|
القصيدة المُحرَّمة - 2 من 4
منذر مصري
الحوار المتمدن-العدد: 832 - 2004 / 5 / 12 - 04:33
المحور:
الادب والفن
القصيدة المُحرَّمة ( 2 من 4 ) ـــــ الثالوث المقدس ( الموت والحياة والجنس ): ــــــــــــــــــ لا أدري من أين أدخل إلى هذه القصائد، منذ زمن وأنا أجد أني أناقض نفسي بنفسي، في قبولي لمقولتين متعاكستين ومتعارضتين في الفن! أولهما تلك التي كنت بها أبرر كل ما تجود به قريحتي من نتاج، لا أحد غير الشيطان يعرف قيمته، وهي : ( على الشعر أن يتغير ) كنت أرددها دائماً وكأني أحمل يافطة في مقدمة مظاهرة. والثانية، قرأتها لا أذكر أين، وكانت بالنسبة لي، قبل أن تدخل رأسي حادة وجارحة، كأنها لم توجد قط! أو موجودة وأعرفها لكني كلما رأيتها أدوسها بحذائي متظاهراً بأني لا أرى شيئاً، وهي: ( في الفن لا يوجد تطور ). وإذا رغبت الآن كعادتي السماح لنفسي بتبرير مؤقت وسريع لتناقضي هذا، مثله مثل كل ما لدي من تناقضات من مختلف الأنواع والأشكال، أقول : ( نعم على الشعر أن يتغير ويختلف ) قاصداً هنا الشعر الذي قرأته وأقرؤه للشعراء السوريين عامة، الذين أنا واحد منهم، شئت أم أبيت وشاؤوا أم أبوا، والشعراء العرب، بدائرة أعم. ولا أقول شعراء العالم، رغم ولعي بالمطلقات، لأني، بدءاً، لا أقرأ كل ما يكتبه العالم اليوم، وأخيراً، لأني مصاب بعقدة العالم، وأعلم أنه يمتلئ بتجارب لا حد لتنوعها في الشعر، كما في المسرح، كما في أي نوع من أنواع الأدب والفن. ولكن في سوريا وما يسمى الوطن العربي، فإن ما يطفو على سطح بحيرة الشعر، لا أكثر من ركام خشبي، علقت به ألوف الأغراض، لسفن شعرية محطمة، بفعل الزمن وأنوائه، لكنها تصرّ، وهي حطام، أن تبقى أبداً جاثمةً فوق صدر كل ما يحيا ويحاول الخروج برأسه من بين هذه الأنقاض. هذا... أقول عن الشعر السوري أمّا إذا أردت أن أكون أشد صدقاً مع نفسي واتجهت بعكس هذا الاتجاه من التعميم، الذي كان من المفترض بي تجنبه، والذي أرى للتو مبلغ عسفي فيه، إلى تخصيص أليق بمن يدعي أنه شاعر يكره الادعاءات وإطلاق الأحكام، وأنه يعرف مقداره وحدوده، فأعود وأقول: ( لا... أنا لا أقصد الشعر السوري ولا العربي... أنا لا أقصد سوى شعري... شعري هو الذي يجب أن يتغير، فلقد مللت مفرداته المتكررة، وتراكيبه التي أجدني قانعاً أن ألعب بها أمام الناس كالحواة، ومعانيه التي ألتقطها من هنا وهناك، ولا أفعل شيئاً سوى اجترارها كل مرة. نعم شعري هو ما يجب أن يتغير، أن يختلف، أن يكون شعراً آخر، أن أكتب غداً قصيدة كأن كاتبها شخص لا أعرفه ولا يعرفني، شاعر آخر أتمنى أن أكونه. هذا هو حلمي، وأحسب أنه الحلم الذي يلهث لتحقيقه كل شاعر يعمل ليستحق التسمية. من هنا جاء اعترافي بالمقولة الثانية، من محاولتي فهم وقبول كل ما يختلف عني، وكل ما يتناقض معي ومع ما مكثت زمناً طويلاًُ قانعاً به، أو قل من توقي لقبول كل ما كنت أرفضه وأرفض أن أفكر لماذا أنا أرفضه، من توقي للإيمان بكل ما كنت أكفر به، أن يحصل معي ما حصل لشاول في اللحظة التي آمن بها بأشد ما كان يعتبره في حياته السابقة زوراً وسخافة.
