|
مفهوم الاسلام للبنى الفوقية والبنى التحتية
ابراهيم علاء الدين
الحوار المتمدن-العدد: 2758 - 2009 / 9 / 3 - 16:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عرضت في المقال السابق المنشور في الحوار يوم الاحد الماضي مفهوم من يرون باسبقية الانتاج الفكري على الانتاج المادي وكان من ابرز رموز هذا الاتجاه الرئيس الكوري الشمالي السابق "كيم ايل سونغ" كما تضمن المقال عرضا سريعا لبعض قواعد الفلسفة الماركسية – المادية التاريخية .. وكنت في مقدمة المقال اعلنت انحيازي للمفهوم المادي في تفسير التاريخ. وهذه السلسة من المقالات لا تستهدف الدخول في سجالات نظرية (لا تستهوني المساجلات النظرية) وانما ما اسعى اليه هو البحث عن كيفية ايجاد حلول عملية للمشكلات الواقعية التى تمر بها بلادنا وشعوبنا وكيفية الارتقاء والتطور حضاريا للحاق بالشعوب التي سبقتنا بمراحل تاريخية على طريق التطور والحضارة. وفي مقال اليوم اتابع محاولة الاجابة على السؤال "الذي وصفته - بالأزلي- ". وهو من هو الاسبق في صناعة التطور البشري .. هل هو البنية التحتية ام البنية الفوقية ..؟ ولما كانت بلادنا تسيطر عليها الايديولوجية الدينية بشكل عام وان كانت الاسلامية هي الغالبة فانني سوف اعرض في مقال اليوم وجهة نظر الايديولوجية الاسلامية (الدين الاسلامي) لمفهوم البنية التحتية والبنية الفوقية، وكيف ينظر الاسلام لكيفية وشروط تحقيق التطور والحضارة ، حيث يقوم الفهم الديني الاصولي على اعتبار ان البنية التحتية هي القاعدة التي بدونها لا يمكن اقامة بنية فوقية، كما ان المفهوم الاصولي للدين (اهل السنة والجماعة ويتفرع منها جماعات السلف والاخوان المسلمين وباقي تيارات الاسلام السياسي متدرجة التطرف. ويختلف اسلام هذه الجماعة عن اسلام المتصوفة او اسلام الظاهرية او اسلام الاشاعرة او اسلام الشيعة او اسلام الخوارج او اسلام القرامطة. او اسلام غالبية المسلمين من المواطنين العاديين الذين اصبح الدين بالنسبة لهم ملاذا روحيا عند الازمات والشدائد ومجرد سلوكيات عبادية اقرب الى العادة منها الى العبادة. ولما كانت جماعة السنة تشكل العدد الاكبر من مجموع المسلمين، ومنها تتشكل تيارات الاسلام السياسي في الوقت الراهن ولديها طموح كبير للوصول او السيطرة على السلطة لفرض منهجها ورؤيتها للحياة والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فاننا سوف نحاول التعرف على فهمها للبنى التحتية والفوقية ودور كل منهما وايهما اسبق في تاثيرها على التطور الحضاري للبشرية.
ما هو مفهوم البنية التحتية لابد هنا من الاشارة الى ان علماء السنة يرفضوا رفضا قاطعا تعبير (البنى التحتية والفوقية) ومع ذلك يستخدمون هذا التعبير في مجادلاتهم وسجالاتهم مع الايديولجيات الاخرى (الوضعية). ويقول مفكروا وعلماء الجماعات السياسية الاسلامية التي تتخذ من اجماع (اهل السنة والجماعة) ملهما ومرشدا لهم ان مفهوم البنية التحتية عند اهل السنة والجماعة بكافة مسمياتهم هو "الان الاسلام بني على خمس" ويرجع هؤلاء في قولهم هذا الى حديث النبي محمد ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان ) صحيح البخاري. ويعتقد علماء الاسلام ان هذه الفرائض الخمس هي البنية التحتية للمجتمع المسلم وفوقها يقام لابناء الفوقي من فرائض وشرائع وممارسات وسلوكيات. أي ان البنية التحتية عند هؤلاء هو الايمان المطلق بالله ورسوله ومن ثم ممارسة الطقوس التي تظهر عبودية الانسان لله ورسوله. يقول الدكتور يحيى فرغل عميد كلية اصول الدين بالازهر سابقا "وفي أعماق البنية التحتية يأتي " التسليم" الإيماني " لله وحده ورسوله الأمين ، " لا إله إلا الله محمد رسول الله " هذا التسليم الذي يمثل عمق أعماق الإسلام . إن التسليمية طبيعة أولى في المخلوق بالنسبة لخالقه بحكم مخلوقيته ، وبالتالي فهي طبيعة أولى في الإنسان : . فإذا لم يختر الإنسان من يسلم وجهه إليه الذي هو الله الخالق بوعي صادق وقع في التسليم لغير الله ، ولكن الإنسان في جميع الأحوال لا ينكر - أو بتعبير أدق لا يمكنه أن ينكر - على الخالق أنه المـُسلـَم له بحق" . (مقال حول البنى التحتية والفوقية). ويضيف دكتور فرغل ليؤكد ان التسليم الايماني هذا يمنع منعا باتا الشك او التساؤل حول على سبيل المثال " لماذا تكون ركعات الصلاة اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ؟ لماذا يكون الصوم شهرا ولا يكون ثلاثة أسابيع أو خمسة ؟ ولماذا تكون حصة الزكاة جزءا من عشرة أجزاء ، ولا تكون جزءا من تسعة أو من خمسة عشر ؟ ". ويتابع قائلا " إن هذه الأوضاع في نهاية الأمر – تسليمية لا موجب من العقل للتحكيم فيها بالاقتراح والتعديل". وان هذه التسليمية هي الصفة الجوهرية للمخلوقات من أدناها إلى أعلاها". و " أن يكون المسلم مسلما نفسه لله في كل ما يأخذ ويدع ، وما يسكن فيه أو يتحرك ، وما يكبر عليه أو يصغر ، وما يحيا له أو يموت" .
خمسة او ثمانية او ثلاثة وبناء على هذا الفهم يرفض الاسلام الاصولي العلمانية والليبرالية والديمقراطية حيث يعتبر فرغل " أن العبادة في الإسلام لا تنعزل في جانب من جوانب الحياة دون غيره كما هو الحال في التصور العلماني المستأنس ، أو العلماني المنافق ، أو في بعض الأديان ، أو في بعض الاتجاهات الإنعزالية ، إنه بالنسبة لله ليس هناك قيصر يشارك الله ، ولا مخلوق يتوجه لغير الخالق ، ولا مسلم يسلم لله في شيء دون شيء ، إن كل عمل يقوم به الإنسان أو نية يعقد قلبه عليها ، أو كلمة يجهر أو يسر بها ... تصبح حركة تسليمية على الفور ، إذا توجه بها إلى الله سبحانه وتعالى وتصبح تمردا على الله إذا خرج بها عن طريق التسليم" . ورغم ان البخاري نقل في الحديث عن النبي ان الاسلام بني على خمس (كما ذكر اعلاه) الا انه جاء في مصنف عبد الرزاق بسنده عن حذيفة عن النبي قوله ان الاسلام بني على ثمانية اسهم :شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ، والحج ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد خاب من لا سهم له). ويذكر الإمام ابن عبد البر النمري صاحب التمهيد ج 16 ص عن ابن عباس أنها ثلاثة يقول: (وقد روي عن ابن عباس أن أعمدة الإسلام ثلاثة : الشهادة والصلاة وصوم رمضان). ويعتقد اتباع الاسلام الاصولي ان البنية الفوقية هي المنظومة الاخلاقية التي يلتزم بها المسلم وهم بهذا المفهوم يتقاطعون بحدة مع المفهوم المادي للتاريخ او المفاهيم الوضعية بمجملها. يقول الدكتور فرغل "وذلك مقتضى الشهادتين كشرط صحة لكل ما يأتي بعدها مما يقوم عليها ، وهو أيضا مقتضى الصلاة وفقا لقوله تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) فأنت إذا انتهيت عن المنكر مستحضرا الانصياع لأمر الله ونهيه فأنت حينئذ في ممارسة صحيحة لإقامة مبنى الإسلام . أنت كذلك إذ تمتنع عن : السرقة ، والزنا ، والرشوة والخمر ، والقمار ، والربا ، وقتل النفس بغير الحق ، وعق الوالدين وقطع الأرحام ، وخيانة العهد ، واحتكار السلع ، وغش التجارة والإخلال بالنظام ، وقذف المحصنات ، والجهر بالسوء من القول وفحش القول والفعل وقول الزور والعمل به ، والجهل ، وبث الفتنة ، وموالاة الكفار ، وخذلان المسلمين ، والانتصار عليهم بحلف مع أعداء الدين ، إلخ وفي البنية التحتية تأتي الشهادتان بحكم الحديث ، ثم تمتد من البنية التحتية بعد أن تكون إيمانا بعقد القلب ، إلى البنية الفوقية إذ تكون روحا لجميع ممارسات المسلم : تصديقا عقليا ، وعقدا قلبيا ، وقولا باللسان ، وعملا فرديا أو عملا اجتماعيا ، أو جهدا حضاريا على النحو الذي قدمناه عن " التسليم " وفي البنية التحتية تأتي الطهارة كمقدمة لأحد أركانها : الصلاة ، : طهارة الظاهر من جوانبه المختلفة ، من النجاسات ، ومن الحدث ، ومن الفضلات ، وهي طهارة تصعد لتكون تطهيرا للجوارح عن الجرائم والآثام ..