|
لعبة انشطار الذات في ديوان «حُلة حمراء وعنكبوت» - دراسة نقدية
حسام عقل
الحوار المتمدن-العدد: 2743 - 2009 / 8 / 19 - 05:56
المحور:
الادب والفن
مأساة الذات الشاعرة كما جسدتها هبة عصام في ديوان«حُلة حمراء وعنكبوت- منشورات دار شرقيات- القاهرة 2009» تتمثل في وجود نوع من المفارقة بين ذات متمردة جدا ثائرة إلى أبعد حدود الثورة والتمرد والانتفاض، لكن محوطة بالقيود الجاثمة وهي نفسها أزمة الشعراء الكبار، مثلا شعرية أبو العلاء تفرعت من هذا البيت: "حَبَسَتكَ أقدارٌ ذوَتْكَ عن المنى .. فمضى الصِّحابُ وأنتَ ثاوٍ حابسُ ..." هي مأساة الذات الشاعرة هنا ولذلك قررت أن تنتفض على هذه القيود باستدعاء الصورة المعروفة لكارمن برقصتها الغجرية، وكارمن دائما في الثقافة الأدبية تمثل فكرة الانتفاض على القيد وتحدي العرف والنظام، النص الافتتاحي بعنوان "ما هوَ لي" والعنوان هنا منحوت بشكل مبتكر إلى حد كبير، نص الافتتاح دائما في النقد الحديث يحظى بحمولة دلالية خاصة، دائما مانعتبره موجها كاشفا، النص هنا يجسد تجربة الذات الثائرة المتمردة، هي تدير حوارا مع نفسها، لكن ما هو المرغوب الذي تسعى الذات إلى نيله من ثورتها وتمردها؟ لم تفصح عن هذا لكن وضعت لنا هذه العبارة المنحوتة «ماهوَ لي» كأنها تذكرنا في الخلفية بعبارة محمود درويش الشهيرة "لي ماهو لي"، تحتمل تأويليا عدة دلالات، قد تكون دلالة الحرية السليبة أوتشامخ الأنثى، تستطيع أن تضع تحت عباءة هذه العبارة «ماهو لي» أشياء كثيرة. الذات الثائرة هنا أحيانا تثق بنفسها وتعتد بقدرتها إلى حد التطاوس، وأحيانا تبدو متشككة ومتطيرة من النتائج، مثلا في منحنى من منحنيات التشكك والتراجع تخاطب الذات الثائرة نفسها فتقول: "عِشْ في حذرك حتى الموتْ واحسب خطوَك قبل عبورِ الشارعِ قبل صعودِ سلالمَ بيتِك قبل الشفع وقبل الوترِ.." وأحيانا تقف عند حدود الاجترار ويبدو هذا في صورة مفردة مشعة وجميلة هي مفردة "الوشم": "وصارع وشماً في ناصيةِ الزمنِ الفائت لا يعنيني أن يوقظك الوخزُ ولا يشغلني شَيءٌ حول مداراتِ الأحلامْ" هنا أوشكنا ان نعتقد أن الذات الثائرة وصلت إلى نوع من الاحباط، ويبدو أن هبة عصام احتفظت بالمفارقة في مقطع التذييل والختام؛ لأن الذات عادت تتطاوس مرة أخرى وترى العالم مجموعة من "المارة والأقزام" وهي تستخدم هذه العبارة كثيرا، ونحن لا ننزعج من نرجسية الشعراء، فالمتنبي يقول: "ما الدهر إلا من رواة قصائدي .. إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا" ولم ننزعج من العقاد حين قال: "أنا حاطم الأصنام والقبب .. ألحقت منها الرأس بالذنب" يبدو أن نرجسية الشعراء قدر لا فكاك منه، ونعتبرها نوعا من الاعتزاز بالذات والقدرات، هي تقول في نهاية القصيدة محتفظة بتطاوسها وتشامخها: "ما هوَ لي يأتيني سعياً لن أخطفهُ مِن بينِ كفوف الأقزامْ لن تلمح أعينُهم أطرافَ ردائي الورديْ ما هوَ لي سيُفرِّع أجنحةً عطْشَى ويطير إليْ .." هنا تعطينا بعضا من الطعم المراوغ حتى تحتفظ بالمفارقة في نهاية القصيدة. ولعبة انشطار الذات على نفسها لعبة تستهوي هبة عصام كثيرا على مدار الديوان، تشعر أن الذات تنشطر ثم تدير الذوات المنشطرة حوارا يبدو في الظاهر ديالوج بينما هو في حقيقته مونولوج، وتكرس هذا في قصيدة «غيبوبة» الذات الشاعرة تريد أن تخرج نفاثة الصدر المحترق فتنشطر الى ذوات، رقمت هذه الذوات المنشطرة، الأولى فالثانية حتى السابعة، وكل ذات أو كل زائرة تمارس نوعا من البوح على طريقة السيرة الذاتية وهي تستخدم عبارات كبسولية صغيرة، الذوات المنشطرة هنا تصبح زائرات ونفهم أن المسألة تدور في إطار مكاني وهو المشفى، وكأن الذات المرجعية الأولى التي انشطرت عنها هذه الذوات تعاني نوعا من السقم أو المرض وبالتالي يبقى الأمل معلقا في الذوات الأخرى المنشطرة: "الزائراتُ يُثِرنَ فوضى الذاكرةْ يكتبْن فوق مُلاءةِ المشفى وأغلفةِ الدواءْ يكشفن عُرْيَ وجوههِنْ هذي أنا هذي أنا والثالثةْ والرابعةْ.. يحملن نفسَ ملامحي وذبوليَ المجبولَ من أوجاعهنْ.." ثم تبدأ كل ذات تمارس البوح أو الإفضاء على طريقة التراكيب النشطة، فدائما هبة عصام تضغط العبارة: "كَتَبَتْ أنا".. وهنا تبدأ لعبة المناورة بين مرجعيات الضمير وكأنها تحول ضمير المتكلم كما لو كان ضميرا غائبا: "كَتَبَتْ أنا: بي رجفةٌ تمتد من عمقِ الغيابِ إلى دمي وتـَرِفُّ من سفح التلال الظامئاتْ حتى سماء الأمنيةْ." ذات أخرى تتحدث عن فاعلية الزمن وهي فاعلية ماحية تقضي على زهوة الاحلام: "وقتٌ بمقدارِ الجروحِ يُعبّئُ الوجعَ المسافرَ ثم يمضي مُبطئاً أو مسرعاً كلٌّ تُحرّكهُ الحمولةُ فوق ظهرِ عقاربهْ." وفي بوح الرابعة نلاحظ نفس فعل الزمن الماحي وكأن الأعمار تنسل من بين أصابعنا في خفة الماء: "حتماً ستُختَصر الحياةُ بلفظةٍ عاديةٍ ستُمَدُّ في ظهري انحناءةُ ناسكٍ .." ويظهر في اعترافات الخامسة قمع الانثى: "أرتد أسئلةً يموءُ جنونُها وأعود أفترش الحياةَ كما هي: أحلامي البكماءُ بيتٌ من دُمَى وصدى الخواءِ يلوكُني.. فلم التعجبُ حين أُزعِجُ غفوةَ الأيامْ أو أكسر الكرسيَ كي لا أستريح؟!" وهذا التعبير الأخير به صورة شعرية مشعة، أن الذات دائما متحركة وديناميكية لا تقنع بالراكد والساكن لدرجة أنها في النهاية تحطم الكرسي حتى لا تستريح. في بوح السابعة، وهي آخر أشكال البوح، الذات عاجزة على أن تحقق كل سقوف هذه الاحلام؛ فتحفز ظلها على التحرك، والملاحظ أن في دراسة المعجم الشعري لهبة عصام مفردتين ستحظيان بمعدل تكراري لافت، مفردة "الظل" ومفردة "الجن"، ولها قصيدة بعنوان "جني"، وربما المفردتان على تباعد ما بينهما يجمعهما نسق مشترك هو فكرة التأبي والاستعصاء على الأقيسة المعقلنة، أنت لا تستطيع أن تحجم حركة الظل، ولا تستطع أن تحجم حركة الجن: "ياظليَ المخبوءَ خلف وساوسي ارقصْ فإن العمرَ يأكل