|
حَجَرْ الزاوية
آکو کرکوکي
الحوار المتمدن-العدد: 2718 - 2009 / 7 / 25 - 00:10
المحور:
ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق
لـَرُّبما لايوجد تعبيرٌ أدقْ مِن حَجَر الزاوية[1] ، نُطلِقُها على العملية الإنتخابية الجارية في كـُردستان الجنوبية. فيبدو إنَّ التجربة الكـُردستانية سوفَ تـَكشف في هذهِ الإنتخابات عَنْ مدى نـُضْجِها بـِبَعْث إشارات واضحة عن قبُولِها بالشرعية الأخلاقية للنِظام الديمُوقرّاطي[2] ، والسعي لإكمال بـِناءْ وإصّلاح مؤسسات مُجَتمعها السياسي،على أسُسٍ أكـثـر وظيفية ومهنية. وهيَّ بذلك تُهـيئ الأجواء لِنمو مُجتمع مدني أو حتى في تطلعٍ أكثر تفاؤلاً، لِخلق ثقافة سياسية جديدة. وهكذا تكون قدْ وَضعت نفسها على المسار الصحيح وتخطو أولى خطواتها في رحلة الألف الميل نحو نِظامٍ ديمقراطي أكثرُ إستقراراً وتمثيلية. تلعب الأنتخابات الحالية دوراً أساسياً وأستدلالياً ومركزياَ مُهماً في مُعظم العملية المَذكورة أعلاه، وهذا ماسيكون جوهر مُحاججتنا في هذا المقال. إنَّ التجربة التي نتناولها بالحديث هيَّ وليدة تاريخٌ طويل مِنْ الثورات والمآسي والأحداث والمراحل، وهيَّ ثمّرة نِضالات شعب وحركتهِ التحررية لِزُهاء قرنين. وقِراءة سريعة في أسباب نشوئها وسياقاتها التأريخية، لَرُبما تمنحنا بعض المفاتيح الأساسية لِفهم حاضرها.
أسباب نشوء الـحركة
عندما بَدءَ عصر النهضة في أوروبا بِقوة أسواقها، وصناعاتها النامية، وقبل هذا وذاك بِفكرها التنويري، تُسدِلُ السِتار، على قرونِ مِن التسلط والهيَمنة- للجماعات الأقطاعيية والعوائل المالكة والكنيسة - على مُعظم مَرافق الحياة السياسية والمدنية والفكرية. شَرَعَت بإعادة تشكيل المُجتمعات الجديدة ، مُتسلحة بِخطٍ فكري جديد وحديث، يرتكز الى سيادة العقل في الخِطاب والممارسة، وتربط العقل بالحرية. إنَّ الهندسة الأجتماعية الحديثة دأبتْ على خلق أشكال جديدة للروابط الإجتماعية، تتناسب مَع مُتطلبات المُجتمعات الحديثة، فكانَت النتيجة نشوء الدول القومية ومؤسساتِها التي أخَذَتْ على عاتِقها تِلك المُهِمة، بِطُرقٍ حميدة وأحياناً عنيفة. وبالرغم مِن إنَّ النَهضة بِكامل قِطاعاتها نشئت في أوروبا، إلا إنَّ نتائجها وتأثيراتها، أنتقلت عن طريق الأحتلال الكولونيالي، أوعن طريق المُثقفين والحركات الحداثوية، الى المُجتمعات التقليدية في الشرق الأوسط. وخاصَّةَ بعد الحرب العالمية الأولى. كانَت كُردستان في تلك الفترة خارِجة مِن أول تقسيم لإراضيها سنة 1514، بَعد أنْ ضُمَّ قِسمٌ كبير مِنها للدولة العُثمانية. وبعد أفول نَجم الأخيرة، لمْ تَجلُب مَوجة بِناءْ الدول الجديدة في الشرق الأوسط شئٌ لِكـُردستان ، سِوى تقسيمٌ آخر. أسبابٌ عِدة [3]دفعت الِقوى الدولية والكولونيالية لكي تتنصل من البنود الثلاثة (62 ،63،64) لِمُعاهدة سيفر الصادرة في 10 أغُسطُس1920، والمُتعلِقة بِمَنح كرُدستان الأستِقلال، وجَعَلَتها تَتَجاهل مُقررات الرئيس ودِروُ ويلسُون حَولَ تقرير المصير، وإرادة سُكان هذا البلد المَنكوب. وتًقسيم كـُـردِستان مَرَّةٌ أخُرى وَضَمَّ ما كان يُعرّف بِولاية الموصل للدولة العِرّاقْية الناشئة[ 4]. كان لِتقسيم، وإدارة أجزاء كـُـردِستان، مِن قِبل أنظمة ودول مُتباينة، سياسياً وأقتصادياً وثقافياً، ولِسنين عديدة، أثرٌ كبير في فِقدان الوِحدة السياسية، وتَشَتُت التوجهات وأهداف الحركات الكردية. وَجَدَ الكـُرد أنفسُهم تحت حُكم أرّبعة دولٍ تَسعى لِبناء هوية قومية، والمَرْكـَّزةَ بإستِهداف إلاختلافات في مُجتمعاتها بِطـُرقٍ قمعية وعنيفة، على حِسابهم، وتَجْهد لِتغليب سيادة عرقيات وهويات بعينها دونَّ غيرها على هوية الدولة القومية (كالعربية في العِرّاقْ وسوريا، والتركية في تركيا، والفارسية في أيران). إلا إنَّ كـلٌ مِنْ : مقاومة الهويات المَفروَّضَة، وسياسة الصَّهر القومي هَذان، كانتا بِمثابة اللحُّمَة التي وَحَدَتْ الحركات الكردية في كل الأجزاء. وهذا مايسميهِ المُفكر الكردي عَباس وَلي بـِ (ديالكتيكْ إِلانكارْ والمقاومة)[5] . لَرُّبما كان هذا المُحرِك ألاكـَثر فاعلية الذي بَعَثَ رُّوح ألاستمرارية والديمومة لِهذهِ الحركة في خِضَّمْ مُحيطٍ أقليمي ودولي مُعادي وصَّعب، لابل لِتخطي مُحدِادت بنيوية، لمُحيطٍ سياسي وأجتماعي ذاتي أيضاً. يُورد عباس وَلي جُملة مُحدِدات ذاتية، أضْفَتْ حالـة مِن الركود الفكري والسياسي على الحركة وأختزلتها في مُطالبات بِالحُكم الذاتي فقط، ومِنها: وجود الِقوى والعِلاقات السياسية والثقافية ماقبل الحديثة، ضُعُفْ المُجتمع المدني (ريف قبلي، ومدينة مع بورجوازية ضعيفة)،ألارتباط بِقوى دولية وأقليمية[6] ،والإِنفِعالية بَدَلْ الفاعلية في عِلاقتها بالمَركزْ (كانت الحركة التحررية تقوى بِضُعف المركز أو بالعكس)، هذا إضافة الى التشظي السياسي والشعبي. بقى أنْ نقول إنَّ السِمَة الأبَرزْ التي تَميزت بِها الحركات الكردية في كـُـردِستان الجنوبية (الجُزء المُلحق بِالعِرّاقْ) مِنْ بين مَثيلاتها في الأجزاء الأخُرى هيَّ التواصلية، في إبقاء شُعلة الثورة مُوقدَة بِشكلٍ شُبه دائم، والتراكمية في كسب حقوق مُهمة وإضافة أًخُريات لها. هاتين الميزتين لاتجدهُما بِنفس الدرجة والنوعية في ألاجزاء أًلاخرى. إنَّ لِهذهِ القِراءة السريعة في جِذور الحركة وسياقاتها التاريخية أهمية، في تحديد درجة نُضّج التَجربة لاحقاً، وأمكانية تخطيها تلك المُحددات البنيوية والموضوعية اليوم. في 5 آذار 1991 كانت كـُـردِستان مع واحدة مِنْ أهم مُنعطفاتها التأريخية، فقد ساهمت عِدة عوامل محلية ودولية في أنْ تدخل الحركة حـُقبـة جديدة مِن الادارة المُباشرة لإجزاء كبيرة مِن كـُـردِستان. بِما إِنَها كانت أول تجربة في ألادارة، كانت هيَّ بالتالي أول فرصة لِوضع كامل الحركة على المَحَّكْ، في الايام والسنين التالية بَدَءَتْ الحركة تَكشف عن إشكالاتها وإرهاصاتها الداخلية، وبالمُقابل بَدئت هيَّ تكتشف ألارث الثقيل وحجم الدمار والتشظي الذي أصاب المجتمع الكردي بعد عقود من سياسات الصَّهر القومي مِنْ قِبل مُعظم الحكومات العِرّاقْية المُتعاقبة. بَعدَ الانِتفاضة مارَسَتْ كـُـردِستان أول عملية إنتخابية ديمقراطية في تأريخيها، شارك الجميع فيها بِحماسة أنُتخِبْ البرلمان وشًّكِلًتْ الحكومة، إلا إنَّ التجرُبة سَرعانَ مافشلت ودخلت في حربٍ إهلية ضَروسة ومُدمِرة، أستمرت لِحد 1997 وأنتهى الى تقسيم كـُـردِستان للمرة الثالثة لإدارتين مُختلفتين. إلا إنَّ فشل أول تجربة ديمقراطية كـُـردِستانية ، لايمكن فَهمُهُ، دونَّ أستعراض المُعطيات والظروف التي سَبَقـَت ورافقت العملية، وعلى مُختلف الاصعِدة في كـُـردِستان.
