كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 2749 - 2009 / 8 / 25 - 08:25
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
السيدات والسادة الكرام, ايها الأحبة
المدخل
أشعر بحاجة ماسة لأن أقول لكم ومن هذا المنبر وبصراحة تامة.. نحن لا نمتلك حريتنا, نحن نفتقدها.. نحلم بها .. ولكنها لا زالت بعيدة عنا وعن حياة الناس اليومية, عن ممارساتنا, عن الأجواء التي تسمح لنا بتفعيلها.. فالحرية الفردية والعامة لا تنفصلان عن الديمقراطية, إذ أن كليهما يشكلان الدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي .. نحن نفتقد الدولة المؤسسية الديمقراطية .. نفتقد, بتعبير أكثر دقة وموضوعية, الأساس المادي للدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي, نفتقد القاعدة الاقتصادية والاجتماعية لهما.
فالصناعة الحديثة والزراعة الحديثة يشكلان القاعدة المادية للتنمية الاقتصادية والبشرية, وهما المولدان للطبقة البرجوازية المتوسطة والطبقة العاملة وفئات المثقفين في بلانا, وهي الفئات الحاضنة والمنمية والمطورة للمجتمع المدني الديمقراطي والدولية الديمقراطية. وهذا يعني نحن بحاجة إلى كسر حلقة التخلف والفقر والتبعية الشديدة لاقتصاد النفط الخام التصديري - الريعي والمجتمع الاستهلاكي. فلا بد من توفير مستلزمات بناء المجتمع المدني والوعي الاجتماعي والثقافية المصاحبين له. نحن بحاجة إلى مكافحة التخلف والتبعية والبطالة والحرمان والجوع واللامساواة المستفحلة ضد المرأة التي لا تجد له مكاناً سوى البيت والمطبخ والحجاب.
لا يمكن الحديث عن الحرية الفعلية وفي كل لحظة يمكن أن يقطع رأس, كما حصل للكثير من علماء ومثقفي العراق أو يقتل برصاصة من كاتم صوت, كما حصل للراحل العزيز كامل شياع, لا يمكن الحديث عن الحرية حين يفصل أو يعطى إجازة طويلة من العمل بسبب مقال يفضح فيه الفساد, كما حصل مع الصحفي الزميل أحمد عبد الحسين .. لا يمكن الحديث عن الحرية المنشودة حين يُجبر الأستاذ فاضل ثامر, الأديب والناقد ورئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق على رفع صوته ليطالب بإنصاف المثقفات والمثقفين, بحمايتهم, بتأمين العيش المناسب لهم, بتأمين المطلوب لتطور مكاتب وبناية ونشاط ودور المثقفين في حياة البلاد وفي عملية تنويره. حتى الآن ليس هناك من يسمع له كفاية ويستجيب لمطالبه العادلة والمشروعة والبسيطة في آن.
نحن لا نمتلك ما يكفي من الحرية.. نحن في وهم حين نتحدث عن حرية مشوهة مقيدة يتربص بها وبممارسيها الموت, وبالمثقف الذي يتحدث بحرية... أياً كان القاتل.. حين يغيب الأمن الضروري, فالحرية والديمقراطية وأمن المواطن صنوان لا ينفصلان..
من هنا يفترض أن نتحدث عن الثقافة والمثقفة والمثقف بعد 2003 وعن هامش الحرية النسبي المتاح.
دور الثقافة والمثقفين ما قبل وما بعد 2003
على امتداد سنوات القرن العشرين لعب المثقفون المتنورون دوراً كبيراً في التأثير على وجهة التطور الاقتصادي والاجتماعي في العراق. حمل المثقفون الأوائل وما زالوا يحملون راية الفكر التنويري الحر, فكر الحب والحرية والعدالة, فكر الأخوة والمساواة في المواطنة, فكر التقدم ومساواة المرأة بالرجل, فكر تعليم المرأة وزجها في الحياة العامة, فكر تحرير المرأة من البيت والمطبخ والحجاب, فكر بناء المجتمع المدني الديمقراطي, كما لعبوا دورهم في دفع البلاد صوب التحولات الاقتصادية والاجتماعية المدنية رغم معوقات العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية ودور المؤسسة الدينية والذهنية الفلاحية والعشائرية.
وجدنا دور المثقفات والمثقفين في الشعر والشعر الشعبي, في القصة والرواية والمسرح, في الموسيقى والغناء والرقص, في الرسم والنحت وتنوعات الفنون التشكيلية, كما وجدناه في البحوث العلمية والإنسانية ونقد الفكر الديني في الجامعات والدراسات الاجتماعية وفي التاريخ وفي النشاط السياسي والعمل الإعلامي. وقد أثرت جميع تلك الفنون والعلوم والأداب على أجيال عدة وساهمت في رفع وعي الإنسان في المدينة على نحو خاص وعبأت الكثير من القوى لصالح التغيير الاقتصادي والاجتماعي.
