عادل الخياط
الحوار المتمدن-العدد: 2732 - 2009 / 8 / 8 - 08:25
المحور:
الادب والفن
هكذا دون ما هدف مُحدد , دون وعد سابق , هكذا ومثل آلة صماء وكأن شبحا سيرها ذلك الصباح الشتائي فحملتني قدماي نحو شارع النذور . منتصف فبراير : صباح قادم من المملكة البيضاء , لكن الخلق يفيض :موظفون , عمال , طلاب .. حتى الشحاذون والباعة المتجولون : إنها فرصة ثمينة , فهذه الدقائق ربما تعادل رِبح يوم كامل . : ما هذا ؟ " : إنها كافتريا القُبة يا سيد , لحمٌ خالص , تكون محظوظا لو تناولت إفطارك منه ." .. : " هـ .. حسنٌ , لنر ؟"
الداخل مليء , والخارج مساطب على هيئة مُربع .. إلى اللوحة المخطوطة : كافتريا القُبة , إسم جميل , لكن لماذا إختار هذا الإسم , لا تو..." . قطع همسي صاحب الشعر الأشيب وهو يقول لزميله :" عنادك ليس له حد , أقول لك إنني عملت عدة بحوث في هذا المكان , إنه متحف يحتوي رسوم وتماثيل تاريخية قديمة وحديثة : عباسية , سلجوقية , عثمانية , وغيرها ..أدق تفاصيل حياة الناس لها رسوما هنا ." وربت على كتف صديقه وإبتسم ثم أردف : " كن واثقا يا صديقي من كلامي , تصوَرْ حتى غزل أبو نؤاس لغلمان الحانات , لكن ما ندمت عليه هو منمنم لأحد الإفرنجة وهو رسول الملك فيليب الثاني , منمنم يُبين فيه مُخترعه تبادل الهدايا بين ملك الإفرنجة والخليفة العباسي الناصر لدين الله , حيث يقولون إنه سُرق قبل زيارتي الأولى للمتحف بإسبوع .
.".. نظر إليه صاحبه نظرة من لا يقدر أن يُواجه صلِفا غبيا .. لكنه بعد بُرهة لم يستطع أن يُقاوم , فقال له بهدوء : " يا صاحبي أراهن إذا لم يكن هذا مزار لأحد السادة العلويين ." .. فإنتفض الأشيب بعنجهيته المرسومة على جبينه قائلا : " أي سادة , طيب , أي سيد منهم قلي إسمه ؟" .. وبهدوء أيضا قال الصديق : " من أين أعرف إذا كان عددهم لا يُحصى , لكن حتما هو منهم ما دامت قبته خضراء .. خضراء .. خضرا.. "
توالت أصداء صوته في أذني حين إلتفتُ معه وهو يُوميء بيده إلى متحف البحوث العظيم "
خاتمة الضباب بوابة الولوج نحو عالم التفتح , لكن العالم إنقلب فجأة :" أنا أيضا أعرفها , حتى انها حين تراءت لي من بعيد , تصورت انها مقبرة للغُرباء والضالين طريقهم , وربما تراءى لي مُفتيا يلف ببطء دائرة الضريح مُرددا طقوس الموت لمجموعة من التوابيت , لكن الغريب إنه لم تكن هكذا معالم حضارية في ناحيتها الشرقية , كانت المعالم عبارة عن أحياء شعبية مُعدمة .."
طارئ شتت زواغي البعيد , صوت يقول :" بألله عليك يا إبني , هذا هو شارع النذور ؟ " إلتفتَ رفيق الباحث الأثري إلى صاحبه بإستغراب , ثم رجع يُحدق فيها بفضول واضح !! هل أحسَ مثلما أنا : بساطة النقاء , عجوز قروية , ملابس سوداء , شناشيل عصابة رأسها السوداء تتدلى فوق جبينها حد الحاجبين , إلى ذلك تنتصب فوق رأسها مُثبتة كأنها دُقت بمسامير سلة من الخوص لم أعرف ماذا تحتوي , كذلك بجانبها إبنتها بعباءتها وثوبها الأحمر الصارخ وعُنقها العاري الذي رغم الزمهرير ينضح ملح الجنوب الساخن .