التـَّـرِكـة
التراث الفكري الذي خـَلفتهُ الأيدُولُجياتْ والِقوى والأحزاب التي كانت فاعِلَةَ على الساحتين العِرّاقْية والأقليمية، خِلال العقُود المُنصَّرِمَة (حركات القومية العَرَبية، واليسارية الشيُوعية، والدينية الأسلامية). وعمليات التعريب والتبعيث والترحيل المُمَنْهَجة . كان بِحلول سنة 1991 قَد سَمَّ بِميْسَمهِ مُعظم العِرّاقْ والمنطِقة. ورَّسْبَت أفكارها وتقاليدها وأعرافها، في ذهِن أعداد لابأس بها مِن الكورد والعِرّاقْيين عامةً. وكوَّنت لاوعي فردي، تـَشَّربَّ نتيجة الإختلاط ، مِن اللاوعي الجَّمعي السائد، تحاول أنْ تـُقلِد بِشكل غير مبُاشر تِلك الفلسفيات الشّمولية، والمُغلقة في الخِطّاب والمُمارسة، بِدرجات متفاوتة حَسَّبْ الطبيعة والإمكانية والمواهب والإهتمامات الفَرْديَّة . تـَدَفَقّْتْ تِلك الأفكار على شكل روافد مُختلفة، غَّذَتْ اللاوعي الجَّمعي في المنطقة[7]، في فترات زمنية مُختلفة ومِنْ جِهات عَديدة. فـَـكـَرْدِ فِعْلٍ للأفكارالمناوئة لأستِعَّمارْ الأمبريالي في بداية الثلاثينيات، أو تأثراً بِحُمى الحرب الباردة في الخمسينيات والستينيات، أزدهرت التنظيمات الشيوعية في العِرّاقْ وكـُـردِستان ورّاحت تدافع عَنْ الـ"بروليتاريا" وتـَّدعي إنها تستطيع بثورة دموية واحدة أنْ تقلب "التطور التاريخي" و"اللامساواة الاقتصادية". المُفارقة إنَّ تلك الأفكار لاقت صدىً في مُجتمعات تقليدية كالمُجتمع الكـُـردستاني[8]، لَمْ تَعرف الصِناعة والرأسمالية بالشكل الذي كان قائماً وسائداً في أوروبا أيام ماركس قبل حوالي 150 عاماً. ولَمْ تَكُنْ مُشكلتها صِراع طبقي، ولا لامساواة إقتصادية بِالدرجة إلاساس، بِقدر ماكان وجُودُها كأُمُّة كاملة ، مُهَّددة في كل طبقاتها، ومستوياتها الأجتماعية ، كبروليتاريا وبُروجوازية ،كفلاحيين وأقطاعيين، كـنُخبة وكعامة، بأنْ تنقرض، وتصبح –إنْ لم تقاوم- مُجرد أسطر تكتب في كتب التاريخ والأنثروبولجيا. حول الخلفیات الاشتراکیة والمارکسیة لِتنظیمات الحَرَکةَ القومیة الکـُـردیَّة یقول البروفسور (دیفید هالیداي): " في حالات عِدَّة، تـَوَّلتْ تنظیم الحرکة القومیة الکـُردیَّة أحزاب تُعلن إلتزامها برُؤیة إشتراکیة أو مارکسیة، وتتوجه الى الطبقة العاملة.. ولکن هذا، مثلهُ مِثل الکثیر غیرُهُ في النزعة القومیة، کان یعکس وجود فجوة بین الخِطاب السیاسي، والطّموح، والواقع. فالنـَّزْعة القومیة الکردیة لم تکن النزعة القومیة للطبقة العاملة...ولمْ تکن المناطق الکردیة في أيً مِنْ البُلدان الثلاثة... مراکز تَصنیع". نشئت الأفکار القومیة العربیة في بدایات القرن العشرین، وخلدت الخطابات والادبیات الثوریة للأحزاب القومیة العربیة، الأفراد والأشخاص ورفعتهم لِمقامات مُقدسة، ومُنَحَتْ أیدولوجیتهم وأحزابهم الشرعیة الثوریة، وشارکتهم في هذا المنحى التنظیمات الیساریة التي کانت تؤمن هيَّ أیضاً بالشرعیة الثوریة والشمولیة والمرکزیة الشدیدة. وکلتیهما نجحتا دائماً في أنْ تُصّدِرْ أزماتها الداخلیة للخارج وتهرب للأمام وتَخْتَلقْ"الخطر الخارجي- الامبریالیة والاستعمار والصهیونیة..والخ" و تُعظم مِن شئنهُ وتحملهُ فشلها وتتهمها بالمؤامرة. بالتوازي مع هذا النهج الفکري توافقت الأحزاب الأسلامیة أیضاً. نشئت الأحزاب الاسلامية الكـُـردِستانية في بداية الثمانينيات، وكانت تدور في فلك الاخوان المسلمين ولاحقاً بعض التنظيمات الارهابية والتمويل العربي و الخليجي وجَمعت حولها أعداد لابأس بها. وهيَّ أيضاً صارت ترفع الشعار الشمولي" الاسلام هو الحل" وتظفي هالة من القدسية على شخوصها وعملها الحزبي المُؤدلج بالأسلام السياسي. وتأثراً بهذا باتَ قِطاعٌ واسع مِنْ الثقافة السياسية في المنطقة عموماً ،يَغُلبُ عليها، فِكرة: " القائد المُنقِذْ أو الزعيم - يُقابل فِكرة الأمير عند مكيافيلي- الذي تلتفُ حولهُ الجماهير وتهبهُ السُلطة والقُدسية ،فيما هو مُنشغل بِبناء الأمُة ويُجابه الاخطار الخارجية. أما الاخر المُخالف فهو "العميل والخائن والمُتآمر" . ومالتعددية سِوىَّ ضرب ٌمِن ضرّوب التقسيم، المُرسل مِن قِبل الاعداء المتربصون خلف الحدود، على شكل طابورِ خامس، لِضرب الامن القومي والثورة، والاخيرة تحمل في ثنايا عاطفة وأخلاص الثآئرون والقادة ونواياهم (العقل والقانون والشرعية)..!". إنعكاسات هذا النمط الفكري كنت تجدها بدرجات متفاوتة في افكار الأحزاب(قيادةً وقواعد) في كـُـردِستان، وخاصة ايام الحرب الاهلية. وفي هكذا مُجتمعات كان عندما يصل اليأس من الوضع المتـأزم درجتهُ، يأتي التغير غالباً مُتلازماً مع عُنفٌ ثوري وفي احياناً كثيرة دموي وهستيري[9]، كموجات غضبٍ وبُغض شعبي مُتراكم باحِثةً دائماً عَنْ أيدولوجيات شمولية، و يوتوبية ، لديها وصَّفة لـِكل داء، ( الشيوعية، والاسلام السياسي مثلا)، ولا تؤمن بالهندسة الاجتماعية الجُزئية، ولا بالطابع المرحلي لكل عملية بناء وتنمية أجتماعية وسياسية، بل بالهندسة الكـُليَّة، الشمَّولية، ذي النزعة الرومانطيقية ،والتي بِضربة واحدة ،تجلب المدينة الفاضلة والفردوس الى الارض، ولاتؤمن بالنقد العقلاني للمشاكل، وبِمحدوديَّة العقل الفردي، ولاتسمح للآخر بالأختلاف ، والمساهـمة بالحل من خلال النقد، في فضاءٍ من الحُرية والانفتاح، ليسهم في حل المشاكل الاجتماعية جُزئياً ومَراحلياً [10]. هكذا فلسفيات أثبتت بؤسها وفشلها ليس فقط لِما آل اليهِ المصيرالمشؤم لِتلك الانظمة والايدولوجيات اليوم،ولا للخراب الذي خلفتهُ لِمُجتمعاتها، بل قبل هذا وذاك كان يمكن أن نتعض، مِن درس أوروبا في الحداثة، قبل ثلاثة قرون ونيف. فبِناء الامم والدول القومية وإزدهارُها، في أوروبا وأمريكا، نشئت من نهضة فكرية وسياسية واقتصادية جَّمعية وبِمراحل وعلى مدى قرون،ساهَمَ فيها مُعظم طبقات المُجتمع كنُخبة وكعامة. وقبل هذا وذاك من رّوحية نقد كـُل ماهو تقليدي وسائد مِنْ أنظمة إجتماعية ،فكرية وثقافية. وعلى الصعيد المادي والجغرافي،تَمَّ خلق حدود جديدة للقومية الكـُـردِستانية وغيُّرت الحدود الجُغرافية والتأريخية القائمة من جبال حمرين الى حدود جديدة نحو الشمال محُّولةً بِذلك مناطق ومدن شاسعة الى واقعٍ مُرّ يُصَّنَفْ لِحد الآن بانها"مناطق متنازع عليها". اما عمليات الانفال والترحيل فلم يبقي للريف الكردي قائمة في مناطق عِدَّة وأًلحَّقَ ضرراً كبيراً بالأًخريات. والتخُوم الثقافية للقومية أصَّابها الكثيرمِن التشويه نتيجة التقسيمات الجُغرافية كما أوردناهُ في بداية المقال. كذلك نشئت أجيـال لاتُجيد لُغتها ، قِرَّاءةً وكِتابةً وحتى تحدثاً، هذا ناهيـكَّ مِن الاغتراب عن الموروث الثقافي الكردي، الذي أصاب تلك ألاجيـال، كنتيجة لِمنع التدريس باللغة الكـُردية، بِشكل شبه واسع في كـُـردِستان، وقطعيـاً في مناطق مُعّرَّبة مِنهُ. وتسيس الثقافة لأجهزة الدولة والخطاب القومي العروبي أو القومي العِرّاقْي أو كِليهما. اللغة الكردية في كـُـردِستان الجنوبية شَهَّدتْ هامش مِن الحُريَّة بين الحين والحين، ولكنها بغيـاب سيـاسية استراتيجية قومية حصّيفة، ومؤسسات لغوية مُتخصصة، ظلت مِنذُ سنة 1919(تاريخ أعتماد البريطانين موظفين كرد بدل الاتراك في كـُـردِستان وتاريخ أنشاء أول صّحافة كردية في هذا الجُزء مِن قِبَل الميجر سون والشاعر الكوردي پيره ميرد) [11] ولِحد اليوم تُعاني من نقاش طويل وعقيم حول أيّ الأبجديات هيَّ الأجدر لإستخدامها للغة الكردية (اللاتينية أم العربية- الفارسية) وبين نقاش أيّ اللهجات يجب إستخدامها كلغة موّحدة السورانية أم الكـُرمانجية. إنَّ هذهِ الأنقسامات ساهمت في بِناءْ رّوحٍ مناطقية ( سوران ، بَهدينان) [12] عَمَلَتْ الانظمة العِرّاقْية على تعميقها. كانت الحركة القومية ناشئة عن رد فعل لسيـاسات الصّهر القومي، وتأثراً بِموجة بِناءْ الدول التي كانت سائدة في المنطقة وغـَـلَبَ عليها المُحدِدات التي ذكرها عباس وَلي كما أسلفنا في بداية المقال ، ولم تكن ناتجة عن عملية مدنية حديثة، ولا عن طريق طبقة أرُستقراطية وحَدَتْ الشعب بشكلٍ عمودي (كما في تركيـا)، ولكونها كانت حركة كِفاحية مُضطهدة في جبال كـُـردِستان ولاتملك إدارة مدينية مُباشرة، فلمْ تكن أمامها سِوى اللجوء الى النظريات الموضوعية والذاتية الماقبل الحداثويّة (أفكار فيختة وهيردر من المانيـا ومِن بعدهم ستالين مِن جهة وأفكار رينان مِن فرنسا مِن جهةٍ أخُرى)[13] في تفسير الأمُةّ والقومية ، فجَاءَ الخِطاب مُرّكزةً على الجانب الرمزي في تعريفها للقومية وتعبئة الناس " الأرض التاريخية، والمصّير المُشّترك، والتاريخ والثقافة واللغة الواحدة". وسرمدية العوامل هذه ، أو في ظرفٍ آخر كانت تتكلم عن المظلومية المُشتركة والارادة والذاكرة الواحدة. يرى فالح عبدالجبار [14] إنّ هناك تماثلات في الخطاب القومي العربي والكردي لِولادتهما في نفس الفترة الزمنية والرُّقعة المكانية وتبنيهما مُقاربات مُتشابِه حول القومية. لكن نجاح الحركة القومية العربية ببناء دول اقليمية –بِمُساعدة البريطانيين والفرنسيين- كان بالدرجة الاساس هو السبب في فشل الكرد في نفس المسعى. اقتصاديـاً بدا الوضع أكثر قتامة ً،فالبُنى التحتية أضحَتْ في حالة يُرثى لها ، نتيجة السيـاسة المُمَنهجة مِن قبل الحكومات العِرّاقْية، أو نتيجة الحروب. بِمنع إنشاء مشاريع إستراتيجية في كـُـردِستان، تكون لها مردودات إقتصادية مُهمة تنعش القِطاع الزراعي المُدَمَرْ و تسهم في تنمية أقتصادية، تستطيع كـُـردِستان من خلالها الأفلات -ولو بشكل جزئي - من شباك التبعية للمركز، وتسهم في استقلالها يوماً. وهاجس استقلال كـُـردِستان السيـاسي اوحتى الاقتصادي والثقافي كان ومازال هو الكابوس الذي يؤرق ويَقْضُ مَضّجَعٍ تلك الحكومات والنخب لِحدْ الآن. وبعد الأنتفاضة تحملت كـُـردِستان، ثُقل حِصاريّن، من صدام ومجلس الامن. اجتماعيـاً وَرَثَتْ كـُـردِستان بعد سنة 1991 ،مُجتمع يسودهُ ولاءات تقليدية وشبه تقليدية، دُمِرَّ كافة مؤسساتهِ المدنية، وشُوِهَ أغلب تخومهِ الطبقية وهياكلهِ الاجتماعية. فضِمن سيـاسة الانفال تمَّ تدمير اعداد هائلة مِن القُرى، وتهجير سُكانها وتوطينهم في مُجّمعات على أطراف المُدن الكبيرة. وفي عهد صدام ازدهرت المحسوبية والقبلية، اما الطبقات الوسطى، وباعتمادها على رواتب الدولة ،كانت قد تَدَنَتْ مستويات دخلِهِم بِتدني الاقتصاد العِرّاقْي في عقد الثمانينيات. وضحايـا الحروب والتهجير أضافَ نِسَبْ أكبر للفـَّقْر والعوز، وبَرَزَ للوجود آفة المحسوبية والوساطة وعلاقات الراعي- المحسوب. يُولي ليزينبرغ [15] في تحليلهِ للحالة الكردية مِن منظور الاقتصاد السيـاسي،عامل المحسوبية، أهمية خاصة. وبِحسب تعريفه فأن علاقات الراعي- المحسوب، في منظورها الكلاسيكي تمتاز عن علاقات القرابة في منظومة القبيلة او علاقات القوة في أجهزة الدولة البيروقراطية. تنشأ في ظروف تكون فيهِ مؤسسات المجتمع المدني والدولة عاجزة عن النهوض بمهامها. وتفتقر للشّرعية. ولكونها علاقات شبة قبلية هدفها كسب الولاء،وتكريس تبعية المحسوب للراعي ، وليس بالضرورة الوساطة بين الفرد والسلطة، ولاتسهم في التلاحم الاجتماعي أثناء الازمات، لِذا لايعتبرها ليزينبرغ انها بقايـا علاقات تقليدية في مجتمعِ غير حديث، كالولاءات القبلية والدينية، وبالتالي كان نشؤها في العِرّاقْ وبتدخل مباشر مِن الدولة ليس بالامر الشاذ. بَدءَ نِظامْ صدام ضمن السيـاسة التقليدية للانظمة التوليتارية ومِنذُ وصولهِ للسلطة، بتفكيـك كافة الاشكال والهيـاكل من التنظيمات السيـاسية والاجتماعية مِن ما كان يمكن، أن يُسمى "مؤسسات مجتمع مدني". ومَلءَ الفراغ بينهُ وبين الشعب باجهزتهِ والفكرالموالي للسلطة او للفرد. وساعدتها في ذلك من جهة سيـاستها العنيفة والقمعية، ومن جهة أخُرى رّعاية الموالين لها بِخدمات وأمتيـازات سَخيَّة. إلا إنهُ وبِحلول مُنتصف الثمانينيات وأثناء الحرب العِرّاقْية- ألايرانية وإِحتدام المعركة مع الحركة الكردية،تراجعت الامكانيات المالية، لهذا النِظام بشكلٍ درّاماتيكي. وصارت تفقد احد عوامل نجاح سيـاستها السابقة أو " لَمْ تعُدْ تستطيع إبقاء البطون مَلاءى"[16] ، فَلَجْئَتْ الى أحيـاء أٌلاطرُ القبلية والتنازل عن بعض الصلاحيات لِصالح عناصر محلية. نتيجة لذلك نشـَأً طبقة مِن زُعماء قبائل، وشخصيات إنتهازية، كانت تملك الحّظوة لدى الدولة، وتُغْدًّقْ مِن قِبلها