|
سوء الظن بالنفس وبالآخر
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 838 - 2004 / 5 / 18 - 02:56
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
أؤمن تماما أن اعتمار الحجاب أو طرحه حرية شخصية كاملة للمرأة. لكنني على الصعيد الأعم أراه منطويًّا مدنيًّا ووجوديًّا على مشكلتين محوريتيْن. الأولى أنها تحملُ اعترافًا صريحا من قِبَل المرأة أنها إنما محض أداة استمتاعٍ لنظر الرجل على الأقل. وهذا الأمر لا أعدّه اختصارًا لكيانها، بل أعدّه ضربًا من التحقير والتهميش لوجودها "بيدها لا بيدِ عمرو"، فضلا عن التناقض الجليّ بين أن تطالب النساء بالمساواة وفي الوقت ذاته يستقين طرائق معيشتهن وأسلوب تعاطيهن لكلّ الأمور حتى الملبس من خلال منظور الرجل ومرجعياته. إن المطالبة بالنديّة تنطلق في الأساس من الخروج من عباءة الرجل على نحوٍ تام. لكن الشاهد أن المرأة ذاتها لم تكتفِ بأن ينظم لها الرجل حياتها، لكنها تسعى راضية أن ترتب أمورها حتى أدق التفاصيل من خلال عينيّ الرجل. الثانية، أن ارتداء الحجاب ينطوي على سوء ظنٍّ مبيّت بالآخر الذكر، وكأن كل الرجال هم بالضرورة ذئابٌ بالفطرة، فقط ينتظرون الصيد المطروح ليسارعوا باقتناصه. لكن الشاهد أن المرضى من الرجال هم نسبة لا تختلف كثيرا عنها عند النساء المريضات. إذ لماذا نسّلم مسبقا وعلى نحوٍ حاسم أن لا نساء يرين في الرجال قنصا ؟ إن إخفاء الشعر أو الوجه هو إخفاء لهوية المرء. في زيارة لي لإحدى دول الخليج التي تعتبر الحجابَ فرضًا قوميًا، ارتديت الحجاب تمشيًّا مع مقولة "حين تكون في روما افعل كما يفعل أهلها"، وكنت أضيعُ من أسرتي في الأسواق المزدحمة، لأنني أشتبه مع كل النساء، كلنا نرتدي الزيَّ ذاته واللون ذاته، أما الوجه – أداة التمييز الوحيدة وبطاقة الهوية الإلهية – فهو مغطىً ومحجوب بأمر البشر، وهو ما كان يحث ولديّ على البحث عني عن طريق تفقد أحذية النساء وحقائبهم، علّهم يتعرفون على حذاء أو حقيبة أمهما. ولأنني بالطبع أرفض أن أُختصَر في حذاءٍ، فقد رفعت الحجاب وتساجلت طويلا مع البشر المنوط بهم زجر النساء طارحات الحجاب. قائلة لهم أن بطاقة هويتي الوحيدة التي يعرفها صغاري هي وجهي هذا الذي تودون حجبه. هذا بالإضافة إلى تناسي حقيقة هامة. المرأة بالتأكيد هي أحد رموز الجمال في الحياة، الجمال بالمعنى الأشمل والأرفع والأجلّ، مثل كلّ مفردات الحياة التي تكرس الراحة النفسية وتعادل موضوعيا كل ما تنطوي عليه الحياة من قبح. مثلها مثل الوردة والنهر والغيمة و الخضرة والثلج والموسيقى والقيم الرفيعة والألوان والطفولة .... إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الرموز التي تجعل لحياتنا مبررا مقبولا كي نواصل الحياة على صعوبتها ومرارتها، قائمة المعطيات الجمالية التي ينهل منها الشعراء إذا ما أحبوا أن يكتبوا شيئا رفيعا ساميًّا. والمرأة ذاتها تدرك ذلك بطبيعة الحال على نحوٍ فطري، تدركه منذ طفولتها، وفي هذا دليل على أن إدراكها هذا محض فطرة جبلها الله عليها بغير أن ينطوي فكرها على وجود الرجل أصلا. نجد الطفلة الصغيرة تطيل النظر إلى المرآة، ترتب شعرها وتنتقي شرائطَها الملونة وتعنى بفساتينها وتنسيق ألوانها. هذا الإحساس بأنها إحدى مفردات الجمال في الوجود، والبريء