لقد حملت المثقفة وحمل المثقف راية المجتمع المدني الديمقراطي, راية الحرية والحياة الجديدة, إذ كان لكل ذلك دوره في النضال الوطني, ولكنهما عانى من دور السياسي المهيمن على دور المثقفة والمثقف ولفترة غير قصيرة. وكان لذلك دوره السلبي على انطلاقة المثقفين نسبياً, إلا أنها تقلصت وتراجعت واشتد دور السلطة في أعقاب ثورة تموز نسبياً ثم في الفترات اللاحقة أكثر فأكثر.
ومنذ اربعة عقود حتى سقوط النظام البعثي الصدامي هيمنت على البلاد ثقافة قومية شوفينية عربية صفراء انطلقت من مواقع السلطة السياسية وعملت من أجل فرض نهجها الواحد المتخشب والتجهيلي على الثقافة والمثقفين, ولكنها اصطدمت بثقافة أخرى ومثقفين آخرين رفضوا الانصياع للدكتاتور, وسعوا إلى نشر ثقافة الانفتاح على الثقافة العالمية والتلاقح معها, ثقافة ديمقراطية تنويرية فاعلة ومحفزة على طلب الحرية والديمقراطية وتنويع أوجه الحياة الغنية ومن أجل التقدم.
وفي هذا الصراع انتصرت السلطة البعثية في فرض ثقافتها لسنوات طويلة وساد الجدب في الحياة الثقافية العراقية إلا أن أقلاماً حية عرفت كيف تستخدم أدوات واساليب أخرى لتمرير ثقافة عدم الاتصياع والتمرد على القائم, والبعض مارس أسلوب كليلة ودمنة, إلا من ترك العراق ومارس العمل الثقافي في الخارج ليشارك في تعرية النظام وفضح طبيعته العدوانية. كانت حصيلة الصراع ولسنوات كثيرة موت الكثير من المثقفين المبدعين أو زجهم في السجون أو إرسالهم إلى جبهات القتال أو هجرة الكثيرين منهم ليعيشوا في المنافي ويكتبوا للعراق وللشعب العراقي ما هو جيد ونافع وأصيل.
لم تهزم الثقافة الديمقراطية بل حافظت على إصالتها لدى الكثير من مثقفات ومثقفي الداخل في فترة سيادة الفاشية في الحكم, إضافة إلى دور مثقفات ومثقفي الخارج. وكانت الخميرة التي تناضل اليوم من أجل أن يكون لها دورها في حياة المجتمع العراقي بكل مكوناته القومية.
إلا أن العراق يعيش ومنذ سنوات ثقافة ظلامية لا تختلف كثيراً عن ثقافة السلطة البائدة إلا من حيث الرداء الذي ترتديه. فإذا كانت ثقافة البعث الصدامي ثقافة قومية شوفينية وعنصرية صفراء واستبدادية, فأن ثقافة البعض المهيمن اليوم هي ثقافة دينية طئفية سياسية صفراء وشمولية استبدادية أيضاً, وهي من حيث الجوهر والحصيلة متداخلة بثقافة قومية أيضاً. والتي تجد تعبيرها في المناهج التربوية والتعليمية وفي سوق الكتب وعلى المنابر ايضاً. إنها ثقافات لهويات قاتلة ومفرقة للصف الوطني.
نحن أمام ظاهرة جديدة سلبية ترفض الثقافة والفنون الإبداعية كالرسم والنحت والغناء والرقص والموسيقى والمسرح المفتوح والحر أو شعر الحب والغزل, وترفض باسم الخطر الغربي المهدد للثقافة العربية الإسلامية التلاقح والتفاعل الثقافي مع العالم الخارجي. في حين نحن بحاجة ماسة إلى هذا التلاقح الإيجابي الفعال.
ولكن هذه الثقافة المشوهة هي عملة خاسرة, رغم هيمنتها النسبية البارزة في الحياة العامة بسبب تداعيات الحرب وفرض قرار الاحتلال والمحاصصة الطائفية والقومية السياسية, وستسود موضوعة التعدد والتنوع الثقافي في العراق الذي نريد ان يبنى ليكون بستاناً للثقافات العراقية العديدة والمتنوعة وليس لثقافة واحدة ورأي واحد ونظرة واحدة.
ومن يتابع واقع العراق الراهن سيجد أن الصراع الجاري شديد ومتعدد الجوانب, ومن بيده السلطة يستطيع أن يعزز مواقعه وثقافته ويحارب الثقافات الأخرى أو يسعى إلى تحجيمها ووضع القيود عليها, بسبب امتلاكه للسلطة والنفوذ والمال العام, وبسبب احتكاره لمؤسسات الدولة الإعلامية والثقافية من جهة, ومنعه أو غلقه أبواب الصرف على المؤسسات الديمقراطية للثقافة العراقية وللمثقفات والمثقفين في العراق من جهة ثانية. لا شك في وجود مقاومة ديمقراطية لمثل هذا النهج الذي برز في وزارة الثقافة وفي وزارات التربية والتعليم. ولا شك في أن مثل هذا الصراع كلف ويكلف حياة أناس كثيرين, ومنهم قاسم عبد الأمير عجام وكامل شياع, على سبيل المثال لا الحصر.