بالإمتيـازات، كان مِن أمثلتها المُستشارية وقوات الجحافل الخفيفة(الجحوش)، وهيَّ تجمعات قبلية أوغير قبلية أنخرّطت بِدعم مالي وعسكري مِن قِبل النِظام العِرّاقْي، في مليشيـا مُسلحة، بهدف ضمان حيـادتها وولائها، ومواجهة الحركة الكردية المسلحة. أما بُنية الجبهة الكـُـردِستانية التي تَوَلتْ الإدارة بعد سنة 1991 فكانت هَّشة، وحاضِنة لِبذور إنشقاق تاريخى تمتد جذورهُ الى بداية الستينيات، وكان هذا انشقاق فكري وسيـاسي بين القيـادات الكردية حول تمثيل القضية وطريقة التعامل مع الحكومات العرّاقْية في تلك الفترة من جهة وصراع طبقي بين قيـادة جماهيرية تقليدية مع طبقة مُثقفة مدّنية [17]. والذي تطور في السنين التالية الى عِداء مُستديم بين الحزب الديمقراطي الكـُـردِستاني(حدك) والاتحاد الوطني الكـُـردِستاني(اوك) اكبر عضّوين مِكونين للجبهة فيما بعد وخلافات اخُرى مُختلفة بين الاخيرتين والاطراف المؤتلفة في الجبهة، من الحزب الاسلامي والشيوعي والاشتراكي، نشئت ايـام النظال المسلح في الثمانينيات. ولِفهم اللعنة الجيوسيـاسية على اقليم كـُـردِستان وتأثيراتها على تجربة سنة 1991، لابد أن نتذ كر إنّ جوهر مشكلة الشعب الكردي هيَّ، في إنقسامها وتشتتُها بين أربعة دول حديثة النشوء نسبيـاً، هذه الدول لديها أجندات قومية تريد تغليبها على مجتمع متعدد، غير مُتجانس، ولاتملك هوية موّحدة. فهيَّ لذلك تستهدف الاختلافات القومية والثقافية الاخرى وتحاول أنْ تمَحيها بدل أنْ تَحتويها، وفي سعيها هذا لاتستخدم فقط الطرق الحميدة، كالنِظام التربوي الموّحد، والجيش الموّحد، والقوانين الموّحدة.. والخ، لابل هيَّ لجئت وتلجأ الى طًرّق عنيفة مِن صّهرٍ قومي وتطهيرٍ عرقي والقوة العسكرية، واجهت هذهِ الدول منذ البداية مشكلتان أساسييتان الاولى: هيَّ السيـادة على كامل الاراضي الاقليمىـة ، والثانيـة : السيـادة على المواطنين الموجودين في هذا الاقليم. لربما مالم تفقهُ هذهِ الدول: هيَّ إنّ كسب السيـادتين هذين كان مُمكناً، لو إنّ هناك حالة مِن القبول (المشروعية)، والحاجة لدى جميع السكان للانظمام لهذا الكيـان الجديد، و كانت تلك الانظمة السيـاسية والمدنية على درجة عالية من المؤسساتية والديمُقرّاطية يُمكنها ان تحتوي كل التعددية هذه. لكن العكس ماحصل فلم يكن هناك قبول، بل رَفضٌ تام مِن الشعب الكردي للأنِظمام الطوعي، بل كان كل هذا التقسيم قسريـاً. والدول هذهِ لمْ تمتلك ابداً ،ولمْ تعمل، ولرّبما هيَّ عاقرة في الأساس، عن إنجاب نموذج ديُمقراطي يحتوي الجميع. وغير الحرب، كان خِطابها في بعث رّوح الوطنية وبِناء الأمُة، خِطابٌ تقليدي هزيل آيدولوجيـاً وعُنصري حتى النُخاع. فبناء الأمُة، لم يكن ناتج عن عملية حديثة تدخلت فيهِ الاسواق والرأسمالية والتطور الفكري التدريجي ، كما في اوروبا. بل كان قرار سيـاسى طبُقَّ بِقوة السِلاح ، لذا كان هناك دائما فجوة، بين العلاقات الثقافية والسيـاسية، في هذهِ الأمُم المُصّطنعة والمُختلة بنيويـاً، والتي لمْ تزلْ عوامل وعلاقات تأريخية ماقبل حديثة تلعبُ دوراً أساسيـاً فيهِ. لجئت الدول الحديثة (وخاصةً العرّاقْ) لإستخدام التأريخ إستخداماً استراتيجيـاً في عملياتها السيـاسية والثقافية لِبناء الأمُّة وخَلقَت حالة مِن الهَوَسْ اللاعقلاني بالماضي والتأريخ في تطلعٍ لِبناءْ المُستقبل [18]، ولم يكنْ في التأريخ العرّاقي مثلاً، سِوى نموذجين تأريخين، أولاً: ألامبراطوريات ماقبل الاسلام ،التي تصارعت حول موارد بلاد مابين النهرين (الآشورية والبابلية مثلاً) . ثانيـاً: امبراطوريات العوائل العربية التي حَكمَت بإِ سم الاسلام(الأموية، والعباسية مثلاً). وكِلا النموذجين لمْ يكنْ حدود أمبراطورياتها مُحددة بِقرارت مِنْ عُصّبة ألامُّم (أي من زاخو لِفاو)!. بل كانت حدودها مَرِنة، تتحدد بِقوة سيوف وبطش مُقاتليها. وبذلك كانت الدول هذهِ قد شًّرعت بتشويه المفاهيم الحديثة حول الأمُّة، وتحاول أنْ تَردُمْ الهُّوة الموجودة بين الثقافات والقوميات المُتعددة المُوجودة في الامُّة المُصّطنعة هذهِ، بإ يهامِهِمْ أنهم ينتمون لأمّة ودولة أزلية، جذورها ممتدة في الماضي السحيق، وهيَّ بالتالي تضع الاثنية العربية (جوهر الامبراطورية الاموية والعباسية)، اوالاثنية التركية ( جوهر الامبراطورية العثمانية) او الأثنية الفارسية ( جوهر الامبراطورية الصفوية) صاحبة تلك المآثر التاريخية محل العقل( أي محل المواطنة، وسيـادة القانون، والمجتمع المدني) في بناء أمُمِها . وبعيداً عن هذا التنظير، راحت النُخب السيـاسية الحاكمة في هذه الدول، تضُحي باقتصادياتها وأستقرارها الامني والسيـاسى وتقامر بوجودها كدولة (العِرّاقْ مثلاً- بعد2003) وتُقحِم نفسها في آتون حروبٍ طاحنة مع الكـُرد، اللذين لمْ ولنْ يَهمهم هذا التعريف للدولة ولا للأمُّة المشّوهتيين والمَزْعُومتيين. هذا السرد المطّول هو لإِبراز، إنّ القضية الكردية هيَّ في الاساس قضية أمن قومي مِن الدرجة الاولي بالنسبة لهذه الدول، وهيَّ تهدد وجودهم في الصميم، مازالوا هم يتبنون نفس الايدولوجيـا. وهذا التهديد اخذ سنة 1991 مدىً خطيراً جداً، عندما بَدئَت الجبهة الكـُـردِستانية تسُيطر على مناطق واسعة من كـُـردِستان، وأنشئت إدارة كردية، لا بل حكومة وبرلمان مُنتخبيين ديمُقراطيـاً. في قلب الشرق الاوسط. بل في وسط الحدود المشتركة لكل هذه الدول. لربما كان هذا بمثابة علامة من علامات النهاية لتلك الدول، وهيَّ لولا تكتيفها ببعض المُعطيات والقيود، لـَتَدخلت بكل قوتها لتُنهيَّ هذا الوضع، ولكنها بـَقَتْ مُجْبرة أنْ تتعامل مع هذا الواقع ولو لحين. هذهِ الدول كانت أدركت إنها لو تدخلت سوف يُعاد الهِجرة الجماعية، وتكتسب القضية الكردية بعدا دوليـا ابعد واعمق مم حصل بعد الانتفاضة حين تعاطف العالم كله مع هذه الماساة الانسانية واصدرَ مجلس الامن، قرارهُ المُرقم688 ،وأضطر الحلفاء لبناء المنطقة الآمنة مُرغمين،أما النِظام العِرّاقْي الخارج من حرب الخليج الثانية، فكان مِن الضعف بحيث لم يكن يستطيع أنْ يبَسط سيطرتهُ على كـُـردِستان كاملة مرةٌ أخرى. إلا إنّ الدول هذه أتخذت أستراتيجية أخرى هدفها إفشال التجربة، داخليـاً.