ردَ عليها ولم يزل مدهوشا :" أين تريدين يا أمي ؟"
:" أتيت من آخر الدنيا حتى أزور " سيد إدريس " , عرضوا عليَ زيارته وطلب مُرادي منه , أريده يحل عُقدة أختك هذي ."
:" ماذا بها ؟"
ما تُولد يا إبني , تزوجت قبل سنتين وما حملت حد اليوم "
ومثل جهاز ضُغط زره طفقت قائلا :" هي في بطنها جنين سيخرج مُشوها , سوف يُسبب شوهه عُقدة ذنب عند أبويه طيلة حياتهما هـههه ." .. لكنها ليست حاملا , قال الدليل ."
هاه , لا أدري , لكن صوتها تهدج مُتناغما مع طفوح عينيها حين أجلسوها على عُنق الزجاجة المثلوم , حتى إنقطع إلى غير رجعة "
فهز يده في وجهي ورجع إليها سائلا :" من قال لكِ إن هذا هو شارع النذور ؟"
:" في قريتنا ما ظل أحد عنده مشكلة ما سلمه " سيد إدريس " مُراده , قريبنا عنده ولد أعمى نذر عشر بقرات وبعد يومين رجع نظر إبنه .. وجارنا بنته طرشة نذر خمسين جزة صوف وثاني يوم رجعت تسمع .. وجارتنا صدرها ما يدر حليب نذرت ثلاث جاموسات , وما فات اليوم حتى نبع الحليب من صدرها .. وغيرهم نذروا المال وحصادات المواسم والذهب وكل شيء , وكلهم حل مشاكلهم , إلا واحد ما حل مشكلته , واحد الناس تتكلم عنه كلام ما مفهوم .. "
قلت مقاطعا : " يبدو إن هذا كان ينفث رذاذ السل في حضرته , وإلا لماذا لم يفعلها ؟"
لم يعرني الدليل أهمية , وإلتفت إلى صاحبه كأنه يُبرهن له صحة توقعه , ثم قال بنبرة تهكمية : " نعم يا أمي أكملي .. أكملي ."
فواكبت هي عل أنغامه :" ايه يا إبني , ومن كثرة ما نذروا سموا شارعه شارع النذور "
هذه تسمية مُوفقة , يقولون إن الشط الإله - ريو ماتاغوا - لا تُشبعه أية فتاة من أقوام " المايا " , بل يجب أن تكون في مُقتبل العُمر وحورا في حسنها , لكن هذا الجُب يتقبل نذورا من كل الأصناف ." .. همهمت بذلك وقد زاغ بصري عنهم نحو القُبة الأسطورية .
كانت بعيدة إلى درجة إنها تبدو مُعلقة في الأفق الهجين بين الضباب والزُرقة , بالرغم من أن السور الحديدي الذي يُحيطها من الشرق , والذي من المُفترض إنه يُحيطها من كل الجهات , كان يطل على الشارع الذي تلتحم على رصيفه الآخر مطاعم ومحلات وأكشاك صغيرة , وكان يُغطي رأسها المُدبب أشبه ما يكون بصحن مُدور , كذلك تظهر فتوق مُدورة تُشكل مُحورا يلف هذا الصحن من الأعلى , وكانت هذه الفتوق تبعث شُععاً أشد وهجا من أشعة الشمس , لكنها كانت تنتهي عند ذلك الحشد خيوطا سوداء .
