فدوى أحمد التكموتي
شاعرة و كاتبة
الحوار المتمدن-العدد: 2723 - 2009 / 7 / 30 - 09:46
المحور:
الادب والفن
نام أمير الظلام , بين رفوف المكتبة, بعد أن خرج الكل للاستراحة من طول ساعات المداولة , التي استغرقت أكثر من عشر ساعات , الكل كان يشعر بتعب يملأ عقله قبل أن يملأ مقلتيه , فطلب كل المداولين ما يروي به ظمأه , ولكن الجميع اتفق على القهوة المقطرة بدون سكر , حتى يستيقظ لأن القضية لم يحسم مصيرها بعد ...
هناك , بين أجنحة القصر ينتظر الجميع ما سيحول مصير ذاك الكائن البرئ في مظهره والمتهم بأفعال ارتكبها , صحف , مجلات , إذاعات , وأقمار فضائية , تحوي ذاك المكان الذي يقولون عنه قصر العدالة , وأنا من بين المهتمين بهذه القضية , ليس من بين تلك الهيئات الموجودة في ذاك المكان , ولا من الفضوليين , وأنما لأرى ذاك ما يقولون عنه قصر العدالة , أيوجد فيه عدالة عادلة , أم عادلة مزيفة ...
استغرق وقت خروج القضاة من قاعة الاستراحة أكثر من ثلاث ساعات , والكل ينتظر ما سيؤول إليه الحكم , فجأة , سطعت شمس القضاة فخرجوا جميعا , الكل تجمهر حولهم , وكأني أرى حفلة عرس بطلها القضاة , وما الظنين إلا واحدا من بين آلاف الذين ينتظرون قدوم هودج العروس , والشموع تزين طريقهم , عم الصمت قاعة العدالة , وأوتي بالظنين , إلى قفص الاتهام , وطال السكون يعم المكان , وأنا وسطه أتذكر كل حادث لهذه القضية ...
شاب يافع في ريعان شبابه بعد أن انتهى من متابعة دراسته وحصل على ما كان يطمح عليه من سمو عقلي وروحي , خرج ذات مرةإلى شارع من شوارع الحياة , فصادف في دربه ملايين الصور , وكلها متناقضة , لاتشبه إحداها الأخرى , وتصور نفسه لم يوجد في الحياة قط , رأى أن كل شيء تعلمه من العلم لا يصل البتة للواقع المعاش ....
دخل إلى إحدى المقاهي , ليتجرع كأس عصير التفاح المفضل لديه , فوجد شيخه المبجل الذي تلقى منه دروس الفضيلة والأخلاق والتدين , يراود فتاة في مقتبل حفيدته عن نفسها مقابل أن يعطيها أعلى الدرجات حتى تتمكن من متابعة مسيرتها العلمية بدون عائق يحول دونها وطموحها , استغرب الفتى مما رأى عليه شيخه المبجل , فقال ربما خانني نظري كما خانني تصوري , وإذا هو هائم بالتفكير حتى رأى الفتاة مطرقة الرأس , ويبدو عليها مرغمة على فعل شيء , فوافقت وقام المعلم المحترم وأعطى نقودا للمنديل , وأمسك يديها واصطحبها إلى سيارته , وهي مرتبكة ومترددة , نهض من مكانه وتابع ليستطلع الأمر , وفوجده يردد لها :
ستكونين الأولى على الدفعة ما دمت قد صابت فكرتك ويقظتك ...
لمح في وجهها ردفة دمع سائحة , فلم يستطع بدا أن يقف كالحجر , فأدركهما وهو ينادي عليها كأنه يعرف من تكون وقال لها بصوت مرتفع :
ماذا تفعلين ...؟؟؟
فلم تجبه , فأمسكها من ذراعها وصرخ في وجهها :
اذهبي أمامي ...
فأجابته : دعني وشأني , ومن تكون أنت , فإذا لم أفعل لن أصل البتة إلى ما أطمح إليه ...