تجَرُبة الديمُقرّاطية والحَربْ
أثناء تشكيل الحكومة، أدركت الِقوى السيـاسية الكـُـردِستانية إنّ الكلام في الديمُقرّاطية أسهل بكثير من ممارستهُ، أولى المشاكل كان في حالة عدم الثقة الموجودة بين كل الاطراف ، نتيجة صراعاتهم التأريخية القديمة، وثاني المشاكل كان ان كِلا الحزبين الرئيسين (حدك) و(اوك) قد حصلا على نتائج مُتقاربة جداً، منَعَتْ كلِيهُما مِنْ إدعاء الأغلبية. لِذا جائت الحكومة توافقية تُدار مِن أئتلافٍ ثنُائي بِنسبة 50% لكِليُهما (الدور الذي ظفر به الأحزاب الاخرى كان ضئيلاً يمُكن تجاهلهُ). فيما سيلي سوف نحاول أن نُحدد الاسباب التي أدت لفِشل التجربة وإنزلاقها نحو الحرب الأهلية. في مُقدمة كِتابهِ(الديمُقرّاطيَّة التوافقية في مُجتمع مُتعدد) يُشدد آرنت ليبهارت [19] على" إنّ صّعوبة تحقيق الحكم الديمقراطي المُستقر وصونهُ في المجتمع التعددي قضية ثابتة في العلم السيـاسي". وبذلك يَخلَصْ لشرطين مُسبقين للديمقراطية المُستقرة وهما: التجانس الأجتماعي،والأجماع السيـاسي. والمجتمع الغير مُتجانس هو المجُتمع التعددي، الذي يرتبط فيهِ الأختلافات السيـاسية بالإنقسامات الإجتماعية التي بدورها تكون ذات طبيعة دينية، ايدولوجية، لغوية، أقليمية، ثقافية، عرّقية، أو أثنية. [20] أنقسم المُجتمع الكردي سيـاسيـاً بين الحزبين ولربما يكون من الصعب تَصّنيف الإنقسام هذا تحت أيّ نمطٍ مِن الانقسامات المذكورة. فداخل كِلا الحزبين يُمكن أن تجد المذهاب الدينية المختلفة، وداخل كلا الحزبيين يمكن ان تجد مختلف النخب والقطاعات الثقافية، وحتى التصنيف السطحي الذي يربط الحزبيين بمنطقتين او لهجتين مُحددتيين في كـُـردِستان هو أيضاً ليس دقيق فكِلا الحزبيين يمتلكون أنصاراً في مُعظم المناطق ومِن مُعظم اللهجات الكـُـردِستانية. وحتى ايدلوجيـا يُصنف كِلا الحزبيين على إنهما أحزاب قومية. المسئلة سوف تكون أسهل لو قارناهُ مع الحالة العِرّاقْية فإننا نكاد نلتمس تطابق شبُه كامل بين طبيعة الأحزاب السيـاسية السائدة والانقسام المذهبي او الديني او العرّقي. يُفرق ليبهارت بين التعددية في دول العالم الاول والثالث ولكنهُ في الوقت نفسهُ يقرّ بإن المُجتمع التعددي مسئلة أعمق مِن التصنيفات المذكورة، ولكن يُمكن تعريفهُ بأنهُ المُجتمع الذي فيهِ "أنقسامات ثقافية" حادة تجعل طبيعة العلاقات بين الاطراف عدائية. لابدّ هنا أن نتذكر أن مفهوم الحزب نفسهُ في كِلا العالمين يختلف ففي العالم الثالث تتداخل فيهِ علاقات وولاءات ماقبل حديثة. أيًّ كانت جذور الانقسمات هذهِ وكيفما تُصنف ، ففي النهاية كانت هيَّ واقع يستلزم اللجوء للتوافقية لإحتوائها. إلا إنَّ التوافقية كنِظام سيـاسي معيـاري وتجريبي أثبت أنهُ لابد مِن توفر عوامل مساعدة لأنجاحها، منها طبيعة وشكل توازن الِقوى الداخلة في أئتلاف توافقي. المقصود بالقوة هو القوة الأنتخابية. يَخلَصْ ليبهارت [21] إلا إنّ التوازن الثنائي الِقوى(كما كان في كـُـردِستان) يُصَّعْب الديمُقرّاطيَة التوافقية، لأن زُعماء كل قوى تسعى للإغلبية، وبالتالي الهيمنة بدل التعاون أي الانتقال مِن الائتلاف للمُنافسة. وانهُ في هكذا أنظمة سَوفَ يتحول العملية السيـاسية دائماً الى لعُبة الرابح والخاسر، فأي ربحٍ لجهة سوف يكون على حساب الجهة الاخُرى، ولكن لو كان التوازن ثلاثي أو رُّباعي فأن أي ربح لأي جهة سوف لاتفُسر الى أنها خسارة لجهة معينة بالتحديد. مِن هذا نستخلص ان التوافقية التي لجأ لها الحزبين كانت من أضعف انواعها ولم تکن قادرة على جلب الاستقرار، وهذا ماحصل. فوجد كلا الجانبيين ان المنافسة تُحتم عليهما إعاقة عمل الآخر وبالتالي كانت معظم قرارات الحكومة والبرلمان مُعاقيين. إلا أننا نكون مُخطئيين إنْ أختزلنا فشل التجربة في هذا السبب فقط. فبالعودة للوضع الذي كان سائداً قبل وأثناء الانتفاضة والتي ذكرناه سلفاً. فاننا نجد ان الأحزاب الكردية قد وَرَثت وضعِ سيـاسي وأجتماعي وأقتصادي (وخاصةً بعد فرض حصاريين على كـُـردِستان-مِن قبِل العِرّاقْ ومجلس الامن) صعبٌ جداً وهيَّ نفسها كانت تحمل نقاط ضعف في بُنية ائتلافاتها وحكومتها. في مقابل هذا كانت دول الجوار في تخطيط مستمر ضد التجربة وباتت تعقد اجتماعات دورية تعلن فيها هذه التوجهات. أمام الفراغ السيـاسي الذي تركتهُ أجهزة النِظام ذات المركزية الشديدة، والوضع الأجتماعي والسيـاسي الصّعب، تعامل الحزبيين مع الحالة ببراجماتية شديدة وصارت تتنافس لكي تتوافق مع الحالة الموجودة، فذهبت لعقد صفقات مع التجمعات القبلية والشبه قبلية وتستفيد من شبكات الولاءات التي توفرها المحسوبية. وتتنافس على مصادر الاموال. أندلعت الحرب ألاهلية من 1994 وحتى1997 بضغط من الدول الاقليمية، وكان لِتدخلاتها المُباشرة ولمرات عديدة دليلٌ واضح لدورها الكبير في تلك الحرب المُدمرة. أما العوامل الداخلية المذكورة فلاتقل أهمية عن هذا العامل الخارجي.
