية ، و هذه فيما أرى نقطة خروج بوبي من عبث التشابه . يكشف يونسكو في حوار سميث مع زوجته عن اتحاد مثلث ( الوعي ، و اللغة ، و الواقع ) في التناقض الأساسي ، و الانتشار العلاماتي الذي يفكك أي محاولة للتعميم ، رغم احتجاب الهوية في الوقت نفسه . و في وصف سميث لزوجة بوبي استحضار خفي له ، و كأن الموت يكمن في تجدد الحياة . إن بوبي / الميت يتبلور في تناقضات زوجته ؛ فهي شخصية فنية تنبع من أصالة اللامعقول ، و بهجته الحركية ؛ ففي الفضاء الممثل للزوجة نرى أثر بوبي الميت ، و امرأة نحيفة ، و أخرى بدينة في الوقت نفسه . لقد فجرت اللغة موجودات الواقع ، و الوعي المدرك معا باتجاه الثراء اللانهائي في المنظور ، و الهوية . و يبرز نص " المغنية الصلعاء " العزلة المستمرة للكائن ، و رغبته في التجدد من خلال إحداث الطفرات في الوحدات الحياتية المتكررة . هل هي لذة الدهشة الإبداعية التي يفتقدها الإنسان في تكرار الحتميات ؟ أم أنه انفصال مضاعف للظلمة المحيطة بالوعي في سياق العبث ؟ في الحوار الطويل بين السيد مارتان ، و زوجته – و كانا ضيفين لدى السيد سميث ، و زوجته – يحاول كل منهما استرجاع المكان الذي التقيا فيه حتى يصلا إلى نقاط متطابقة حول غرفة النوم ، و السرير ، و ابنتهما آليس ، و هي ذات عين بيضاء ، و أخرى حمراء . ثمة غربة ذاتية يعانيها الوعي في علاقته بالآخر . ثمة فراغ ، و نقص أساسي تولده الدلالات القديمة للمعرفة . إن يونسكو هنا يشكك فيما نطلق عليه أمر معروف ، و مفهوم في إطار بعينه من داخل وحدة الوعي ، و عزلته ، أو رغبته في الخروج من الأنماط الكلاسيكية المطمئنة للحياة ؛ و لهذا كانت آليس ذات عين حمراء ، تلك العين هي طفرة الخروج من الارتباطات المعرفية بالآخر . إنها الاختلاف الذي يكشف رعب احتجاب الوعي في اصطدامه بلاواقعية الواقع . ماري / تجسد الخادمة / ماري الرغبة في الخروج ، و استبدال الضمير المتكلم ؛ فتقول " أنا شرلوك هولمز " عقب تحليلها لحورات السيدين مارتان . ماري توغل في استبدال الهوية ؛ لكي تنفي المعرفة التقليدية بالكامل في ذلك الصوت الذي استحضرته ليمثلها في المشهد ، و هو شرلوك هولمز . ماري هي سؤال التغير الذي قاومه السيدان مارتان ، و قد صار واقعا منافيا لثوابت الحياة البورجوازية الراقية . الإطفائي / لشخصية الإطفائي بعدان رئيسيان في مسرحية " المغنية الصلعاء " هما : الأول : البروز المفاجئ ؛ فقد أتى بلا حريق ، أو حدث يستدعي وجوده عند آل سميث ، و قد مزجه يونسكو في النص بطيف يطرق الباب قبل ظهوره . ثانيا : يرتكز المدلول النصي للإطفائي على وظيفة الحكي ؛ أي أنه حكاء ، و ليس إطفائيا ، و من ثم فهو يمثل تعدد الهوية ، و إحداث فجوات بين الدال ، و المدلول . يقص الإطفائي بعض الحكايات التي يسميها نوادر مثل ؛ رجل تزوج معلمة شقراء تدعى ماري ، تزوج شقيقها من ماري أخرى ، هي أيضا معلمة شقراء . الإطفائي يفرغ الحدث من الحدوث الفردي ؛ فالحدث عنده معلق في دائرة من السخف ، و التكرار ، و التشابه ، و كأنه يفكك الحكي نفسه ، و يقول لآل سميث أن لا شيء يحدث ، مثلما جاء هو دونما حريق أو منطق . الإطفائي يستدعي التكرار الدائري ؛ ليهدد الهوية ، و يعيد إنتاجها في تناقض ثوري ؛ فقد سأل مدام سميث عن المغنية الصلعاء ، فأجابته بأنها مازالت تمشط شعرها . لقد اكتسبت الهوية هنا ثراء لا يمكن اختزاله أبدا ؛ فالمغنية الصلعاء ولدت فجأة – مثل بوبي – من الغياب ، و في اللحظة نفسها ازدوجت في الدوال المتضادة المتعالية على الصوت الواحد . و في هذه المرحلة من التطور النصي يمتزج الرعب ، و الفانتازيا ، و