أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أحمد إبراهيم أحمد - ابن الريوندي.. الروح الحائر















المزيد.....


ابن الريوندي.. الروح الحائر


أحمد إبراهيم أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 2706 - 2009 / 7 / 13 - 03:23
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ظهرت الزندقة ظهوراً غامضاً في التاريخ الإسلامي، ولم يسلط عليها المؤرخون ضوءاً كافياً رغم انتشارها زمن الخلافة العباسية، فقد تواجد الزنادقة في بغداد وحلب ومكة والبصرة والكوفة، وأرجع عدد من الباحثين هذا الظهور لنمو الحركة الشعوبية، وانتقال المؤثرات الثقافية للشعوب غير العربية، وعقائد غير المسلمين إلى الثقافة الإسلامية، وأشهر ما اتهم به الزنادقة ترك الفرائض كالصوم والصلاة والحج، وادعائهم أنهم قادرين أن يكتبوا نصوصاً أحسن من القرآن، وتعرض الزنادقة لمواجهة شرسة في خلافة أبي عبد الله محمد المهدي.
وتتحدث كتب تاريخية محدودة عن الزندقة والزنادقة، من بينها كتب تراثية مثل (كتاب الفهرست- كتاب الأغاني -كتاب مروج الذهب) وكتب حديثة من أشهرها (من تاريخ الإلحاد في الإسلام- شخصيات قلقة في الإسلام) من تأليف عبد الرحمن بدوي، التي صدرت في النصف الثاني من القرن العشرين.
وعُرِفَ ابن الرِّيوَندي أو ابن الراوندي كأبرز زنادقة التاريخ الإسلامي القديم، واعتبر واحداً من أهم دعاة الفكر اللا ديني في نصف القرن الثالث الهجري الأول خلال العصر العباسي، واشتهر كزنديق ملحد ذو شخصية جريئة مثيرة، وأحد الشخصيات العلمية البارزة في التاريخين العربي والإسلامي، فقد كان ذو جرأة بالغة على عقيدة الإسلام مُشككاً فيها، مُنكراً للنبوة، يدعي أن الوحي والنبوة لا ضرورة لهما، ونفي وجود الخالق، وبلغت شهرته حداً دفع مفكري وكتاب عصره للتباري في الرد عليه، ونقض كتاباته، وكانت له مجالس ومناظرات مع علماء الكلام، وله وجهات نظر في المذاهب ذكرها علماء الكلام ونسبوها له في ما تركوا من تراث.
قيل أنه كان يمشي في شوارع بغداد مجاهراً بإلحاده، ولم يتعرض له أحد بسوء، ولم يتعرض لاضطهاد رسمي أو شعبي، واكتفى فقهاء عصره بالرد على آرائه المعلنة رغم أنه خلال رحلته الفكرية الشاقة انتقد الشريعة الإسلامية، وعقيدة التوحيد، ويوم المعاد، وناقش مسألة العدل، والفرائض، وأزلية الوجود، وصفات الله، حتى ألحد تماماً وأنكر وجود الله والدين، ونفى معجزات النبوة.
اسمه الحقيقي أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي (الرِّيوَندي ) واشتهر باسم ابن الراوندي نسبة إلى قرية راوند البلدة التي ولد بها (بفتح الراء والواو وبينهما ألف وسكون النون وبعدها دال مهملة) وهي إحدى قرى قاسان (بالسين المهملة) من نواحي أصفهان بإيران.
ولد عام 205هـ الموافق 820م واختُلِفَ في تحديد منيته، فقيل أنه توفي ولم يجاوز الأربعين في عام 245هـ الموافق 859م وقيل مات عن عمر ناهز الثمانين سنة، وقيل أن الوزير المهلَّبي طلبه فهرب منه، ومات في الاستتار، وذكر أبو علي الجبائي أن السلطان طلب ابن الراوندي وأبا عيسى الوراق "فحُبس أبا عيسى حتى مات، أمّا ابن الراوندي فهرب إلى ابن لاوي الهروي، ووضع له كتاب (الدامغ) في الطعن على محمد  وعلى القرآن، ثم لم يلبث إلاّ أياماً يسيرة حتى مرض ومات، وذُكر أن وفاته كانت برحبة مالك بن طوق التغلبي." وقيل ببغداد .
