|
تجليات العشق، تجليات اللغة: قراءة في نص ((معك أشعر بأنني معي))
عادل صالح الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 2703 - 2009 / 7 / 10 - 10:31
المحور:
الادب والفن
لأسماء محمد مصطفى
في إحصائية أولية بسيطة ارتأينا أن نستهل بها قراءتنا هذه تدهشنا عمارة النص المبنية على ثنائية أساسية ومهيمنة يشكل قطباها طرفي معادلة العشق الذي تعرضه علينا الكاتبة أسماء محمد مصطفى متجليا في لغة نصها الموسوم ((معك أشعر كأنني معي)) http://www.alnoor.se/article.asp?id=45864 وهي لغة تتحقق فيها درجات عالية من الإبداع على مستويات سيميائية ودلالية متعددة تتخلل النص وهو نص يتميز بأنه ببساطة يتناول موضوعا تقليديا بلغة غير تقليدية، تقليديا لا بالمعنى السلبي بل لكون موضوعة الحب الموضوعة الأثيرة الأولى في الأدب بكل أنواعه وبمختلف عصوره ولعلها كذلك أكثرها شيوعا فيه. (تشير الأسهم إلى اتجاه وقوع الفعل كما يرد في سياق النص):
هي (الأنا، المتكلم، الذات...) الفعـــل هو (الأنت، المخاطب، الموضوع...) فراشة ->--- وردة شراسة ، تسلط ---------- مطر مصيدة --------- أنامل (تمسحها) أنامل -----< قيثارة أنشودة >---- شاعر قطعة سكر -----< فنجان مساء >---- قمر ونجوم سفينة -----< بحر وردة >---- وطن الورد
يدلل اتجاه الأسهم المتناوب بشكل تناظري متوازن على أن لا فرق بين الفاعل والمفعول، الذات والموضوع، الأنا والآخر (أو بالأحرى "الأنت" كما في النص)وهو ما يحقق بالتالي شكلا من أشكال التوحد الذي يشكل جوهر العشق كما يصوره النص. ويصبح كل عاشق (أو بالأحرى كل عاشقة،لا لأن كاتبته أنثى نعرفها من اسمها بل بضوء زاوية النظر المهيمنة في النص) واحدا مع معشوقه، ويتحول العشق لغة ترقى إلى، بل تتجاوز، العشق الصوفي التقليدي كما نجده في النثر أو الشعر الصوفي مثلا، لأن ثمة الكثير من "الدروشة" اللغوية، إن صح التعبير، في لغة الصوفيين، شعرا أم نثرا. تطالعنا هذه السيميائية العالية للنص بدء من العنوان، بشقيه الرئيسي والثانوي، فنجد الكثير من دلالات وإيحاءات التوحد في العنوان الرئيسي. أما العنوان الثانوي (من الضروري أن ننتبه إلى انه عنوان ثان فضلا عن كونه ثانويا وقد وضع بين هلالين بعد واو عاطفة للتدليل على ذلك) فانه مكتنز بدلالات وإيحاءات وإشارات لغوية (وكتابية كذلك، إذ أن للكتابة أو الشكل الكتابي سيميائيتهما أيضا كما سنرى). يوحي الهلالان بأنهما يحصران دفاتر العشق ويحيطان بهما، مدللين بذلك على كثرة دفاتر العشق، وتأتي كلمة "سطر" بعد نقاط، موحية بإمكانية أن تفلت، وحدها، من كل دفتر، وكأني باللغة، لغة النص، تخاطب قارئها قائلة: هاك سطرا واحدا فحسب من دفتر العشق هذا، فانك لن تستطيع تحمل المزيد، فما بالك بدفاتر العشق الأخرى وهي كثيرة. يا لكثرة ما في القلب من العشق! ثم تأتي الأسطر، معددة متعددة، نصوصا قصيرة لا تريد أن تكون أكثر من سطر، لا تريد البوح أكثر. نصوصا يتجلى فيها العشق "الصوفي" في توحد الذات العاشقة مع الذات المعشوقة، في لحظة توحد لم تكن موجودة في الزمن من قبل. تتجلى لحظة التوحد هذه تجليا لغويا في نصف "السطر" (المقطع) الأول من النص:
معك أشعر .. بأنني معي وقبلك لم أشعر قط بأنني كنت ُ معي
أما نصف "السطر" الثاني، أي:
تغفو فراشاتُ البراءة معك بين الورود كما في حدائق روحك أغفو أنا
فهو تجسيد للوجه الآخر من ثنائية العشق/التوحد، انه التوحد مع الوجود، مع الطبيعة، مع الذات المطلقة، فيصيح العشق بذلك عشقا كونيا، سمه إلهيا أو صوفيا أو ما شئت. وهكذا يضعنا العنوان بشقيه، وأول مقطع من النص، أو أول سطر من أول دفتر من دفاتر العشق في حقول الدلالة التي يصنعها النص وإزاء ثيماته الأساسية.