لننظر إذن من هذا العلو الذي نتحدث وكأننا حقاً نقف عليه، لننظر إلى حقول الفن جمعاء، هل نرى حقاً أن الشعر قد تطور منذ ملحمة جلجامش وتلك القصيدة الفرعونية عن الشمس الإله الأحق بالعبادة وملحمتي هوميروس ومعلقة أمرؤ القيس إلى اليوم؟ وفي المسرح هل يونيسكو وبيكيت وبريخت أفضل من موليير وشكيسبير وسوفوكليس؟ ما هو التقدم في مسيرة الفن من اللبوة الآشورية الجريحة وفينوس ميلو وموسى مايكل أنجيلو إلى نحوتات رودان، وهنري مور، وجيكوميتي وآرب وكالدر؟ من سقف كنيسة سستين ورافائيل الذي لا أحبه ثم رامبرانت ثم أنجر ودافيد وديلاكروا... الذي أعبده!؟ ثم بوتائر أسرع، الواقعيين والانطباعيين والوحشيين والتكعيبيين والتجريديين؟ الفن المعاصر بضروبه كلها يبدو الآن وكأنه يتقدم، يتطور، ولكن إلى الوراء! إنه يعود إلى النبع، إلى البدائي. الفن الآن يريد، لأنه ربما بات متاحاً له، بعد أن عبر الإنسان كل هذه الأطوار، أن يجمع كل شيء، القديم والجديد، الأصيل والدخيل، المنبوذ والمحتفى به، أن يحتوى كل شيء، أن يمتلك كل شيء، كل الأزمنة وكل الأمكنة.
قصائد كقصائد منذريوس مصريام... تدخلنا في هكذا غابة، هي على قدمها، لا دروب مخطوطة فيها، في هكذا حديقة غريبة، في هكذا متاهة. لأنها مثل أول قصيدة ترنم بها بشري، ساحر، أو كاهن معبد، أو مجنون، أو نبي، مثل آخر قصيدة يكتبها الآن أحمق مأفون يريد تصحيح العالم، يريد هدم كل شيء ثم إعادة بنائه بكلمة منه أو بكلمتين، هي في جوهرها، في أصلها، في علتها الأساسية السؤال الأول الساذج نفسه: ( ما هي الحياة ؟ ) وبالتنالي السؤال الأخير الرهيب نفسه: ( ما هو الموت؟ ) ولأنها تريد أن تمسك الحبل السري، تلك المشيمة الدامية، التي تربطهما، فهي تقوم بتقديم قداس خاص للشهوة، ما يلطم البشر أصحاب الأسئلة، أصحاب العقول الذاهلة، بعضهم ببعض، مثلهم مثل أي نوع حيواني آخر. ما يجعلهم يلتصقون ويتشابكون، وقد تلوَّت وتداخلت أيديهم وأرجلهم وبقية أوصالهم. وما يُخرِج منهم بعد هذا العناق والتداخل بشراً جدداً. إذن هذه القصائد التي بين أيدينا، هي عما كان فن الشعر، وسيبقى، أكثر من أي نوعٍ من أنواع الإبداع الإنساني، باستثناء الرقص ربما، عالقاً أبداً به. وحين نراه يحاول الابتعاد عنه، سرعان ما نجد أنه يريد أخذ مسافة تسمح له بتسارع وقوة دفع تزيد الالتطام به والالتحام فيه، مما يؤدي إلى أن يزيد دخوله إليه وولوجه فيه توغلاً وعمقاً. هذه القصائد تقيم طقوسها عن الثالوث الخالد: ( الموت والحياة والجنس ) الثالوث المقدس ذاته: ( الآب والابن والروح القدس ).
لم يشر المستشرق الإنكليزي السير صموئيل. ر. بنجامين ( 1836-1910 ) الذي خص الكنيسة المسيحية الشرقية بأعظم جهده، إلا أن أشهر كتبه ( انطاكية وروما لكل منهما مسيح ) و( أية مسيحية يؤمن بها الغرب ) لم يشر، في كتابه ( نصوص من الأدب السوري الديني في المئات الثلاث لأولى للميلاد/1880/ لندن ) من أية لغة سورية ترجم قصائد منذريوس مصريام هذه، ففي مقدمته يذكر أنه ترجم نصوص الكتاب من عدة لغات كالآرامية والسريانية والعبرية واللاتينية، لكنه لم يحدد بدقة في أية لغة من هذه اللغات كانت هذه القصائد مكتوبة، أو ما إذا كان قد ترجمها بنفسه مباشرة عن لغتها الأم أم أنها من القصائد التي لم يحصل سوى على ترجمتها اللاتينية، ككثير من النصوص القديمة. ولكن، حسب توقعي، ومن معرفتي المتواضعة بأحوال ذلك الزمن، فمن المرجح أنه قد ترجمها من لغتها الآرامية الغربية، التي كان السيد المسيح نفسه، اليهودي الناصري، يتكلم بها. وقد قمت بدوري بترجمة النص من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية، حرفياً تقريباً، دون تأويل لمعاني الكلمات أو حتى تغيير لمواقعها. والأمر الذي أدهشني، أن معانيه ومقاصده قد انقادت بسهولة إلى هذه اللغة. وأحسب أن هذا يعود لثلاثة أسباب، أرجو أن يكفي إيرادها موجزة على هذا النحو، كي أبدو مقنعاً : 1- إن النص يقترب بهذه الترجمة إلى لغته الأولى الأصلية. 