مر ابن الراوندي بمراحل عقائدية متباينة، إذ بدأ تعليمه التقليدي في مدرسة إسلامية بقريته (راوند) درس فيها العلوم الشرعية السائد تعليمها، ويقال أنه كان طالباً مجداً، ثم انتقل من قريته إلى مدينة (الري) ليلتحق بمدرسة حظي فيها بإعجاب أساتذته، إلا أننا لا نعرف شيئاً عن هؤلاء الأساتذة ولا الدروس التي تلقاها، ويقال أن إقامته في (الري) كانت قصيرة للغاية، و يصفه من كتبوا عن هذه الفترة من حياته بأنه كان طيب السيرة، نقي السريرة، يراعي الآداب السائدة، محافظاً على الفرائض، يحترم السنن المرعية، وألف خلال هذه الفترة كتابه الأول (الابتداء والإعادة) وكتابه الثاني (الأسماء والأحكام) اللذان يؤكدان إيمانه وانتمائه العقائدي للإسلام خلال هذه المرحلة من حياته.
انتقل ابن الراوندي في شبابه من (الري) إلى بغداد العاصمة السياسية والفكرية والثقافية للخلافة العباسية، وعمل ببغداد وراقاً ينسخ الكتب؛ فساعدته مهنته تلك على الاطلاع، وساهمت في سعة ثقافته، وصار مُعتزلياً في صدر شبابه حتى أصبح واحداً من أعلام معتزلة القرن الثالث الهجري، ودافع عن آرائهم وفلسفتهم، لكنه انشق عليهم وانفصل عنهم، وأخذ يفند آراءهم ومناهجهم ويرد عليها، وانتقدهم في كتابه (فضيحة المعتزلة) رداً على كتاب الجاحظ (فضيلة المعتزلة) (ذكره ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان) وقد وضع الخياط كتاب (الانتصار) رداً على كتابه هذا.
انحاز ابن الراوندي بعد ذلك للشيعة لفترة قصيرة، وألف خلال هذه الفترة كتاب (الإمامة) (ذكره الخياط وابن المرتضى) وطعن فيه على المهاجرين والأنصار اختيارهم أبي بكر  خليفة لرسول الله  وقال "أن النبي محمد  استخلف عليهم رجلاً بعينه (يعني علي بن أبي طالب ) وأمرهم أن يقدموه، ولا يتقدموا عليه، وأن يطيعوه ولا يعصوه، فأجمعوا جميعاً إلا نفراً يسيراً، خمسة أو ستة، على أن يزيلوا ذلك الرجل عن الموضع الذي وضعه فيه رسول الله  استخفافاً منهم بأمر الرسول  وعصياناً له" إلا أنه انقلب على الشيعة، وقطع علاقته بهم.
جاء لقاء الراوندي بالملحد البغدادي أبي عيسى الوراق ليكون حجر زاوية قلقه الفكري، وليحوله إلى أحد أشهر ملاحدة التاريخ، وقال خصوم أبي عيسى الوراق عنه أنه كان شيعياً رافضياً؛ إلا أن الخياط (كان مُعتزلياً) يقول أن الوراق كان معتزلياً في البدء، لكن المعتزلة طردوه لأفكاره المانويةً إذ كان يقول بمبدأي النور والظلمة، ويعتقد في خلود الأجسام .
بدأ ابن الراوندي بعد لقاءه بأبي عيسى الوراق رحلة شك قاسية، تتلمذ خلالها على اثنين من أهم أساتذة الزندقة (ابن طالوت ونعمان) كما تعرف وتتلمذ على الزنديق (أبو شاكر) الذي كان مُتشيعاً قبل أن يُلحد.
وصف الراوندي بأنه كان حاداً جاداً في جدله جاء عنه أنه قال:
"ما التصدي للحراب والقضاب ومبارزة الأبطال بأصعب من التصدي للجواب لمن أمك بالسؤال." وقال: "تحت كل لم أسد ملم."
ويقال أن ابن الراوندي اجتمع بأبي علي الجبائي على جسر بغداد، فقال ابن الراوندي:
"يا أبا علي أما تسمع مني معارضتي للقرآن وتقضي له؟"
فقال أبو علي:
"أنا أعرف بمجاري علومك، وعلوم أهل دهرك، ولكن أحاكمك إلى نفسك، فهل تجد في معارضتك له عذوبةً وهشاشة وتشاكلاً وتلازماً ونظماً كنظمه وحلاوة كحلاوته؟"
فرد ابن الراوندي قائلاً:
"لا والله."
