|
نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الدين إسماعيل
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2753 - 2009 / 8 / 29 - 06:54
المحور:
الادب والفن
في ديوانه " هوامش في القلب " ، الصادر عن هيئة قصور الثقافة المصرية 2007 – يستعيد الشاعر ، و الناقد الراحل الدكتور عز الدين اسماعيل الأسئلة حول قيمة الذات ، و تأملاتها الشعرية في سياق المآسي الوجودية ، و التناقضات ، و الصمت العبثي إزاء التعارض بين المتكلم ، و سياقه الثقافي ، و من ثم فقد ارتكزت لغة الديوان على مسارين يعيدان إنشاء الذات في صيرورة سيرية جديدة تناهض نقطة البدء / القيمة ، من داخل البحث عنها في تحقق آخر ، يحمل بدايات جديدة . المسار الأول يقوم على نشوء جديد ، و مستمر لخصوصية التجربة من خلال متاهة المآسي ، و التعارضات المفاهيمية ، و الوجودية ، و الانسحاق ، و التهميش ، و كأننا أمام لغة نيتشوية تتولد بهجتها الأخرى من داخل السقوط ، و الغياب ، و إن كان المتكلم عند عز الدين اسماعيل يبحث عن حياة توازي أصلا مفقودا ، و لا يدور في حلقة البهجة و التدمير كنقطة ارتكاز ، و لكن بهجة الكتابة هنا تتمثل في إعادة وصف المأساة بما يتعارض معها ، و هو دلالة الولادة الجديدة في لغة – أو سيرة تجمع مفردات المأساة المتناثرة فيما يشبه الذات . يقول في قصيدة " أنا و العراف " : " بين الموت ، و بين الميلاد / لحظة صمت ساقطة بين الأضداد / لا طعم لها / لا لون لها / شاحبة كالخط الفاصل بين النور ، و بين الظلمة .... يا عراف مدينتنا / أتظل رحا الأيام تدور بلا غاية ؟ / تلتفت يسارا حينا / و يمينا حينا / ثم تدور بلا دوران / أتظل الآمال مدلاة الرأس على مقصلة المجهول ؟ " . لحظة الحضور عند المتكلم تقوم على غياب أساسي في التعارضات ، و الأسئلة ، فهي تحدث انشطارا بين الصوت المركزي ، و الوعي الذي يخاطب العراف في سياق صمت عبثي لهذا الآخر المتعالي ، و لكن نستطيع أن نلمس خصوصية الذات من خلال الفراغ الكامن وراء الأسئلة . هذا الفراغ الذي يولد من السقوط سياقا جديدا لخصوصية المعرفة السلبية ، و البدء في تشكيل ذات جديدة من خلالها لا من خلال قيمة مثالية أولية نموذجية . و يقوم المسار الثاني على حلم التجاوز ، و الخروج من المأساة من خلال استشراف ما ورائها عند بلوغها الذروة ، و هنا تتحول أخيلة الذات الأولى الحكيمة إلى خروج كامل من السياق الثقافي ، و الوجودي للتكوين ، يقول في قصيدة " حوار مع الطبيعة " : " تتعرى الحكمة تبرز للعريان / من ينفض عنه القشرة ... / الحكمة في أن ألفظ عني القشرة عاما بعد العام / لن أملك هذا العالم إلا حين أجن / لن أملك نفسي إلا حين أموت " . في هذا المسار يعلو صوت المتكلم حين يفقد تكوينه ، أي يستنفد نفسه في حلم المستقبل ، لا الماضي ، و لكنه يستشرف هذا الصوت المقبل .. الموت المقبل معا ، و كأنه حقق التجاوز في القصيدة من خلال عملية تقشير الذات في سياقها الراهن . إنه يحدث انشطارا في لحظة الحضور بين إرادة الفقد ، و إرادة التجاوز و ازدواجهما في صوت المتكلم . و في نص " بيني و بيني " يبحث الشاعر عن بهجة التئام التكوين الأولى كحلم يختلط بالتناقض و انعدام الحدود ، و كأنه ينتظر أن يكون له اسم للمرة الأولى ، و من ثم تعود اللغة إلى هذين المصدرين معا ؛ دائرية البهجة و الفرح بالتكوين ، و التناقض الأساسي المصاحب لظلمة الماء . و الماء عند عز الدين اسماعيل يشكل رؤية العالم من منظور العبث و التناثر المأساوي ، و كذلك يستشرف عودة الصوت الأول من داخل صيرورة الانشطار ، فالمأساة هنا عامل هدم ، و إعادة بناء في زمكانية أخري غير محددة أيضا مثل ظلمة الماء ، و أخيلته المتناقضة. يقول : " و بحار الظلمة تدوم