ثم تصعد بعد ذلك لتكون تطهيرا للقلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة ..ثم تصعد لتصبح تطهيرا " للسر " عما سوى الله تعالى .. وتأتي الصلاة في البنية التحتية بحكم الحديث ، ثم تمتد من البنية التحتية بعد أن تكون صلة بالله إلى البنية الفوقية إذ تكون في بعض أحوالها رابطة جماعية تظهر في صلاة الجماعة حيث يتعلم الرجل ألا يتقدم لإمامة قوم أو رئاستهم وهم له كارهون ، وألا يقدم نفسه للإمامة أو الرئاسة على من يعلم أنهم أفضل منه ، ويتعلم المبادرة إلى تحمل المسئولية إذا صفت له هذه الإمامة أو الرئاسة ، كما يتعلم الرفق بالناس في قيادتهم ، وكما يتعلم المسلم ذلك من كونه إماما فإن المسلمين يتعلمون الكثير من كونهم مأمومين ، إنهم يتعلمون حسن اختيار الرئيس أو الإمام ، ويتعلمون آداب السلوك في حالات اجتماعهم : من النظافة ، ومن الزينة ، ومن البكور إلى مكان الاجتماع ، ومن أدب الدخول إلى مكان الاجتماع ، ومن أدب الانتظام في الصفوف ، كما يتعلمون قيمة الانتماء إلى الجماعة ، وإعمال الفكر والنصيحة والمشاورة والاهتمام بالشئون العامة من خلال خطبة الجمعة وصلاة العيدين على سبيل المثال . وتأتي الزكاة في البنية التحتية بحكم الحديث ، ثم تمتد من البنية التحتية بعد أن تكون عبادة لله إلى البنية الفوقية إذ تصبح صلة بالناس وبناء للعلاقات وجبرا للثغرات ، وفهما لوظيفة المال ، تستدعي : إدراكا للمالك الحقيقي ، وسعيا للكسب بالعمل ، ، ومنعا للجشع ، وتجنبا لمواقع الريبة والاشتباه ، ورفعا ليد السفهاء عن المال ، وغلقا للمصادر الموبوءة للحصول على المال أو التصرف فيه : من الربا والسرقة والنهب والاختلاس والاحتكار والجشع ،.ويأتي الصوم في هذه البنية التحتية بحكم الحديث كذلك ، ثم يمتد من البنية التحتية بعد أن يكون لله إلى البنية الفوقية إذ يصبح مشاركة في مشاعر المحتاجين والمحرومين ، وتخلقا بأخلاق الصوم في معاملة الناس : من صوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء ، وصوما للسمع عن الإصغاء إلى مكروه عملا بأن ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه (غالبا ) ، وصوما للبصر عن النظر إلى ما يحرم النظر إليه من محارم الآخرين ، وصوما للجوارح من اليد والرجل عن الآثام وما يؤذي الآخرين ، وكفا للبطن عن الشبهات وقت الإفطار فلا معنى للصوم وهو الكف عن الحلال ثم الإفطار على الحرام ، وتجنبا للاستكثار من الطعام الحلال وقت الإفطار فلا يزاحم الآخرين على حلالهم ، وقهرا للشهوات التي تتطلع إلى الاعتداء على حقوق الآخرين .. ويأتي الحج في البنية التحتية بحكم الحديث ثم هو بعد أن يكون تبتلا في المناسك يمتد إلى البنية الفوقية إذ يؤثر في الجماعة بما التزمه الفرد من آداب الأداء : أن تكون نفقته للحج حلالا ، وأن يكثر من البذل والنفقة في سبيل الله ، وأن يترك الرفث والفسوق والجدال ، وأن يريق الدم في سبيل الله وإن لم يكن واجبا ، وأن يكون طيب النفس بما أنفق ، وأن يشعر بما يمليه عليه الحج من شعور المساواة والأخوة ، وأن يشارك المسلمين الرأي والنصيحة والعون والتعاطف والتراحم والشكوى والفرح والأمل . البنية الفوقية ومن البنية التحتية يتوالى تكوين البنية الفوقية : تتوالى - الثمرات وتتسع وتزكو بحكم مبادئ مقررة في الشريعة الإسلامية منها : شمول العبادة لكل جوانب الحياة بشرط التوجه فيها إلى طاعة ، وفي المقدمة من ذلك : تعمير الأرض وفقا لقانون الخلافة البشرية والحضارة الربانية ، والجهاد ، فهو سنام الدين ، وإعداد القوة التي ترهب عدو الله وآخرين من دونهم لا نعلمهم الله يعلمهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي استحقت الأمة به أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، والقيام بأمانة الولاية العامة والخاصة والرعاية العامة والخاصة ، والشورى ، والعدل ، والتكافل ، وطلب العلم وتحصيله ، وطلب الرزق بالعمل الصالح ، وحسن التربية على