مازن لطيف علي
الحوار المتمدن-العدد: 2747 - 2009 / 8 / 23 - 05:53
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إن الكتب الكبرى على قدر موضوعها وشخصياتها والغاية منها. إذ بالإمكان العثور على كتب ذات صفحات عديدة لا تبعث غير الممل، أو أنها في نهاية المطاف لا تغني الحقيقة والعقل والضمير شيئا. وعلى العكس من ذلك، يمكن لكتيب صغير أن يحتل مكانته في الوعي التاريخي الثقافي والعقلي بحيث يرتقي إلى مصاف المرجعية الفكرية. ولا يمكن فصل هذه الحالة عما يجري الحديث عن دراسة الظاهرة المعنية وكيفية تناولها.
ومن الممكن إدراج كتاب ميثم الجنابي (هادي العلوي – المثقف المتمرد) ضمن هذا النوع من الكتب. فالكتاب دراسة تحليلية وتركيبية فلسفية لأفكار العلوي. يتألف من 96 صفحة من القطع الوسط وقد صمم الغلاف فلاح حسن الخطاط، وطبعته دار ميزوبوتاميا (بغداد).
يسعى الكتب لإبراز ما في شخصية هادي العلوي من إشكالية كبرى في الفكر العربي الحديث بشكل عام والعراق بشكل خاص. كما أن كيفية تناوله لشخصية العلوي تختلف عما هو سائد وموجود في الكتابة التي تتناول حياته وأفكاره. وقد تكون القيمة الكبرى لهذا الكتاب تقوم في كيفية ربطه بين تناول شخصية العلوي بمعايير الفكر الفلسفي من جهة، وبكيفية إعادة دمجه في الوعي العربي المعاصر، وبالأخص ضمن سياق علاقة المثقف بالحقيقة والسلطة.
إضافة لذلك تجدر الإشارة إلى أن ظهور هذا الكتاب في احد أدق وأحرج المراحل التاريخية التي يمر بها العراق، يمثل إسهاما كبير في دفع ورفع ودمج شخصية العلوي في مجمل الثقافة العربية والعراقية الحية، بما فيها من قوة نقدية ونزعة إنسانية وتوجه عقلاني وانتماء وجداني صادق. وإذا كان هادي العلوي مازال في طي الكتمان والغيب بالنسبة لأعداد كبيرة من الجيل العراقي الجديد، فان ظهور هذا الكتاب قد يكون المساهمة الأولية الكبرى، على الأقل من الناحية المنهجية، بالنسبة لتفعيل دوره العقلي النقدي الإنساني. وبالتالي إعادة الاعتبار لشخصيته وفكره.
إن هادي العلوي احد أهم الشخصيات العراقية الفكرية والثقافية الحرة في القرن العشرين، وأكثرها تعرضا "للإهمال" داخل العراق. وهي حالة ليست معزولة عن واقع الغربة الطويلة والمعارضة المستميتة للنظام الدكتاتوري الصدامي من جهة، ولشخصيته الحرة و"المشاكسة" من جهة أخرى. فقد عاش هادي العلوي حياة مفعمة بالعطاء الفكري والثقافي. وهو صاحب العشرات من المؤلفات الجريئة.
وقد كتب الجنابي في مقدمة الكتاب قائلاً : هناك شخصيات يصعب تحديدها بالعبارة، لأنها لا تتحمل ما فيهم، أو أنها لا تعمل إلا على تضييق حقيقتهم. وهي الحالة التي أعجزت المتصوفة وجعلتهم يفرقون بين لسان الحال ولسان المقال. وهو فرق شاسع كالفرق بين الطينة والخيال. وقد راودتني هذه الفكرة عندما بدأت بالتخطيط للكتابة عن هادي العلوي". واستكمل هذه الفكرة في تحديده لشخصية هادي العلوي، واصفا إياه بكونه أحد أنقى وأجمل ممثلي الإخلاص للحق والحقيقة في الكتابة الاجتماعية المعاصرة للقرن العشرين. وإذا كان هذا الحكم، كما يقول الجنابي، لا يخلو من الناحية الواقعية من طابع درامي وعنيف في الوقت نفسه، فلأنه من الصعب دراسة وتحليل ما كتبه العلوي وقام به بمعايير المنطق القاسية، لأنها توصلنا بالضرورة إلى أحكام قاسية عنه. وهي مهمة ضرورية أيضا، لكننا حالما ننظر إليه بمعايير الوجدان الصادق، بوصفه مثقفا متمردا في ظروف الغربة والمواجهة الشاملة مع مختلف أنواع الدكتاتوريات (الأيديولوجية والسلطوية والحزبية والرياء السياسي)، فإننا سوف نصل بالضرورة ذاتها إلى أن العلوي كان كيانا اقرب إلى الروح منه إلى الجسد. بمعنى انه كتلة الهياج التي لا يضبطها ولا يحدها شيء غير "منطق" الحركة الداخلية للروح والمحكوم بدوره بقواعد الوجدان الصادق. الأمر الذي يجعل المرء متحيرا فيه ومحبا بقدر واحد. بحيث لا يحل لغزه سوى الصيغة المفترضة لاستماع جواب على سؤال يقول:
- الهي! من أية طينة صنعته؟
- من خيالي!
