جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2744 - 2009 / 8 / 20 - 09:43
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كانت الناس تبتهج لرؤية الشارع والكهرباء والأعمدة التي تصطف على حواف (حافة) الشوارع المعلقة عليها اللمبات لكي تنير للناس وللسيارات الطريق وكانت الناس تبتهج لرؤية الإسفلت لأن الطرق القديمة كانت تُرابية في الصيف ترسل الغبار وغير مضاءة وفي الشتاء الطين يلتصق بأرجل المارة عليها ,ومنذ بدأت الطرق الإسفلتية تنتشر شعرت الناس بنظافة هندامها وأحذيتها وكانت الناس تخرج بالعاريس (العريس) لوحده يزفونه في الشارع من دون عروسه ويقومون الدبكات الشعبية على نقاط التقاطع بين الحارات وحين فتحت الشوارع وعُبدت الطرق ووضعت أعمدة الكهرباء الخشبية في البداية ابتهجت الناس وفرحت لوصول الكهرباء والماء من خلال اتساع شبكات الطرق الخارجية وكانت الناس تسأل ضيفها : "نعملك شاي ولّا ناضيلك الكهربه؟" فمن عادة الشعب الأردني أن يقدم القهوة السادى للضيف ولكن بعد التطور أصبح الشاي رمزا ً للضيافة بدل القهوة العربية , والقهوة الفرنجية الحلوة هكذا يسمونها القهوة الحلوة فهذه يقدمونها للضيف عند إحساسهم بقرب انتهاء الزيارة والضيف الثقيل الدم يستعجلون له بتقديم القهوة , وحين وصلت الكهرباء لبعض المنازل كانت الناس تتندر على بعضها البعض فيقولون : إفلان إذا بيجيه ضيف بضيفه كهربه بدل الشاي يعني باضيله الكهربه , وفي ناس عندها خيارين إما إنهم بسقوك شاي وإما إنهم باضولك الكهربه وفي ناس باضولك الكهربه وبعملولك شاي , والشوارع فَتحت أمام الناس شبكات الماء والكهرباء وسرعة الإنتقال من الأرياف إلى المدن ومن المدن إلى العاصمة عمان .
وهنالك بعض المدن التي كانت تقف رجالاتها ضد تعبيد الطرق وفي القرى أيضاً كانت تقف بعض الناس بالسلاح ترفض تعبيد الطرق ويقال من أن النظام الأردني الحاكم حالياً كانت لديه نوايا من أجل إقامة عاصمته في مدينة السلط فاعترض السلطيون على ذلك وقالوا " بُكره إذا اتزفتت الشوارع حميرنا ودوابنا وين بدها تتمرغ ؟!" فمن المعروف أن الدواب تحك جسمها بالتراب كحمام طبيعي من أجل طرد الباعوض والميكروبات التي تحك جلدها فتلجأ على التمرغ والاحتكاك بالتراب كحمام شمسي .
وكانت الناس وما زالت تعترض على الشارع الذي يمر من داخل الأراضي الشعبية المملوكة للمواطنين فكانوا يذهبون ويسجلون اعتراضاتهم لكي تتحول الشوارع إلى أراضي غيرهم من الناس وهذا بسبب جهل المواطن فغالبية الشوارع قد رفعت من سعر الأراضي وأدخلتها داخل التنظيمات السكنية من (أ,ب,ج,د,) وقليل من الناس اليوم من لا يعترض على الشارع إذا اخترق أراضيهم, وكانت أراضي الناس في القرى قبل عام 1930م مشاعاً بينهم يحرثونها ويزرعونها وكانت الأرض رمزاً للشقاء وللتعاسة لذلك كانت الناس تبيع الأراضي من أجل الحصول على رأس مال يهاجرون فيها(بها) من القرية إلى عمان لفتح محلات تجارية أو لأي مصلحة أخرى, وهذا النوع من البيع هو الذي أدى في فلسطين لبيع الأراضي العربية لليهود , وبعد عام 1930م جاءت تسوية الأراضي فتم تقسيم الأراضي بين الناس إلا الزيتون فقد بقي مشاعا بين الأقرباء يقطفونه ويتقاسمونه فيما بينهم , وتم في تلك الفترة توزيع الأراضي الأميرية على الناس فكان الرجل الذي له معرفة عند الحكومة يأخذ أرضاً بعيدة ووعرة ومنحدرة لكي يبقى الحلال يرعى فيها ويلتقط الأعشاب طيلة فترة الصيف والشتاء وكان الرجل غير المدعوم من قبل الحكومة تعطيه أرضاً مستقيمة حمراء , وبعد خمسين عاماً من توزيع الأراضي بهذا الشكل ارتفعت أـسعار الأراضي المستقيمة ونزلت في الحضيض الأراضي الوعرة واستفاد مجتمع المساكين والدراويش من هذا الغلاء وباعوا جزءا من أراضيهم وأرسلوا أبناءهم للتعلم في الدول الأوروبية والذي لم يملك أرضاً كان النظام ألبعثي العراقي والسوري كفيلاً له بأن يتعلم في جامعاته .