أسلمني إليهم مرة أخرى صوت الدليل وهو يُهدد , وقد توقدت عيناه غضبا , بتعرية الأثري أمام الناس , وكاد يفعل لولا أن القادم الغريب حسمَ شجارهما حين سأل ملهوفا :" هل هذا مزار عبد الله بن الحسن , إبني , إبني فز مرعوبا في الليل وما عاد يتكلم !؟" .. فأجابته العجوز فورا وبلهجة واثقة تماما :" لا , هذا مزار سيد إدريس ." .. فإنتفض في وجهها :" أي إدريس , هذا مزار " عبد الله بن الحسن " أنا متأكد !".. فدخلت معهما على الخط بعد تركيز على الطفل . :" إنه إستثناء عن كل أطفال الدنيا : لا أريد العجلة , أريد أمي , أريد أبي .. لا , لا أريد .. لا .. "
وعلى الأثر أخذ الدليل يسخر أكثر من الأثري بعد أن حفزه شاهد آخر :" غزل أبو نؤاس أليس كذلك ؟ وربما جعفر البرمكي وهو يعتلي العباسة .".. فإزداد تبرم الأثري وشاح بوجهه عنه .. إذ ذاك تذكرت تهديد الدليل بتعريته , فأمعنت فيه أكثر : شكل مُريب , لونه مزيج من الحُمرة والبياض الناصع , قلت في دخيلتي :" لعله يعني شيء آخر وليس غزل أبو نؤاس , قد يكون الإغتصاب الجنسي , سلوك مُبرمج مسبقا , يبدأ من أصغر غلام مُحتجز وينتهي بأراذل العُمر , وغاياته ذات آفاق بعيدة , تمتد إلى الأزقة والأسواق ورؤوس الجسور .. " .. حين ذاك أحسست كابوسا يغل خناقي فإتكأت على تكية المصطبة وسحبت نفسا عميقا .. ثم رجعت إلى ذلك الجمع المضطرب .
إرتفع صوت الدليل :" أجل , أجل , المزيد المزيد .. سنعمل رهاناً ؟!"
كان عالم الآثار ومعه الشيخ والمرأة العجوز هم أقطاب ذلك الرهان إلى تلك اللحظة . أما الآن فقد إستنفر الإعلان بقية الخلق .. وأول من تقدم شابان وقالا :" إن هذا المزار هو خطوة نبي الله سليمان , جلسنا نشرب البيرة في حضرة روحه ونناجيها عسى أن تدلنا على كنوزه , وكُنا دوما نسرق ما في جوف الضريح , لكي نسكر بالنقود ونناجي ونتصوف في حضرة روحه العظيمة "
إستثار هذا القول بعضهم ولعنوا الغلامين , ودعا الشيخ الدليل أن لا يدع السافلين والكافرين يسخرون بالمُقدسات , ثم إنبرى يُؤكد له صدق تشخيصه :" يا ولدي , هو نفس المزار , حتى إن باحته الخارجية فيها حُجر صغيرة لراحة الزوار وفيها اطفال يعطون الماء السبيل , وعلى الحيطان وواجهات أبوابه الثلاثة قطع سوداء مكتوب عليها أحاديث عزاء وأشعار في أهل البيت , وفي الداخل الجدران والسقف مزخرفة , وعلى سور الضريح ورأس قبته رصعات من الذهب .. هل صدقت الآن ؟"
فقلت له مُصححا بصوت مرتفع :" أجل , لكن ليس كما أشرت بالضبط : الباحة الخارجية آيات مخطوطة بالخط الكوفي , أحاديث بالخط الفارسي , أرض مُعبدة بالمرمر ومفروشة بالسجاد العجمي , أعمدة رخامية , أضوية مُلونة عند رؤوس الأعمدة , وثريات بشتى الألوان ومراوح تتدلى من السقوف , حيطان مُغلفة بالحجر المُشع عليها مسحات من الحِناء ومُعلق في زواياها وعند أنصاف الأعمدة عيدان البخور الذي يفوح عبقه في فضاء المكان , باب كأبواب جوامع قرطبة : منقوشا بنقوش الفن الإسلامي , هذا الباب الوحيد الذي رأيت , هل يُوجد غيره لا عِلم لي , أقل رنة صوت تتناثر أصداءها بين الأعمدة .. وفي الداخل زخارف وأفاريز تتخللها مصابيح بيضاء تُضيء أدعية وآيات وزيارات مخطوطة بنماذج الخط العربي .. لكن السمة الصارخة بين ثنايا ذلك المذبح القُدسي أيها السادة هي الروازين المحجوبة بالبريق , البريق الذي يُغشي الأبصار أسفل الجدران المُكورة التي تحيط سور الضريح !؟
إزداد فضول القاصي والداني , ثم أخذ الناس يتقاطرون من كل أنحاء المدينة .. حتى أضحت خاوية تماما , إلا الرُكن الشرقي الذي فاض بالخلق .
