|
من أوراق العراق- سادساً
رياض الحبيّب
الحوار المتمدن-العدد: 2744 - 2009 / 8 / 20 - 08:15
المحور:
الادب والفن
قصتي مع سمكة مغبونة .......
بل ما يأتي تجاربي مع السمك من بدايتها؛ كانت أسرتي (المسيحية) تأكل السمك عموماً خلال أيّام الصّوم وتحديداً الأربعاء والجمعة في كلّ أسبوع تقريباً، هذا الصوم بالإضافة إلى زمن الصوم الكبير الذي مدته خمسون يوماً، إذ صام السيّد المسيح أربعين يوماً وزاد الرّسُل عليها عشرة أيّام. يبدأ الصوم منذ النهوض في الصباح الباكر حتى الظهيرة أو حتى المساء، كلّاً بحسب استطاعته، لا توجد شروط في المسيحية إنما يوجد التزام ما وتوجد ما تسمّى إماتة للجسد. فأعرف من الناس ولا سيّما النساء من اللواتي يقوين على صوم يوم البعوثة (أو صوم نينوى- وهو تقليد جرى اتباعه تذكاراً لتوبة شعب نينوى على يد النبي يونان*) ذلك ابتداءاً بصبيحة اليوم الأول حتى مساء اليوم الثالث، بدون شرب قطرة ماء- قطعاً دون تناول أيّ طعام! ولقد اعتاد المسيحيون منذ أيّام الرسل أن يصوموا خلال اليومين المذكورَين تمييزاً لهم عن اليهود الذين كانوا يصومون الإثنين والخميس.
للصوم في المسيحية معانٍ عدّة، منها التقتير- أي الإنفاق بالحدّ الأدنى من الحاجة- والتخلّي عن جزء من المدخول المادي للمحتاج، بالإضافة إلى تقديم العُشور والمقصود بتقديم العُشْر هو التبرّع بعشر المدخول الشهري للكنيسة أو للفقراء مادّيّاً، والإمتناع من تناول ما تشتهي النفس من طعام وحلويات ونحوها ومن رغبات جنسيّة وغيرها ومن طموحات تجارية وسياسية وهلمّ جرّا. ويُفعَل ذلك كلّه تقرّباً إلى الله جنباً إلى جنب مع الصلاة. فالمسيحية تواصُلٌ مع الله وشركة واتحاد وهذا لا يتمّ بسهولة، إنما بالتخلّي عن جميع الأمور الدنيوية ومنها إنكار الذات وسحق رغباتها ونزواتها وتحقيرها أمام عظمة الخالق! فالأعمال المذكورة من ثمار الإيمان مسيحيّاً، لأنّ المسيحية من دون الأعمال مجرّد هويّة أو بطاقة معمودية يحفظها المؤمن (أو المؤمنة) في البيت، بينما يحمل معه الهويّة المدنية أو وثيقة السّفر أينما ذهب. إنّما الفرق ما بين الهويتين- مسيحيّاً- هو أنّ الأولى تعني التجرّد من المكان والزمان وأمّا الثانية فتعني التشبّث بهما! بالأولى تسمو الروح (أي الجانب المعنوي) على الجسد- أي الجانب المادّي، تسمو القيم الأخلاقية على مجرّد الحروف والألفاظ والتقاليد الموروثة، أمّا بالثانية فيتمرّد الجسد على الروح أو تسمو الأنا. وأراني لأسباب كثيرة- من تجارب شخصيّة- آثرت التبشير بالرّوح: المعاني والقيم والإيثار، فإن اتفق هذا التبشير مع مذهب ما أو ديانة ما أو عقيدة ما أو شخص ما- سماويّ أو أرضي- كنتُ من الأعضاء المبشّرين والمُخْلصين، على رغم الحسد والحقد والترصّد من أتباع الضفة الأخرى، لأنّ الإنسان حُرّ فيما يختار ما لم يؤذِ أخاه الإنسان في المدى القريب أو البعيد.