لقد كان هادي العلوي، كما يقول الجنابي، من حيث المبدأ والغاية حلقة في سلسلة الخيال الروحي للأمة وثقافتها النقدية الحرة. من هنا عصيانه على السلطة وصلابته أمام الحياة ومشاكلها الصغيرة الدائمة، وقسوته أمام النفس، وليونته المفرطة أمام الناس. ووراء كل ذلك تتراكم شخصيته الإنسانية الرفيعة بكل تناقضاتها الحية. وذلك لان المفكر والمبدع الكبير تناقض حي، شأن الحياة الفعلية. الأمر الذي يجعل من الخطأ والخطيئة توظيف أي شيء فيه وله لخدمة مآرب الأحزاب والأفراد، كما نراه في تلك المحاولات الحثيثة لجعله ميالا لطرف ضد آخر، كما جرت على سبيل المثال محاولات انتزاع عباراته القليلة عن مقدماتها الفعلية عما يسمى بتنازله عن عروبته وعراقيته أو أشياء ما من هذا القبيل. فقد كانت هذه العبارة تعبيرا عميقا وصارخا عن اعتزازه القومي والوطني. لقد أراد أن يبرز حقيقته الوطنية والقومية التي تقف بالضد من تلك القوى التي اتخذتها وسيلة للابتزاز والقهر والعبودية. وفيما لو تسنى للزمن أن يستمر قليلا في تاريخ العلوي وحياته ويرى بأم عينيه ما حدث ويحدث وطبيعة التحول في مواقف القوى السياسية والأحزاب و"القوميات الصغيرة المضطهدة" والشخصيات لطالب برميهم جميعا إلى جحيم النسيان، وعاقبهم بعصيان الروح والجسد واللسان.
يحتوي كتاب ميثم الجنابي (هادي العلوي – المثقف المتمرد) على أربعة فصول. الأول وهو بعنوان (من الأيديولوجيا إلى الروح) ويتناول فيه الجنابي شخصية هادي العلوي وصيرورة "المثقف المتمرد" فيه. حيث يكشف لنا الجنابي عما فيه من هموم المثقف الاجتماعي المتمرد. وعبر ذلك حاول الجنابي الكشف عما في شخصية هادي العلوي وتمرده من قيمة كبرى بالنسبة للانتماء الفعلي لأرض الحقيقة لا لسماء التملق والكذب والخداع، أي كل ما يلازم حقيقة الهوية والهوية الحقيقة للمثقف. وتتبع الجنابي صيرورة الروح المتمرد عند العلوي من خلال التدرج بما اسماه بمواقفه الكبرى بست حلقات كبرى وهي:
الموقف من النفس باعتباره عملية دائمة من الارتقاء في أحوال الإخلاص
والموقف من السلطة باعتباره عملية دائمة في الابتعاد عنها ونقدها ومعارضتها
والموقف من المثقفية باعتباره عملية دائمة لاستظهار قيم الحق والحقيقة
والموقف من الناس باعتباره عملية دائمة للدفاع عن العدل والمساواة
والموقف من الغرب باعتباره عملية دائمة لإيقافه عند حده
والموقف من المشاعية واللقاحية باعتباره عملية دائمة للسمو الروحي والمعرفي.
أما الفصل الثاني (الإبداع الحر – معارضة أبدية) فيتناول فيه ماهية الإبداع الحقيقي بالنسبة لهادي العلوي، بوصفه موقفا لا مهادنة فيه ولا يقف عند حد وحدود، أوله الدولة وآخره المقدس.
أما الفصل الثالث (المثقفية والقيمة الابدية للمثقف) فيتناول الجنابي فيه ماهية المثقفية عند هادي العلوي باعتبارها الصيغة المكثفة لحقيقة المعارضة بوصفها منظومة متكاملة من العلم والعمل في مواجهة طغيان السلطة أو انحرافها عن مبادئ العدل والمساواة والشرعية. من هنا اعتباره المثقفية شرطا لتأسيس روح المعارضة عند المثقف وأسلوبا للتحرر من كل ما يخضع ويقهر الروح لمتطلبات الجسد العابرة، والعمل بكل ما يؤسر القلب في طلب الحق. وهي فكرة تأثر بها بتقاليد التصوف عن حقيقة الإرادة.
بينما تناول في الفصل الرابع (المثقف القطباني – مثقف الروح) رجوع هادي العلوي إلى مصادر الشرق الأصلية. ونظر إليه الجنابي باعتباره رجوعا أشبه ما يكون برجوع المياه إلى مجاريها. وفي الحالة المعنية كان رجوعه أمرا أقرب إلى ما يمكن دعوته بمصير "المثقف القطباني". فهو رجوع سبق له وأن احترق في أتون الانتماء الوجداني للشيوعية (الماركسية) ليكتشف في نهاية المطاف، بأنها لم تكن أكثر من ملجئ أولي وسهل نسبيا بمعايير السياسة العادية. ومن خلالها اكتشف حقيقة ما دعاه بالمشاعية الشرقية بوصفها الجوهر الأولي للتناسق المعقول في الوجود. من هنا يقينه المتأخر عن أن "العقيدة الشيوعية لا وجود لها، وإنما اخترعتها البيروقراطية لكي تخدع الجماهير.
عموما أن كتاب الجنابي هو إشكالية بقدر كما ي شخصية هادي العلوي. من هنا قيمة قراءته وتأمل ما فيه. ففيه نعثر على مأساة ودراما العراق الحديث. وإشكالية المثقف والسلطة، وعلاقة المثقف الحقيقي بالفكرة، وكيفية ارتقاء المثقف إلى مصاف الروح بوصفها القيمة الحقيقة الوحيدة للمثقف. وما عداه كمل الجنابي مجرد أشباح عابرة.
#مازن_لطيف_علي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