ساقـَهُ والرقصُ سال لعابُه من خطوتِكْ ارقصْ لتهرُبَ أيها المذعورُ من شبحِ الفناءْ وأنا على هدبِ الحياةِ أراقبُ الموتَ البطيء.." ذيلت كل هذه الأحلام بسقوفها بأن بدأت تستحث الظل أن يقوم بما لم تقم به الذات الأصلية. قصيدة «حلة حمراء وعنكبوت» كما أوردنا تستدعي فكرة كارمن برقصتها الغجرية المتحدية للأعراف والقانون، لكنها تستهل القصيدة استهلالا ذا طابع فانتازي واستدعاءا لعوالم الجن: "نَمِراتٌ من غاباتِ الجنْ تتسلق عقلَ الصاخبةِ الشهباءْ جَمراتٌ تحرِق بردَ الروحِ ومسُّ جنونْ." الاحتراق في معجم هبة عصام مرادف للتطهر والميلاد، تظهر بعد ذلك كارمن برقصتها الغجرية الشهيرة، تتناقض في مفارقة حضارية مع سكون من حولها واستسلامهم للتكلس والجمود: "ولكارمن عاداتٌ حمقَى تَدخُلُ حُلَّتَها الغجرية ترقص يتطاير ما فوق الجسد الرافض تتحررُ من صَمغِ الخوفْ.." هنا ترفع "هبة عصام" سقوف الشعرية، وهي ممن يعتقدون كما يبدو من تعبيرها الشعري أن رفع سقوف الشعرية مرادف لرفع حالة المفارقة والتناقض، والشعر في حقيقته في بعض المدارس يسمونه لغة المفارقة. هنا ترجع مرة أخرى لعبارة "المارة والأقزام" حيث تختزل حالة الجموع إلى مارة وأقزام: "تصعدُ فوق المارةِ والأقزامْ شامخةً تتنفس أبخرةَ العمرْ في الأسفل يعتادون المِلحَ وخفْضَ الرأسْ." تنظر إلى العالم هنا من أعلى، وتلك ممارسة شعرية مستلهمة من التراث، فمعظم شعر المتنبي مثلا مليء بالتصغير، وهو مافسره طه حسين بكون المتنبي ينظر إلى العالم من أعلى فتبدو له الأشياء صغيرة، هو نوع من نرجسية الذات الشاعرة. تستمر الذات الشاعرة في الامتداد بخيط المفارقة لدرجة اعتبار النصيب الذي تملكه كارمن النصيب الوافر، والنصيب الذي تملكه هذه الجموع في معجمها "المارة والأقزام" هو النصيب الضحل المحدود: "للعقلاءِ نصيبٌ ولكارمن أنصبةٌ أخرى لا يعرفها الآمنُ تحت الظلِّ ولا الداجنةُ بكهفٍ حجري لا يعرفها الخائفُ من خُطوته الحُبلَى." هنا تعتبر أن نزق "كارمن" هو نوع من نزق من الفعل المغامر، لكن لابد أنها في النهاية تحوز الثمر. "يَتسع العالم؛ يستوعب كارمن.. تضجر رئتاهُ؛ يضيق.. غَزْلُ عناكبَ يَشبِكُ قدمَ الطيرْ ترفضُ، تركلُ، تنـزفُ حُلّتُها الحمراءُ ، ... تموءْ." في كل مرة تحتفظ هبة عصام في ذيل القصيدة بمفاجأة جميلة، لكن المفاجأة هنا كانت محبطة، حيث انتهى نزق الفعل المغامر بمواء، وليس هذا سقف الطموح الذي غذيناه في المتلقي، هنا العالم نفسه بتضاريسه وبيدائه وأفلاكه عجز عن استيعاب مغامرة كارمن كأن فعل ونزق الفعل المغامر لا سقوف له تقريبا، يبدو أن لعبة الاحتفاظ بالمفاجأة خذلتها فقط في هذه القصيدة، كان يمكنها ان تفاجئنا بمفاجئات كثيرة. في قصيدة «حالما يحتضر الوقت» يتجسد الوجه الرومانتيكي الحقيقي في الديوان، هنا ترتبط مغامرة العشق عند هبة عصام بمغامرة التمرد، العشق عندها ليس ممارسة سكونية، بل نوع من