|
أسامة بن لادن، هيغل، وما بعد الحداثة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 824 - 2004 / 5 / 4 - 08:27
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
ليس من الضروري ان يكون اسامة بن لادن مرسلا من العناية الإلهية للانتقام من الظالمين الفاجرين المتجبرين وتحقيق العدل السلبي (اعني معاقبة الفجار وليس اثابة الابرار) كي نذكر ان هناك الكثير من الظلم والطغيان في عالم اليوم. وان يكون اسامة بن لادن ارهابياً لا يقيم وزناً للحياة البشرية، او عميلا سابقاً للمخابرات المركزية الاميركية، او رجلا متعصباً معقداً، لا يغير في شيء حقيقة انه ادرك فعلته بلغة الظلم والعدل. لم يحقق الرجل عدلا، لكنه بالتأكيد ثار على ظلم حقيقي لم تبتدعه مخيلته المريضة. ان التقاء البعد الرمزي لهجمات ايلول (ضرب هياكل "المقدس" الاميركي) مع البعد القصاصي مع البعد التضحوي (3000 قتيل) يعطي لها طابع العقاب الإلهي الذي لا بد ان بن لادن احب ان يسبغه على فعلته الملحمية. وان يكون الضحايا من اكثر من ستين دولة لأمر يبرز الطابع القيامي الكوني للحدث الذي قد يسجل، بالنظر لكون الجهة المضروبة هي من هي، في زمن اصلي مؤسس للتاريخ على غرار الوقائع التدشينية للأديان. لربما بدا للوهلة الاولى ان ضرب اميركا كان خارج الحسبان وغير متوقع. لكن لا. فمن حيث البعد التقني للتوقع اقترب الاميركيون في مفهوم "الحرب غير المتوازية" من تخيل ما لحق بهم. اما من حيث البعد التقديري، اي الذي يجمع بين الترجيح المتولد عن تصور اتجاهات التطور الموضوعية والترجيح المستند الى تصور للعدالة، فقد توقع 11 ايلول كل دارسي ونقاد الرأسمالية ونظام القطب الواحد والعولمة و"الليبرالية المتوحشة". لا يمكن لاي من هؤلاء ان يبقى وفياً لنفسه ويرفض الربط، بطريقة ما، بين تحليلاته وتحذيراته وبين 11 ايلول الاميركي. وهل هناك اي معنى للحديث عن "الكارثة" التي طالما حذروا من ان النظام الراهن سيقودنا اليها، او عن اقصاء 4/3 البشرية من الحضارة، او عن ضرورة اجراء تغيير عميق في النظام العالمي، الا التحذير من 11 ايلول من نوع ما؟ فكأننا اذن كنا نتوقع طوال الوقت ما فوجئنا بوقوعه ذات يوم خريفي. او كأننا، ونحن نحذر من الكارثة، كنا نأمل ان تستعيد البشرية عقلها في اللحظة الاخيرة لتحول دون قيامة تضحوية هائلة. يشترك التصوران الديني والعلماني، المنسوب الى الله والذي يصدر عنه الشيخ اسامة والمنسوب الى التاريخ الذي يصدر عنه نقاد الرأسمالية المعاصرة ونظام القطب الواحد، يشتركان في تقرير الظلم والدعوة الى العدالة. الواقعة الاساسية هنا وليس في ايديولوجية منفذي 11 ايلول. ان رفض التفكير في هذا الجانب او قصر التفكير على تبرير المحنة الاميركية او ادانتها، او الاكتفاء برصد تسلسل الاحداث، هو جبن عقلي واخلاقي او خضوع للابتزاز، بل للارهاب الاخلاقي، الذي يمارس ربما لاول مرة على اهل الكوكب جميعاً. لقد ادان العالم كله 11 ايلول، لكن 11 ايلول اجدر بادانة العالم الذي جعل وقوعه ممكناً، واجدر خصوصاً بادانة بازار النفاق العالمي الذي انعقد منذ اكثر من عام من اليوم "مبايعاً" بوش الصغير على "الحرب ضد الارهاب". وهنا ايضاً ان كون الضحايا من ستين بلداً واكثر يبرز عالمية العالم وعالمية الادانة وعالمية الاصلاح العالمي المطلوب. ان ادانة ما حدث او تبرير الادانة، تبرير الحدث او ادانة