فأجابها : أبهذه الطريقة ...!!!
فردت عليه : كفاك أرجوك , اذهب واتركني ... هل أنت آتيا من الجبال ولا تعرف ما يدور في هذه الحياة , وحتى إن رفضت , فسيكون مصيري لامحالا الموت البطيء أو الشارع , فاتركني وشأني , الحياة الآن هي للقوة وللأقوى , أما أن تكون ضعيفا فمن الأفضل لك أن تختار الموت ...
فجاءها المعلم ماسكا يدها وأدخلها إلى جنته وهو يضحك قائلا موجها كلامه للفتى * تلميذه * :
لا تتعجب هذا درس لم أعطيك إياه في العلم , ولكن الحياة أكثر من المدرسة يا تلميذي النجيب ...
فغابا عن مقلتيه وهو شارد الفكر يتساءل : هل أنا في يقظة أم أني أحلم ؟؟؟!!!
فبدأ المسير مرة أخرى والطريق طويل جدا , لم يشعر أن الوقت أخذ من راحة تفكيره لحظة استحضاره لكلمات العلم التي تجرعها من معلمه المبجل ... وهو تائه بفكره , سمع صوت صراخ طفل , كأن صفعة الزمن أيقظته من غفلته , رأى طفلا صدمته سيارة , ويبدو عليها * السيارة * على أن صاحبها أكثر ثراءا , فاجتمع الجمع حول الطفل وخرج من بوثقة الحلم الذي يرواد كل ذائقة نفس بشرية , عربة ثمنها دماء ضحايا , وقودها نزيف سلسبيل من إراقة الدماء , هيكلها جماجم من مقابر بشرية , رجل في شكله يبدو واثق الخطوات , عظيم الهيبة والوقار , يقول :
كفى سأصحبه إلى المشفى للعلاج ...
وإذا بالفتى يلتفت نحو رجل المهابة , حتى تذكر أستاذه الذي تجرع منه كأس الحق والقانون والعدالة , فسكنت الطمأنينة نفس الفتى , بعدما أن رأى تصرف معلمه ذاك , والأمان سكن وجدانه , لأنه عرف أن مصير الطفل لن يضيع ...
لكن كأن الفضول عم عقله , وقال في نفسه , سأتابع هذه الواقعة عن كثب ...
ذهب إلى المشفى , ورأى والدا الطفل في قلق كبير على ابنهما الوحيد , فقد كان مترددا في الذهاب إليهما قصد إعطائهما نوعا من الراحة على أن ابنهما في أيدي أمينة مع أستاذه الفاضل , لكن هناك قوة منعته لفعل ذلك , فجأة خرج الأطباء من قاعة العمليات وكان الأستاذ المبجل هناك فذهب إليهم مسرعا , حتى يعرف ماذا وقع في حادث الطفل , فقالوا : إن ابنكما فقد أحد رجليه , وهناك عاهة مستديمة سترافق حياته , صاحت الأم بالبكاء , والأب في استغراب رهيب , لوقع نزول هذا الخبر , فأخذهما معلمي المبجل إلى مقصف المشفى وقال لهما :
سأعطيكما ثمن العلاج في مقابل أن تتنازلا عن القضية , وتقولان أن ابنكما هو الذي ارتطم بسيارتي وكان يريد جلب الكرة ...
استغرب الفتى من قول أستاذه , لأنه رأى واقعة الحدث من البداية للنهاية , وأن الولد احترم قانون السير رغم صغر سنه ولا يعرفه , فقد كان على الرصيف وأن سيارة الأستاذ هي التي قفزت عنده , وكأن سائق تلك العربة الذهبية الفخمة , كان منشغل الفكر , حتى صدم الطفل ...