كان طالب الجامعة يراعي مشيته في الشارع ويخشى على سمعته وكانت الناس من النادر أن ترفع صوتها على بعضها البعض في الشارع أما اليوم فإن الشوارع ممتلأةً بزجاج الكولا والببسي المُكسر هنا وهناك وأصوات طلاب الجامعات ترتفع في الأعالي , ويسهر الأولاد والشباب في الشارع حتى الصباح وهنالك فئة من الشباب من المستحيل جداً أن تراها في النهار فهم لا يظهرون إلا ليلاً يجوبون الشوارع ويهدرون أصواتهم هدراً وتمشي البنات في الشارع دون أن يعترض طريقها ابن عمها أو ابن خالها أو أي أحد من أفراد العائلة , ويسهر طلاب المدارس مع أساتذتهم في الكوفي شوب وفي الشوارع وعلى حافة الطرق واحترام المعلم أصبح نادراً جداً وإذا رفع استاذ المدرسة عصاه على طالب أو وبخه يرفع الطالب عليه في المحكمة قضية أو يشتكيه مباشرة لوزارة التربية والتعليم وكم من أستاذ سمعت عنه أنه تعرض للضرب وللإهانة من قبل الطلاب .
كان الشارع القديم يخجل من إساءة الأدب واليوم إساءة الأدب موضة ويعتقد الغالبية أنها حرية وديموقراطية وحياة خاصة.
وانتشار الشوارع أدى إلى زيادة حوادث الطرق والموت بالدهس وأول مشهد شاهدته في حياتي من حوادث السير في الأردن كان عبارة عن مشهد من مشاهد الرعب في أفلام هوليود الأمريكية طفل يقود دراجته الهوائية (البسكليت )وتهرسه عجلات قلاب نقل تبلغ حمولنه 4 متر مكعب , الطفل نقلوا مخه ووضعوه في كيس يقال له (شوال خيش) طبعاً هذه المشاهد هي الوحيدة التي لم تتغير ولم تتطور إلا للأسوأ وكان أهلي قبل هذا الحادث قد وعدوني بأن أتعلم ركوب البوسكليت –دراجة هوائية –ولكن بعد هذا الحادث حرموني حتى بلغت من العمر 17عاما سبع طعشر سنة (سبعة عشر عاما) والشوارع الرئيسية في بلدتنا كانت عبارة عن صايد واحد بعرض 8 أمتار ولا تزيد عن تسعة أو عشرة أمتار والطريقة التي كانت تفتح بها الشوارع ليست متطورة فقد اتبعت وزارة الأشغال والبلديات الحمير والدواب ومشوا على نهجهم بفتح الشوارع فمن المعروف أن الحمير والدواب كانت وسيلة نقل قبل دخول السيارات وحين دخلت السيارات إلى القرى والمدن مشت السيارات على درب الدواب والخيل والحمير والبغال وهذه الظاهرة كانت منتشرة في كافة أرجاء العالم والطرق المُعبدة في الأردن اليوم وخصوصاً في القرى تكثر بها الكوربات والكيرفات والإلتواءات الكثيرة وهذا بسبب إتباعها للدواب بدل الاستقامة الخطية في فتح الطرق , فغالبية الشوارع القديمة الموصلة بين المدن تكثر فيها الكيرفات واللفات والإلتواءات وعملت وزارة الأشغال الأردنية أخيرا على تعديل بعض هذه الطرق بسبب تزايد حوادث الطرق ومشاهد الرعب والتي تصلح لإنتاج أفلام سينمائية مرعبة.