التبرير، هو تعام عن جذور المشكلة. ولا يهم ان لا يكون ابن لادن ضليعاً في تاريخ الاستعمار او اللامساواة على الصعيد العالمي، او حتى حديث الاهتمام بالقضية الفلسطينية او العراقية كما تحمس لتذكيرنا كثيرون بينهم رؤساء دول حتى يحق له ان يتحدث عن الظلم والانصاف. انه ابن الربع الاخير من القرن العشرين، وهذا يكفي. يريد الاميركيون ان يكون 11 ايلول وما بعده حتى اليوم زمناً اصلياً لا يتقادم عليه العهد ليؤسس للذاكرة والعدالة، حالة كحال الهولوكوست بين الاحداث التاريخية الحديثة. ومثل الهولوكوست ايضاً يطلب من الناس منذ الان الا يعتبروه حدثاً تاريخياً كغيره مهما امكن لعياره ان يكون ثقيلا وفالتاً. ولعل احتفالات الذكرى الاولى بالهجمات تنطوي بوضوح على ادارة عدم السماح للزمن بالانصرام وللحدث بالتراجع عن شاشة الذاكرة، اي منع الحدث من الاندراج في التاريخ: حدثاً مثل غيره. لكن اذا كان كل احتفال وعيد هو بمثابة مشاركة متعالية على تعاقب الأيام في حدث اصلي، فان الاحتفال الذي يؤبد حدث 11 ايلول ويجعله حاضراً هو الحرب التي تخاض ضد الارهاب في افغانستان وتوشك ان تخاض في العراق او غيره. هذه الحرب تقوم من 11 ايلول مقام انشاء دولة اسرائيل من الهولوكوست. فكما ان الدولة اليهودية هي احتفال مستمر بالمحرقة النازية يمنعها من الغرق في الماضي، فان "الحرب ضد الارهاب"، "الحرب العادلة" كما وصفها مثقفون يمينيون اميركيون، هي تنشيط مستمر للذاكرة ورفض لمرور الزمن. وبمناسبة احتفالات الذكرى الأولى من جهة، وخطط واستراتيجيات ومصالح وتطلعات وعقائد نخب أميركية سياسية معينة من جهة أخرى، قد نتوقع نشوء صناعة جديدة: صناعة 11 أيلول، أي جملة الطقوس والرموز والفنون والممارسات التي ترفع الحدث فوق غيره وتضعه "يوما مجللا بالعار" (وفقا لروزفلت عن هجوم بيرل هاربر) متميزا عن غيره من الأيام. ورهان هذه الصناعة هو إضفاء الشرعية على السياسات الامبريالية واليمينية المتطرفة للإدارة الأميركية الحالية وللتحالف الداعم لها: شركات النفط، المركب الصناعي العسكري، اليمين المسيحي، اللوبي الصهيوني؛ أي "نقابة" المحافظين الجدد. وجوهر هذه السياسات بسط الهيمنة الأميركية عالميا وضمان أن يبقى القرن الحادي والعشرين قرنا أميركيا. لكننا قد نأمل أن يكون 11 أيلول زمنا أصليا بمعنى آخر: فباعتباره الحدث العالمي بامتياز ربما يدشن مخاض العالمية الواعية بذاتها، المخاض الذي قد يعطي هيغل في النهاية الحق: وعي الروح بذاتها، وإن تكن سيرورة هذا الوعي لا تتم إلا كما يقتضي دهاء التاريخ، أي الوصول الى المصالحة عبر المأساة والدمار. قد يكون من حق الأميركيين وخصوصا أهالي الضحايا أن يرفضوا هذا المفهوم للتاريخ الذي يجعل من دماء أحبائهم وقودا مغذيا لقاطرته، أو الذي يضفي النسبية على الحياة الإنسانية على مذبح وثن مقدس اسمه التاريخ كسيرورة للحرية والوعي الذاتي. لكن شخصا واحدا على الأقل في أميركا لا يحق له رفض هذا المفهوم: ذاك الذي أسس تجاوز التاريخ لذاته واستقرار ما بعد التاريخ في أميركا ما بعد الحرب الباردة على هذا المفهوم الهيغلي بالذات: فرانسيس فوكوياما. ما يجعل فرص هذا الممكن الأخير ضئيلة، أو ما يجعل منه ممكنا مجردا لا ممكنا واقعيا حسب اللغة الهيغلية بالذات، يتمثل في وجود قوة فاعلة وراء الممكن الأول، أي نقابة المحافظين الجدد، بينما يفتقر الممكن الآخر لمن يظاهره. فالقضايا