|
أُنوثةُ القصيدة لدى الشاعر شوقي بزيع
نمر سعدي
الحوار المتمدن-العدد: 2738 - 2009 / 8 / 14 - 07:41
المحور:
الادب والفن
هو شاعر لبنانيٌّ من مواليدِ الجنوبِ في مطلعِ الخمسينيَّات. له حتى الآن أكثر من عشرةَ مجاميعَ شعريةٍ بدأها بعناوين سريعة لوطن مقتول عام 1978 ولا زالَ من ألمعِ الشعراءِ العربِ وأرقِّهم حاسَّةً وأصفاهم شفافيَّةً. لا أعرفُ في الحقيقةِ بماذا أُشبِّهُ قصائد هذا الشاعر المُتجذِّرِ في أديمِ الأنوثةِ وفي خميرةِ الجمالِ.. أأشبِّهها بلمعانِ أجسادِ النساءِ اللواتي كانَ يتلصَّصُ عليهنَّ طفلاً من وراءِ أوراقِ الأشجارِ التي تشبهُ بريقَ الذهبِ؟؟ أم أأشبِّهها بالأزهارِ البيضاءِ اللوزيَّةِ ؟؟ أم بالأرضِ الجنوبيَّةِ التي عشقها بكلِّ سهولها وجبالها وفتنةِ وديانها وروعةِ تضاريسها؟.. فهذا الشاعرُ يستطيعُ أن يُدخلكَ إلى حلقاتِ الوجدِ الصوفي الجماليِّ الشعريِّ بلمحةِ البصرِ... وبدفعةٍ واحدةٍ يستطيعُ أن يُبلِّلَ قلبَكَ بالماءِ الغامضِ والبرقِ الحزين. في قصائدهِ الكثيرُ من فتنةِ الأنوثةِ العصيَّةِ على الفهمِ.. فأنتَ تقفُ وكأنكَ أمامَ إعجازٍ يملأُ قلبَكَ بالانبهارِ وروحكَ بالإعجابِ الرفيع. ألفاظُ شوقي بزيع منتقاةٌ بدقةٍ ورهافةٍ وحسٍّ موسيقيٍّ بارعٍ وذكاءٍ شعريٍّ نادرٍ قلَّما وجدتهُ عند الشعراءِ اللذينَ يكتبونَ قصيدةَ التفعيلةِ. فعباراتهُ الشعريَّة شفافةٌ كالماءِ وليِّنةٌ كالغيومِ تنسابُ في نفسكَ كما ينسابُ النهرُ الحافي في دروبِ الحصى. فتدغدغُ عواطفكَ وتوقظُ ما هجعَ من أحلامكَ الخضراء. وتحملكَ وتحرضِّكَ على فعلِ الحُبِّ والتأملِ في شظايا الأملِ..والحلولِ في بهاءِ الكونْ.. يقولُ في إحدى قصائدهِ عن مأساةِ الشاعر الحديث: دائماً يكتُبُ ما يجهله دائماً يتبع سهماً غير مرئي ونهراً لا يرى أوّلَهُ ينهر الأشباح كالماعز عن أقبية الروح وكالسّاحر يُلقي أينما حلّ عصا الشك ليمحو بعضُهُ بعضاً مقيمٌ أبداً في شبهة البيت ولا بيت له كلما همّ بأن يوضح يزداد غموضاً وبأن يفصح يزداد التباساً، والذي يكتبه يحجُبُهُ هي يدري أن بعض الظنّ إثمٌ ولذا يومئ للمعنى ولا يقربُهُ يدّعي الشاعر أن الشّعر ذئبٌ فيقول الناس: إن هو إلاّ شاعرٌ والشّعر أضغاثُ رؤىً خادعةٍ لم يصدّق أحدٌ ما زعم الشاعر، لم ينتبه الناس إلى الموت الذي ينهش في هيئة ذئبٍ جسمُه الرثّ لكي يستخرج المعنى الذي في قلبه، الناسُ نيامٌ فإذا الشاعرُ مات انتبهوا!. في هذهِ القصيدة استشرافٌ لنبوءةِ الشاعرِ وفيها بعدٌ رمزيٌّ لعبثيَّةِ ما يحاولهُ في حياتهِ. ولكن الصياغة في قمةِ الذكاءِ الشعريِّ والمكاشفة.