التقَسيم وبِناءْ المُؤسسات
في سنة 1997 وبعد أن ثـُبِتَ حدودٍ مُعينة لكل حزب، دخلت تجربة كـُـردِستان مرحلة جديدة. وهيَّ مرحلة التقسيم وبناء المؤسسات. رغم ان التقسيم هو الحل الاكثر أثارة للاشمئزاز ، إلا إن منطق العلم السيـاسي يقيسُ حصّافة أي حل، وفِق مايمكن ان يقدمهُ هذا الحل، مِن خفض للتوترات القائمة والاستقرار السيـاسي، فعندما تفشل الحلول التوافقية. يكون التقسيم الذي يقلل التعددية، ويساعد على التجانس مقبول بدرجة كبيرة. المتُخصص بالشؤون الكُردية والعِرّاقْية( الاستاذ غاريث ستانسفيلد)[22] يُوردْ عِدَّة اسباب يجدها مُفيدة في عملية التقسيم هذا، فهذا التقسيم كان بِمثابة الردع لتِدخلات الدول الاقليمية، فهواجس الاخيرة باتت أخف، من أقليم مُقسم عنهُ مِن أقليم موّحد. والتقسيم عمل على خفض الاحتكاك والمُنافسة بين الحزبين. وقلل من حجج دول الاقليم للتدخل التي كانت تتوارى وراء دعوة هذا الطرف اوذاك للتدخل. مما عزز الاستقرار هو تَمَركُز كل حزب في مَعقلهِ، حيثُ يوجد غالبية مناصريهِ، وبالتالي تجانسٌ اكثر. في تلك الفترة وافق العرّاق على قرار النفط مُقابل الغِذاء986، وخُصِصَّ 13% من واردات النفط للاقليم مما ساعدَ على حل أهم العُقدّ بين الحزبين وهو المنافسة حول الموارد الاقتصادية. نتيجة للاستقرار هذا شَكلَ كل حزب حكومتهِ في منطقتهِ وبدءت في بناء مؤسساتها، بعد ان امتلكت استقلالية اقتصادية. تعزز الاستقرار اكثر بعد ان وقع الحزبيين اتفاقية واشنطن وباتت تحضى بدعم مباشر من الولايات المتحدة والتي تعهدت بحمايتها من التدخلات الاقليمية، وتم التعامل معها ككيـان سيـاسي من قبل الامم المتحدة، وفي كتابهِ حول كـُـردِستان يُصنف ستانسفيلد، هذا الكيـان، وفق النظريات التي تعُرّف الدولة. ويشير الى امتلاك الكيـان هذا لحكومة ومؤسسات واراض اقليمية تحكمها، ونوع من الاعتراف الضمني الدولي به، وصارت كما يسميها ستانسفيلد دولة الامر الواقع (de facto State). تعَزز الموقع الاستراتيجي لأقليم كـُـردِستان بعد أن أصبحت مركزاً، لِخطط واشنطن في إسقاط صدام قبل وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001. إلا إنَّ نِظام الادارتين هذا عزز نِظام حكم الحزب الواحد في كل ادارة. ونتيجة للمفاوضات المارثونية بين الحزبيين منذ سنة 1998 لحد سنة 2002 وضرورة تشكيل ائتلاف قوي بين اطراف المعارضة العِرّاقْية والولايات المتحدة، تم توحيدالبرلمان وبعض الوزارات. بعد حرب إسقاط صدام سنة 2003 ، دخلتْ التجربة في مرحلة جديدة، وهيَّ إعادة دمج الكيـان السيـاسي هذا بالعِرّاقْ الجديد وإعادة بناء الاخيرة، وكِتابة الدستور العِرّاقْي. في ظل هذه الاجواء أزدادت وتيرة توحيد الادارتين أكثر بعد ان أجُريت انتخابات نيـابية في العِرّاقْ والاقليم. خلال الفترة الممتدة منذ سنة 1997 ولحد اليوم يمكننا أن نشهد إنّ تطوراً ملحوظاً قد طَّرء على مُعظم المستويات لحالة المُجتمع الكردي في سنة 1991 التي اوردناها سابقاً. واهمها هو الاستقرار السيـاسي النسبي والانتعاش الاقتصادي الذي وفر اجواءاً جيدة لتنمية ثقافية وخدمية ومعيشية ، رائدة في المنطقة أوصلت أقليم كـُـردِستان لمستويات غير مسبوقة في تاريخها. فهناك أجيـال قد ولِدوا ونشؤا بين أحضان هذهِ التجربة، وعاشوا في بيئة لايعرفون فيها الانظمة القمعية ولاسيـاساتها، وتربوا في بىئة كـُـردِستانية بحتة، بايجابياتها وسلبياتها.
إنتخابات 25/07/2009
في هذهِ الأيـام تنشغل كـُـردِستان بعملية انتخابية، يقف فيهِ المواطن الكـُـردِستاني وقد عبَرَ كل هذه المراحل،متناولاً ايـاها بعينٍ نقدية، فاحصة. في سنة 1991 عبرت التجربة الكردية مرحلة الثورية، ودخلت تجربة الحكم المدني بائتلاف توافقي هش ومن ثمَّة تعثرت ودخلت مرحلة الاقتتال الداخلي وعندما ادركت أن الآخر لايمكن محيهُ، أنفصلت عنهُ وبدءت تتعايش معهُ ولو في سلام سلبي، وبعدها بدئت تقترب بخجل وحذر ولربما الان قد وصلت من النضوج مرحلة ، تجعلها تقبل بالآخر شريكاً ونداً. وهذا ماسنكتشفهُ في الانتخابات المُقبلة. المؤكد ان المَرّاحلية خلقت النضوج وكل مَرّحلة كان لها ضرورياتها ومتطلباتها وكذلك أيجابياتها وسلبياتها. وهذا يذكرنا بأستراتيجية كارل بوبر ( الهندسة الاجتماعية الجزئية) في حل المشاكل المُعقدة مراحليـاً. وتلمُس المسار خطوة بخطوة،والبحث عن اكثر المشكلات أهميةً. وترك إختلاف الآراء تجد افضل الحلول في جوٍ ديمقراطي، ثم نُقيّم ونقارن النتائج المتوقعة مع النتائج المتُحققة في الواقع، ونفرز الفرق بينهما والتي هيَّ السلبيات الحتمية لكل عملية أصلاحية انسانية. وهذا هو المنهج العلمي، يُقتبس من العلوم الطبيعية ويُطبق في العلوم الانسانية. ولو إننا اتبعنا هذا المنهج لربما تمكنا من ان نحدد بعض مُتغيرات التجربة الكـُـردِستانية. تاريخيـاً كانت تصرفات الحكومات العِرّاقْية المُتعاقبة في كـُـردِستان أسوء مِن تصرفات أي مُحتل في بلادٍ اجنبية، لذا كانت المشكلة الاكثر الحاحاً لدى التجربة الكردية هيَّ النظال من اجل التحرير فجائت الانتفاضة1991، ولكن النتائج التي كانت مرجوة من الانتفاضة لم تكن بمستوى التوقعات، لذا دخلت التجربة بعد فترة حكم بسيطة في حربٍ أهلية سنة 1994، ثم اصبح الاستقرار الامني والسيـاسي المشكلة الاكثر الحاحاً فجاءَ التقسيم سنة 1997 ، ثم صارَ الانتعاش الاقتصادي والخدمي اكثر الحاحاً فجاءَ بِناء المؤسسات والأعمار من بعد سنة 1997 . ثم أختل المُعادلة السيـاسية في المنطقة (سقوط صدام2003) فكان المشكلة الاكثر الحاحاً هو تثبىت الكيـان والتكيّف مع المرحلة، فوحِدّ الخِطاب و دخلت الأحزاب الكـُـردِستانية في ائتلاف واسع. ولكن كل مرحلة من هذه المراحل افرزت سلبيات وأعراض جانبية، تكفلت المراحل التي تلتها بازالة بعض منها والاحتفاظ بالاخُريات، والتي بتعاقب المراحل تراكمت. لقد افرزت المرحلة قبل الانتفاضة مستويات اجتماعية وسيـاسية وثقافية واقتصادية متُدنية بشكل مفزع وخطير أوردناهُ في بداية المقال(أنظر التركة)، اما المرحلة بعد الانتفاضة فلم ترفع تلك المستويات الا بعد سنة 1997، حين بدء الاستقرار السيـاسي النسبي يحقق بعض النجاحات الاقتصادية والثقافية. ولكن المرحلتين السابقتيين(1991-1997 و1997-2003) انجبتا حالة سلبية أخُرى وهيَّ إنتشار الحزبية في كل جسد النِظام السيـاسي والمدني الكـُـردِستاني بكافة مؤسساته وفعاليته وهذا كان نتيجة طبيعية لنِظام الحزب الواحد في كل ادارة. وهذا المولود الجديد كان يحمل في أحشائهِ فيروس الفساد . المرحلة اللاحقة (2003-2009) تكفلت بتسريع وتيرة الانتعاش الاقتصادي والخدمي، وبدئت بخلق ثقافة قومية لاباس بها، ونتيجة لذلك نما وعيٌ سيـاسي و شعبي،ونتيجة الائتلاف تحقق بعض المكاسب السيـاسية في بغداد. ولكنها في المقابل وقفت عاجزة عن تسارع انتشار سرطان الحزبية والفساد الاداري في