وكانت طريقة تعبيد الطرق متينة ولا تقبل الشوارع الهبوط أثناء مرور المركبات فكانت توضع رصفة من الحجارة القاسية يأتون بها من المقالع القريبة من الأودية الرملية أما اليوم فالموضوع مختلف تماما فإن الطريقة غالباً ما تصنع الشوارع من البيس كوارس بإرتفاع ستين سنتمتر ويدحل ويرش بالماء ومن ثم توضع عليها طبقات الزفت(الزفتة) .
وكانت الناس قليلة والشوارع أقل من عدد الناس ولم تكن الناس تحب الجلوس في الشوارع وكانت أساتذة المدرسة ونحن صغار إذا تضايقوا من قلة إحترامنا لهم يقولون لنا :"كُنا ونحن في عمركم وسنكم إذا شاهدنا أستاذ المدرسة ونحن نلعب في الشارع نترك اللعب ونختبأ بين الشجر وخلف السناسل حتى يذهب أستاذ المدرسة وإذا رأى أحداً منا ونحن غافلون كان في اليوم التالي يعاقب الطالب على سوء اللعب في الشارع وإزعاجه للناس " وسنسله هي كلمة سريانية مستعملة عندنا وتعني جدار من الحجارة كان يضعه الناس والجيران بين بعضهم البعض كحد فاصل بين البيوت وبين الأراضي الزراعية وتلاشت تلك السناسل حين دخل الإسمنت وصناعة الطوب فأصبحت السناسل من الأسمنت المسلح بعرض ثلاثين سنتمتر للجدار المُسور حول الأراضي ثم أصبحت الأسوار من الطوب المغلق المُسكر ومن ثم أصبح الطوب أقل وزناً بعد أن أصبحت له فتحات من الأسفل وكنت أشاهد في صغري السناسل المصنوعة من الحجارة والأتربة ومع مرور الزمن تلاشت نهائيا بفضل عوامل التطور العمراني وأساليب تعبيد الطرق.
وكان للشارع حرمة وأحترام كبير عند كبار السن فلم يكن يسمح لنا بالجلوس على حافة الطريق لأن الكبار هم وحدهم من يجلس على جنبية(فرشة) أو مقعد خشبي صغير الحجم وكانت المرأة تتعرض للضرب في الشارع من قبل زوجها أو شقيقه إذا ثبت أنها أساءت الأدب أثناء المشي في الشارع ويقال أن السلف أي شقيق الزوج له على زوجة أخيه ما لأخيه على زوجته في المعاملة إلا في الجنس فكان شقيق الزوج يضرب زوجة أخيه ويعاقبها ويقال أيضاً أن ابن العم كان يضرب ابنة عمه أو أي بنت (فتاة) من الحمولة على حسب قرابة الدم فكان الشاب يضرب ابنة ابنة ابنة عم أبيه والتي تصل قرابتها له بالجد الرابع أو الثالث , فكانت البنات يختفين عن أعين أبناء العمومة وهن يمشين في الشوارع أو يضطررن لسلوك طرق أخرى غير مكشوفة.
وكانت بيوت العزاء تقام في مضافات أهل الميت نظراً لقلة الناس واليوم الموضوع مختلف فإن 75% من شوارع المملكة تستعمل كمضافات وبيوت عزاء فأهل الميت يغلقون الشارع من أوله إلى آخره بسبب موت أحد أفراد العائلة وينصبون بالشارع بيتاً من الشادر كبير للعزاء صيفاً وشتاء يستمر تسكير(إغلاق) الشارع من يوم إلى أربعة أيام حسب نوع المتوفى فإن كان رجلاً تكون المدة أطول وإن كانت امرأة تكون المدة أقصر , وهذه سُنة قديمة فقد كانت مدة تقديم العزاء ثلاثةُ أيام ٍللمرأة وسبعةُ أيامٍ للرجل , وكنا نذهب للسوق ونشتري السُكر من أجل تقديمه لأهل المتوفى فكان أهل الميت يحفظون من الذي أحضر لهم سكر حتى يبادلوه حين يموت هو أو أحد أفراد عائلته ,وأذكر حين مات أبي ناداني عم أبي وكان بيت العزاء في بيته وقال لي هذا السُكر كله إلكوا وأذكر بالتحديد أنه قد بلغ ما يقرب 800كيلو سُكر , باعته أمي لصاحب متجر قريبٍ من بيتنا وبنت لنا بثمنه غرفتين من الإسمنت والطوب وهذه كانت بداية انشقاقنا عن بيت جدي القديم .
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