محاسن القيم ، والتمييز بين الوسائل والغايات ، والثوابت والمتغيرات إلخ . والعبادة في شئون الحياة اليومية تنزرع في البنية التحتية ولكنها تثمر في البنية الفوقية ، إذ ليس مقبولا في الإسلام أن ينقطع المرء إلى أداء العبادات الرئيسية بانقطاع عن وقائع الحياة اليومية « تَعْدِلُ بَيْنَ الإِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ. وَتُعِينُ الرّجُلَ فِي دَابّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعهُ، صَدَقَةٌ» : «وَالْكَلِمَةُ الطّيّبَةُ صَدَقَةٌ. وَكُلّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصّلاَةِ صَدَقَةٌ. وَتُمِيطُ الأَذَىَ عَنِ الطّرِيقِ صَدَقَةٌ»."وأَنْ تَلْقَىَ أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ».صحيح مسلم ومن ذلك : إفشاء السّلاَمَ، وإطعام الطّعَامَ، وَصِلُة الأَرْحَامَ، وإكرِامْ الضيف ، ونطق بخير أو ليصمت ، وعِيادة المريض ، واتباع الجنازَة ، وتشمِيت العاطِس ، وإبرار المقْسَم ، ونصرِ المظلوم ، وإفشَاء السلام ، وإجابة الدّاعي . وفي تدبير المنزل : «غَطّوا الإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ ، وَأَطْفِئُوا السّرَاجَ " صحيح مسلم وفيه «يَا غُلاَمُ سَمّ اللّهَ. وَكُلْ بِيَمِينِكَ. وَكُلْ مِمّا يَلِيكَ». ولا يهجر أخاه فوق ثلاث ، ولا يأتي يوم القيامة مفلسا بصلاة وصيام وزكاة و قَدْ شَتَمَ هَـَذَا، وَقَذَفَ هَـَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَـَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَـَذَا، وَضَرَبَ هَـَذَا. فَيُعْطَىَ هَـَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَـَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَىَ مَا عَلَيْهِ. أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ. ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ». وفي كراهية الفوضى والاضطراب «أَما يَخشى أَحدُكم ـ أَوْلا يَخشى أَحدُكم ـ إِذا رَفعَ رأْسَهُ قبلَ الإِمامِ أَن يجعلَ اللهُ رأْسَهُ رأْسَ حِمارٍ، أَو يَجعلَ اللهُ صُورتَهُ صورةَ حِمارٍ». و«إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ ـ أَوْ مَنِ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ فَلاَ يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتّىَ يُصْلِــــحَ شِسْعَهُ. وَلاَ يَمْشِ فِي خُفَ وَاحِدٍ. وَلاَ يَأْكُلْ بِشِمَالِهِ. وَلاَ يَحْتَبِي بِالثّوْبِ الْوَاحِدِ. وَلاَ يَلْتَحِفِ الصّمّاءَ». هكذا يظهر البناء شيئا فشيئا بنية فوقية وفي العمق بنيتها التحتية .وفي البنية الفوقية تأتي مجموعة من العبادات الكفائية، غفل المسلمون عنها في العصر الحديث وأخذوا يصنفونها تحت عناوين مستحدثة ، لا تشعر بصلتها بالإسلام في غفلة منهم عما له من بنية فوقية تقوم على بنيته التحتية ، ، كزراعة القمح باعتباره سلعة استراتيجية بدلا من استيراده ، أو التفوق في هندسة المدن أو طب الأبدان ، أو قيادة الطائرات ، أو إصلاح السيارات ، ، أو الاهتمام بتكنولوجيا الأقمار الصناعية ، ، أو الريادة في الكيمياء الحيوية ، ، أو الهندسة الوراثية ، أو بناء المفاعلات الذرية ، أو امتلاك الأسلحة التي ترهب أعداء الله ، والقيام بشتى المناصب ، وحراسة الأمن، والقضاء بين الناس وإجادة الفنون والصناعات التي ينهض بها العمران ، وتحيا عليها الأمة وغير ذلك من الشئون المهمة إلخ ..وكلها لها أماكنها الخالية حاليا للأسف – كأنها المساجد الخالية – في البنية الفوقية المفترضة في الإسلام . ومن هذه البنية الفوقية الصبر على البلاء ، والصبر على الطاعة : والصبر على تكاليف الدعوة الإسلامية ومن البنية الفوقية الصبر بمعنى مقاومة العدوان ، وهذا الصبر إنما يعنى الصبر على التمسك بالحق والخير وحرية الإنسان وعزته وكرامته ، ومقاومة الباطل والشر والاستبداد والمهانة والمذلة.