تفاجآ والدا الطفل ولم يقدرا على الرد لما قاله الأستاذ المبجل , فصرخ صاحب السيارة فيهما :
اسمعا أنا الآن أقدم عرضي ,ولكن إذا لم توافقا عليه , فإن لي طرقي الخاصة , ولن تبلغوا نصف أو حتى ربع ما تتمنون , الفرصة ذهبية بالنسبة لكما إما أن توافقا أو أن ترفضا , وأنتما تعرفان إذا ما اخترتما الثانية أنكما خاسران...
عاود الاستغراب مرة أخرى الفتى , لما رآه من أستاذ الحق والقانون والعدالة بهكذا شكل من الدناءة, فكانت النتيجة أن الوالدان وافقا الرجل على طلبه , وذهبا إلى حال سبيلهما ...
أما الفتى توجه صوب أستاذه قائلا :
ماذا فعلت ؟؟؟ أهذا هو الحق والقانون و الذي درسته لنا ؟؟؟!!!
فأجاب الأستاذ بضحكات ساخرة قائلا :
يا بني ماتراه الآن هو نقطة في بحر علوم الحياة , فأدعوك أن تقرأ هذا النوع من الدرس , وتأخذ العبر ...
قال هذا القول , وذهب , والفتى يملأ عقله تساؤلات مبهمة , لدرجة أنه لم يقدر على التفكير فرجع إلى منزله ...
ودخل غرفته وهو لا يدري ماذا وقع ؟؟؟ وكيف وقع ؟؟؟ , ولماذا وقع ؟؟؟ كلما دار حوله من أحداث متناقضة , في يوم واحد ...
من هول ما رأى قر ر أن لا يخرج من غرفته مطلقا , ويلزم بيته .مر وقت طويل على تلك الوقائع , وفي ذات مرة كلفه والده بالخروج لقضاء شيء ملزم لبيت الأسرة , وكان الوقت حينئذ فترة الانتخابات ...
فقد كان ينتظر هذه الأخيرة بفارغ الصبر , بعد أن كان لم يعرف عنها شيئا ولم يشارك فيها نهائيا , قرر الدخول إليها ومعرفتها عن قرب , وبعدما أخذ جعة كافية من علم فن الممكن , فبدأ ينظر كل من حوله , يقدم هدايا , زيارات متكررة للمنطقة , مساعدة الفقراء من الناس , لإقامة حفلات أعراس يتكلفها المرشح على حسابه الخاص , مواساة الناس في مآسيهم وعزآتهم , التبرع ببناء مكان للتدين , مدرسة , مشفى ...
وعندما جاءت الحملة الانتخابية , أقيم مسرح كبير جدا , فيه العديد من البسطاء , ليروا فن التمثيل الذي يفتقدونه , ويطلع الفنان الكبير إلى خشبة المسرح والكل يهتف به وبمزاياه الكثيرة الغير المحصورة عدا و عددا , وكانه ملك نزل من الجنة , بوادعته , وبراءته , وكثرة عطاياه , وأخلوا عنه كل الذنوب , يحمل معه فسدقته من الذهب ستفتح للناس أبواب الولوج السريع إلى عالم الترف , عالم الفردوس والأمان في الحصول على مورد قار من الدخل ...
هتف فيهم : إني الآن بين أيديكم , وأنا منكم ولكم , ابنكم ترعرع بينكم , تعرفون عنه كل صغيرة وكبيرة , فلن أقول لكم كما يقول الآخرون , ولكن أنتم رأيتم بأم أعينكم ماذا يمكن أن أصنعه إذا ما وقفتم بجانبي للفوز بهذه المنطقة , ولكي أحقق آمالكم , فأنتم سبق لكم وأن أخذتم تجربة الذي سبقني , ماذا صنع لكم ... لا شيء يذكر , سوى كلاما في الهواء يطير مع الهواء ذاته , وأحاديث طويلة مللناها جميعا , أنتم تعلمون أن سبيل لنا إلا الرجوع للقانون الطبيعي الذي ينير درب كل مؤمن بهذه القنطرة الصغيرة للوصول إلى عالم الخلود , إخوتي , بني أمتي , صدقوني , فالأمل نحن , وسنبقى نحن , والمستقبل سيكون لنا نحن , ماذا صنع كل من تمسك بقانون اليد الموضوعة .. لا شيء , إننا في حاجة ماسة إلى التكثف وإلى الإجماع لمواجهة هذا السطو الغربي ... ولكي نحقق غايتنا والبقاء لنا -نحن - من نحمل مشعل القانون الطبيعي الإلهي ...