2- إن النص مترجم إلى اللغة الإنكليزية ترجمة ممتازة، من قبل عالم مشهود له في معرفة هذه اللغات، وقد استطاعت ترجمته حل المشاكل الكثيرة والمتنوعة التي تعترض عملية ترجمة الشعر عادةً، وخاصة من اللغات الميتة أو شبه الميتة. 3- هذا السبب الثالث، أظنه أهم وأخطر من كلي سابقيه: إن الشعر مثله مثل أي نوع من أنواع الإنتاج الإبداعي الأدبي، يمكن أن يترجم من أي لغة كتب بها إلى أي لغة أخرى، دون أن يفقد إلا القليل من قيمته، أو على الأصح دون أن يفقد شيئا منها البتة، وذلك عند استيفاء عملية الترجمة شروطها الصحيحة والكاملة. ولكن ما سيخالفني به العديدون، إلا من يريد حقاً فهم ما أقول، هو أن الترجمة، أو استعداد النص للترجمة، أو قابلية النص للترجمة دون فقدان أي شيء منه، هو المعيار الحقيقي لقيمته! وذلك عكس ما قرأت وسمعت الآخرين يرددونه أمامي مئات المرات. أمّا السؤال عن أي شعر أتكلم ؟ فمع قبولي التام بكافة ضروب الشعر، واحترامي التام أيضاً لحرية كل شاعر في اختيار أو اختراع نوع الشعر الذي يكتبه، أنا أتكلم عن الشعر الذي ليس حللاً مزركشة، أو قمصان لغوية على أجسام معان عادية وميتة، أو تجارب شبه مخبرية على أصوات الحروف وألفاظ الكلمات، أو ألعاباً بهلوانية معادة ومتكررة لدرجة باتت تبعث على السأم في الإيقاعات والجرس في الموسيقي، ثم تأتيك القوافي وغير ذلك مما هو جميل أحياناً وظريف أحياناً ومشوق ومفاجئ أحياناً أخرى ولو نادرة، إلاَّ أنه ليس اللب، ليس الجوهر، ليس الأكثر جوهرية، الجوهري في الشعر هو المعنى... ليس ذلك المعنى الإنشائي السقيم السائد المعمم الايجابي.. بل المعنى الجديد المبتكر المدهش الغريب الصادم... المعنى الذي يختلط فيه، يلتحم فيه ويصيران واحداً، الحس والفكرة، المعنى الشعري إذا أردت حزم الصفات.
على الشاعر إلا يكتفي بدور السباك، أو الصائغ لمعان يجمعها من الكتب أو أفواه الناس أو الطرقات، كما يجمع المتسولون ومشتروا الخرضة المتجولون، الطناجرالمثقوبة والأحذية والثياب التالفة التي رمتها ربات البيوت أو بعنها لهم. الشاعر الحقيقي عليه أن يكون، أول ما عليه أن يكون، خالقاً للمعاني. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ انتهى الجزء الثاني ( 2 من 4 ) ويتبعه الجزء الثالث ( 3 من 4 )
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=17993>
#منذر_مصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القصيدةُ المُحَرَّمَة : ( 1 من 4 ) ـ
-
السِّيرك
-
السِّيرة الضَّاحِكة للموت
-
سوريا ليست مستعدةً بعد لأحمد عائشة
-
ردٌّ على ردٍّ عمومى على رسالة خصوصية 3 من 2
-
ردّ عمومي على رسالة شخصية 2 من 2
-
ردّ عمومي على رسالة شخصية 1 من 2
-
طراطيش حول الشراكة الأوروبية السورية
-
أنا وهمنجويه ودانتي والمِقص
-
قَصيدةٌ واحِدَةٌ كَتَبها محَمَّد سَيدِة عنِّي مُقابل10قَصائد
...
-
مَاذا جِئتَ تَأخُذ ؟
-
مكانة الشعر العربي الحديث والنموذج والانقراض
-
القَصيدةُ المَجنونة ( 3 من 3) : المقاطع -11 إلى الأخير
-
القَصيدَةُ المَجنونَة ( 2من 3) : الفِهرِس والمقاطِع ( 1إلى 1
...
-
القَصيدة المَجنونة (1 من 3) المقدمة
-
خبر عاجل... شعبان عبود : أنا خائف
-
زجاجات... لا أحد غير الله يعلم ماذا تحتوي!! بو علي ياسين – ا
...
-
عراقي 6 من 5 منذر مصري : أخي كريم عبد... ابق أنت... وأنا أعو
...
-
عراقي - 5 من 5 الحرب: ابق حياً- ليس سهلا إسقاط التمثال-احتفا
...
-
عراقي - 4من 5- رسالة شاكر لعيبي
المزيد.....
-
فيلم ’ملفات بيبي’ يشعل الشارع الاسرائيلي والإعلام
-
صرخات إنسانية ضد الحرب والعنف.. إبداعات الفنان اللبناني رودي
...
-
التراث الأندلسي بين درويش ولوركا.. حوار مع المستعرب والأكادي
...
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|