|
الحب في زمن الأنفلونزا
مسعود عكو
الحوار المتمدن-العدد: 2729 - 2009 / 8 / 5 - 10:08
المحور:
الادب والفن
العنوان قريب إلى رواية للروائي الكولومبي الشهير غابريل غارسيا ماركيز، والقصة أشبه بما جرى في تلكم الرواية، الأحداث تختلف قليلاً، والبيئة أكثير اختلافاً، الزمن وقت ما قريب، والأبطال حبيبين من بلادنا، الحبيبة أبت أن يقبلها الحبيب من فمها بذريعة انتشار الأنفلونزا، مما دفع بالحبيب إلى هجرته لها بحثاً عن من يقبلها دون خوفها من الإصابة بهذا المرض المعدي.
غريب هذا الزمان، الطيور تصاب بالزكام فتخلق أنفلونزا خاصة بها، سميت فيما بعد بأنفلونزا الطيور، ولم تكتف هذه الكائنات الوديعة بذلك، بل نقلت مرضها إلى بني البشر مما أدى إلى إصابة الآلاف به هنا وهناك، تصوروا أن الحمامة، والدوري، والسنونو، وحتى الكناري باتت كائنات منبوذة في هذه الأيام. هذه الكائنات البسيطة والجميلة تحولت إلى وحوش ويجب قتلها، يا له من زمن غريب.
كان لدي طائر كناري، عذب الصوت وديع اللحن، يزغرد ويغني نهاراً وأحياناً في الليالي، ويزداد في الجكارة عندما استمع إلى موسيقى أو أغنية وارفع صوت الكومبيوتر، فأجد ذلك الكناري يشهق أقصى شهيق ويحوله كله إلى زقزقة تملئ الدار، لدرجة أنني كنت أتدخل أحياناً لإسكاته لكن لا محال.
الكناري والذي أسميته "جوكو" وهي كلمة كردية تعني العصفور نجا من محاولتي اغتيال، ومحاولة اغتياله ليست بمفخخة زرعت على قارعة الطريق الواصل بين بغداد والموصل أو وإحدى المدن العراقية، أو بين كابول ووزيرستان أو إحدى مدن أفغانستان، بل من قط حقير جداً، كان يتربص دائماً به، لدرجة إن مرور القط بجانب الكناري وهو في قفصه المعلق بالجدار، كان يجعله يرتجف خوفاً، ويرسل صوتاً أشبه بالنداء أن هناك خطراً ما في الجوار، كان خوفه كخوفي عندما استدعى للتحقيق لإحدى الفروع الأمنية الكثيرة في بلادي، بل الخوف بات يلحقني عندما أشاهد شرطي المرور بالرغم من أني لا أملك سيارة ولا أسعى لامتلاكها، إنها باهظة الثمن ومكلفة لدرويش مثلي، إنني ابحث عن دراجة هوائية من نوع بيجو كما نسميها هنا.
جوكو أو الكناري هوجم من القط الحقير الخائن العميل، في المرة الأولى فجرح جناحه، لقد كانت أظافر القط اللعينة طويلة، ولما سمعنا صوتاً أشبه بالنداء خرجنا جميعاً لنرى، ففر القط ونجا جوكو من الموت المحتم.
المرة الثانية كان الجميع في غفلة عنه، الكناري كان على أهبة الاستعداد للنداء لأنه تدرب على ذلك، وباتت له خبرة في ذلك، فناداني "وا مسعوداه!" لكني خيبت ظنه كنت خارجاً، فتدخل والدي لينتشل القفص بما فيه من بين أنياب وأظافر ذلك القط الحقير، الصورة كانت أشبه بسياسي بين يدي محقق كالمساعد جميل الشخصية المشهورة في برنامج "حكم العدالة" والتي تواظب الإذاعة الوطنية السورية بثها منذ عقود، الشخصية الوحيدة الحقيقية الموجودة في القضاء السوري، أما غير ذلك فكله تمثيل.
المهم قام والدي بتقديم الإسعافات الأولية لجوكو وجلب له عقاقير مضادة للالتهاب "الأنتيبيوتيك" وتعافي بعد شهر تقريباً، لكنه فقد صوته وأعاز أحد الخبراء في عالم طيور الكناري والذي يعمل في شارع الحمام القديم بالقامشلي ككشاش حمام وبياع الفروج، إلى أنه أصيب باكتئاب نتيجة الهلع، معه حق جوكو، أنا أيضاً كنت اغني وأحكي ولكن الأن بعدما موجة من الهلع ما عاد أحد يسمع صوتي حتى أنا نسيت رنته.
في أوج الأزمة العالمية حول مرض أنفلونزا الطيور لم نتبرأ من جوكو بل كان عندنا معززاً مكرماً حتى وافته المنية بجلطة قلبية، يمكن أنه رأى أسراب الطيور والدجاج اللواتي أعدمن نتيجة انتشار المرض أو حيطة وحذراً لذلك. لقد انزعجت على جوكو لدرجة أنني لم أحاول أن اجلب بديلاً له للدار، ما زال جوكو يغني في الجوار، وكأني اسمعه دائماً، لقد أحببت جوكو، ولم أخش من الأنفلونزا.