للأعداد علامة سيميائية أخرى غير وظيفتها التقليدية: انها توحي بتنوع وتعدد أشكال العشق. وكأني بها تقول ما قالته الشاعرة الانكليزية اليزابيث براوننغ في مستهل إحدى قصائدها "كيف أحبك؟ دعني أحصي الطرقا" لتبدأ بتعداد تلك الطرق فيما يلي من أبيات القصيدة. ومن علامات النص الأخرى التعداد والقياس والأثر التراكمي. إلا إنها علامات لا توحي بمادية وأرضية الحب الموصوف بطرق شتى بل تخلق ومن خلال تداخل هذه العلامات مع علامات أخرى كثيرة، توازنا بين الحب بصفاته الفيزيائية والعشق بتجلياته الروحية، فيصبح بذلك عشقا متكاملا واحدا في ثنائيته، عشقا يرى على صورة المثال أو المطلق. فالتوحد مع الذات العاشقة يؤدي مثلا إلى تجاوز "الشراسة" في (2) في كل شيء إلا في الحب. ترى أية شراسة هذه؟ ثمة ثلاث فراغات بعدها (رسمتها الكاتبة نجمات مفردة متعامدة) وكل فراغ من هذه يؤشر الامتناع عن التمادي في البوح.
ثنائية العشق/التوحد هذه تتخذ أشكالا عديدة، منها التماهي بين الأنا والأنت مثلا، وبالأخص عندما تكون العاشقة هي التي تعبر عن هذا التماهي—ينتقل بين وصف الأول ووصف الثاني، بين آثر العشق على الأول وأثره على الثاني، بين صفات الأول وصفات الثاني وهكذا. بهذا التنقل التبادلي، بهذا اللعب على ثنائية الأنا/أنت، يتأكد التماهي في الحب فـ"معك أشعر.. بأنني معي" في (1) (سنشير الى المقاطع بأرقامها من الآن) يقابلها "معك أنسى إنني أنا" في (3):
معك أنسى أنني أنا ، وأتوه في ( أنت) و .. الـ .. أنت .. أنشودة التيه في أناي
فذوبان الأنت التسلطي في الأنا في (1) يقابله ذوبان الأنا الخنوعي في الأنت في (3)، وما تحمله هاتان الكلمتان (التسلط والخنوع) من معاني السلب ينتفي بتقابلهما أو تنفي إحداهما الأخرى فتصبح في حالة لا هي من التسلط ولا هي من الخنوع: إنها حالة العشق التوحدي بالمعنى الصوفي التقليدي أو بغيره.
لعبة التسلط/الخنوع اللفظية هذه تنتهي مرة أخرى إلى انتفاء دلالي للإيحاءات السلبية التي تتضمنهما المفردتان بمعانيهما المعجمية في (4) و (5).
(4) حين وقعتَ في مصيدة قلبي لم تعرف أنني صنف مخدر ٍ لاتشفيك منه كل مصحات العالم ..
*
*
فلا تتحدَ أنثى مثلي !!
(5) الورد وطني ..
وحيث إنك من سلالة الورود ، فأنت وطني
فوقوع الأنت القسري في مصيدة قلب الأنا، الذي يستتبعه منع للتحدي بعد امتناع عن البوح في (4) يقابله وقوع الأنا الطوعي في قلب الأنت الذي يكبر وتتسع دائرته الرمزية الصوفية (وردة الوطن هنا)، ولم تعد مجرد معان معجمية فحسب.