تقدم أحدهم وذم الجمع لتعلقه بهذه الإعتقادات المُتخلفة حسب وصفه .. أيده آخر :" صحيح , إذا كان مزار سيد عبود أو سيد الكمباري هل يُقدم شيئا "؟ .. وثالث .. ورابع ... لكن الصف الآخر إتهمهم بالكُفر والإلحاد والفسوق !
عرَضَ " قيمٌ " يضع كشيدة حمراء فوق رأسه , عرضَ تعاويذه الخضراء , فإشتروا منه , وبعد برهة دوت أصداء المسروقين وإختفى هى بين الناس .
فجأة تقدم أحدهم من بين الزحام , ضئيل البُنية , قصير القامة , ويُخيم على وجهه شحوب وصفرة , تقدم وقال : " إسمحو لي , أنا أستاذ إجتماعي , الحقيقة لقد إختلطت الأمور مع بعضها البعض ولا نعرف في أي إتجاه نسير , فهؤلاء مجموعة من البوذيين - وأشار بيده إليهم - يقولون إن أي مزار ديني على الأرض ترقد فيه روح " بوذا " العظيم , وإنهم سوف يرتكبون خطيئة كبرى لو مروا بمزار ولا يزوروه .. وهذه مجموعات من بلدان مُختلفة تقول : إن جنود يسوع , نجوم لها أذناب حادة , وهي تظهر حتى في وضح النهار , وهذه النجوم تلتم الآن فوق هذه القبة , وهي دلالة على ظهور يسوع , وهم ينوون الآن الصعود إلى قمة القبة للإنضمام إلى جيش إلههم ." , إذ ذاك شاحت العيون نحو الجنود المُذنبة .
كان الجمع قد وقع في تيه الخيوط المُذنبة , أصابهم التيه دون إرادة منهم . إنها أرواح خفية كسموم روح مومياء" توت عنخ آمون " .. حتى المُتفرجون غلبهم التيه دون أن يعلموا به , تسمرت أبصارهم وأجسادهم وهم يتابعون تلك الكوميديا الميلودرامية , وكأنهم إزاء " سيرينات هوميروس " .. وحين أوشكت على النهاية , أخذ كل واحد يُدلي بإسم :" رأس إبراهيم , لا , إنه ضريح إسحاق , لا , قبر إسماعيل , لا .. لا , عون .. وصاح آخر بعلو صوته :" إنتبهوا أيها السادة إنه قبر الديباج الذي قتله المنصور بالسجن الإسطواني .. لا إنه .. لا .. لا .."
فصاح الدليل بهم :" حسن .. حسن , حانت ساعة الذهاب , سنرى من سيفوز بالرهان , هيا إلى القبة , هيا ." فصاح الجميع :" هيا .. هيا .. هيا .. "
تحركت القافلة ومشيت معها .. عبرنا الشارع , حدرنا شمالا قليلا ثم أخذنا جانب السور بإتجاه الغرب .. كل الأشياء صارت نثارا ميتا إلا تلك الجموع المُتحركة بخطوات آلية رتيبة نحو خرافة الخلاص .. كان الطريق طويلا , طويل جدا .. ومع التقدم كانت تلتحم معنا بين مسافة وأخرى أجناس بشرية مُختلفة .. ومع الإنحدار أخذت ترتفع قليلا قليلا .. بدأت تتضح معالمها أكثر .. إنبرى لونها الأخضر يمتزج بألوان أُخر , ينسل , يجف تبخرا .. وإلى أن دنونا تماما غدا ظلا من الوهم , مثلما بدت هي ظلالا خادعة .. لم تكن قُبة , كانت دُمية هائلة الحجم , تدور حول نفسها في الفضاء الغربي بحركة لولبية .. تتشح وشاحا أشبه بالمعطف , رمادي اللون , وتعتمر قُبعة مُدورة تتخللها الأزرار والعيون المُشعة , لكن تلك الأشعة كانت تستحيل عند الحشود المُتحفزة تحتها شباكا إبرية مُظلمة ؟
رفحاء - 1993
#عادل_الخياط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