أوَّلُ معرفتي بالشاعر شوقي بزيع كانت من خلالِ قصائدَ متفرقة في الصحافةِ العربيةِ وما كانَ يصلنا من نتفِ أشعارهِ في صحافتنا المحليَّةِ في الداخلِ الفلسطيني وقد كانَ دسماً على قلَّتهِ. ثُمَّ في أيَّار عام 2001 وقعَ بصري في معرضِ الكتابِ الذي تقيمهُ مكتبةُ (كلُّ شيء) في حيفا على ديوانيهِ الصغيرين ( قمصان يوسف) و( كأني غريبك بينَ النساء) فولجتُ عالمهُ الشعريَّ السحريَّ من خلالِ ديوانيهِ هذين وخصوصاً الديوان الثاني الذي راقَ لي.. دخلتُ إلى مملكتهِ المعلَّقةِ فوجدتُ في أروعِ دواوينهِ هذا إشتغالٌ مُتقنٌ على الصورةِ الشعريَّةِ وعلى تركيبِ الجملةِ في القصيدةِ وعلى التدويرِ البديع الذي لا يخرجُ بكَ عن سياقِ الحالةِ الموسيقيَّةِ العامةِ في النصِّ.. للوهلةِ الأولى تشعرُ أنَّكَ أمامَ شعرٍ جديدٍ تعبَ صاحبهُ عليهِ كثيراً.. فهو موصولٌ بأصالةِ اللغةِ المصفَّاةِ وصرامةِ أساليبها وغزارةِ معانيها ومفرداتها الشعريَّةِ التي كأنها قد نُحتت من الصخرِ الليِّن.. وفي الوقتِ نفسهِ نجدُ أخيلتهُ وكأنها تنهمرُ علينا بصورهِ المخترعةِ من عالمِ المستقبلِ وفضاءاتِ قصيدةِ النثرِ الرحبةِ الزاهيةِ بالأقواسِ القزحيَّةِ. والمشبعةِ بالرذاذِ الضوئيِّ. فنيَّةٌ التجاورِ والتناصِ والمحاورة موظفةٌ بدقةٍ متناهيةٍ في السياقِ وفي الجملِ المحمولةِ على أنفاسِ الأنثى المعشوقةِ البعيدةِ أو ربمَّا المستعصيَّةِ على يدِ الشاعرِ. وهذا ربما تأثيرٌ من شعراءِ النثرِ البارعين ومنهم عبده وازن وعباس بيضون.. فشاعرنا يعترفُ أنهُ يصبُّ تقنياتِ قصيدة النثر وجمالياتها في قوالب موسيقية عبر مجال التفعيلةِ اللينةِ الطيِّعة.. التي ترشِّحهُ مع شعراءٍ قليلينَ ليكونَ أجملَ فرسانها بعدَ رحيلِ أميرها محمود درويش. تروقنا في قصائد شوقي أيضاً براعةُ السردِ الذي يدخلُ في الحوارِ الذاتي للقصيدةِ حتى أنَّ بعضَ النقادِ العرب عزا هذا الأمرَ إلى تأثُّرِ شاعرنا بالفنِ الروائي وأساليبهِ. وهذهِ الميزة من خصائصِ شوقي بزيع بل من أهمِّ ميِّزاتهِ.
للأشياءِ في شعر شوقي بعدٌ آخرُ غيرُ محسوسٍ فللصيفِ طعمٌ غريبٌ يختلفُ عنهُ في الواقعِ وللفتةِ الأنثى أيضاً مسحةٌ تليقُ بحفيداتِ دعد وليلى وجولييت وكليوبترا وإلزا.. حتى الليل والأزهار ومسمَّياتُ الطبيعةِ تكتسبُ روحاً وقيمةً وملمساً خاصاً يشي بالسحرِ وينضحُ بمعناهُ الكامنِ وغموضِ تكوينهِ. فإنني عندما أقرأُ لشوقي أجدُ أنَّ النساءَ جديراتٌ بهذا الحدبِ الذي يمحضهُ لهنَّ الشاعر العاشقُ فها هو يُضفي عليهنَّ جمالاً على جمالٍ ويوشحهنَّ بالفتنةِ الغريبةِ المستغلقةِ ومناديلِ الهيام.. ويجعلهنَّ كائناتٍ من أحلامٍ وسرابٍ.. وهذا أجملُ ما في عملِ الشعرِ وأروعُ ما في لعنةِ الكلام. فلشاعرنا مقدرةٌ عجيبة على تنقيةِ عالمهِ الشعريِّ من الشوائبِ والزوائدِ وإضفاءِ مسحةِ الحلمِ على الواقعِ المجبولِ بالحديد.
فشوقي وعمر بن أبي ربيعة يصدران عن قوس واحدٍ كما قالت العرب. فهما يتداخلان هذا في ذاك ولا تفصلُ بينهما لغةُ التماهي الحسيِّ.. ولا ينفصلُ وجدُ أحدهما وهيامهُ عن لهفةِ الآخرِ تجاهَ الأنوثةِ ومعناها. تلكَ الأنوثةِ التي يحبَّانِ كلٌّ بمقدارٍ والتي طفقا يصورانها حسيَّاً رغمَ أن أشواقهما تجريديةٌ بحتةٌ وسرياليةٌ حداثويةٌ تنهضُ من انكساراتِ اللغةِ وأفراحها المخبوءةِ.. أستطيعُ القولَ أنَّ عمر بن أبي ربيعة قد بُعثَ لنا بعدَ أكثرَ من ألفٍ وأربعمائةِ عامٍ في ثيابِ شوقي بزيع الشاعر الثائرِ على رتابةِ أحلامهِ الشعريَّةِ.
