بديع الالوسي
الحوار المتمدن-العدد: 2707 - 2009 / 7 / 14 - 04:43
المحور:
الادب والفن
الحياة ألحبلى بالأسرار والمليئة بما هو غامض ومدهش ، تتابع صورها مع تغير زوايا المرايا ،، رأيت إيفلين الحلوة آخر مرة تعاني إنهاكا ً حادا ً ,, فاتني أن أسألها عن حالها بشكل مباشر ....
شيءٌ يبعثُ على الوجل ، المنحوتة التي لها جذور إفريقية والتي لا يتعدى حجمها كف اليد ، بوجه يشبه رأس افعى وبعينين صغيرتين جاحظتين صنعتا من خرز نادر ، كان على سيمائهاعلامات الغضب بشكل واضح,المنحوتة محملة بالقواقع وحجابين أسودين صغيرين ، وقد لفت منطقة الصدر والبطن بقلائد النمنم التركوازي والأحمر ..
أتت إيفلين الحلوة تشكو لنا حالها، لنغرق في حوارات تشبه الدوامات . مؤكدة إن المنحوتة محملة بالسحر الأسود .
قلت لها : إني لا أؤمن بالسحر .
قال صديقي المحب للترحال: أنصحكِ بإحراقها
أنفاسها بقيت لاهثة ًوهي تحكي لنا قصة عثورها على المنحوتة ، وبقى الغموض يطوق الذاكرة ويشتتها ، رغم عدم قناعتي لكن هاجسا ًزحف الى أعماقي دفعني للتساؤل : ما حدود ألإيمان ؟ .
منذ عدة ليال ٍ و إيفلين الحلوة لم تخلد الى النوم الهانيء خاصة ًبعد أن أبلغها زوجها برؤيته للضوء ألأزرق المنبعث من المنحوتة ليلا ً.،،مع الوقت بدأ يترائى لها إن للمنحوتة أجنحة ً سوداء تُحدث ضجيجا ًأشبه بطنين الزنابير.... قلقها دفعها لغسل المنحوتة بالماء الساخن عدة مرات ,, وعطرتها بالبخور ورشتها بماء الورد وكانها كانت تريد أن تحاصر الشر القابع داخلها،، ،أيقظت في روحها كل تلك المواجع والاحزان ،، لم يهدأ صدى القلق في جوف رأسها , ولم تكتشف علاجا ً ناجعا ً لما حل بها من ضياع .وأنكفأت في حمى البكاء...
قالت زوجتي : كل شيء ٍجائز ، علينا أن نتدبر ألأمر .
باغتها صديقي المحب للترحال : هل بدات تراودك كوابيس مزعجة ؟
ردت بشيء من الحرج : بل أشعر أن أنفعالاتي بدأت بالتشوش .
أنتظرت إيفلين الحلوه حتى المساء ، كانت تتمنى أملا ًجديدا ً ينبعث مع شروق شمس اليوم التالي ......
قالت لزوجها : إذا لم أنم هذه الليلة ،عليّ أن أعثر على حل لهذه المنحوتة ..ولم تنم .. ولم تعد تفهم ما يجري لها ، تحول كل شيء في داخلها الى ضجيج وقرف .. وظل في ذاكرتها مسحة خوف وإنبهار .. لا أحد يتهمها بالهوس أبدا ً ، فضولها الغريب دفعها أن تتساءل:هل السحر حقيقة ؟ .
زارتنا في ذلك اليوم الممطر لتخبرنا أنها أقتنت المنحوته المنحوسة منذ ثلاثة شهور ، مباشرة ًبعد موت والدها ، وإنها ترى فيها طالع النحس حالياً .
سألتها: ماذا تتمنين من زيارتك لنا ؟
قالت بحسرة : شعرت بالضيق وكأن نارا ً في صدري ,,, أملي أن تبدوا لي المساعدة .
أبصرت صاحبة المنحوتة ألبارحة من شباك دارها سرب من الطيور المهاجرة ، إنكفأت على ذاتها ، كأنها تعاني من خذلان يشل رؤيتها نحو
آفاق البهجة والسكينة . إنتظرت عسى أن يزورها أحد ,,, وملت ألإنتظار ,, قررت أن تخرج من عزلتها . ما أن بدأنا نقلب حكايات السحر ، حتى قال صديقي المحب للترحال :إني أؤمن وبقناعة أن هذه المنحوتة محملة ً بأشياء ٍ غريبة....
أتت إيفلين الحلوة ولم تقل سرها بالكامل ,, خافت أن تجرجر الى مساحات من الحديث تكشف نقاط ضعفها ,, حينها ستكون مدعات للضحك والسخرية ، توجلت أن تتهم بنوع من الهوس حال تصريحها بحكاياتها المتشظية بغرائبيتها .
قالت : منذ شرائي لها وأنا أشعر أن تهديداً يتربصني .
سألتها زوجتي للأيضاح : هل تعتقدين أن هناك علاقة بين مشاعركِ وبين المنحوتة ؟ .