يصعد ممثل صغير ويقول : كلنا لك , وأصواتنا لك , ويرددها الجمع بكامله , والفتى ينظر ما يدور حوله ويقول في ذاته : وماذا هناك , لو أني لم أكن قد درسة شيئا من العلم , ماكان عساي أن أكون , ربما كنت واحدا من بين هؤلاء التعساء , يصفقون ويتوهمون أن حياتهم وقرارها بيد هذا أو ذاك ... فضحك ضحكة سخرية وتوجه إلى مكان آخر , حيث نصبت هناك منصة أخرى يقول فيها الممثل :
لاتسمعوا لمن يقول عنا أننا نلهو بكم , ونسخر بعقولكم , وأن البقاء هو تلك للدار وللأصلح , وإنما أقول لكم , نحن فعلا في الدنيا والحياة , وستكون هناك نهاية حتمية , ولكن ألا يجب أن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا ونعمل لآخرتنا كأننا سنموت غدا , لن أقول لكم كما يقال عادة في هكذا مناسبات , إنني عندما أفوز سأصنع المعجزات , لأن زمن المعجزات ولى مع الأنبياء والمرسلين , ولكن أعدكم أني سأفعل كلما في جهدي ليصل صوتكم ولكي تكونوا أنتم الذين تحكمون , ولايتحكم فيكم , سنعمل معا أيدي واحدة , ليس فقط لبناء منطقتنا بل لبناء المجتمع كله , فنحن بنو هذه الأمة , وبنو هذا الوطن , والوطن للجميع وليس لنا إلا الإيمان به , ونحن صانعوا هذا الوطن , سنكون صناع قرار هذا الوطن , وليس لأحد الحق أن يقول أن الوطن له وحده , فالوطن للجميع , كما ذكرت لكم , أما الأرواح فهي لله وحده ...
نهض شيخ من مكانه وقال متهكما : كلكم تقولون هذا وماذا نرى بعدكم ... لا شيء ...
فهَمَّ الضجيج مقاعد المسرح , ولكن صوت الممثل كان أعلى وأقوى , وقال : أتركوه يتكلم , فأعاد الشيخ ما قاله , فرد عليه الممثل المحنك : صحيح هذا يا والدي , وليس كل من هو في هذا المسرح يقول حقيقة , فأنا أعرف أن البعض منهم ,وأقولها وأنا متأسف عليهم , فقد أصابهم الغرور الكثير , ولكن من أتوا بعده ألم يصنعوا لكم حديقة في هذا المكان , ألم يفتح نادي للشبكة العنكبوتية لكم في ذاك الركن من منطقتنا , ألم يدخل لكم الكهرباء في المدينة الفلانية , ألم تستبدل آلات المصانع بحاسوبات إلكترونية , ألم يشتغل ربع الربع منكم من الدارسين حاملين شهادات الدكتوراة من كبريات جامعات العالم , ألم ... ألم ... كل هذا قد حدث ...وهو يتوجه بالسؤال والخطاب للجمهور ...
فرد عليه الجمهور بالإيجاب ...
وهتف واحد منهم وقال : نحن معك ولك وبك , وأصواتنا سنعطيها لك لا محالا , أما الآخرون فلهم ما صنعت أيديهم من حسنات ...