فرد أبو علي:
"قد كفيتني، فانصرف حيث شئت."
وكتب ابن الجوزي في زندقة ابن الراوندي أكثر من ثلاث ورقات، وقال الجبائي:
"وضع كتاباً للنصارى على المسلمين في إبطال نبوة محمد  ونسبه إلى الكذب، وشتمه وطعن في القرآن الذي جاء به."
ويمكن فهم فكر ابن الرواندي من خلال النزعة المادية التي تبناها وموقفه من النبوة، فهو يرى أن الفكر الإنساني مستمر في التقدم إلى الأمام دوماً سواء قبل أو بعد الرسالة النبوية، ويرى أن هذا الفكر الإنساني يحقق بالقدرات العقلية للبشر إنجازات تراكمية بمرور الزمن حتى لو واجه فترات انحطاط، فالمحصلة النهائية هي التقدم والتطور.
و يلتقي ابن الرواندي في نزعته الإنسانية التي تبناها مع أفكار جابر بن حيان، وكافة المذاهب الغنوصية، والمذاهب المستورة، وأفكار التنوير التي ترى الحياة تمضي قدماً للأمام وتتطور بغض النظر عن قربها من الرسل أو ابتعادها عن الأنبياء رضي الله عنهم أجمعين.
ويقف هذا الفكر موقفاً معاكساً للفكر السلفي السني الذي يرى في العصر النبوي أرقى العصور الذهبية وأعظمها، وأن ما يليه من عصور، ينحدر تدريجياً كلما بعدت الشقة عن العصر النبوي، إذ يزداد تراجع العلم والقيم بالابتعاد عن هذا العصر.
تصدى لأفكار ابن الراوندي كثرة من معاصريه وممن جاء بعدهم من رجال الدين؛ مما يدل على أهمية وخطورة أفكاره، وممن رد عليه أبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي أحد شيوخ الشيعة الذي رد على كتاب (التاج) وألف الجبائي المعتزلي خمسة كتب للرد على ابن الراوندي وكتبه (الزمرد) الذي يحتج فيه على الرسل وإبطال الرسالة و(الدامغ) الذي يطعن فيه على نظم القرآن وكتاب (التاج) وكرس (الخياط - معاصر الجبائي) أيضاً جهوده لنقض كتب الراوندي، فكتب كتابه (الانتصار) نقداً لكتاب (فضيحة المعتزلة) كما نقد أيضا كتب (القضيب) الذي قال فيه الراوندي أن علم الله تعالى بالأشياء محدث، وأنه كان غير عالم حتى خلق خلقه، وأحدث لنفسه علماً، وكتاب (عبث، أو نعت الحكمة) الذي يسفّه فيه الله  في تكليف خلقه ما لا يطيقون من أمره ونهيه وكتابي (الزمرد-الدامغ) وهاجم الزبيري المعتزلي أربعة من كتب الراوندي، كما رد أبو الحسن الأشعري مؤسس الفرقة الأشعرية على ابن الراوندي في كتب كثيرة، وغيرهم كثير.
لم يكن كل من رد على ابن الراوندي على نفس القدر من الكفاءة العلمية والعقلية، فهناك من تناوله بالهجوم في شخصه ولم يتعرض لفكره، قال القاضي أبو علي التنوخي (المحسن بن علي بن محمد ابن أبي داود التنوخي البصري أبو علي) :
"كان أبو الحسين ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد فإذا عوتب في ذلك قال: إنما أريد أعرف مذاهبهم، ثم إنه كاشف وناظر، ويقال أن أباه كان يهودياً فأسلم، وكان حُبر اليهود يقول للمسلمين: "لا يفسدنّ عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا." ويقال إن أبا الحسين قال لليهود: "قولوا إن موسى قال لا نبيّ بعدي."
وذكر أبو العباس أحمد ابن أبي أحمد الطبري أن ابن الراوندي كان لا يستقر على مذهب، ولا يثبت على انتحال حتى ينتقل حالاً بعد حالٍ حتى صنف لليهود كتاب (البصيرة) رداً على الإسلام لأربعمائة درهم، فيما بلغني، أخذها من يهود سامرا، فلما قبض المال رام نقضها حتى أعطوه مائتي درهم فأمسك عن النقض.