رتبت أفكارها وبكلمات متناثرة ومتقطعة ردت : لاأعرف...هنالك حلقة مفقودة ...لم أستطع .... أجد المشكلة أكبرمن حجمي .
تمنت إيفلين الحلوة أن تمتلك الشجاعة لحرق تلك المنحوتة لأنها أقترنت بموت والدها وصراخ أطفالها ليلا ً... قلت : أتشعرين بالخوف منها ؟ .
ترددت في الرد ولكنها أجابت : أشعر أن المنحوتة تعاقبني .
قال صديقي المحب للترحال : عليكِ بحرقها .
قرأت وسمعت كثيرا ًمن القصص عن السحر ، كنت أعدها نوع من فكاهة الشعوذة ، لم أتوقع أني سألتقي بحدث يضعني أمام ألأمتحان الصعب والغريب .
بين المزاح والجد كنا نحاول شحذ أنفسنا بالعزيمة للإنتصار على الشر ألكامن في المنحوتة ,,, كم كنا أمام حقيقة عسيرة !
قال صاحبي المحب للترحال : هل عرفت ِ من أين أتت تلك المنحوتة ؟
أجابت : قالوا لي من (توكو ) ألإفريقية .
ليرد وكأنه وجد اللغز : بالضبط كما كنت أتوقع ، فهنالك ، في قلب إفريقيا يكمن السحر ألأكثروجعا ً، ألأكثر خطورة ،، والذي أذا وقع فيه ألإنسان لا يجد له من مخرج .
تنفست إيفلين الحلوة الصعداء ، وبخجل قالت لنا متسائلة :إني على حق إذن ؟
هكذا بدأت تتسلل الى دواخلي أثار القوة الخفية والخارقة ...بقيت متتبعا ً الحديث عن بعد ،أستقر رأي الجميع على حرق المنحوتة المنحوسة ودفنها خوفا ًمن أن يعثرعليها أحد في حالة رميها ..... إقتنعت إيفلين الحلوة بهذا الحل متسائلة ً: ولكن أليس هنالك من خطر سوف يلحق بي ؟
قلنا لها : نحن من سنقوم بحرقها فلا تخشي شيئا ً.
تذكرت صاحبة المنحوتة موت ُ أبيها وبكت بمرارة ، هدأت بعد أن أطمئنت الى إننا جميعا ً نؤآزر محنتها ،،،، ولكنها لم تُخف ِ إضطرابها حين قالت : رغم كل ذلك أشعر برهبة الخوف من الموت ... إني بدأت ُ أخاف ُمن المنحوتة أيضا ً.
قلت : من ماذا تخافين بالضبط ؟ .
أجابت والحيرة تملأ عينيها :لا أدري ، فمنذ أن أشتريت ُ تلك المنحوتة والمشاكل تنهال على رأسي .
ٍسألتها مرة ً: هل تخافين الموت ,,, فأخذت بالحديث عن خوفها من ترك أطفالها ألأربعة وراءها , مؤكدة ً أن زوجها لا يتحمل المسؤولية العائلية خاصة ًبعد إدمانه على الكحول وأستدركت : لكن الموت يبقى لغزا ً كما هي الحياة .
تغيرت الدنيا كثيرا ً ، لكني بقيت أعتز بإيفلين الحلوة إذ إنها تؤمن بأن الحياة معجزة ًغامضة وقد شبهتها بالحلم .. وإن الإحساس بالمجهول يبقى يطوق عيوننا بالصمت ِ والرثاء .
إدعت وهي تتذكر ما حدث لها قبل أيام : أحاسيس متاقضة وغير واضحة أنتابتني وأنا منشغلة في تنظيم ألأوراق الرسمية ، وجدت ُ صعوبة ً بالغة ً
في ترتيب أفكاري حتى شعرت ُ بالعجز ونوبات الإضطراب .
قاطعها صديقي المحب للترحال :إذا كانت المنحوتة غير بعيدة عنك ، ، سحرها يغلف أفكارك ويبعثرها .
لتواصل شرح تفاصيل ما حدث لها : تركت ُ العمل ، نزلت ُالدرج من دون أن أشعل الضوء ، كأن قوة ً أمرتني - تفاجأت ُ- وكأن شخصا ً يقول لي لا تضيئي المكان ، حُجبت عني الرؤية للحظات ،لأعثر بكلبي الممدد قرب الباب لأهوي ، وليرتطم وجهي بالأرض .
عقبت زوجتي على كل ذلك بالتساؤل :ولماذا لم تستعيني بيديك حين سقطت ِ ؟
أجابت : سيساوركم ألإحساس بالشك فيما سأقول وقد لا تصدقون إن قلت لكم أن قوة شلت يدي ولم أفهم ما حدث لي حتى هذه اللحظة .
التفتت نحوي لتواجهني بعينين صامتتين ، حائرتين بتساؤلها: هل تؤمن ألآن بشيء إسمه السحر ؟
****************************
في اليوم التالي كانت الشمس أكثر عذوبة ًودفئا ً ، بدأت إيفلين الحلوة نهارها برش عطر البرتقال في صالة الضيوف ,,, كانت تمتاز بروح الفكاهة حتى أنها قالت للعناكب المعشعشة في بيتها : تعالوا نخرج للحديقة للتنزه .