قد لا يكون كاتب نص ما على وعي وإدراك كاملين دائما بما يحمله نصه من دلالات، وهذا أمر طبيعي جدا لأن خلاف ذلك لا يمكن أن يحصل إلا إذا ابتدع الكاتب لغة جديدة خاصة به وكتب نصه فيها. ومع ذلك فثمة "ابتداع" على مستويات عدة في كل نص يحقق إبداعا لغويا بدرجة ما، وهذا الابتداع هو الذي، كما أشرنا، قد لا يكون المؤلف على وعي تام به دائما، وهو الذي قد يدرك دلالاته قارئ النص بشكل أفضل و كذلك المؤلف إذا ما تحول إلى قارئ للنص. تجعل الكاتبة اللغة، لغة نصها، تعمل بطريقة تقابلية ثنائية وكأنها كرة يتداولها لاعبان اثنان: ترمي العاشقة (الفاعلة) اللغة (التي تمتلكها) إلى معشوقها (مفعولها) فتملي عليه كيفية العشق (الفعل)، ثم تلعب اللغة لعبتها التقابلية مثل سهم ذي رأسين بحيث يرمي المعشوق (المفعول) اللغة (المملوكة) إلى عاشقته فينفذ ما تمليه عليه من فعل العشق....وهكذا... حتى يتحول العشق إلى فعل لغوي مثلما تحول إلى فعل وجودي. يتأكد التماهي الصوفي والوجودي بين الذات العاشقة والذات المعشوقة مرة أخرى في (6) حيث الورد والحدائق والروح تلعب لعبتها الرمزية هي الأخرى:
(6) أناملُكَ الحنونُ مناديلٌ بلورية لدمعي.. و الدمع ُ ما كان َ سخي الهطولِ
إلاّ من أجل أن تمس َ مناديلُ البلورِ خدودَ الوردِ في حدائق روحي
وتتسامى العاشقة في (7) لتكف عن أن تصبح "رقما بين النساء" وإنما "امرأة لكل العصور" بل تصح "كل النساء!!!" ولتتباهى في عشقها حتى عندما "تذوب في (فنجان) حبه" لأنها "قطعة سكر". ثم تتوالى الصور الجميلة والاستعارات الرائعة التي تستقيها الكاتبة من سياقات دلالية متنوعة ومتعددة ومتداخلة كذلك، فنجد الصور والرموز والاستعارات والتشبيهات المستقاة، فضلا عن الورد والحدائق كما أسلفنا، من الجغرافيا والخرائط تارة، كما في (9) و (13) و (25)، أو من الغيوم والمياه والمطر تارة أخرى كما في ((6) و (10) و (16) و(20) و(26) و(27) أو من فن الرسم والألوان كما في (15) والقائمة تطول. سنكتفي بمثال واحد هنا، وهو المقارنة الأخيرة المستقاة من فن الرسم والألوان ترسم الكاتبة فيها صورة خلابة وموحية جدا من الصور التي يتجلى فيها العشق لونا جديدا غير مألوف يكتشفه العاشق الطفل في محفظة ألوانه ليفاجأ بالمعشوقة مجسدة بهذا اللون الجديد. فضاء ٌمن ألوان خلابة حد الإدهاش يحتويني .. لونٌ جديد أنا في محفظة الألوان طفولتك تفتح كراسة الرسم تتناول محفظة الألوان وقد ملَّتْ كل الألوان المألوفة تُفاجَأ بي .. تلونُ بي الصفحة الأولى تسأل عن إسم هذا اللون : أهمسُ لك : هو.. الحب
التوازن بين التجريد والتجسيد في الصور يشكل أحد أشكال التوازن بين الروحي والجسدي. في (12) صورة موحية جدا وجميلة تتجلى فيها براعة الكاتبة في إرداف المجرد بالمحسوس لعقد مقارنة مبنية على التناقض الظاهري، وهو أسلوب فعال في سياق النص عموما تتطلبه الثنائية التي تتأسس لغة النص كله عليها، وما هذه إلا واحدة من صور كثيرة تتناثر في النص:
هي ذا ّ أناملي ما خُلِقَتْ إلاّ لتعزفَ على قيثارة صمتك
ثمة توازن شيق آخر بين قطبي هذه الثنائية، أي الروح والجسد، او العشق الروحي والوصال الجسدي في صورة يطغي عليها الترميز الأساسي في النص، وهو صورة الروح كوردة، او وردة الروح، من جهة، ويطغي عليها من جهة أخرى المزاوجة بين المجرد والمحسوس لكي تتم المزاوجة عند ذروة العشق "المبتدع" في النص، فكرة ومفهوما لغة واصطلاحا الخ ..المزاوجة بين الحب أو العشق بوصفه فكرا مجردا أو مفهوما وبين الفعل الجنسي بوصفه تحققا لماهية هذا الحب ومكملا لصورته التجريدية الناقصة وغير المكتملة بسبب التجريد. يظهر ذلك جليا في (17) ( تجدر الإشارة إلى أن النجمات المتعامدة الثلاث علامة لغوية تنقيطية تؤدي وظيفة الامتناع عن البوح بالفعل الجنسي لأنه وجه واحد من وجهي العشق):
و.. لو صرتُ قطرة مطر ، وهبطتُ على الورد في روحك ، ثم تبخرت ُ .. لما ندمتُ.. فراغاتي يكفيها أن يملأها بذارُ وردك ..