أما تلك الحيوانات التي حرم الله أكل لحمها في القرآن، نعم أقصد الخنازير، فقد بليت ببلاء ليس بعيداً عن بلوة الطيور، فبدأ الكون بملاحقة كل خنزير مصاب بالأنفلونزا والمباشرة بإعدامه، ذلك المسكين لم يشأ قط أن يصاب بالزكام، وأقول زكام لأن والدتي كانت تسألني دائماً ما معنى الأنفلونزا؟ فجاوبتها إنها زكام، فقالت وهل تصاب الحيوانات بالزكام؟ قلت نعم يا أمي تصوري حتى الحيوانات تصاب بالزكام، ولا تكمن المصيبة هنا بل المصيبة تكمن بأنها تنتقل إلى البشر، والبعض منها مميتة، كان هذا الكلام صعب الفهم على أمي البسيطة، التي لا تعرف أي كلمة بالعربية كونها كردية، لكني بكلمات بسيطة أفهمتها القصة.
الطيور والخنازير، والكثير من البشر هنا وهناك اشتركوا في زكام سيء جداً لا تنفع معه كل عصائر الليمون والبرتقال وحتى الفلفل الأخضر الذي يقال بأن نسبة فيتامين سي فيه أكثر من ما موجود في كيلوغرام واحد من البرتقال، كل تلك لا تنفع، بل قتل الطيور والخنازير وإحراق جثثها قد يقي قليلاً من المرض وانتشاره بين أبناء البشرية على وجه هذه البسيطة.
لقد افسد الإنسان كل شيء تلك الطيور الوديعة الجميلة وحتى ذلك الخنزيز المسكين المنبوذ من بين كل الحيوانات، والمتهم بأنه حيوان بلا نخوة، وهم لا يعرفون أن هناك الكثير من البشر أقل نخوة منه، لقد باتت هذه الكائنات ضحية جشع البشرية وطمع أبناءها، وليس ببعيد أن تكون هكذا أمراض نتيجة تجارب بشرية على هذه الحيوانات، فانتقلت وتطورت إلى شكل أخر من الزكام. لقد افسد البشرية الغابات والبحار والأنهار، كل شيء الطيور والفراشات والحيوانات، والأسماك، ولعل يوماً ما سيظهر مرض اكتئاب الغنم، وحمى الفراش، وربما إسهال البطريق، وجدري الزيتون أو سرطان الرمان والتفاح، أو ربما قرحة الأسماك، من يعرف.. إن أبناء آدم يعيثون فساداً في الأرض، هم أحرار فيما بينهم، لكن رجاءً دعوا الكناري والفراش والسمك والبطريق والتفاح والرمان وحدها، إنها بريئة جداً فلا تفسدوها بفسادكم.
دعوا الكائنات تحب بعضها بعضاً، ابعدوا أيديكم عن الكناري، والهدهد لعله يجلب لنا خبراً طيباً يوماً ما، وافشوا المحبة بينكم، يا معشر الرجال قبلوا نسائكم ولا تخشوا من الأنفلونزا وعدوتها، إن الحب يشفي الكثير من الأمراض، فقط اخرجوا الغل من قلوبكم واصفوا نفوسكم تجاه بعضكم بعضاً، وقولوا للآخرين قولاً كريماً، حينها سيتحول الحب في زمن الأنفلونزا إلى أعظم أشكال الحب، ستكتب عنه القصص والروايات، وتأخذ هذه القصص والروايات جوائز عالمية، وستنال استحسان قراءها، كما الحب في زمن الكوليرا.
#مسعود_عكو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرحيل إلى ضفة الألم ... إلى فارس مراد
-
عندما تَعشق سلمى.. تُقتل
-
النوفرة
-
الثورة على الثورة
-
الكرد في سوريا أزمة حاضر وغياب مستقبل
-
مشروع قانون الأحوال الشخصية السورية..استمرار الانتهاكات في ظ
...
-
عندما تعشق البيريفانة
-
آذار بهار
-
في عيدها العالمي ما تزال المرأة أسيرة الاضطهاد بكافة أشكاله
-
إنما الخيانة في آبائك الكرد
-
الفتوى التي قتلت ميكي ماوس
-
جمهورية الحجب... تقرير عن حجب المواقع الإلكترونية في سوريا
-
ما تزال النار متقدة في كل المشاعل
-
أحزمة ناسفة
-
آلام وأحلام وكأس شاي عراقي
-
ككردي... أخجل من سجالكم
-
نوروز رسالة الألم الكردي
-
آذار خان... سيد الشهور
-
المرأة السورية بين ثنائية السياسة وحقوق الإنسان
-
غني يا فيروز...
المزيد.....
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|