علينا ان نتصدى لحرمان المثقفات والمثقفين من ممارسة النقد للفكر الديني (وهنا وردت لدي كلمة النقد للدين التي صححها الأستاذ فاضل ثامر في كلمته القيمة في أعقاب كلمتي, والتي برَّز فيها أهمية التعدد والتنوع في الثقافات والنقد لا يوجه للدين بل للفكر الديني الذي يبرز في الكثير من الأوجه ومنها بعض الفتاوي).
ليس هناك من يراقب الصحافة والصحفيين وما ينشرونه, وليس هناك من يراقب الكتب والمطبوعات, وليس هناك من يراقب المواقع الإلكترونية أو ما يدخل العراق من كتب ومجلات وجرائد, وهو أمر جيد وخطوة محمودة. ولكن في الوقت نفسه ليس هناك من يضمن حياة الصحفي والكاتب وصاحب المقال أو الكتاب, بل يمكن في كل لحظة أن تنزل عليه اللعنة بأشكال مختلفة, سواء عبر التهديد من على منبر أو الطرد من جريدة, كما فعل الشيخ المعمم محمد جلال الصغير وما نفذه فلاح مشعل, أو كما فعل أصحاب كاتم الصوت مع قاسم عجام وكامل شياع أو الدكتورة آمال المعملجي, أو ... الخ.
علينا إيصال صوت الاتحاد العام للأدباء والكتاب إلى كل العراقيات والعراقيين, إلى كل المسؤولين, علينا النضال بطرق سلمية وديمقراطية من أجل تنشيط التنوع الفكري والثقافي, وإلى تلاقح الثقافات وليس إلى تناحرها.
أن مؤسسات التربية والتعليم والثقافة, التي تمتلك الموارد المالية والأجهزة, في مقدورها, وفي مقدور المنظمات غير الحكومية, رغم فقرها, المشاركة في رفع الوعي ونشر التنوير, شريطة أن تتميز كلها بالروح الحية وبقيم الحرية والديمقراطية وبالتزام هوية المواطنة.
إن المثقفة والمثقف في العراق يواجهان نضالاً متعدد الجوانب, نضالاً من أجل تغيير البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية والوعي الاجتماعي والتنوير الديني والاجتماعي, إذ بدون ذلك تبقى عملية التغيير السلمية والديمقراطية صعبة ومعقدة ومليئة بالتضحيات.
في نهاية مداخلتي في ضوء الدعوة التي وجهت لي للحديث في قاعة الاتحاد العام للأدباء والكتاب بتاريخ 8/8/2009, تحدث الأستاذ فاضل ثامر وأبدى, كما سجلتها في ذاكرتي, ثلاث ملاحظات مهمة:
1. تحدث عن مسيرة الثقافة في العراق منذ بداية تشكيل الدولة العراقية, الذي اختصرته في محاضرتي. وكان مفيداً لي.
2. وأشار إلى النسبية في فهم الحرية وما متاح الآن منها في العراق مهم وأهمية تكريسها وتطويرها.
3. ملاحظة عن نقد الدين, إذ أشار إلى الاختلاف بين نقد الدين ونقد الفكر الديني, وإذ رفض الأول أيد وأكد الثاني. وهو صائب في ملاحظته.
لقد تضمنت مداخلته نقداً ودياً وأخوياً وغير مباشر لي, أحترمه وأتقبله دون أدنى ريب, فليس هناك من يمتلك الحقيقة كلها, ولي باستمرار أذناً صاغية لكل من يوجه النقد لي.
وفي مداخلتي بينت أهمية نقد الفكر الديني, ولكن نقد الدين ذاته يعتبر أحد حقوق الإنسان, كما يحصل اليوم في الموقف من نقد الديانة المسيحية أو الديانة اليهودية أو غيرها من الديانات, ولكن ما جاء في كلمتي هو نقد الفكر الديني, وخاصة الاتجاهات الطائفية السياسية والعنفية والسلفية الجامدة والمتخلفة منها.
في نهاية الاحتفال شرفني الشاعر المبدع والصديق العزيز, سكرتير الاتحاد, الأستاذ ألفريد سمعان, باسم الاتحاد درع الجواهري الكبير, فشكراً وألف شكر على هذا التقييم والتكريم الجميل, وكان الاتحاد قبل ذاك بأشهر قد شرفني بالعضوية فيه.
للاتحاد وأمانته العامة وجميع عضواته وأعضاءه الصحة الموفورة والسلامة والتقدم.
24/8/2009 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