غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2712 - 2009 / 7 / 19 - 10:18
المحور:
الادب والفن
الشاعرة هناء القاضي والروائي غريب عسقلاني في نص مشترك
حكاية الليلة الثانية بعد الألف..
.. قد جاء في الأثر
أنه في الليلة الثانية بعد الألف, أودعت شهرزاد حكاياتها في صندوق الزمردة الزرقاء, وألقتْ بها في ماء الفرات.. وحدثت نفسها:
- الليلة نعيشُ الحكاية يا مليكي
وتزينت بأبهى زينة, وتطيبتْ بأغلى طيب, وأمرت بإعداد فراش من ريش النعام على سطح بركة الزئبق, واصطفت الجواري على جانبي بساط أبيض يصل ما بين الفراش وحافة البركة ليسير عليه الملك.. وانتظرت تحاور نجوم السماء.. حتى إذا كان منتصف الليل, رأت وجهه مطبوعا على سطح القمر, فاطمأنت للرؤيا..
جاء الملك.. قال:
- ماذا في جعبة الأميرة هذه الليلة يا ترى..؟
ضحكت عن دلال الواثقة, وأشارت إلى السماء.. وهمست عاشقة راغبة:
- انظر, أنتَ هناك..!!
نظر الملك فرأى وجهها مطبوعا على وجه القمر.. قال:
- أنتِ هناك على وجه القمر.. !!
وقيل : إنه غفي على صدرها, وأنها غفت على صدره.. وأنه بين الغفوة والصحو حدث الذي صار..
قال جدنا الأول:
- يا أولادي:
احذروا صفو الليالي, فعند صفو الليالي يحدث القدر..
***
والذي حدث, سارت به الركبان, واختلفت فيه الرواياتُ.. ومرت السنون وصارت قرونا, وبهت ما بهت من الروايات, وبقيت رواية تواترها الخلق جيلا بعد جيل.. وكان الخلاف عليها حول بعض التفاصيل, ما جعل دحض الرواية يحتاج إلى دليل, أو حُسن تأويل..
وفي الحكاية, أنّ طائر الرخ استغل الغفوة وحملهما على ظهره, وطار بهما دهورا وقرونا, وهبط في بيداء فأنزل الملك عن ظهره.. وطار مسافات ومسافات, هبط في بيداء وترك الأميرة هناك وطار..
وقيل :إنّ المسافة بينهما صارت مرجومة بالعطش والغربة
من شدو الأميرة
وتناقل الركبان, وتجار القوافل الذين يجوبون الأرض, غناء كلما وصلوا إلى ديار يجدون العشاق يرددونه.. وقيل فيه : إنه بوحُ عاشقة غربتها الأحوال عن المكان..
وجهكَ القادم من خلف السكون
المتسلل..
من خلف النسيان
يحادثني.., يمازحني.. يطاردني
في كل.. مكان
يُشعلني .. وجداً
.....
ما بين اللهب.. والدخان..
.....
تهاجر النوارس والقوارب
للشطآن..
بالفيروز يتلوّن البحر
وتزدادُ السماء سحرا
تصير الرمال...
بلون الحناء
ويذوب الجليد الأبيض..
على الأغصان
أحبكَ...
.....
لا أعرفُ سوى
أن في عينيكَ لحناً.. قديم
بقِدم ِ الزمان..
قال جدنا أول:
- يا أحفادي:
إذا ضاقت الأرضُ بكم, اذهبوا إلى الحلم, واصنعوا من الحلم حياة, فيه تتسع الرؤيا وإن ضاقت العبارة, فالعبارة وردة القلب في بستان الروح..
وقد جاء في الأثر:
ويدللون على ذلك بوجود ال.. أنهما ما زالا غريبين, يلتقيان في الحلم, تنأى بهما المسافات.. وأن الغيرة تقتلها, وأن الحيرة تلازمه مثل جلدة.. وأنهما يقتاتان على العطش..
واختلفت الروايات في مصير الأمير..
قيل : إنّ الرخ رماه على صخرة لها رأس مسنون, فأشقق صدره وتعرى كبده لجوارح الطيور, وأنّ بوما استغل العتمة فنهش قلبه, وأنّ حمامة سكنت كهف القلب ورقدت على بيضها, حتى إذا انتصف الشهر العربي, وتدوّر القمرُ بدرا فقس البيض عن أفراخ زاجلة تحفظ الدروب إلى المنافي..
وفي رواية ثانية قيل :إنّ ثلة من قطاع الطرق خرجوا عليه في ثياب أمراء وأعطوه الأمان, فكشف لهم عن حاله, وحدثهم بما جرى له مع الرخ, فحاكموه وأقاموا عليه الحد بتهمة البحث عن اليقين..
وقيل.. وقيل, لكنّ أحداً لم يقطعْ بموته.. أما الرواة فقد توزعوا إلى فريقين, فريقٌ ينحازُ إلى اليقين بعدم موت الأمير, حب والوفاء إلى يوم الدين..