وقال محمد ابن إسحاق النديم قال البلخي في كتاب محاسن خراسان: "أبو الحسين أحمد ابن الراوندي من أهل مرو الرّوذ من المتكلمين ولم يكن في زمانه في نظرائه أحذق منه بالكلام ولا أعرف بدقيقه وجليله منه، وكان في أول أمره حسن السيرة جميل المذهب كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كلّه لأسباب عرضت له ولأن علمه كان أكثر من عقله."
ويكاد كتاب (الانتصار) للخياط أن يضم النص الكامل لكتاب (فضيحة المعتزلة) فضلاً عن نقل نصوص كثيرة من كتاب (الزمرد) الذي رد عليه أيضاَ المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي الإسماعيلي الذي كان داعي الدعاة في عصر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي بكتابه (المجالس المؤيدية) الذي ورد في أحد أجزائه الكثير من كتاب (الزمرد) بشكل ساعد على معرفة محتوى هذا الكتاب بدقة كبيرة.
وقد أمكن التعرف من خلال هذين الكتابين (الانتصار، والمجالس المؤيدية) على مضمون كتاب (الزمرد أو الزمرذ) الذي يعتبره البعض قمة ما كُتب في الفكر الإلحادي في العصر العباسي، ففيه أكد الراوندي على سمو العقل على النقل، وبين أوجه تعارض الشريعة الإسلامية مع العقل، وشكك في أركان الإسلام وسخر منها سخرية قاسية، واستهزأ من العقائد الإسلامية، وطعن في الإسلام والقرآن، وأنكر النبوة ومعجزات محمد  وآيات الأنبياء وأنكر معجزاتهم الحسية وزعم أنها مخاريق حسب كلام الخياط (ذكره ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان والخياط) ويمكن تلخيص أهم الأفكار والشكوك التي طرحها ابن الراوندي في كتابه (الزمرذ) فيما يلي:
 الشعائر الإسلامية، والحج والطواف، ورجم الشيطان كلها عادات وثنية، وطقوس هندوسية كان العرب يمارسونها في الجاهلية.
 تهكم على وصف الجنة، حيث فيها حليب لا يكاد يشتهيه إلا الجائع، والزنجبيل الذي ليس من لذيذ المشروبات، والإستبرق الذي هو الغليظ من النسيج.
 لا فضل للغة العربية على غيرها من اللغات، ولا تفرد للقرآن، ولا إعجاز به، إذ أنه من وجهة نظره لا يلزم غير الناطقين بالعربية، وأن القرآن يمكن كتابة نص أحسن منه، وإن عدم محاكاة العرب للقرآن يرجع لانشغالهم بالقتال.
 ما يأتي به الرسول إما أن يكون معقولاً أو غير معقول، فإن كان معقولاً فقد كفانا العقل إدراكه فلا حاجة لرسول، وإن كان غير معقول فهو غير مقبول.
 تساءل عن سبب عدم نزول الملائكة لعون المسلمين في معركة أحد.
 اعتبر غزوات الرسول محمد  سلباً ونهباً.
ويمكن تلخيص أهم آراء ابن الراوندي في:
1. ليس على الله أن يرسل الرسل، أو يبعث أحداً ليكون نبياً له، ويرشد الناس إلى الصواب والرشد، لأن في قدرة الله وعلمه أن يجعل الإنسان يرقى ويمضي إلى رشده وصلاحه بطبعه.
2. إن تصورات الإنسان عن الخالق والمبدأ محاطة بالأوهام والأساطير، لأن فكر الإنسان يعجز عن إدراك الخالق أو معرفة أوصافه.
3. لا سبيل لمعرفة سر الموت، فالإنسان منذ خلق وهو يبحث عن سر الموت كي يحول دون وقوعه، فأخفق حتى الآن في هذا السعي، وقد لا يوفق في الاهتداء إلى سره إلى الأبد، و لا يعلم الناس جميعاً كيف يموتون، ولو جرب الإنسان الموت ما أدركه أو عرفه حق المعرفة، ومعاينة الإنسان موت الآخرين لا تعلمه شيئاً عن أسرار الموت.
4. يشعر الإنسان بالخلود كونه عاجزٌ عن إقناع نفسه بأنه سيموت، وبأنه سينعدم من هذا الوجود، فلدى الإنسان شعور بأنه لن يموت أبداً، وأنه حين يُثوى في قبره سيعيش ويبقى حياً، وإن يكن ذلك بطريقة أخرى وبنشأة تختلف عما كان عليه في هذه الدنيا.