*
*
*
فأيّ حدائق سحر ٍ أزهرت في أعماقي ببذرات وجودك ؟!!
وتتنوع لغة المقاطع بين الاستعارية العالية حينا واللغة المباشرة الواضحة حينا آخر، ولكنها لغة تبقى محتفظة باتزانها الدلالي وتوازنها مع سياقات المقاطع الأخرى، كما في (18):
و.. إذا ما غادرتُك في نوبة نسيان الحب سيأتي يومٌ أتذكر دموعه وأقررُ أن أحب ثانية ً.. فـ ..أحبك
التوازن بين التجريد والتجسيد في الصور، والذي هو كما أسلفنا احد أشكال هذا التوازن الذي يحدثه النص بين الروحي والجسدي، إنما هو توازن ضروري فنيا لأنه يراد به خلق أرضية يستند إليها التوافق أو الندية بين قطبي الثنائية الأساس في النص، ثنائية الأنا/الذات والأنت/الموضوع، وتتحقق حالة التوازن هذه في بعض أشكال الأداء اللغوي التقابلي ، أي أنها تتمظهر على صورة تقابلات وتضادات لفظية عديدة منها، كما في (19)، بين الحلم واليقظة أو بين المخيلة والواقع ( الواقع مكنـّى عنه هنا باليد):
أنت الحلم الجميل الذي تعانقه مخيلتي ، وهو بين يديّ في يقظتي
أو بين نصف القلب ونصفه الآخر في (20):
إذا ما أكلتْ نيرانُ الزمن نصفَ القلب ، ستبقي قطراتُ غيثك على النصف الآخر ..
يتغذى من نبع حنانك،
يبلغُ الرشد ويصيرُ كاملاً
أما حالة التوافق/الندية، وهي الأخرى حالة من حالات التوازن الدلالي، فهي شأنها شأن حالات التوازي اللفظي، تغني نسيج النص وتشد خيوطه الدلالية إلى بعضها بإحكام. فمثلا عندما تكون العاشقة بمعية المعشوق—وسنرى كيف يفرغ مفهوم المعية من محتواه التقليدي ليكتسب معان أخرى— فهي ذات وجود متسام وكيان فائق أو متفوق. إنها (كما في المقطع 21) "امرأة تروض الريح"، تستكين الريح بين يديها فتستحيل نسمات عذبة تدغدغ روحها وتحملها بأراجيحها إلى أعماق الحلم..."حيث أنت،" واللفظة الأخيرة هذه، أي "أنت"، تأتي في مكانها عند نهاية المقطع ذات وقع لفظي محكم في بنية نحوية محكمة، فتصبح علامة سيميائية فاعلة الدلالة لأنها تغلق النص، أي نص هذا المقطع، بعد أن كانت لفظة "أنا"، القطب الآخر من الثنائية والعلامة السيمائية الفاعلة الأخرى، قد افتتحت المقطع:
أنا معك إمرأة تروض الريح تستكينُ الريح بين يدي ّ الى نسمات عذبة تدغدغ ُ روحي و.. تحملُني بأراجيحها الى أعماق الحلم .. حيث أنت
إما اللفظة الأخرى ذات الوظيفة السيميائية الفاعلة، والتي لا تقل فاعلية ومركزية عن هاتين اللفظتين المركزيتين، فهي "معك"، اللفظة التي تشكل الرابط بين قطبي ثنائية الأنا/أنت، وهذا الرابط اللفظي/الدلالي يمثل اختزالا لفظيا للثيمة الأساسية للنص، وهي العشق متجليا تجليا لغويا ومتحققا وجودا وكينونة، أو بعبارة أخرى ، متحققا بوصفه كينونة َ ثنائية ووجود َ معية.