حين وصلنا بيتها أستقبلتنا بفرح لترينا المنحوتة المنحوسة و التي ركنت في زاوية على المكتب .
سألتها : إنها جميلة جدا ً، لماذا لم تعطني إياها ؟
ولم يوافق الحضور على طلبي ، لتبدأ خطوة المصادفات المؤجلة،، إبتعدنا عن البيت ،،، أقترح صديقي المحب للترحال أن نحمل بعض اللوازم الضرورية .
ولفت المنحوته بخرقة من القماش ألأسود وغطتها بالجرائد ، أردنا أن نضرم النارفيها لكن عود الثقاب لم يشعل الورق الذي دثرت به المنحوتة ، وكان فالا ً سيئا ً ، سكبت النفط ، بدأت النار بالتراقص ، بعد عناء ، باعثة ًدخانا ً أبيض َ غريبا ً ورائحة ً كريهة .
كان الحاضرون مثارين بنشوة الإنتصار على المنحوتة ، مارسوا إحراقها بوجل ، متمنين أن ينجزوا أمرهم بأسرع مايمكن ، زوجتي سيان لديها أن كانت المنحوتة مسحورة ً أم لا ، لكنها بقت ترصد النار وترقب المفاجآت .
قال صديقي المحب للترحال: إني وقعت تحت ثقل السحر ألأسود حين كنت في إفريقيا ،،علينا أن نحرقها بنفس الطقوس التي ولدت بها .
وبقى يرمي النفط ويضحك والنار تزداد سعيرا ً، الغريب أن المحنوتة قاومت ألأحتراق ، لتثار دهشتنا ،، ليزيد صاحبي من رش النار بالملح ،، سألته عن ذلك الفعل
قال : إن الملح يطرد الأرواح الشريرة .
بدأت النار تطوق المنحوتة من كل الجهات ، في تلك اللحظات القاسية من الإحتراق ،إعتلت وجه زوجتي حمرة مفاجئة ممزوجة ً بوجل على عينيها ، لتعلن عن تذمر قلق ،إرتبكت كلماتها ، صرخت ، وكأن شيئا ً علق بها ، ركضت نحوها ، حاولت أن أفهم ماجرى لها . قالت بأضطراب وإرتباك محّير : لا أعرف ماذا أصابني ... أشعر ان شيئا ً مقززا ً يتلبدني ، أشعر بالخوف .
سحبتها بهدوء خارج دائرة اللعبة ، راحت تبكي ،،، وبنشيج أخرس صارت تدفعني رافضة ً الأقتراب منها ، متمتمة ً بكلمات ٍ لا أفهم معناها .
ليُغلفَ رأسي تساؤل ٌ مفجع مقرون ُ بالندم : آه ربي ! إذا ما حل مكروه بها، ماذا سأفعل ؟ ،،، الأرتباك ُ قادني وبهاجس ٍ فطري ، أن أهمس بأذنها
شيء ٌمن أيات الذِكرالحكيم. هدأت قليلا ً، لكنها أنطوت على نفسها، وأزرقت شفتاها .
صاحبة المنحوتة بدا عليها الإرهاق والتعجب هي الأخرى أجهشت في بكاء ٍ مُر ، خجلت ، لم تعد تعرف كيف تعالج الموقف متسائلة ً: آه ربي ماذا نفعل ؟
أحرقت النار كل الحطب وبقيت المنحوتة المنحوسة تقاوم وكأنها حقا ً مسحورة.
قال صديقي المحب للترحال : ألم أقل لك أنها حُملت بقوى شيطانية ... ليواصل رمي الملح والنفط , بدأت النار تلتهم ما في أحشائها بهدوء ٍ وروية.
فجأة ً إنهار كل شيء ، لتتحرك عبثية ألقدر وتفاجؤنا من جديد، تفجر صراخ النساء من الجهة ألأخرى
، هرعت ُ لنجدتهم ، وجدت ُ زوجتي ترتجف بإنفعال وكأنها تلوثت بالجنون ، لينكمش وجهها بالأصفرار ، فقدنا الرجاء .. إتضحت هشاشة تجربتنا في الحياة ، توقفنا عاجزين يلفنا غباء الحيرة . سقطت زوجتي فجأة ً في إغماءة ٍ ثقيلة ......
صديقي المحب للترحال تركني أتخبط ُ في وحول المشكلة وحدي ، لينهي دفن رميم المنحوتة المنحوسة منفرداً.
أستفاقت زوجتي من غيبوتها المخدرة ، بوجه أكثر هرما ً.
قلت لها : أنت بخير ؟
هربت مني صارخة ً، لتلتجىء الى زاوية مظلمة ، لتتكورعلى نفسها ، بعينين حبلى بالشكوى ، غارقة ً بهذيانات ٍ غامضة ٍ لم نفهم منها غير :
لا تحرقوني لا تحرقوني .
#بديع_الالوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