5. الملائكة الذين أنزلهم الله يوم معركة بدر كانوا "مفلولي الشوكة وقليلي البطش، فلم يقتلوا أكثر من 70 رجلاً، ولم ينزل أي ملاك يوم معركة أحد عندما توارى النبي  بين القتلى فزعاً."
6. لا يختلف الطواف حول الكعبة عن الطواف عن غيره من البيوت.
ويرد المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي الإسماعيلي في كتابه (المجالس المؤيدية) على آراء الراوندي بأن:
 بشأن كفاية العقل لإدراك الصالح والطالح وعدم الحاجة للأنبياء, فوظيفة العقل إبصار الأمور الباطنة والغائبة عن الحس مثلما الحواس مسئولة عن مبصرات الدنيا، فالبصر لا يستطيع الرؤية دون تحفيز خارجي كضوء الشمس أو القمر، والعقل لا يستطيع الإدراك دون محفز خارجي؛ مثله كامتلاك الإنسان لسان وحنجرة وشفتين لا تكفي وحدها لبدء النطق.
 بالنسبة إلى التهكم على طقوس الحج، والطواف، ورجم الشيطان، والزكاة، والصلاة فهذه الطقوس غرضها الأساسي خرق الغرائز البدائية للإنسان، وإشباع حاجاته الروحية التي هو بحاجة لإشباعها.
 كون القرآن فريداً، وتفضيل اللغة العربية على غيرها من اللغات سببه أن الكلام كالجسد له روح، وروح الكلمة المعنى، وكما الأجساد فإن اللغات والكلمات قد لا تتفاوت كثيراً، ولا يمكن اعتبار أحدها خيراً من الآخر، حيث المعنى وروح الكلمة هما الفيصل، وإن اعتبر العرب -الذين هم أهل اللغة- القرآن إعجازاً، فإن روح الكلمة ومعاني القرآن وحكمته، تطغى على اختلاف اللغات والعبارات.
 عدم نزول الملائكة يوم أُحد مرده أن من يؤمن بالملائكة، يُدرك أن جبريل قادر على دفع الكفار بريشة واحدة من جناحه، وأن ملكين أو ملك واحد كان كافياً لإهلاك قوم لوط وثمود وصالح، ونزول الملائكة في بدر كان غرضه رفع الروح المعنوية للمسلمين، وحل مثالي لتوزيع الغنائم بين المسلمين الجدد، باعتبار الله وملائكته هم أصحاب ذلك النصر.
ويحكم نخبة رجال الدين الإسلامي على ابن الراوندي من مقولاته بأنه فيلسوف ملحد، وليس عندهم شك في إلحاده وردته في التكييف الفقهي الإسلامي، ووصف بعض من ترجم له أنه من مشاهير الزنادقة، وأنه كان يحتال لنشر إلحاده فينسب آرائه للبراهمة، ويرون أنه غلب عليه عقله، وأن ثقته بهذا العقل المجرد جعلته يظن أن الذهن البشري قادر على تمييز الخير من الشر، وأن إتباعه لهذا النُهى (الذي هو قاصر من وجهة نظرهم) جعله يستخف بالوحي والسنة، فجاءت أفكاره مجافية للمنطق، مفارقة للحق، بعيدة عن مناهج الإسلام.
ونص ابن تيمية في مجموع الفتاوى على أنه زنديق، وقال عنه الذهبي في السير:
"ابن الراوندي الملحد." وذكر الغزالي إلحاده في كتابه الأشهر إحياء علوم الدين، ونقض عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال عنه:
"كان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد والإنكار والستر والتغطية، وليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفراً، ولا يجوز إيمان إلا ما كان في اللغة إيماناً، وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر، ولا السجود لغير الله كفر، ولكنه علم على الكفر، لأن الله بين أنه لا يسجد للشمس إلا كافر."
وقال ابن الجوزي:
"زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري."
ويرى بعض المفكرين الإسلاميين أن مذهب ابن الراوندي هو مذهب المرجئة الذين يجعلون الإيمان مجرد التصديق، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وما ليس بتصديق ليس بإيمان، ويزعمون أن التصديق بالقلب واللسان جميعاً، ويخرجون العمل عن مسمى الإيمان، ويرون أن طريقة ابن الراوندي الإرجائية هي طريقة بشر المريسي.