جسد التجربة. يُذكر ان الانتقال المراحلي هذا كان نتيجة حتمية لتغير عوامل داخلية وخارجية. ولقد غاب- وإن وجِدَ كان ضعيفاً- أهم ركائز منهج بوبر خلال الانتقال المرحلي السابق، وهو ترك الرأي والرأي الآخر يجد افضل الحلول في جو ديمقراطي. لقد كان هناك دائماً هامش جيد لحُرية الصحافة، في كـُـردِستان، ولكن الاراء هذهِ لم تكتسب فاعلية ودينامية لانها لم تتشكل و تتكتل سيـاسيـاً ومدنيـاً، ولم تتبارى تحت قبة البرلمان او في المجتمع المدني. ولربما هذا ماستجلبهُ الانتخابات هذهِ. تغير الخارطة السيـاسية في برلمان كـُـردِستان وأكتمال مُجمل أقطاب العملية السيـاسية في وجود معارضة وحكومة، هو دليل على إن التجربة في المستوى الثاني لتصنيف فوكويـاما للانتقال الديمقراطي[23] اي في مستوى بناء مؤسسات المجتمع السيـاسي . وهذا ماسيقررهُ نتائج الانتخابات القادمة، و الدور الاساسي الذي ستلعبهُ الانتخابات كحَجَر الاساس لعملية البناء الوظيفي للمؤسسات هذهِ. في الوقت نفسه سوف يدل حجم المعارضة المتكونة بعد الانتخابات على فاعليّة الصراع التنافسي الديُمقراطي في البرلمان وبالتالي فاعليّة البرلمان نفسهُ والدور المرجوه منهُ. إنّ الانتخابات كمثل الانتفاضة في سنة 1991 ،وتقسيم كـُـردِستان في سنة 1997والائتلاف الحزبي سنة 2003 تُشكل مِفصل مرحلي، فكـُـردِستان بعد 25/07 سوف تدخل مرحلة جديدة تكون مُختلفة- على الاقل سيـاسيـاً -عن ماقبل هذا اليوم. كل السلبيات المُتراكمة من المراحل السابقة ،من إنتشار الهَيْمَنةَ الحزبية في كل المؤسسات التنفىذية والتشريعة والقضائية والفساد المرافق لهذا، وغيـاب المُجتمع المدني ، وحتى التحديات الخارجية للتجربة الكـُـردِستانية، تلتف اليوم حول الانتخابات هذه لترى مالذي يمكن تقدمهُ لهم. فهيَّ بذلك تتمركز تطلعات وتحديات التجربة داخليـاً وخارجيـاً. ولاشئ سِوى (الانتخابات هذه وحَجَر الزاويَّة)، يُمكنها أنْ تلعب كل هذهِ الادوار ( الأساسية ،الأستدلالية ،التمفصُلية والمركزية) في وقت واحد. ولكن هل الأنتقال الديمقراطي المرجو في أقليم كـُـردِستان ، يستند على أسُس واقعية ملموسة، أم أنها نزعة رومانطيقية تراود مُخيلة بعض المثقفين فقط؟
الانتقال نحو الديمُقرّاطية
لقد أوردنا في هذا المقال مراحل بناء وتعزيز الديمُقرّاطيَّة (انظر الهامش رقم2) حسب وجه نظر فوكويـاما، و لكن في مقاربة سيوسولوجية أخُرى يتناول فالح عبد الجبار هذه المسئلة بتفصيل اكثر [24] فهو يربط نشؤ الديمُقرّاطية في اوروبا وامريكا بالانتقال نحو المُجتمع الصناعي- الرأسمالي، وبوجود تراتبُية طبقية (طبقة أرسُتقراطية مالكة وطبقة وَسطية قوية، وعمال حضريون)،وفي شكل الدولة ومؤسساتها وتوازنها مع المجتمع المدني، واخيراً في توافق عملية الانتقال الديمقراطي مع عملية بناء الامة ام لا. وحسب مقاربتهِ ، فالصورة غير مشجعة لِفُرص دول العالم الثالث للانتقال الديمقراطي. نستخلص من بين خطوطها النقاط التالية التي لربما توافق الحالة في كـُـردِستان. اولاً: ان غالبية الرأسمالية الناشئة في العِرّاقْ و اقليم كـُـردِستان، يمكن تصنفيهُ على أنهُ رأسمالية المحسوبية (خليط من الطبقة الفاسدة من موظفي الدولة ورجال الاعمال) وهذا عامل سلبي. ثانيـاً: كمجتمع منتمي للثقافة السائدة للحالة العِرّاقية والمنطقة ، لمْ يستطيع المجتمع الكـُـردِستاني ،أن يَخلق تلك التراتبية هذا ناهيـك عن عدم وجود سلوك او وعي طبقي اصلاً، وهذا ايضاً عامل سلبي. ثالثاً: النِظام السيـاسي، يشهد تطور لاباس بهِ في بناء مؤسساتها على أسسٍ وظيفية ، ولربما الانتخابات هذهِ تعطيها زخم اكبر. إلا إنَّ المجتمع الكـُـردِستاني عاش فترة طويلة تحت ظل نِظام الحزب الواحد سواء من قبل الحكومات العِرّاقْية او تجربتها نفسها في التسعينيات، لذا من الصعب الكلام عن وجود مجتمع مدني، هذا بغض النظر، كونهُ أقوى أو متوازي أو أضعف من النِظام السيـاسي. رابعاً: لقد واجهنا صعوبة حين أردنا أن نصنف طبيعة الانقسامات الموجودة في كـُـردِستان التي خلق كل هذه التوترات، هل هيَّ ايدولوجية،لغوية، اقليمية، ثقافية، عرقية، او اثنية؟ وفي الحقيقة صعوبة التصنيف هذا، هو مؤشر أيجابي جداً ، بمعني أن هذهِ الانقسامات ليست انقسامات بنيوية أزلية، بل أنها أنقسامات عابرة، وهناك فرصة لتجاوزها، وتحقيق التجانس الاجتماعي والسيـاسي. بعكس الحالة العِرّاقْية مثلاً. خامساً: عُرِف الانسان الكردي بهواجسهِ مِن الآخر ، فكان دائماً صديقاً للجبل، يحتمي فيهِ. واليوم نسمع من القيـادة الكردية إن كـُـردِستان لديها حلفاء واصدقاء غير الجبل. ولكن هذا لمْ يُزلْ التوجس ابداً ولعبة الصفقات السيـاسية والتحالفات المؤقتة لم تعد تجدي. لربما لدى كـُـردِستان اليوم جبل اكثر شموخاً وصلابةً تحتمى فيهِ وتنتزع مِن خلفها إعتراف العالم بها، وهيَّ الديمُقرّاطية. يتفق آرنت ليبهارت[25] و فالح عبد الجبار[26] . "على إنّ كثير من النخب في العالم الثالث يولون مسئلة بناء الامة، أهمية أكبر من الديمُقرّاطية". ولكن الامم الحديثة بُنيت نتيجة أنظمة ديمُقراطية حديثة. فالديمُقرّاطية تخلق شبكة ولاءات جديدة، وثقافة قومية مدنية. فهيَّ تؤمن الاستقرار السيـاسي وتزيد من نسبة المشاركة والتمثيلية السيـاسية، وبالتالي تعُزز روح الإنتماء لهذهِ المنظومة السيـاسية الادارية، التي تتكفل نتيجة سيـاستها الحميدة بخلق ثقافة مدنية مشتركة هيَّ جوهر كل قومية. إذن التجانس الاجتماعي، والتوجه نحو بناء الامة في الحالة الكـُـردِستانية من العوامل المساعدة نحو الانتقال الديمقراطي. مما يُميز المجتمع الكـُـردِستاني انهُ وبالقارنة مع المحيط الاقليميي، نشهد تأثير اقل للدين على الحيـاة السيـاسية، في حين نلمس وبوضوح ان المجتمعات التركية والعِرّاقْية ومنذ عقود المجتمع الايراني أيضا ، قد عادوا لتبني الدين، كمُلهِم ومَنهج لِمعظم فلسفتهم وايدولوجىتهم وحتى مؤسساتهم السيـاسية، في خطوة تُذكر المراقب بعهود القرون الوسطى عندما غيُبَّ العقل من العمل السيـاسي. مِمَّ سَبقَ نَستخلِص: أنهُ لو حَقَقَتْ المُطالبات بالاصلاح ومحاربة الفساد، نجاحات، وتشكلت مؤسسات سيـاسية فعالة،عندها يمُكن أن نتحدث عن أهم مرحلتين تقترب التجربة الكـُـردِستانية من عبورهما خلال هذه العملية الانتقالية: اولهما : قبولها بالديمُقرّاطيَّة كنِظام ملائم للحكم، وهذا مانلحظه من سير العملية الانتخابية الحضارية، في كـُـردِستان. في مشاركة عِدَّة اطراف متنافسة، مختلفة، وتركيز كل طرف على البرنامج الانتخابي اكثر من تاريخه النظالي وهذا دليل على نمو وعي سيـاسي شعبي وحزبي بدأ يقبل الآخر ، ونمو طبقة من الناخبيين المُترددين الذين لايصوتون لاطراف بعينها دائماً، بل يقارنون بين هذا الطرف او ذاك. ثانيهما : إنّ بناء المؤسسات الديمُقرّاطيَّة للنِظام السيـاسي الكـُـردِستاني في طور الاكتمال والتطور.