فاستغرب الفتى مرة أخرى وضحك ساخرا وغاضبا على ما رآه من مشاهد المسرحية , وقال : أظن لو لم أكن قد تجرعت قليلا من العلم لكنت وسطهم أهتف معهم ...
وذهب الفتى إلى حال سبيله , وقد اشترى كلما يلزم البيت , وفي طريقه للرجوع , وجد الممثلان البارعان مع بعضهما , يتجاذبان أطراف الحديث , ولكن ترى ماذا يقولان ؟؟؟ هكذا سأل الفتى نفسه ... فتوجه نحوهما كأنه يبحث عن شيء وقع له على الأرض حتى يسترق السمع بينهما فيأتي الأول قائلا للثاني :
كم أدفع لك من ثمن مقابل تنازلك عن هذه المنطقة ؟؟؟
فيرد عليه الثاني :
وكم أدفع لك أنا الآخر حتى تخرج نهائيا منها ؟؟؟
رد عليه الأول قائلا : اسمع أنتم سبق لكم أن أخذتم حصة من حظكم الكثير , دعونا نحن , لقد مل الجمهور بكثرة وعودكم الكاذبة , ولن تفلحوا الآن في هذه الانتخابات , أقول لكم , نحن الأبقى ...
فيجيبه الثاني بنبرة غضب : لاتقل نحن لم نفلح , ولكن كانت هناك ظروفا أخرى خارجية , و أخرى خارج عن إرادتنا هي السبب في عدم تنفيذ تلك الوعود , ولماذا تقولون أنكم أنتم الأبقى ؟؟؟
فرد عليه الأول : لأنهم اختبروا أن لاذاك الحزب ينفه ولا ذاك سيسقي ظمأه , لذا أقول لكم انسحبوا بكرامتكم فنحن الأبقى , لأنهم يريدون التغيير , ونحن التغيير , وأعطيناهم الأمل في ذاك التغيير ...
فأجابه الثاني : نحن أولا لا نتخذ من القانون الطبيعي الإلهي قنطرة لهدف في نفس يعقوب ...
فرد عليه الأول ضاحكا : لايعذر يا أخي أحدا بجهله للقانون , وكفانا... لا يمكننا أن نتسارع حول هؤلاء الأغبياء , دعنا منهم فنحن أصدقاء في الحقيقة وأعداء في الظاهر , فالقسمة ستكون عادلة , أنتم لكم هذه المنطقة ونحن لنا المنطقة الأخرى ... فيا صديقي نحن وجهان لعملة واحدة ...
فتصافحا وهما يرددان , نحن وجهان لعملة واحدة ... وعلى الأغبياء أن يظلوا واهمين أنهم سيتجرعوا كأس التغيير .........
حاول الفتى أن يقنع نفسه أن ما رآه وما سمعه يكون حلما مع علمه اليقين بأن كلها مسرحية بطلها ممثل بارع وجمهورها أغنبياء بالطبيعة , ولكن صدمته أو بالأحرى فاجعته هو الحديث الذي دار بين الممثلين العبقريين , كان وسط الملأ بين الجمهور والكل ينظر ويسمع إليهم , وكأنهم خلقوا أغبياء , وأن الغباء جزء لا يتجزأ من تكوينهم الفطري , يا للسخرية ... فاللعبة كلها بيد الساحر المحنك ... ليضحك بها على أغبياء من يشاهدها ....
فهَمَّ بالرجوع إلى البيت , ومر وقت طويل , حتى سمع أن كلا من الممثلين حصلا على نصيبه من التركة وكأن والداهما ترك لهما هذه الحصة التي لا يمكن أن يتنازلا عنها ....