المهمة هي التي وراءها أناس مهمون، والمشكلات الموضوعية هي التي وراءها ذوات تقدر على أن ترفع وتضع و"تموضع". هنا تلتقي ما بعد الحداثة وهيمنة المحافظين الجدد وتتحالفان ضد الحداثة. ليس التاريخ غائيا أو هيغليا، لكن الأحداث الثقيلة الكثيفة التي تتقاطع فيها الكثير من سيرورات عصرها تترك أثرا مديدا على ما بعدها وتظلله بمعناها، المعنى الذي حين ينتهي يكون ذلك الأثر/ المعنى قد نضب. "الغاية" ليست شيئا في النهاية بل هي معنى حدث سابق، حدث مدشن، الحدث الصانع للتاريخ، أو هي قوة دفعه أو عمره المتوقع في التاريخ. لذلك "الغايات" تنضب نضوبا ولا تنكشف انكشافا كأوهام إلا عندما تنضب. وحين تنضب ينتهي التاريخ. فالتاريخ سيرورة تلاشي قوى الدفع لا سيرورة تحقق الغايات. إن ما بعد الحداثة يعكس أزمة المعنى المعاصرة ونضوب الغايات إثر سقوط النظام الشيوعي بعد تعفن مديد، وفشل "العالم الثالث" السابق في صنع شيء غير الحكام العباقرة، وتجسد ديكارت الغربي في دونالد رامسفيلد، وفاوست في مشروع الدرع الصاروخي. هنا أيضا ليس من الضروري أن يكون الشيخ أسامة مطلعا على ما بعد الحداثة حتى يحقق أول المآثر السياسية ما بعد الحداثية. إن أسامة ابن أزمة الحداثة في العالم العربي والإسلامي، وبالتحديد إخفاق هذا العالم في إنشاء أو تبني موازين جديدة للعدالة والإنسانية، أي للعدل والحق، في حين أن الموازين الموروثة لم تعد قادرة على قياس عالم انجرفت أرضه متباعدة عن السماوات. وبمعنى ما قد ننظر الى 11 أيلول كنقطة ارتطام بين عالمين تعاني الحداثة فيهما من أزمة: أزمة المشاركة فيها بالنسبة لأحدهما وأزمة تجاوزها في الآخر؛ عالمان على سفحين متقابلين من الحداثة بما هي تطابق بين الإنسان والعالم، بين الذات والموضوع، بين الوعي والواقع. إن تفتت المرجعية وتبعثر المعنى ما بعد الحداثة يجد في تعالي المرجعية وفرط المعنى سندا له في كسر التطابق بين الإنسان والعالم. وعبر هذا التساند يندرج الشيخ أسامة (وجورج دبليو بوش) في خطط ما بعد الحداثة، ويسهمان معا في تجديد شباب العدمية.
كتبت المقالة في الذكرى الأولى لحدث 11 ايلول
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اعتقال طلاب الجامعة سياسة العزل السياسي والجيلي
-
بين عهدين: قضايا تحليل الانتقال السوري
-
-العقد الاجتماعي- البعثي وتناقضاته
-
نظام الاستثناء الشرق أوسطي
-
ثلاثة برامج قتل وفكرة عزلاء
-
اضطرابات الجزيرة ضرورة تجديد التفاهم الوطني السوري
-
سوريا أمام المنعطف مــن هنا إلى أيــــن؟
-
اعتصام دمشق فاعلون مترددون وإعلام يقيني
-
طبائع العمران وصناعة الواقع في الدولة الحزبية
-
في السنة الحادية والأربعين فصل حزب البعث عن الدولة ضمانة له
...
-
صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي
-
سوريون ضد حالة الطوارئ!
-
هل سيكون 2004 عام التحول في سورية؟ عرض تقرير -التحديات السيا
...
-
سورية والتحديات الخارجية عرض لتقرير -مجموعة الأزمات الدولية-
-
نقاش حول الدفاع الوطني
-
بلاد الموت السيء
-
نحو مؤتمر تأسيسي لحزب ديمقراطي يساري - مناقشة عامة لمشروع مو
...
-
وقــائــع ثــلاثــة أشـــهـر زلـزلـت ســـوريــا
-
من الحزب الشيوعي إلى اليسار الديمقراطي
-
لم ننجح في حل المسألة السياسية، فنجحت المسألة السياسية في حل
...
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|