ما السبب الذي دعا غالبية مسيحيّي الشرق الأوسط لتناول السمك وقت يحين طعام الإفطار، علماً أنّ منهم مَن يمتنع مِن كلّ ما هو حيواني- بالإقتصار على النباتيّات؛ 1 هل في الإفطار بالسمك برَكة زائدة؛ تيمّناً بمعجزة السيد المسيح الذي أطعم حوالي خمسة آلاف رجُل من سمكتين وخمسة أرغفة [مرقس 6: 41-44 ولوقا 9: 16-17] والجدير ذكره أنّ السيّد المسيح قد اختار بعض تلاميذه من صيّادي السمك- أي من الناس الأميّين والبسطاء- لكي تظهر قدرة الله متحدّياً بهم الكهنة والفلاسفة والعلماء فمجداً لله،
2 أم بسبب رخص سعر السمك قياساً مع سائر أسعار اللحوم في زمن ما، لكنّ هناك فترات مرّت على العراق- وطني الأصلي- كان السمك خلالها أغلى ثمناً من بعض أنواع اللحوم، في وقت أشارت تقارير عراقية، متوفرة على الإنترنت، إلى تعرّض بعض انواع الأسماك النهرية العراقية الى الإنقراض- وخصوصاً البزّ والگطّان- بسبب التقصير في إدارة الثروة المائية وفي تأمين وسائل الحفاظ عليها، أمّا خلال فترة حكم حزب البعث- فرع العراق- فقد أصبح صيد السمك محظوراً في أمكنة “خاصّة” ليس للحفاظ على الثروة السمكية، إنّما لاستيلاء عناصر من سلطة النظام ومن أبناء العشائر الموالية له على بعض أماكن الصيد بل على سائر مُقدّرات الشعب العراقي!
3 أم بسبب قيمة السمك الغذائية؛ فقد أشارت دراسة ميدانية حديثة قام بها عالم تغذية ألماني- بدرجة بروفسور- إلى أن المناعة التي يكتسبُ الإنسانُ ضدّ الإصابة بالسرطان ولا سيّما الذي يصيب الأمعاء، نتيجة لتناول الأسماك البحرية- وهي التي تحتوي على نسبة عالية من الأحماض الدهنية غير المُشبَّعة- يرجع فضلها أوّلا للسمك أيّاً كانت طريقة تحضيره سواءٌ ما كان نيّئاً أم مطهيّا.
علماً أنّ في العراق العظيم مختلف أنواع السمك نهرياً وبحريّاً- وهنا قائمة بسيطة:
سمك المياه العذبـة- النهري الحِمْري Barbul Lutebis البنّي Barbus Sharpi الشلك Asalus Eorase الگطّان أو القطّان- بتشديد الطّاء Barbus Xanthopterus الكارب Cyprnus Carpio الشبّوط Barbus Grypus الجرّي Silurus Triostegus علماً أنّ افضل أنواع السمك المُعَدّة للسمك العراقي المسمّى بالمسكوف والذي اشتُهِر به شارع أبي نؤاس في بغداد، على ضفاف دجلة، من النوع النهري البنّي والگطان والشبّوط.
أمّا أهم السمك البحري: الصّبور Hilsa Ilisha الزبَيدي Pampus Argenteus الهامور Epimephelus Tauvina البياح Lieo Sbuvlridis الشانك Sea Bream
وهناك سمك التربية الكارب العادي Cyprinus Carpio الكارب العُشبي Cterophary Godon Dellus الكارب الفضّي Hypophthalmichthys Molitrix وهما المزيد من المعلومات: http://forum.zira3a.net/showthread.php?t=5356
وبالمناسبة، قام واحد من أعمامي- في بداية السبعينيات- بتحضير سمكة گطّان مشويّة طولها حوالي متران؛ في أعقاب الإحتفال بخطوبة ابنته وقد كنت من المدعوّين. وقد قيل لي في التسعينيّات أيّام الحصار المفروض على الشعب العراقي بأنّ بوّابة واحدة من بوّابات سد حديثة- غربيّ العراق وأكبر سدّ بعد سدّ الموصل- لو انفتحتْ لخرج منها أطنان من سمك الگطان، علماً أنّ الحصار كان مفروضاً من جهة السلطة الحاكمة إذ لا يقوى المجتمع الدولي على تجويع العراق- صاحب مختلف الثروات الغذائية- لأنّ موارد العراق كانت تكفي ومنها ما يزيد. ولا يزال العراق- مع شديد الأسف- مغلوباً على أمره وبائساً أمنيّاً وسياسيّاً ومعيشيّاً- وفق وسائل الإعلام- عسى أن أكون مُخطئاً.
قرأت أولى الروايات عن السمك ممّا روى الكاتب الأمريكي أرنست همنغوَي (1899-1961) في روايته الشهيرة “الشيخ والبحر” والتي حاز بها على جائزة نوبل في الأدب- وجائزة بوليتزر الأمريكية- لريادته في فنّ الرواية الحديثة ولقوة أسلوبه، كما ورد في تقرير لجنة نوبل. فأصبح صيد السمك من أحلامي، حتى مارسته في شماليّ إحدى الدول الإسكندنافية في الفترة ما بين أبريل ونوفمبر من العام 2002 واستمرّت هوايتي الجديدة- التي تعلمت منها الصبر وطول البال- حتى شتاء العام 2004 ولكنْ في أماكن متفرّقة، فوق الدائرة القطبية الشمالية وتحتها، هناك هبطت درجة الحرارة مرّة إلى 20 تحت الصّفر، أمّا في خلال صيف تلك الفترة فقد بقيت الشمس طالعة حوالي ثمانين يوماً أرنو إلى مسارها وتحنو عليّ بأشعّتها التي كشفت لي عن وجود سمك بدون استخدام جهاز كاشف كالذي في الزوارق الحديثة.