وفريقٌ ينحاز إلى ضرورة الشك لأنه لا وجود لليقين, ويقررون موت الأمير ويعتبرونه حكاية من حكايات الغابرين..
***
.. وينشغلُ الناسُ هذه الأيام بامرأة لاذت بالبتراء هربا من جور ذوي القربى, ويقال أنها أميرة أو من نسل أمير, رجفت نحوها قلوبُ العاشقين فساروا على خطاها, وصاروا جماعة لهم روايتهم عن الأمير, يتجمعون في الساحات وعلى قمم الروابي ليلة منتصف كل شهر عربي, ويرحلون بأنظارهم إلى السماء يتأملون رحلة القمر يوم اكتماله بدرا مدورا.. ويبكون فرحا, فيهطلُ دمعهم مطرا لطيفا يطلقون عليه غيث القلب, ويقال أنهم يرون وجه الأمير مرسوما على وجه القمر, فيغرقون في الوجد ويطيرون الحمام الزاجل إلى أركان الدنيا..
من شدو الأميرة
قالَ لي العرّاف
في خطوط يديكِ
أقرأ.. اليقين
كوني من.. تكونين
وأمضي.. حيث تمضين
فقد عَبرتِ.. أول بوابةٍ
في الغابرين
ما كان.. كان..
إلاّ حُبكِِ
سيبقى.. كدراً
طول السنين
لن تمتلكي ..في عصورك
داراً
وستسكنينَ.. قصورَ الآخرين
سيذكرك ِ التاريخُ
أميرةً
وأنتِ ترفرفين ألماً..
وتنزفين..
***
.. وفي ذات فجر, وقبل أنْ تأخذها الغفوة إلى النوم, طارت من صدرها حمامة بيضاء انطلقت صعدا نحو السماء.. نشرت الحمامة جناحيها فصارت بلون زرقة السماء, أو زرقة البحر.. لهجت المرأة في سرها
"هل هي الحمامة أم روح ملاك.؟"
وأخذت تترنمُ لا تدري إن كان فرحاً أم نواح..
صوبكَ سارت قوافلُ الروح..
لم.. .!!
رفرفتَ كاليمام.. في ظنّي..
.. هل كانت حمامة صدرها رسالة, أم كانت إشارة.. لاذت المرأة بالبتراء في رأس الجبل.. كانت البتراء تعتلي العرش تمارس بهاء الخالدين من نسل الملوك الراحلين الحاضرين.. أخذتها إلى صدرها, همست لها بحنان العاشقات العارفات أسرار القلوب:
- هل أتاكِ في الغفوة..؟
- لم يفارقني طيفه منذ الغفوة الأولى يا مليكتي.. لكنه الوجد أخذني فبكيت و..
تذكرتُ أنّا كنا نجمتين
تذكرتُ أنّا كنا سروتين
.. نهدي الهوى من الورد تيجانا
فكيف استحلنا.. سرابا
وكيف أمسى ذاك الوجدُ..دخانا ؟
وكيف دار بنا الزمان..و كلٌ
صار في مكان ؟
واجتهد المريدون في تأويل الإشارة وفك مضمون العبارة..
قالوا: إنّ الأمير في الغيبة وإن طالت ...يعود..
وقالوا: الحمامة زاجلة الروح بعد أنْ راح الجسد..
وقال جدنا الأول:
- يا أحفاد أحفادي:
الحذر.. الحذر من خلط الأمور..
الجسم دار عبور وفناء..
والروح دار خلود وبقاء
والله محبة مزروعة في كل القلوب..
الحذر.. الحذر
وقد جاء في الأثر
أنّ غيبة الأمير طالت, وأن أخباره انقطعت, وأن الأحوال في دنيا الله اضطربت, وأنّ الغيوم غيرت مواعيدها, وصارت تتكاثف في قبة السماء ليلة منصف الشهر العربي, وتحجب القمر, وتقتل ضوءه, وأنّ المرأة سكنتها رجفة الخوف والوحشة, وأدركها صقيعُ تسرّب إلى شغاف القلب منها, فهربت عارية كما الحقيقة, من الفجيعة إلى الرؤيا وترنمت بما آلت إليه أحوالها..
حين ينامُ من حولي الضجيجُ
يصحو حبك
يلهو في مساحات روحي
ويركض في شراييني
مثل فراشات الليل..
وتراءى لها سربُ فراش, يخرج من قلبها يمتطي أنفاسها ويطير صعدا يخترق مخمل العتمة, ويفتح طاقة إلى السماء يظهر منها القمر..
حزينا كان القمر..
وحملت الرؤيا أنّ أميرة الفراشات دارت حول الأمير فراحت تغني:
أتجهد باسمك آناء الليل
ويصيرُ حبك في منفاي
عبادة..
.. إنه ذات فجر, انشقّ الغيمُ عن برق ورعد بدون مطر, فأدركت المرأة أنه الجفاف, فلاذت به.. منه..
هل أخبرتك الكواكبُ
عن امرأة تحملُ شذاك
بين ثنايا ظلها
تسللت..