إن استعمال هذه المفردة المركزية، أي "معك"، كتكرار استهلالي Anaphora)) له دلالاته المهمة والفاعلة في النص برمته، فهي تتكرر كمفردة استهلالية في ما يربو على نصف عدد المقاطع في النص، فضلا عن العنوان، وترد في ما تبقى من مقاطع إما في مرتبة ثانية أي بعد أول مفردة مباشرة أو بصيغة عبارات دالة على المعية التي وضع النص وقراءتنا له توصيفا لها، أو ترد بصيغة النقض أو السلب، كما في عبارات مثل "إذا ما ابتعدت عني" (المقطع 9) أو "بعيدا عنك" (المقطع 10) أو "لولا نهر وجودك" (المقطع 27). أو في نص المقطع بكامله كما (25) الآتي:
ما جدوى مساءاتي في خارطة زمني ، إن لم تكن أنت فيها القمر والنجوم؟!!!
وعادة ما يستخدم هذا النوع من التكرار للتعبير عن اشتداد الشعور وتصاعد وتيرة الانفعال في سياق ما سواء أكان هذا السياق دراميا أو غنائيا. وكتنويع على التكرار الاستهلالي هذا توظف الكاتبة بنية نحوية شيقة أخرى تعكس تنوع وغنى البنى النحوية التي يتطلبها الغنى الدلالي للنص ــــ يستعمل مصطلح النحو هنا لا بمعنى القواعد ( Grammar ) بل بمعنى ( Syntax )ــــ انه تقابل نحوي يرد هذه المرة في نهاية النص، والنص المقصود هو المقطع (11): ثمة حنين بعمر الوجع يسكنني .. يحيلني إلى أسطورة صمت.. واشتياق فألملم أشلائي المتناثرة وأنهض راكضة بحثاً عنك ، وأنت معي.
تتحقق في مواقع كثيرة من النص "توحدات" كثيرة وظفت بمثابة تنويعات أسلوبية لفظية وبنائية ودلالية ورمزية على التوحدات الأساس بين الأنا والأنت أو بين الروح والجسد، كما أوضحناها فيما سبق، حتى كأننا في حالة من انتفاء الثنائية المتعارضة بينهما والتي نتج عنها، في جزء كبير من التراث العاطفي والفكري في ثقافات كثيرة ومنها ثقافتنا الشرقية ـــولا حاجة لتحديد سماتها العربية والإسلامية إن نشدنا المزيد من الدقة ـــحالتا الحب المفتعلتان أو وجهاه المتناقضان. وكان لهاتين الحالتين وهذين الوجهين أن ولدا انقسامية وتعارضا بين نوعين من الحب تجـذ ّر أحدهما في تراثنا الشعري تحت مسمى الحب العذري، واختلقا له نقيضا طالما نظر إليه، بسبب هذه الانقسامية، على انه الوجه القبيح والسلبي لهذا الحب الجميل والايجابي، فلا نجد له حتى تسمية تقابل "العذري" بما تمتلكه من دلالات وإيحاءات.
ثمة روابط دلالية وسيميائية عديدة تربط النص بمرجعياته المختلفة، الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية وغيرها، إلا إن النص، في الوقت الذي ينهل من الكثير من هذه المرجعيات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، يقف في معظم علاماته السيميائية على النقيض من المفاهيم التقليدية التي تنطوي عليها هذه المرجعيات، وهو يخلق بذلك توازنا محكما بين كونه ينتمي إلى مرجعيات تربطه بها سلسلة من العلائق(كما في الإشارة إلى قيس وليلى أوتريستان وازولدة، والتي سترد في المقطع الأخير من النص، المقطع 32)من جهة والى كونه، بعبارة عبد الله الغذامي، "فعالية لغوية انحرفت عن مواضعات العادة والتقليد، وتلبست بروح متمردة رفعتها عن سياقها الاصطلاحي إلى سياق جديد." (الخطيئة والتكفير، ص6). فمثلا في كلمات مثل "شراسة ، تروض، نمرة"(المقاطع 2، 21، 32 على التوالي) وغيرها، ثمة إعادة ترتيب للعلائق اللغوية بين الكلمات والدلالات. وإعادة الترتيب هذه تفرغ الكلمات من دلالاتها السلبية التي التصقت بها نتيجة العلاقة غير السوية بين الجنسين، سواء على صعيد الواقع أو على الصعيد الثقافي، وتعيد شحنها بدلالات جديدة، دلالات ايجابية، تخلق توازنا بين الأنا والأنت فتصبح اللغة أداة استشراف واقع جديد تدعونا اللغة إليه والى ولوجه، واقع تكون فيه العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة سوية وصحيحة وصحية وطبيعية ، وكأنها بذلك تدعونا إلى العودة إلى الطبيعة والعفوية والبراءة والنقاء، كما عند الرومانسيين الذين أكدوا على هذه المفاهيم والقيم في فكرهم عموما.