لا جهة فوق القطب الشمالي للأرض تدعى مشرقاً ولا أخرى تدعى مغرباً، إنما بدا لي العالم كلّه تحت الأفق، لأنّ الأرض كرويّة- تقريباً- أمّا الجهات فنسبيّة وأمّا خطوط الطول وخطوط العرض فافتراضيّة ولا وجود لها إلّا في الخرائط ووسائل الدراسات والبحوث. أمّا من جهة العلوّ، تدور الأرض في مدار-ات هي الأبعد عن الشمس من مدار-ات الزّهَرَة، وهي الأقرب إلى الشمس من مدار-ات المريخ، منْ يقفْ على سطح الزهرة يَرَ الأرض في السماء وكذلك الذي يقف على المرّيخ، وهذه الكواكب جميعاً تسبح في الكون والأرض جزء منه فلا يوجد شيء أعلى ولا أسفل لأنّ هذه المسائل نسبية!
موضوع الجهات والسموّ هذا هو من حديث لي دار مع فتاة سكندنافية التقتني، فاستعرضتُ لها جوانب من عضلاتي المعرفيّة وفي فمي سيگارة وبين يديّ سنّارة الصيد، كانت تراقب طريقتي في الصّيد وتبتسم لنجاحي في استدراج سمك القدّ- كبير الحجم منه- والتقاطه ثمّ سحبه إلى الجرف. لكنّ ملامحها تغيّرت حين رأتني ألقي في الكيس- المُعَدّ لجمع السّمك- بسمكة وقد عَلِقتْ بالصدفة من وسطها برأس الخيط المعقوف، قالت لي الحسناء: ينبغي لك أن تترك هذه السمكة وتعيدها إلى البحيرة، لأنها لم تأت برضاها إلى الطعم فحرامٌ عليك إيذاؤها وأكلها! قلت: لمْ أتعلّم هذه الأخلاق من قبل ولم أصِلْ إلى هذه الدرجة من الإنسانية قبل اليوم، لأنّي قادم من وطن يغصّ بالبداوة فكريّاً وعمليّاً، لكنّي وعداً سأعمل بمشورتك وألتزم بنصيحتك سيدتي.
ومنذ ذلك اليوم لم أذهب لصيد السمك حتى اليوم بسبب وخز الضمير! قال لي زميل دراسة هندوسي فيما بعد: كيف تأكل ما فيه حياة أو مشروع حياة، لا ينبغي لك أكل السمك ولا البيض! قلت: حدّثني- من فضلك- عن تقديس البقرة عندكم، قال: شأن البقرة عندنا شأن الأمّ، تدرّ الحليب (أو اللبن) ولك أن تصنع من خيرها القشطة والزبدة والسمن والجبنة ولو كان عندها المزيد لأعطت! أفلا تستحقّ البقرة منّا الرعاية إلى مستوى التقديس؟ قلت: نعم والحق معك! _______________________________________
* لا يدري الكاتب بالضبط مَن الذي قام بتحريف اسم يونان إلى يونس!
#رياض_الحبيّب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هكذا يُشهِرُ فقيهٌ إفلاسَه
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة العاشر
...
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة التاسع
...
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة 8
-
المنهل الطَّيِّب في موجز تعليقات الحبيِّب- سادساً
-
من سيرة الرصافي وردود الفعل على كتاب الشخصية المحمدية
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة السابع
...
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة السادس
...
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الخامس
...
-
ألا يُعْتبَرُ سُجُودُ المَلائكةِ لآدَمَ في القرآن شِرْكاً با
...
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الرابع
...
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الثالث
...
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الثاني
...
-
تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الأولى
-
الإنفعال الإسلامي- إلى أين؟
-
لفت الإنتباه عن المسمّى حديث الله
-
مريم الإنجيل ومريم القرءان- تكملة الحوار
-
مريم الإنجيل ليست بنت هالي ومريم القرءان ليست بنت عمران
-
ردّاً على تساؤلات دينيّة
-
المنهل الطَّيِّب في موجز تعليقات الحبيِّب- خامساً
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|