في رأسي / ترسم أحيانا صورة وجه ممتعض ما يلبث أن يضحك / تلتف الدوامة حول الوجه الضاحك / يتلوي / يهوي نحو القاع / يخرج من من قلب الدوامة وجه ببريق النعمى يتألق / لكن ما يلبث أن يتغضن " . الصورة تحاكي تشكيل دوامات الماء و تناقضاته ، فتارة تشكل ملامح التكوين ، و تارة تمحوها دون ثبات ، مما يستدعي انفصال المتكلم عن كينونته الأولى ، و اسمه من داخل إرادة الالتئام التي صارت فضاء لم يتشكل ، لكن تساؤلات الشاعر تستعيده حاملا تاريخ السقوط ، يقول : " يوما ما يلتئم النصفان المنشطران من العالم / و يصير الذئب رفيقا للحملان / فأقول لنفسي / يوما ما / يوما ما .. " . الحلم بتداخل عناصر الوجود من داخل تعارضها ، يستشرف ذاتا كونية تتجاوز مفهوم العدالة في سياق البحث عنه ، فالعدالة قيمة تفرض ابتداء على عناصر متفاوتة ، لكنها هنا حالة تفاعلية خارج القيمة ، فقد تشكلت من تاريخ أصيل للتناقضات ، و التعارضات الانفصالية الذاتية و الكونية معا . و يتعارض البعد السردي لدال الفقدان ، مع التكرار الموسيقي للأصوات التي تذكرنا بحلم الحضور و البهجة في وعي الذات ، و من ثم يحدث الانقسام في دلالة الفقدان بين هيمنته الحكائية / التاريخية ، و استعادة الصوت المتكلم المقاوم لهيمنة مدلول السلب من خلال بنيته الدلالية و الصوتية المنقسمة ذاتيا ، و المتعارضة . يقول : " تجرحني سكين العينين الباهظتين / و لكني لا أنزف / و يباغتني شلال البهجة حينا / فأراقبه / يهبط في قلبي لحظات ثم يجف " . إن غلبة الفقدان ممزوجة بطيف للبهجة يأتي كنغمة إنسانية مرتفعة ضمن خلفية سلبية تماما ، و من ثم ينتقل الشاعر من التلقي الصامت لمأساة الفقدان ، إلى استعادة الفاعلية ، و الإعلاء من ضمير المتكلم ليعيد تشكيل غيابه في حضور آخر منتظر فيما وراء الحكاية . إن معرفة الفقدان – رغم سلبيتها التي تبدو في تجريد الوعي من الفاعلية – تؤسس لبعث آخر للصوت في فضاء ، يشبه العدم ، و لا يحققه ، فالعناصر الكونية التي تتحد بالمتكلم تحاول تأجيل حالة الفقدان من داخل سيطرتها على المشهد ، يقول : " و يدور الكون / يدحرجني حينا في القبر / و حينا فوق سنام الجبل الأرعن / و يعلمني كيف يسيء العصفور الظن و لا يأمن / كيف يكون بكاء التمساح الكذب المتقن " . لقد انتقل المتكلم من تلقيه السلبي لمفردات الفقدان ، و صيرورته ، إلى الاتحاد بالآخر / الكوني ، لتكوين معرفة تمثيلية جديدة لمعنى الفقدان تناهض الاستسلام التام لمفرداته ، هكذا يتحول تاريخ العدم إلى آلية معرفية ذات طاقة ، و حياة مضادة لمدلوله الأول ، لكنها حياة قيد التشكل و الأداء في المستقبل انطلاقا من وعي الكائن بالفقدان كأحد تأويلات الوجود . و في نص " لغتي " تحقق اللغة الكونية الجديدة المتجاوزة للأنا سيرة المتكلم ، تاريخه الآخر من خلال معنى الخروج من حدود الذاتية . اللغة المنسوبة للمتكلم تستشرف ما بعده ، ما يمثله خارج نفسه ، و يرسم تفرده في آن . يقول : " و أمد خيوطي المنسوجة من زبد الأوهام الأولى / كي أدخل في طقس اللغة المنسية / لغة الماء / و لغة العشب / .. أدخل في زمن العشق الأول / و الآفاق النورانية / يا لغتي / أنت أنا و أنا أنت / و أنت صراخي في وجه الصمت " . اللغة تعبر الذاتية و يتحقق من خلالها المتكلم حين يتحد بإمكانية الأداء الإبداعي الأولى في اللغة الكونية التي تجمع التصوير و المادة ، و الانتشار اللاواعي المتجاوز لمفهوم العدم الذي يقترن دوما بتعيين العنصر الكوني ، أو الذات الشاعرة . و قد يستشرف الشاعر قيمة إنسانية متولدة من الخضوع لسياق الاجتماع العبثي للمأساة ، و الملهاة ، فهو يمارس نوعا من اللعب السوداوي المفجر لإمكانات التناقض الإبداعية المناهضة لحتمية اختلاط المأساة