من خلف الضجر
وراحت.. صوب البحر
حدائقُ اشتياقها.. غاصت بالطحالب
تترقبُ.. صفيرَ المراكب
لتلقاكَ.. في الموعدِ المنتظر.
وقد جاء في الأثر
عن جدنا الأول أنه هبط من الغيم على صورة هالة من ضوء تشع بالألق, وأن من أكمامه خرجت أسراب عصافير ملونة, هبطت على الأرض فرادى لم يجمعها جامع, فارتجت الأرض فطارت العصافير نحو قبة السماء, وانتظمت في سبعة أسراب وتلونت من جديد, وصارت قوس قزح تقف على رأسه حمامة بيضاء بلون الفجر.. وسكنت الهالة معلقة بين السماء والأرض.. فتسمر العشاقُ والمريدون, كل في مكانه خاشعون, حتى خرج على الدنيا نداء بسبعة أصوات.. قيل أنها صدرت من سبع سموات طباق:
" لا تغادروا الحلم حتى تفهموا الإشارة.."
فهلل العشاق والمريدون, واصطفوا في سبعة صفوف متوازيات منحنيات, وقفت المرأة على رأس الصفوف بثوب أبيض, خرج من صدرها حمامة بيضاء طارت نحو الهالة, واخترقتها.. صعدا إلى السماء واخترقت الغيمة إلى ما بعد المرئي من الأشياء..
من شدو الأميرة
وقيل :إنّ المرأة ما زالت تعيش الحلم خياراً, وتتهيأ للحضور منذ أنْ يتخلق القمر, تتزين بأجمل زينة وتطيب بأغلى طيب عندما تنشق عتمة آخر الشهر وينبلج ضوء أول الشهر الجديد, ويظهر القمر شريحة ضوء خجول, يسبقها قلبها إلى رجل يسكنها, وتستحلب ريقا من شوق ورغبة وتهتف..
ليكن حديثك طويلا..بغير انقطاع
علّ ضياعي فيك.. يصلُ نهايةً
وأيقنُ أنك محالٌ
وأن دروبنا.. بغير التقاء
أما إذا انتصف الشهر, وتدور القمر برتقالة مرسوم عليها وجه الأمير, يأخذها الحضور, وتطير على رجفة جناح قلبها..
لأن حضوركَ رائعٌ..وممتعٌ..بطعم قهوة الصباح
ولأن الكون يُصبحُ ..فردوسا
حين يضحك وجهكَ لي.. في الأقداح
ولأنك تمرُ.. كاليمام
فتهدأ الأعاصير والبحار
وتعجُ برودةٌ لذيذةٌ في الرياح
ولأني أحاكيكَ كل يوم
في يقظتي ومنامي
في المساء .. وفي الصباح
أصدرَ المنفى بحقي..
أحكاماً عرفية!!
أمروني أن أغلقَ.. نوافذ قلبي
وألاّ أراكَ..في أحلامي !
.. وتمضي الأيام وتدور, ويكتهل الشهر القمري, وتزحف عند نهايته العتمة الموحشة.. فتسقط المرأة في بحر الهموم وتتلاطم من حولها أمواج الوحشة والخوف, وشهقات الموت..
مركبتي تتأرجحُ ساكنةً في البحر
ومعجزتي.. ليس لها وجودٌ إلا
..في كتب السحر
فتلوذ بالجبل, وتقف بين يدي البتراء الملكة, تبثها أحوالها من فرح ووجع.. ولسان حالها يقول:
حين تراكضت دوائر الماء..
نحو مرافئكَ
ونادتني الريح لأودعَ شواطئك
أيقنتُ أن ليلي سيكون موحشاً...وطويل
أطفأتُ ما تبقى من شموع
كالمخنوقِ .
أطلقتُ شهقا
***
.. ما يحير علماء ثورة الاتصالات هذه الأيام, ومنظري نظريات العولمة هو طريقة التواصل, بين امرأة لاذت بديار البتراء تنتظر الأمير حتى يعود, بعد أن شفروا قنوات الاتصال بينهما, ووضعوها تحت رقابة صارمة على مدار الساعة, وشكلوا طواقم تضمّ علماء من كافة تخصصات المعرفة بدءا من العناية بالأطفال الخدج وانتهاء بأمراض رؤساء كبار الدول, مرورا بكافة العلوم, ولم يتمكنوا من معرفة كيف يقطع الأمير الصحاري ويشق البحار, ويركب متون الرياح وينتقل من بيداء إلى بيداء في الطريق إلى الأميرة,
وفي يوم بثت المرأة همومها ونجواها للبتراء الملكة, فأخذتها الملكة إلى صدرها, وربتت على ظهرها ومسحت دمعة سالت على صفحة خدها وهمست:
- تجزعي لن يتمكنوا منة يا صغيرتي, لأنهم لا يؤمنون بالحلم زاجل القلوب ولا يعرفون الأمل.. ولن يكونوا يوما على قوائم الخلود..
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