ترك ابن الراوندي من الكتب مائة وأربعة عشر كتاباً مليئة بالحجج القوية المتقنة، والآراء الجريئة على الثوابت الإسلامية، ذكر بعضها أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط في كتابه (الانتصار).
ومن كتب الراوندي التي ذكرها الخياط في كتابه الانتصار (الابتداء والإعادة- الأسماء والأحكام - البقاء والفناء - لا شيء إلا موجود – اللؤلؤ) وذكرهم ابن البلخي، وكتاب (خلق القرآن) ذكره ابن البلخي وابن النديم، وكتاب (الطبائع في الكيمياء) ذكره الخياط وابن المرتضى، وكتابي (القضيب) و(التاج) الذي يحتج فيه لقدم العالم وقد ذكرهما الخياط وابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان، وكتاب (التعديل والتجوير) وكتاب (الفرند) الذي انتقد فيه بعث الرسل ورسالات الأنبياء، ورد عليه أبو هاشم كما أشار ابن المرتضى، وجاء ذكر هذا الكتاب عند ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان، وكتاب (البصيرة) الذي ذكره أبو العباس الطبري، وقال أن الراوندي ألف هذا الكتاب نزولاً عند رغبة اليهود طعناً في الإسلام، وكتاب (الدامغ) وهو طعن في القرآن ومعارضة له وذكره ابن البلخي وابن المرتضى، وكتابي (التوحيد- الزينة) وكتاب (اجتهاد الرأي) الذي ذكره ابن النديم في كتابه الفهرست وقال أن أبا سهل النوبختي رد على هذا الكتاب، وأشهر هذه الكتب (عبث الحكمة) الذي طعن فيه على مذهب التوحيد وتحدث عن الوثنية، ولا يوجد للأسف معرفة بمضمون معظم هذه الكتب لأنها اختفت ضمن ما اختفى من كنوز الفكر العربي والإسلامي.
إن الحديث عن ابن الراوندي ليس طعناً في الإسلام، ولا انحيازاً للزندقة، ولكنه تعرف على مساحة فكرية هامة في تاريخ الفكر الإنساني، أضافت لهذا الفكر سواء اختلفنا معها أو اتفقنا حولها، فموقف ابن الراوندي المنكر للنبوة، موقف شديد التفرد Idiosyncrasy في الفكر الإلحادي، ومنهج العقل الإنساني، ونتاج حقيقي لمنطق مختلف في الذهنية البشرية، تميز بها الفكرين العربي والإسلامي، فبينما أنكر الإلحاد الوثني الآلهة في الفكر الفلسفي اليوناني، وأعلنت الفلسفة الغربية الحديثة بعد المسيحية على لسان نيتشه "موت الله" تبقى أفكار ابن الراوندي فريدة في اختلافها مع هذين المنطقين اللذان نقضا الإلوهية، فأفكار الراوندي لا تهاجم الإلوهية، وإنما تهاجم الفكر العقائدي الديني، وتنفي النبوة كصلة وحيدة بين المفارق Transcend والإنساني Human والتي إذا انتفت انتفى معها مفهوم الدين، ومن ثم تزول الأديان، ولا يصبح هناك معنى أو ضرورة لمهاجمة الإله والإلوهية.

لمزيد من القراءة:
1. ابن النديم: الفهرست.
2. عبد الأمير الأعسم: ابن الريوندي في المراجع العربية الحديثة، مجلدان، دار الأفاق الحديثة - بيروت – لبنان.
3. عزيز العظمة: ابن الريوندي، رياض الريس للنشر- بيروت – لبنان.
4. عصام محفوظ: حوار مع الملحدين في التراث، دار الفارابي- بيروت – لبنان.
5. عبد الرحمن بدوي: شخصيات قلقة في الإسلام، الطبعة 2، دار النهضة العربية- القاهرة 1964م.
6. عبد الرحمن بدوي: من تاريخ الإلحاد في الإسلام- الطبعة الثانية-دار سينا للنشر- القاهرة 1993م.
7. صلاح الدين الصفدي: الوافي بالوفيات، الموسوعة الشعرية الإلكترونية http//www.cultural.org.ae





#أحمد_إبراهيم_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك ...
- مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
- بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن ...
- ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
- بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
- لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
- المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة ...
- بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
- مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن ...
- إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أحمد إبراهيم أحمد - ابن الريوندي.. الروح الحائر