وفي أحد أيام أعياد الميلاد , حيث الكل هائم في شراء شجرة العيد , والأطفال فرحون بقدومه , والكل يسبح للخالق الواحد الذي جعل معجزة مريم العذراء والصبي الذي تكلم وهو مازل في المهد , وعلى رفعه إلى الملكوت الأعلى , خرج الفتى كسائر شباب المنطقة , يتجول حتى وصلت قدماه إلى منعطف خال بينه وبين البحر بضع أقدام , وهو مستغرقا في رؤية الشمس والبحر يحتضنها بأمواجه الهادئة , حتى رأى شابا مستلقيا في الأرض , ولا يحرك ساكنا , أمسكه الرعب , ولكن سرعان ما قال في نفسه : سأرى ما به , وإذا هو يتفحصه حتى وجد دماءه على صدره , مطعون بسكين , فارتبك وأراد أن يهرب ولكن تراجع وهمس قائلا في ذاته : لابد وأنه على قيد الحياة و وفعلا لما اقترب منه وجد أنفاسه تنبض , وأخذه مسرعا إلى أقرب مشفى , فأدخله إليها , وإذا بطاقم من ملائكة الرحمة يجتمعون حول النازف دمه , ويأخذونه متوجهين به إلى غرفة العمليات , وفجأة جاء الطبيب المعالج إلى ذاك الفتى وقال له :
أنت الذي جئت به إلى هنا ؟ أجابه الفتى بالإيجاب , فاسترسل الطبيب قائلا :
من تكون أنت بالنسبة له ؟ وكيف وقع له هذا ؟
رد عليه الفتى :
إني غريب عنه , ولا أدري ماذا وقع له , وذهب يسرد عليه نص الواقعة لتعرفه على الضحية , فجاء طبيب آخر وقال : إن الشخص النازف دمه فقد حياته , لقد مات ...
فوجئ الفتى بهذا الخبر , فأمره الطبيب بعدم مغادرة المشفى وأقام عليه حراسة شديدة حتى يأتي رجال القانون ويأخذوا أقواله , وإن أرادوا أطلقوا سراحه أو اعتقلوه ...
ولما جاء الشرطي بدأ الاستنطاق مع الفتى قائلا :
من أنت , وما هي صلة القرابة بينك وبين المجني عليه , وأين كنتما , وماذا وقع , وعلى ماذا تشاجرتما ...؟؟؟
فأجابه الفتى مذعورا : أنه لا يعرفه , حكى له نص الواقعة التي جعل القدر له أن يتعرف على المجني عليه وهو ينزف دما ....
لكن الشرطي لم يقتنع بكلام الفتى , وعرضه على الإدعاء العام , ومن ثم بدأت مشكلة القضية , نفس الأسئلة ونفس الأجوبة , فاستطرد الفتى للنائب العام قائلا :
أولم يكن من الواجب إن وجد أحد شخصا في حالة ما بين الموت والحياة أن ينقد حياته , وإذا لم ينقدها يكون مجرما ويشترك في العملية الإجرامية حسب الفصول المذكورة من المشاركة في الجريمة 128-131 , وبالتالي يتساوى مع المجرم في كل شيء ... , هذا ما تعلمته وما درسه لي أساتذتي الأجلاء ...
فأجابه النائب العام : كل هذا صحيح ولكن نريد أدلة مادية توصلنا إلى أنك لست الفاعل فأنت متهم بقتله ... وقع شجار بينكما على شيء انتهيت بقتله ...
فأجابه الفتى : ولنفترض أنا الذي قتله , وأنا فعلا الفاعل لماذا أودعه في المشفى ؟؟؟؟
فرد عليه النائب العام : دائما تورد لنا نفس الواقعة وينتهي الأمر بأن الشخص هو المذنب والمجرم الحقيقي ,و لكي تبعد عنك كل الشبهات حسب اعتقادك , فأمر بحسبه على القضية حتى يعرض للمحاكمة ...
وفجأة جاء رجل يقول : محكمة ...
والكل نهض , وكأن أحدا أفاقني من غفوتي التي نزلت علي وأنا أتذكر أحداث تلك الواقعة ...