بالملهاة . يقول : " لا حيلة لي في أن يبلغ صوتي الآذان / إلا أن أمشي في الأسواق على رأسي / أن أهبط نحو الذروة / أو أصعد نحو القاع / أن اصبح أمثولة عصر ملتاث / عصر تخنقه المأساة الملهاة " . يستعيد الشاعر قوة نبل آخر من خلال حالة السقوط و الانقلاب الممزوجة باللعب المتجاوز للعبث من داخله ، فالمشي على الرأس هنا يفجر حالة الاستسلام باتجاه اللعب الساخر من هيمنتها الحتمية ، فقد أصبح الانقلاب تمثيلا سرديا يتحقق الصوت الآخر النبيل من خلاله . و النبل هنا ليس قيمة في المتكلم بقدر ما هو استشراف لمتكلم آخر يتجاوز مآسي الكون من داخل صيرورته التاريخية ، و ما فيها من عبث ، و لعب ، و حزن ، و هذا الاستشراف هو التيمة الأكثر تكرارا في ديوان عز الدين إسماعيل . و قد تنفك مشاعر التهميش ، و الانسحاق من خلال قوة أنثوية غير محددة تخاطب الشاعر . هذه القوة تحول الفراغ الذي يستبدل حضور الذات المتعالية ، إلى طاقة للتحول ، و إعادة التكوين المستمرة . يقول : " يا فارسي الصغير ... / فلتنض عنك ثوبك الأنيق / و لتهبط السلم حتى القاع / و جس خلال الوحل / جس خلاله / و لاطم الأمواج حتى تغرقك / حتى إذا ما صرت لاشيء و كل شيء / فلتأتني .. " . لقد صار الانسحاق في اللاشيء شرطا للتجاوز ، و الاتحاد بقوة الأنوثة المتعالية ، و ربما الطاقة الكونية المناهضة للحدود . إن ذوبان المتكلم لا يدل هنا على التلاشي ، لكنه تناثر إيجابي للصوت ، أو تفاعل كوني يجعل من الوعي مجرد مراقب لنشوة الامتزاج . و تبلغ حالة استباق المتكلم لذاته في حلم البهجة الكونية ذروتها في نص بعنوان " المحال " ، حيث يبدو المحال تحقيقا للذات يفترض رحيلها ضمن بنيته . إنه حلم ما وراء التجسد الذي لا يمكن أن يكتمل إلا من خلال وعي تاريخي يفجر طاقته من تكرار المآسي . يقول : " مولعا بالمحال / بالذي كان قبل الوجود / و يبقى هناك بعد الوجود / ترهف الروح حين تلوح البوارق منه / و تلقي بنفسك في ربرب التيه / تجمع ذراته ذرة ذرة / ثم تجدلها في سبائك من ذهب الروح " . المحال في النص يدمر مدلول الانسحاق الوجودي في العالم لا الوجود نفسه ، يدمر تأويلا للوجود ، ليحققه في فضاء آخر ، أو وجود آخر . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوعي المبدع يتجدد .. قراءة في كتاب المغني ، و الحكاء ل فاطم
...
-
انطلاق القوى اللاواعية .. قراءة في دموع الإبل ل محمد إبراهيم
...
-
الإكمال الثقافي في فكر أرنولد توينبي
-
الاندماج الأول بالعالم .. قراءة في تفاصيل ، و تفاصيل أخرى ل
...
-
سرد في نسيج الحجر .. تأملات في طبعات الأيدي القديمة
-
امتداد التجارب النسائية .. قراءة في نساء طروادة ل يوريبيدس
-
سياق شعري يشبه الحياة .. قراءة في تجربة فاطمة ناعوت
-
تأملات جمالية في الأنا الأعلى
-
تجاوز الذات التاريخية .. قراءة في أحب نورا .. أكره نورهان ل
...
-
العولمة ، و الاختلاف
-
شهوة الكتابة ، و نشوة الغياب .. قراءة في الرغام ل علاء عبد ا
...
-
الأنا ، و إيحاءات الأشياء الصغيرة .. قراءة في اسمي ليس صعبا
...
-
التأويل الإبداعي ، و دراسة التاريخ .. قراءة في دروس التاريخ
...
-
الانتشار الإبداعي ، و التناقض في قضايا النوع
-
تجدد الحياة في صمت النهايات .. قراءة في مواسم للحنين ل محمد
...
-
صراع ضد الحتميات السائدة .. قراءة في نقطة النور ل بهاء طاهر
-
دراسة الهوية الثقافية تتميز بالتعقيد ، و التداخل
-
وهج البدايات النصية .. قراءة في حجر يطفو على الماء ل رفعت سل
...
-
انطباعات حسية تقاوم العدم .. قراءة في نصوص منى وفيق
-
الصوت في نشوء متكرر .. قراءة في إلى النهار الماضي ل .. رفعت
...
المزيد.....
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|