تناقض مع القران لكن هذه الرؤية للبنية التحتية والفوقية لدى علماء السنة والجماعة (معظم تيارات الاسلام السياسي) تتناقض مع نصوص القران نفسه حيث ان القران والذي يعتبر المرجع الاول والرئيسي لمفهوم علماء المسلمين عن الحياة والكون والتطور وكل ما يتعلق بحياة البشر يقول تعالى فيه " ((فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً))[الأحزاب:43]، ويقول تعالى: ((سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً))[الأحزاب 38] وقال أيضاً: ((سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ)) [ غافر: 85]. وفي اية اخرى قال: ((ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) [النحل89]. وهذه الايات وغيرها الكثير ان كافة شؤون الحياة مكونات الطبيعة وحركتها وتبدلاتها وتطوراتها مرسومة ومقررة سلفا ولا يوجد ادنى دور في للانسان جسديا او عقليا. كما ان القوانين المنظمة للحياة الاجتماعية والحياة الطبيعية مقررة سلفا وذلك بقول الله : ((فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَــــــوْمِ الآخِرِ)) [النساء 59]. ورغم ما سبق فان الله يقول في اية توقف عندها الكثير من علماء علم الاجتماع والاديان وبعض الفلاسفة انه لن يغير شيئا الا اذا غير الانسان من نفسه فيقول : ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11]. والله ايضا هو الذي اعطى المعرفة للانسان مذ خلقه اذ يقول : ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)) [البقرة:31]، وكافة الايات السابقة تؤكد ان سنة الله لا تتبدل ولا تتحول. ولما كانت العقيدة عند علماء المسلمين لا تؤخذ الا من القران والسنة استنادا الى الاية التي تقول : ((وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولا الإيمَانُ ولَكِن جـَـعَـلْـنَــاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَذِي لَـهُ مَــا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ)) [الشورى 54]. كما ان الايمان بالغيب يمثل اساسا لا يقبل النقاش بقوله تعالى : ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [البقرة 3]. اذن ومن خلال تأمل الايات السابقة يتضح بما لا يقبل مجالا للشكل ان الانسان لا دور له ولا وزن ولا قيمة سواء كان الامر يتعلق بمصيره او بمصير الارض التي يحيا عليها او السماء التي تظلله، ودوره محصور فقط في القيام بعبادة الله وتنفيذ اوامره وشرائعه والمقررة لتنظيم حياته الاجتماعية .. فلا دور له في الحضارة او التطور او النمو وربما هذا ما يفسر السبات العميق والتخلف الشديد الذي تغرق فيه الدول ذات الاغلبية السكانية المسلمة (ما تسمى ببلاد العرب والمسلمين). ويعزز هذا الاعتقاد الجانب القدري التسليمي والذي تعبر عنه الاية ((ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ...)) [ التكوير 29]. وعلماء الاسلام من اهل السنة والجماعة لا يعترفون بدور الحس او العقل في الوصول الى المعرفة، ويرفضوا المنهج العقلي والعلمي كطريق للوصول الى المعرفة، فالمعرفة لا تاتي الا عن طريق القران والسنة النبوية، وهم يتبعون ابن تيمية الذي يوصف بشيخ الاسلام ويتعبره اهل السنة والجماعة شيخهم ومرشدهم واعلم علماء المسلمين في انهم لا يقدمون على الشرع شيئاً، فهم يعارضون المعتزلة وغيرهم في تقديم العقل على النقل وكذاك يعارضون تقديم الحس على النصوص. ويقول ابن تيمية:"وهو سبحانه عَلِمَ ما في الأذهان، وخلق ما في الأعيان وكلاهما مجعول له، لكنّ الذي فـي الـخـــارج جعله جعلاً خلقياً، والذي في الذهن جعله جعلاً تعليمياً.."