فجلس القضاة وأمرونا بالجلوس , فابتدأت المحاكمة , النائب العام بدأ الدفاع قائلا :
لابد أن لا تأخذكم الرأفة بهذا الشاب الذي يبدي مظهره بالبراءة ولكنه متهم قاتل , قتل صاحبه بعدما أن وقع شجار بينهما على شيء لم ندر ما هو , ولكن البحث أظهر أن الضحية كان له مجموعة من الأراضي ورثها عن والديه , وكانت مهرونة فجاء هذا المتهم بدافع أنه يعرف صاحب من أرهن له الأراضي , وبدأ يبتزه شيئا فشيئا ولما أدرك الضحية أنه يتعرض لعملية النصب واجهه بهذا وفي ذاك المنعطف الذي حدده له المتهم حتى يكونا بعيدين عن الأنظار ويرتكب جرمه ذاك , ووقع شجار , فقام المتهم وطعنه بالسكين , ورمى أداة الجريمة في البحر حتى لن تكون هناك أداة للجريمة , ولكن ذكاءه خانه , فقد فكر مليا وقرر أن يذهب به إلى المشفى , وتعمد أن يقول أنه لا يعرفه حتى يتمكن من إخراج نفسه من الجريمة التي ارتكبها , لكن وكما نعلم في علم الإجرام أن ليست كل جريمة هي جريمة كاملة فلابد أن يترك المجرم وراءه دليلا , والدليل هنا أيها السادة المستشارون هو مجئ المتهم بالضحية للمشفى , وقميصه ملطخ بدم الضحية , وإنكاره المستمر والمستميت بعدم معرفته بالضحية هو أكبر دليل على تبوث جريمته هذه ... لذا سادتي القضاة والمستشارين ألتمس من جنابكم عدم الرأفة بهذا المتهم حتى يكون عبرة لأمثاله من الضائعين والذين للأسف الشديد اتخذوا منبر العلم ودراسة القانون محطة صنع جرائمهم ...
أما هيئة دفاع المتهم قالت : إن المتهم انطلق من أسمى معنى في الحياة إنها الإنسانية , حيث وجد الضحية مطروحا على الأرض وغارقا في دمائه , وقررأن يسعفه وإلا أصبح مشاركا في الجريمة طبقا للفصل 129 من المسطرة الجنائية , فهو طبق القانون بإسعافه ولم يخرج عنه نهائيا , بل لا بد أن تعطوه وساما تشريفيا حتى يحتذى به من الآخرين , فهو لايمت بأية صلة بالضحية , وإذا كان القدر قد تدخل وسبق الموت بالضحية , لكان هو الذي أخبرنا جميعا من طعنه بالسكين , ولكن ...
يقاطعه النائب العام : ولكن ماذا أيها المحام , لا يوجد أي دليل على صدق هذه الوقائع , فالمكان كان خاليا ولا يوجد فيه أحد , وطبعا هذا كان ضمن مخططه لقتله , فقال دفاع المتهم :
للأسف ليس هناك دليل واحد يقول أن المتهم بريء ولا يوجد أي أحد يؤكد أو ينفي هذا الاتهام , ولكن ما يجب أن تعرفه هيئة المحكمة الموقرة , أن المتهم انطلق من إسعاف الغير تحت الخطر طبقا للفصل 128 من المسطرة الجنائية للقانون الجنائي , فهل يعاقب عليه القانون أم يكافئ عليه , لهذا أترك للمحكمة قرارها في صدور الحكم , وأنا متأكد أن القانون هو الذي سيطبق وأن قصر العدالة فيه عدالة ...
فقال القاضي : وبعد الاضطلاع على ملف القضية , حكمت المحكمة على المتهم بـ ... و لا يعذر أحد بجهله للقانون ...
وأغلقت أبواب قصر العدالة ............ !!!!!!!!!!!!!!!!
فدوى
#فدوى_أحمد_التكموتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