المرح في غناء بشري لا ينتمي للمنطق ، فتتكرر الأصوات الجماعية المجردة من شخوص المسرحية . الصوت الجماعي يتخذ من التناقض نموذجا تأويليا للعالم . و في مسرحية " الدرس " ينتقل المدرس من الحساب إلى فقه اللغة ، و يمتزج حديثه للفتاة عن علامة / السكين في اللغات المختلفة ، بانهيار تدريجي في طاقة الفتاة الجسدية ، ثم يقتلها ، و يأمرها بالانصراف ، و في تذكيرها له بالجريمة تربط الخادمة بين فقه اللغة ، و القتل . يؤكد يونسكو في هذه المسرحة تناثر الشخصية ، و انقسامها في تعدد الحالات ، و الأصوات داخل المدرس ، و لكننا نكتشف أن هذا الانقسام الأساسي في الكينونة يتضاعف في علامتي السكين ، و الفتاة ، فالسكين هو التدمير المجازي الذي يمارس إغواء داخليا بالتفكك . أما الفتاة فتسقط في آلام الجسد ، و انهياره الذاتي ، أو رغبته الخفية في الخروج من حتميات السلطة . ثمة خروج سلبي في هذه المسرحية من الأبنية ؛ فمطابقة الدال للمدلول في اللغة تستدعي أن يكون السكين مدمرا في وعي المدرس ، فالمطابقة هنا تنطوي على تناقضات اللامعقول ، و انفتاح طاقته الخفية من داخل الدرس ، و نموذجه المهيمن على الوعي . في اللحظة التي يكتشف فيها المدرس سطوة العبث ، يولد مرح التنامي اللانهائي لهذه الطاقة المجهولة فيتفكك الصوت خارج تاريخه ، و وضعه الاجتماعي الأول . و يتخذ الخروج مدلولا إيجابيا في مسرحية " تعلم المشي " ، و فيها يتحول الفتى المشلول فجأة إلى راقص ماهر ثم يصعد عبر سلم مضيء إلى السماء . أما ممرضته فتصبح راقصة أيضا ، و تنزع عنها الملابس في مكان يذكرنا بتجدد الحياة في الربيع بعد أن كان مستشفى . إن يونسكو ينتقل هنا من أقسى درجات الرعب في مسرح العبث ، و هي قبول الصمت ، و السكون ، أو الموت ، إلى بهجة الحياة المتجاوزة لأي قلق عدمي إنساني . لقد انبثق الموت فجأة في النص في سياق لا معقولية توقف أعضاء الجسد ، و من اللامعقول نفسه ينتقم يونسكو من الموت بتحويله إلى رقصة باهرة مضيئة تسترجع عودة الربيع ، و تجدد الجسد الأنثوي للممرضة . لقد صارت بنية الجسد بحد ذاتها حلما بالخروج ، و استباقا للحياة في تضاعفاتها اللانهائية . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الد
...
-
الوعي المبدع يتجدد .. قراءة في كتاب المغني ، و الحكاء ل فاطم
...
-
انطلاق القوى اللاواعية .. قراءة في دموع الإبل ل محمد إبراهيم
...
-
الإكمال الثقافي في فكر أرنولد توينبي
-
الاندماج الأول بالعالم .. قراءة في تفاصيل ، و تفاصيل أخرى ل
...
-
سرد في نسيج الحجر .. تأملات في طبعات الأيدي القديمة
-
امتداد التجارب النسائية .. قراءة في نساء طروادة ل يوريبيدس
-
سياق شعري يشبه الحياة .. قراءة في تجربة فاطمة ناعوت
-
تأملات جمالية في الأنا الأعلى
-
تجاوز الذات التاريخية .. قراءة في أحب نورا .. أكره نورهان ل
...
-
العولمة ، و الاختلاف
-
شهوة الكتابة ، و نشوة الغياب .. قراءة في الرغام ل علاء عبد ا
...
-
الأنا ، و إيحاءات الأشياء الصغيرة .. قراءة في اسمي ليس صعبا
...
-
التأويل الإبداعي ، و دراسة التاريخ .. قراءة في دروس التاريخ
...
-
الانتشار الإبداعي ، و التناقض في قضايا النوع
-
تجدد الحياة في صمت النهايات .. قراءة في مواسم للحنين ل محمد
...
-
صراع ضد الحتميات السائدة .. قراءة في نقطة النور ل بهاء طاهر
-
دراسة الهوية الثقافية تتميز بالتعقيد ، و التداخل
-
وهج البدايات النصية .. قراءة في حجر يطفو على الماء ل رفعت سل
...
-
انطباعات حسية تقاوم العدم .. قراءة في نصوص منى وفيق
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|