[email protected]
الهوامش :
[1] حجر الزاویة مفهوم مقتبس من هندسة البناء، فعادة يشرع بالبناء بتحديد منسوب ارضية المنشا اولا، بحیث یکون الساف الاول فيه افقيا ومستويا قويا، ويساعد في نجاح الخطوة هذه مایعرف بحجر الزاویة Cornerstone . توضع الاخيرة في رکن الساف الاول لتکون بذلك الدليل والمرشد للاحجار الاخرى ومعظم عملية البناء لاحقا. وحتى في السفوف التالية تلعب احجار الزاوية هذه دورا مهما بامتدادها باتجاهي جزئي البناء المتلاقيين عند الارکان والزاويا الحرجة، لتامين قوة وثبات للمنشأ ککل. هناك مايعرف بحجرة المفتاح Keystone، التي تتوسط القبب والاقواس الحجرية يطلق عليها احيانا حجر الزاوية ايضا. ان الدور التي تلعبهما تلك الحجرتين في کونهما في الاولى: اساسية واستدلالية للتي تليها، ومفصلية لربط الاجزاء احداها بالاخرى. وفي الثانية: مرکزية ومحورية ، کانت لها جاذيیة لدی المنشغلين بتفسير الظاهرتين السياسية والاجتماعية ، فغالباً ما يتم اقتباس هذا المصطلح کاسلوب تشبيه بلاغي، لوصف امور واحداث تشترك بنفس الدور مع حجر الزاوية. بقی ان نقول: بان وضع حجر الزاوية ارتبط منذ القدم بطقوس معينة، جذور هذا التقليد غامضة، ولكن تعتبر من مكونات البنية الثقافية الغربية، ونشؤها کانت من البلدان المسيحية.
[2] يضع فرانسيس فوکوياما اربعة مستويات يجب علي الشعوب المتطلعة نحو الديمقراطية تجاوزها، لکي تتعزز الديمقراطية لديها، المستوى الاول هو قناعة وايمان هذا الشعب بالنظام الديمقراطي کنظام ملائم ومقبول. والمستوى الثاني هو بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية اي التقسيم الوظيفي-المؤسساتي للنظام السياسي، والمستوى الثالث هو نشوء المجتمع المدني والترکيبات الاجتماعية التي تملء الفراغ بين الدولة والفرد ومن ثمة المستوى الرابع والاخير هو تغير الثقافة السياسية اي تغيرات مفاهيمية عميقة في بنية العائلة والديانة والقيم الاخلاقية والشعور الاثني والمواطنة والاعراف والتقاليد. المفارقة ان الکثيرين يتجاوزون المستوين الاول والثاني ولکنهم يفشلون في تجاوز المستوىين الاخيرين، فبالانتقال من المستوى الاول الى الرابع تاخذ العملية بالتباطؤ تدريجيا فهذين المستوين کما يفسرهما فوکوياما تکونان خارج قدرات الهندسة الاجتماعية. للمزيد انظر: Francis Fukuyama “The Primary of Culture“.
[3] تورد المصادر التاريخية اسباب عديدة اکثرها موضوعية وبعضها ذاتية: منها ظهور الاتاتورکيون ودروهم في اعادة توحيد ترکيا. وايضا التزامات بريطانيا امام الدولة العراقية الناشئة والملك فيصل في ادامة مملکته الهشة جغرافيا واجتماعيا واقتصاديا، اولها: حماية سهول العراق المنبسطة وحدوده المفتوحة بجبال کردستان الفاصلة بين العراق العربي وترکيا . وثانيهما: هو الموازنة الطائفية بين السنة والشيعة بضم اعداد من الکرد المحسوبين على السنة الى العراق العربي لکي تخفف من هواجس فيصل الطائفية. وثالثها: مزارع القمح والمنتوجات الزراعية الکردستانية ونفط بابا کرکر. الا ان تشتت الجهود السياسية الکردية بين اکثر من قيادة واتجاه ومحددات الحرکة الاجتماعية والثقافية وتقليديتها في تلك الفترة کان لها دور کبير ايضا. يذکر ان رجحان فکرة ضم ولاية موصل للعراق بدل استقلالها، في دوائر صنع القرار السياسي البريطاني ، يرجع بالمرتبة الاولة لرئي بعض موظفي الدولة الکولونيالية في بغداد، ومن اهمهم السير بيرسي کوکس، والسير ارنولد ويلسون. بالتعارض حتي مع تشرتشل نفسه،للمزيد انظر:
• الحرکة الکردية المعاصرة، دراسة تأريخية وثائقية (عثمان علي)، الفصل الثاني عشر ص485. • تاريخ الاکراد الحديث(ديفيد ماکدويل)، الکتاب الثاني. الفصل السابع ص193.
[4] تم ضم ولاية موصل للعراق بعد اتفاق بريطانيا وترکيا في 5 يونية 1926 على قرار عصبة الامم، اي بعد اکثر من خمسة سنين على تشکيل العراق.
[5] للمزید انظر: الکرد و"آخروهم" هوية متشظية.. وسياسة متشظية(الاستاذ عباس ولي). يأتي ضمن کتاب(الاثنية والدولة، لفالح عبدالجبار وهشام داوود).
[6] المصدر رقم5 . [7] للمزید حول مفهوم اللاوعي الجمعي انظر: اللاوعي الجمعي واثره في الذاکرة الشعبیة وانماط السلوك( رؤوف سعید الحناوي).
[8] للمزید انظر بحث دیفید هالیداي بعنوان( هل نستطیع ان نکتب تاریخا حداثیا للحرکة القومیة الکردیة؟). يأتي ضمن کتاب(الاثنية والدولة، لفالح عبدالجبار وهشام داوود). [9] حول العنف المرافق للثورة في العراق انظر: تاریخ العنف الدموی في العراق( باقر یاسین). الفصل الثامن (العنف الدموي في القرن العشرین).ص267. حول میراث الغضب والبغض والشرعیة الثوریة في کردستان انظر: مقالة الکاتب الکردي بختیار علي: (هەڵهاتن لە بۆشایی- الهروب من الفراغ).
[10] للمزید حول الهندسة الجزئیه والمجتمع المفتوح انظر: Karl Popper: Die offene Gesellschaft und ihre Feinde (Band 1( und (Band 2( . المجتمع المفتوح واعدائه بجزئیه الاول والثاني (کارل بوبر).
[11] للمزید انظر: اللغة الثقافیة في تکوین الهویة الکردیة (جویس بلاو) یأتي ضمن کتاب(الاثنیة والدولة، لفالح عبدالجبار وهشام داوود). [12] وحول توحید اللغة الکردیة انظر: (ئاسایشي نهتوهی و پلانی زمان- الامن القومي وخطة اللغة) للدکتور قیس کاکل توفیق.
[13] للمزيد انظر: الاکراد وبناء الامة (مارتن فان بروينسن). ص38. للمزید حول ملخص لمجمل النظريات الموجودة حول القومية انظر بحث اعده الکاتب الکردي (مريوان وريا قانع): (نهتهوه و ناسيونالزم- الامة والحرکة القومية). منشورة في مجلة رهههند.
[14]للمزید انظر: القومية العربية بأزاء القومیة الکردية، تأملات في التماثلات والتباينات البنيویة.( فالح عبد الجبار).
[15] للمزيد انظر: التمدن والخصخصةوالمحسوبية: الاقتصاد السياسي لکردستان العراق(ميخائيل ليزنبرغ).
[16] للمزید انظر: عراق المستقبل: دکتاتورية، ديمقراطية ام تقسيم؟(ليام اندرسن، غاريث ستانسفيلد).ص161
[17] للمزید انظر: تاریخ الاکراد الحدیث(دیفید ماکدویل).ص479
[18] للمزید انظر المصدر رقم5
[19] للمزید انظر: الدیمقراطیة التوافقیة في مجتمع متعدد (آرنت لیبهارت).ص11
[20] المصدر نفسه. ص15 . [21] للمزید انظر: المصدر نفسه. ص90
[22] للمزید انظر: Iraqi Kurdistan- Political development and emergent democracy by Gareth R. V. Stansfield. کردستان العراق، التطور السياسي والديمقراطية الناشئة( غاريث ستانسفيلد).
[23] انظر الهامش رقم 2.
[24] للمزید انظر: الدیمقراطیة مقارىة سوسيولوجية تاريخية( فالح عبد الجبار).ص 31.
[25] المصدر رقم 19 ص.33
[26] المصدر رقم24ص35.
#آکو_کرکوکي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عودة البعث الى جمهورية البُدّعْ
-
جَرّائِمْ وبَرّاعِمْ - بإقتباس مِنْ کُراس مُذکراتي
المزيد.....
-
العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب
...
-
ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا
...
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م
...
-
كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح
...
-
باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا
...
-
شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
-
أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو
...
-
زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
-
مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد
المزيد.....
|