للشاعر قصائدُ بالغةُ الجمالِ والخصوصية اللفظيةِ والشفافيةِ.. قصائدُ تبلغُ حدَّ النشوةِ والكمالِ بامتيازٍ.. منها قصيدة كأني غريبك بينَ النساء فهيَ من الروعةِ والدقةِ في التصوير بحيثُ تجعلكَ تذهلُ عمَّا قرأتَ قبلها من شعرٍ.. يقولُ في مطلعها: يدُكِ الأرضُ رابضةٌ منذُ أكثرَ من صخرةٍ فوقَ صدري وطافيةٌ كالزمانِ على قُبَلي الخاسرةْ تتجلِّينَ لي كمآذنَ مضمومةٌ حولها قبضةُ الريحِ أو كبلادٍ تضيءُ لها كالسماواتِ أطيافك الغابرةْ تتجلينَ لي مثلما يتجلَّى الكسوفُ على جبلٍ شاهقٍ أو كعاصفةٍ تتواجهُ مع نفسها في خريفٍ بلا شرفاتٍ لكي أتنسَّمَ تفاحكِ الدنيويَّ كما يتنسَّمُ وردُ المقابرِ رائحةَ الآخرة.
ألا نسمعُ هنا أصداءً للمزاميرِ ولنشيدِ الإنشادِ؟؟ ألا نلمسُ تقاطعاً حتميَّاً مع أنغامٍ أوركستراليةً تتنـزَّلُ من سماءٍ حزينةٍ وبعيدةِ الجرح؟ ألا تذكِّرنا انسيابيةُ هذهِ القصيدةِ وتهاديها بموسيقى الغرفِ الهادئةِ؟ والمطالعِ الهوميريةِ العاليةِ النبرةِ.. ؟ والحادةِ كالسيفِ اليمانيِّ؟ هذهِ القصيدة العامرةُ تستولي عليكَ وتخلبُ قلبكَ.. إنها نشيدٌ رزينٌ صارخٌ لتمجيدِ الأنوثةِ. حتى لو كنتَ لا تعرفُ شوقي بزيع فإنَّكَ ستختارهُ من قراءةِ أوَّلِ سطرٍ شعريٍّ لهُ في قصيدةٍ عابرةٍ تجدها في مجلةٍ هنا أو جريدةٍ هناكَ ولكنكَ لن تنساهُ أبداً.. لا تستطيع أن تتفلَّتَ من سحرِ ماروتهِ الطاغي وتوحشِّ انهماراتهِ وبوحهِ العالي. وسيحصلُ لكَ كما حصلَ لقارئٍ إتصلَ بقناةِ الجزيرةِ وكانت تبثُّ برنامجاً أدبياً وقالَ مصارحاً المذيعَ بأنَّ في العالمِ العربيِّ شعراً جيِّداً يستحقُّ القراءةَ وعندما سألهُ المذيعُ بعضَ أسئلةٍ يحاولُ فيها استجوابهُ.. قالَ هذا المواطنُ العادي جدا والمثقفُ أنَّ هنالكَ في لبنانَ شاعرٌ غيرُ معروفٍ كبقيةِ النجومِ من الشعراءِ ولكنهُ شاعرٌ حقيقيٌّ وساحرٌ بكلِّ ما تنطوي عليهِ هذهِ الكلمةُ من أبعادٍ ومعانٍ.. يستحقُّ القراءةَ والاهتمامَ في محيطِ هذا الغثِّ من الشعرِ. قالَ القارئ الحقيقيُّ أن الشعراء الجيِّدين كشوقي بزيع يجرفهم طميُ القصائد الركيكة في عصرِ الكمِّ ولا يجدهم إلاَّ من يُحسنُ اكتشافَ اللؤلؤِ تحتَ الرمالِ.. لم أستغرب حينها كلامه وابتسمتُ ابتسامةً خفيفةً وقلتُ في سرِّي شكراً لشوقي بزيع الذي يزيدُ أحلامنا جمالاً.. وينقعُ جفافَ أرواحنا بالرذاذ.. ألفَ شكر....!
#نمر_سعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلامٌ على قمرِ البنفسجِ في عينيكَ
-
نشيدُ الإنشاد
-
مجموعة قصائد
-
يا قَمَراً يُصوِّبني إلى نفسي
-
هذيَانُ ديكِ الجنِّ الحمصيِّ الأخيرُ
-
مقالات وحوارات في الأدب
-
قُبلةٌ للبياتي في ذكرى رحيلهِ العاشرة
-
يُخيَّلُ لي
-
محمد علي شمس الدين..
-
إغمدي قُبلةً في خفايا الوريدْ
-
مُعضلةُ الصَداقةِ اللدودةْ
-
وشمُ نوارسْ
-
في حضرةِ الماء
-
أمشي كيوحنَّا
-
كائنُ الشمسْ
-
لعلَّ أزهاراً ستُشرق
-
في مرتقى شفةٍ
-
نيسانُ أقسى الشهور
-
حدائقُ من شهقاتْ
-
مقالات وحوارات في الشعر والأدب
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|