التمرد والانتفاض والرفض: "صباحُك شِعرٌ مساؤك طيشٌ ونارٌ وحزنٌ عميقْ وليلك نهرٌ وحيدٌ تحيك على جانبيه الكلامَ وتثقب جِلدَ الطريقْ." واضح أن التجربة تشي بثقافة الشاعرة، إلا أن حشد الإشارات الثقافية أحيانا مايمثل عائقا في التواصل: "وأنك مَدٌّ لجرحِ المسيح مرارةِ لوركا، وأحزانِ حابي" كما قلنا في دراسة المعجم الشعري لهبة تلفت نظرنا مفردة "الظل" وهي حاضرة في هذه القصيدة أيضا: "أُباغتُ ظلي وأسلك تيهاً بغير انتهاءْ." لكن ما لفت نظري أنها لا تخاطب المحبوب بالمنظور الأنثوي التقليدي المضفر بنوع من الخفر والحياء، وإنما تخاطبه بمنتهى الندية والتكافوء، مثل غزل "حفصة بنت الحاج" في الأدب الأندلسي: "أزورك أم تــزورُ / فإن قلبي إلى ما تشتهي أبدا يميلُ" في قصيدة «اسكتش» يبدو تماما نضارة المعجم الشعري لديها، وإذا قدر لي أن اقوم بدراسة لشعرها سيكون مدخلي "المعجم الشعري" فهي تنحت مفردة خاصة، عكس معظم التجارب الشعرية الأخيرة التي تعمد إلى الكلاشيهات، وهي هنا تقدم لنا بطاقة تعريف بنفسها: "لشروديَ الطوافِِ بي ورعونةِ الحلمِ المشاكسِ في ثياب المدرسةْ تركيبةٌ كَتب الجنونُ رموزَها السطرُ مسكونٌ بألف تميمةٍ والحبرُ ممزوجٌ بقرص الهلوسةْ " وتقول: "شباكيَ المهجورُ في كراسة الرسمِ سأطلُّ منه، وبعدها... سأدرِّبُ العينَ الوليدةَ أن تحدِّقَ في الفراغْ" قصيدة «وقفة» تثرى برؤية فلسفية وبنوعين من الأنا، أنا عاقلة تشد الذات إلى إيثار السلامة، والتعامل مع الواقع حتى بقبحه وعطنه ودمامته، وأنا أخرى ثائرة "أنا كارمن"، وهذا الصراع بين النوعين من الأنا حاضرٌ وهي تعترف به: "في داخلي عمرٌ جبانْ طيرٌ يبعثر ريشهُ كي لا يطيرْ ويفلسف الأشياءَ من تحت القممْ أوراقيَ البيضاءُ تسخر مِن يَدِي.." هنا إشارة إلى مغامرة الكتابة.. قصيدة «عابرة ليلية» تعد تكثيفا مقطرا منقحا لكل رسالة الديوان، قبح الواقع ودمامته وهو يؤطر حركة الروح، تجسد هذا القبح في صورة شعرية غريبة لشاحنة تصدم طفلا. لكن الملاحظ هو هيمنة تفعيلة المتدارك، وأعتقد أن هبة لها من القدرة ما تستطيع أن تنوع به البحور، في كل الاحوال، على ما أصابت هبة من منجزات واضاءات شعرية أظن أنها ستحتفظ لنفسها بموقع جيد في الخارطة الشعرية التي تتشكل الآن، ولابد أن نسلم بأن هناك خارطة شعرية تتشكل الآن.
#حسام_عقل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-آثارها الجانبية الرقص-.. شركة تستخدم الموسيقى لعلاج الخرف
-
سوريا.. نقابة الفنانين تعيد 100 نجم فصلوا إبان حكم الأسد (صو
...
-
من برونر النازي معلم حافظ الأسد فنون القمع والتعذيب؟
-
حماس تدعو لترجمة القرارات الأممية إلى خطوات تنهي الاحتلال وت
...
-
محكمة برازيلية تتهم المغنية البريطانية أديل بسرقة أغنية
-
نور الدين هواري: مستقبل واعد للذكاء الاصطناعي باللغة العربية
...
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|