لعل الفكر الرومانسي يمثل أولى المحاولات التي دعت، ولو بشكل بدائي إلى حد ما، إلى جعل اللغة تخلق المثال الذي يمكن أن يحل محل الواقع ويكون بديلا عنه، وهي فكرة طورتها فيما بعد حركات ومدارس فكرية وأدبية نبعت من الرومانسية وتطورت عنها في الكثير من منطلقاتها الفلسفية والفكرية والجمالية، على الرغم من افتراقها عنها واختلافها معها وأحيانا تقاطعها، وقد تبلورت هذه الأفكار فيما بعد على صورتها الأكثر نضجا في الحركة الرمزية الفرنسية وحركة الحداثة عموما.
هذا الواقع الجديد كانت الكاتبة قد استشرفته لغويا في مقطع سابق من نصها وهو المقطع(14) الآتي:
معك أشعر .. بأنني لم أعد أنا .. أضيع ُ مني .. لاشيء مني .. مَن أنت ِ ؟ يسألونني .. أجيبهم على عجل : أنا .. أحبك
ففي لغة هذا المقطع يصبح الحب وجودا أو بديلا عن الوجود (بعد النفي. فالمقطع هذا يحوي حالتي نفي هما "لم أعد" و "لاشيء" ) وهذه علامة لغوية تشير إلى الخلق بعد العدم في اللغة، أي ابتداع المعاني الجديدة من خلال إيجاد علائق لغوية دلالية ورمزية وسيميائية جديدة. وقد نجد على هذا المستوى الدلالي في النص خيطا يربط هذه الأفكار بسيمائية النص الصوفية التي كشفنا عن بعض ملامحها في سياق هذه الدراسة.
إن إحدى علامات النص اللغوية هي التراكمية الدلالية التي تتولد وتتوالد مع تقدم النص، وإحدى هذه الدلالات هي كونية العشق وعدم اقتصاره على ثقافة دون أخرى بل نراه يعبر الحدود ولا يفرق بين شرق أو غرب، وقد تكونت هذه الدلالة تراكميا متكشفة تدريجيا وتزداد تبلورا كلما اقتربنا من المقاطع الأخيرة في النص. ففي المقطع (29) يلتقي قطبا المعادلة التي أقمنا عليها دراستنا هذه، فيتجلى العشق وتتجلى اللغة، وينتج عن هذا التجلي أن يتجسد العشق فعلا لغويا:
معك أشعر بأنني
بيتٌ شعري في قصيدة لقيس
أو خيط ُ حلم في وسادة ليلى
وإذ تنتهي المعية (أو تنتفي بعبارة أدق) بفعل صيرورتها عشقا متجسدا فعلا لغويا، يتحقق ذلك على أعلى مستوياته الفنية وهي الشعر، ذلك عندما تتسامى الأنا العاشقة في العشق/المثال لتصبح "أغلى كلمة في دواوين" الأنت المعشوق، فيصبح فعل العشق، متحققا بهكذا معية، فعلا لغويا صرفا، هنا في المقطع (30) ما قبل الأخير:
معك أنا أغلى كلمة في دواوينك .. كيف لا ؟!! أوَ لستُ أنا ؟!!
ليس تخصيص مقطع يذكر فيه قيس وليلى، ولا أن تضع الأنا العاشقة نفسها بيت شعر في قصيدة شاعر/عاشق أسطوري أو خيط حلم في وسادة عاشقة أسطورية، أمرا اعتباطيا، ولم يأت مصادفة، بل جاء ليحقق وظيفة دلالية وسيميائية مزدوجة بالغة الأهمية في النص وهي شد وثاق ثنائيتين مركزيتين هما ثنائية العشق/اللغة من جهة وثنائية الشرق/ الغرب من جهة أخرى، ولا بد ان العديد من الخيوط السيميائية والدلالية بدأت تزداد اتضاحا وترابطا أمام القارئ وهو يتجه نحو المقطع الأخير في النص الإبداعي هذا للكاتبة أسماء محمد مصطفى.