(6). ويقول ايضا "والطريق المشهور عند المتكلمين هو: الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وقد بينا الكلام على هذه في غير موضع، وأنها مخالفة للشرع والعقل.. ". ويقوم منهج أهل السنة على إثبات "المشيئتين"، وتقديم مشيئة الله على مشيئة البـشـــر، وفي هذا يقول ابن تيمية: "أثبت الله "المشيئتين" مشيئة الله ومشيئة العبد، وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب" وقال أيضاً: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسـبـاب أن تـكــــون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على سبب من الأسباب، والله ييسر من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة"(9). وينكر علماء السنة اتباع ابن تيمية من الوهابية وما تفرع عنها من جماعات السلف والاخوان المسلمين مرور البشرية بمراحل تاريخية متعددة من مجتمع الصيد الى الرعي الى الزراعة ، والراسمالية، وينكروا التاريخ البشري وما مر به من عصور كالعصر الحجري والبرونزي والحديدي بل وينكروا تاريخ التطور البشري كله ،وكل ذلك استنادا الى قصة الخلق وان آدام ابو البشر وقد تعلم الاسماء كلها - أي اعطاه المعرفة كلها وكلفه باعمار الارض وفق سنن لا تتبدل ولا تتغير، وان كل ما شهدته البشرية من احداث اجتماعية او طبيعية فانها ليست الا بناء على سنن مقررة محفوظة في لوح محفوظ وان ما سوف تهده مكتوب في ذات اللوح وما للانسان أي دور في صناعة ماضيه او حاضره او مستقبله. يقــول تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [البقرة 213]. ورغم محاولات العديد من الفرق والجماعات الاسلامية على مر التاريخ من تعديل هذا الفهم المتزمت الذي يلغي دور الانسان ويقصره على العبادة الا ان كل تلك الجماعات فشلت في تحقيق اهدافها بل قاتلها واضطهدها حكام المسلمين (خلفائهم) في كل عصر في سياق الحفاظ على السلطة في سلالة القبيلة والعشيرة، وظلت جماعة اهل السنة والجماعة تمثل القاعدة الفكرية والسياسية للسلطان وما زالت حتى عصرنا هذا.
وللحديث بقية
#ابراهيم_علاء_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من الذي يسبق الاخر الانتاج المادي ام الفكري
-
سيد القمني: اصوم رمضان واصلي التراويح وأقرأ القرآن
-
تطور الانتاج المادي جاء بالاديان الثلاثة
-
علامات على الطريق ... موت الاسلام السياسي
-
حتى لا تضيع جهودكم هباء منثورا
-
الكذاب اذا خاصم فجر .. واذا اؤتمن خان
-
مملكة الكراهية .. تعبث يالحرية
-
فتح الجديدة لن يوقفها الخطاب العصبوي المتطرف
-
ماوتسي تونغ يرد على المتعلمنين الداعين الى ابادة المسلمين
-
حوار مع مواطن مسلم عادي
-
حركة فتح هي القادرة على هزيمة مشروع الاسلام السياسي في فلسطي
...
-
صناعة الانسان ودوره في الارتقاء بالاوطان
-
الاستاذة رشا ممتازممثلة العلمانية الحقيقية
-
حوار مع الاستاذ سيمون خوري -نعم نريد بناء دولة وليس كنيسة او
...
-
طالما الفساد هو السبب .. فمطلوب حل النظام السوري.. وليس اتحا
...
-
الديمقراطية في الحياة الداخلية للأحزاب السياسية العربية
-
الليبرالية ومواهب ومميزات رجال وسيدات العلاقات العامة (4)
-
العلاقات العامة تفتح الطريق امام الليبرالية (3)
-
كيف يحقق الليبراليون الانتصار ( دور العلاقات العامة ) (2)
-
ليس بمهاجمة الاسلام تنتشر الليبرالية
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|