من نظرة الرجل تماما يلازمها حين تغدو صبيّة وامرأة. وهذا يفسر أن تجد المرأة في المجتمعات التي تلتزم الحجاب حدَّ ألا تبين من المرأة إلا عينيها تمعن في تجميل هاتين العينين وإبراز جمالهما بالكحل وأدوات الماكياج، بل وبالعدسات الملونة أحيانا. هذا مع تسليمي اليقيني أن لا شيء أجمل أو أصفى من وجه امرأةٍ بلا مساحيق. هي هنا تتحايل على القانون الذي يعسف الفطرة، وهي بكل يقين لا تفكر في أن تغدو جميلة في نظر رجل ما، هي تقدس جمالها وحسب، وتظهره للحياة، فهي ذاتها الطفلة التي أطالت النظر إلى المرآة قبل أن تدرك أن ثمة ما يدعى رجل. كلنا يعرف أن كثيرا من آيات القرآن الكريم نزلت في ظروف خاصة ولأسباب محددة وتبعا لمتطلبات مجتمعات لها قوانين وأعراف تناسبها هذه الآيات. وهل منع الحجاب خطف النساء والتحرّش بهن؟ وهل منع الحجاب بعض النساء أنفسهن من ارتكاب الأخطاء؟ قضية الفضيلة أوسع مما نرتدي لأنها تكمن في العقل والدماغ لا في عدد السنتيمترات التي نظهر أو نخفي من أجسادنا. الحياة بالفعل مليئة بمفردات القبح الذي يستطيل ويتمدد كل يوم. القبح على المستويات المادية والمجردة. التلوث البصري والسمعي والأخلاقي والنفسي والمعنوي والوجودي، في مقابل مفردات قليلة من الجمال الذي ينحسر أيضًا بالتدريج حتى أوشكَ على الاختفاء. أنا كإنسان وكشاعرة أفرح بأيٍّ من القليل الجميل الذي أصادفه في يومي، وأعدّه ذخيرة ومنحة تساعدني على مواصلة الحياة. أفرح حين أصادف وجه طفل يضحك، أو عمارة جميلة، أو شارعًا نظيفًا، أو كتابًا جميلا،أو ترنيمة عذبة، أو وجه امرأة صافيًا، وأحزن حين أصطدم بأبنية متنافرةٍ، وطرق لا انتظام فيها، وبشر يغلظون القول ولا يجيدون الكلام، أو يلبسون ما يزعج البصر والروح. أحزن أكثر حين أرى النساء يخفين وجوههن لأنهن يؤمن أنهن مفردات اقتناص للرجال وفي هذا سوء ظن مزدوج بالنفس وبالآخر، في النفس باختصارها في محض شيء يخص الرجل، وفي الآخر باعتباره قناصًا ينتظر الفريسة.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لمن تُقرَع الأجراس في باريس ؟
-
شيخُ الطريقةِ
-
شيخُ الطريقةِ
-
المُتْعَب
-
ثقوبٌ تشكيليةٌ لا تُغْضِبُ المرآة
-
المُتْعَب
-
ثقوبٌ تشكيليةٌ لا تُغْضِبُ المرآة
-
ماو تسي تونج
-
صِفْرٌ أزرقْ
-
الخروجُ من مرعى الخليل تركي عامر، ألن يعود إلى المرعى؟
-
جابر عصفور يعتنق النقدَ ... في محبة الأدب
-
راصدًا متتاليةَ القمع في الثقافة العربية في القرن العشرين حل
...
المزيد.....
-
ما هي شروط التقديم على منحة المرأة الماكثة في البيت + كيفية
...
-
الوكالة الوطنية تكشف حقيقة زيادة منحة المرأة الماكثة في البي
...
-
تحديد عيب وراثي رئيسي مرتبط بالعقم عند النساء
-
فوز ترامب يهيمن على نقاشات قمة المرأة العالمية بواشنطن
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
-
إعلامية كوميدية شهيرة مثلية الجنس وزوجتها تقرران مغادرة الول
...
-
اتهامات بغسيل رياضي وتمييز ضد النساء تطارد طموحات السعودية
-
جريمة تزويج القاصرات.. هل ترعاها الدولة المصرية؟
-
رابط التسجيل في منحة المرأة الماكثة في المنزل 2024 الجزائر …
...
-
دارين الأحمر قصة العنف الأبوي الذي يطارد النازحات في لبنان
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|