يستجمع المقطع (32) الأخير بين ثناياه معظم خيوط النص الدلالية والرمزية والسيميائية وغيرها. فعنوانه ((اعترافات ليست أخيرة: أساطير الخريف))، وهو عنوان موفق جدا ينم اختياره عن حذق لغوي واضح، يعمل عمل التغذية الدلالية الراجعة ( semantic feedback ) إن صح التعبير، وذلك على مستويات عدة. فكلمة "اعترافات" تأتي ليست كأنها استمرار لاعترافات سابقة فحسب، بل هي توحي كذلك بالبوح الذي لم يكن ممكنا جدا، فتصبح بذلك إيماءة لغوية وسيميائية تؤكد دلالات عنوان النص برمته، أي تلك التي تناولناها في مستهل هذه الدراسة. إما عبارة "ليست أخيرة" فهي الأخرى لا تؤكد العنوان فحسب وإنما النص بمقاطعه كافة أيضا. إنها عبارة تؤكد تواصل ولانهائية دفتر العشق. ثم تأتي عبارة العنوان الثانوي "أساطير الخريف"—والتي هي كما توضح الكاتبة في هامشها "عنوان فيلم رومانسي يغادر فيه تريستان حبيبته الوديعة سوزانا إلى عشقه الأول البراري"—لتضع ثنائية العشق/الوجود في حقل دلالي أوسع وتشحنه بشحنات رمزية أقوى ، بل بشحنات أسطورية، وذلك بخلق ثنائية جديدة هذه المرة، ثنائية الشرق/الغرب كثقافتين تبدوان، وطالما نظر إليهما، على إنهما متناقضتان ومتعارضتان ولا تلتقيان. إلا إن ما تصنعه لغة النص هنا هو خلق مزاوجة بين الثقافتين لتخضعهما من خلال هذه الثنائية، كما في الثنائيات الأخرى، إلى حالة التوحد بين الأنا والآخر. إن الذي لا يتحقق في حالة العشق الذي يقارب الأسطورة في أشهر قصة حب في تاريخ الثقافة الغربية، قصة ((تريستان وايزولده)) يتحقق في حالة العشق الوجودي الجديد والمتفرد الذي يتقمص العاشقة وتتقمصه، يحتويها وتحتويهن ينصهر في وجودها وتنصهر في وجوده. وبفعل عمليات التحول هذه يتحول المعشوق (والعاشقة كذلك، فلا فرق كما استنتجنا بين المفعول والفاعل في حالة العشق هذه) إلى العشق ذات ، ويتم التوحد بين المعشوق كوجود مادي مؤطر في زمان ومكان معينين محددين وبين العشق كحالة مجردة تجرد المطلق وواقعة خارج الزمان والمكان –- يتم التوحد بين المادة والمثال.
#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مارك ستراند - دليل الشعر الجديد
-
رسل أيدسن- قصائد نثر
-
شل سلفرستاين – ثلاث قصائد
-
بين الشعر والعلم: نظرة تاريخية (القسم الثاني)
-
مارك ستراند – أكل الشعر
-
هل انتهى دور الشاعر؟
-
كارولين فورتشه – العقيد
-
بين الشعر والعلم: نظرة تاريخية (القسم الأول)
-
جيني جوزيف – إنذار
-
مساعد الباحث في الجامعات العراقية: طاقة مستقبلية معطلة
-
ماثيو آرنولد-شاطيء دوفر
-
تشارلز بوكوفسكي- شريحة انتل 8088 ست-عشرية
-
بيلي كولينز - سونيتة
-
ت. س. أليوت-البشر الجوف
-
مارغريت آتوود - أنت تبدأ
-
لغة الشعر: أداة أم أداء
-
حذائي .. قصيدة للشاعر الأمريكي تشارلز سيميك
-
جيمس تيت - تعليم القرد كتابة القصائد
-
عبقرية الحشود للكاتب الامريكي تشارلز بوكوفسكي (1920-1994)
-
لا أومئ بل أغرق للشاعرة البريطانية ستيفي سميث (1902-1971)
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|