آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 2687 - 2009 / 6 / 24 - 09:57
المحور:
الادب والفن
الفصل الأول
اركض يا ياسي, اركض!
صدى صوت أنتي غمرالكراج, ذلك الكهف المظلم الذي تنبعث منه روائح القمامة واللدائن المحروقة والبنزين. شعرياسرإنه مريض ولا يستطيع أن يركض. لكن يجب عليه أن يفعل ذلك.
أهرب, اللعنة على الشيطان, أنهم قادمون.
بدأ ياسرالركض بأتجاه الضوء المخبوء, الضعيف المنبعث من مخرج النفق. عدا هذا بدأ كل شيئ مظلماً ومرعباً.
ـ ليس من هذا الإتجاه يا ياسي, أنهم قادمون منه, علينا أن ننطلق من الجهة الأخرى.
وقف ياسرفي مكانه بضعة لحظات, تلفت حوله, لم يفهم أي شيئ على الأطلاق. لم يعرف في أي إتجاه يهرب. هذا ما لم يقله له أحدهم!
سمع فرريد صوتاً قادماً من بعيد, من مكان ما من الظلمة التي تغلف المرآب.
ـ أين هم؟
ـ عد ثانية يا ياسي, أنهم هنا الأن, جهازإنذارالشرطة يطلق الإشارة! اللعنة على الشرطة....
بقي ياسرواقفاً في مكانه جامداً كالصنم, قلبه يدق بين جنبات صدره من الخوف. لديه رغبة شديدة في الإقياء. صوت صفارات الإنذاريقترب منه أكثرفأكثر, لكن لم يكن في مقدوره أن يفعل شيئاً سوى البقاء في مكانه وعدم الإتيان بأية حركة.
سرت في داخله قشعريرة باردة, امتدت إلى كل مكان من أوصاله. تقاذفته الهواجس المختلفة, شيئ من الرعب داهمه, مثل كابوس ثقيل جثى على أنفاسه ومكث في قلبه في تلك اللحظات الصعبة.
تيبست خلاياه, وسال العرق البارد من كل مسام من جلده عندما اقتربت سيارة الشرطة منه. ما هي إلا لحظات قليلة حتى رأى مصابيح السيارة الأمامية بالقرب منه, تكشف ظلال الجدران الرمادية المقرفة.
وقف مصدوماً في مكانه, يرى ويسمع كيف تتلون أمام عينيه مشاهد الكوابيس الليلية اللعينة. تمنى لوأنه في حلم قبيح, كابوس, يمكن أن يستيقظ منه بعد لحظات.
بقيت السيارة واقفة على مسافة عشرة أمتار منه. فتحت الأبواب من الجانبين. خمن ياسرأن مجيئهم مجرد صدفة, مشكلة ما مع أحدهم تزامنت مع وجوده هناك.
ـ قف مكانك, أبق حيث أنت! ضع يديك فوق رأسك. تناهى إلى سمعه صوت رجل كبيرفي السن يأمره. صوت غاضب مترافقة مع انحناءة خفيفة.
هذا ليس صوت والدي, يبدو إنه العم سعيد!
بقي ياسرفي مكانه هادئاً دون أن يرفع يديه فوق رأسه, يحاول أن يعيد إلى ذهنه صوت والده. أنوار السيارة مسلطة عليه في وسط الكراج بينما يريد في هذه اللحظات أن يتخيل نبرات صوت والده!
ـ مرحبا يا ولد! هل تفهم اللغة السويدية؟ قلت لك, يداك فوق رأسك!
استيقظ ياسر من غفوته اليقظة, رأى أثنان من الشرطة يحدقان فيه. في يد أحدهم مسدساً, أنه صاحب الصوت الغاضب, الرجل الكبير في السن. بقي الآخروقفاً على مبعدة منهم, مسنداً يديه على ظهرالسيارة. شابة صغيرة, شعرها أشقر, جميلة الملامح. لم تتكلم أبداً! تبدو أنها المسؤولة في هذه المهمة, ومن تقرر.
ـ يداك فوق رأسك, زمجرالرجل الغاضب بصوت عالي.
ـ كف عن ذلك يا هنري! ألا ترى إنه خائف؟ طفل صغيرليس إلا.
صدرهذا الكلام من الشرطية الشابة. قال ياسرفي دخيلة نفسه, يبدوإنه صوت المعلمة /آنا ـ ليز/ معلمة الصف السادس. هل أصبحت شرطية, كيف؟
ـ صبي! من فضلك لا تقولي هذ! هل تعلمين ماذا يحمل هؤلاء الأطفال في جيوبهم؟ سكين. لن يتأخر الوقت حتى يستلها. إنه لص!
ـ علينا أن نهدأ بعض الشيئ يا هنري! نستجوبه أولاً, ثم نقررما علينا أن نفعله.
بعد ذلك, التفتت ناحية ياسرالذي بقي لازماً مكانه لا يتحرك.
أحس بقشعريرة باردة تتخلله من الخوف.
ـ أنت.. نريد أن نرى فيما إذا كنت لا تحمل سلاحاً أو شيئ غيرقانوني. من فضلك أرفع ذراعيك إلى الأعلى...
راحت الشرطية تدله بهدوء من على مبعدة, بأيماءة لطيفة من يديها, كي يرفع يديه نحو الأعلى. من يراها من بعيد يظنها قائدة أوركسترا موسيقية كبيرة!
ـ حسناً, أفعل كما قلت لك, حتى يمكننا أن نتأكد من إنك لا تحمل سلاحاً, بعدها يمكننا أن نذهب إلى المخفر. هل كل شيئ على ما يرام؟ هل فهمت ماذا قلت لك؟ هل تتكلم اللغة السويدية؟
دون أن يرد عليها, رفع ياسرذراعيه إلى الأعلى كما أومأت له الشرطية, ثبتهم عالياً, مثلما كان يشاهد الناس يفعلون ذلك في الأفلام.
ـ جيد. استمرت تقترب منه أكثرفأكثر, تتبع الرجل الغاضب. الأن, سيتقدم زميلي منك ويفتشك, القليل من الهدوء, لا تقدم على أية حركة غير متوقعة, أوعمل لا تحمد عقابها أوتتعرض له بأي أذى أوشيئ من هذا القبيل.
ـ لا..لا, لن أقدم على أي شيئ. خرجت الكلمات من حنجرة ياسر مبحوحة, مخنوقة. لم يكن يقوى على هضم الكلمات ودفعها إلى الخارج.
ـ ماذا؟
ـ أنتِ تنظرين إلي.
ـ من المفضل أن لا يرفع يديه؟ أنه طفل.
ـ أنتِ من أشارإلي.
هزالرجل الغاضب كتفيه بلا مبالاة:
ـ بالتأكيد أنتَ تفضل النساء. لكن لا تحاول أن تخدعنا أو تقدم على أي شيئ غير متوقع, أنا بالقرب منك, هل ترى.
اقتربت الشرطية الشابة من ياسر. لم تكن المسافة بعيدة عنه, ربما مترأوسبعون سنتمتر, ولا يبدوأن هناك شيئ غير طبيعي. غرزت نظراتها في وجه ياسروراحت تفتشه وتنقل يديها بسرعة من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس, تفحص الجيوب والحزام. لم يكن ياسريرتدي سوى بنطال ومعطف مهترء من الجينزفي الجزء العلوي منه جيوب أمامية, وكنزة صوف. الحزام مشدود بشكل واضح على الكنزة. كانت الكنزة التي يرتديها خضراء اللون, داكنة, قصيرة وضيقة عليه, مشدودة بقوة على بطنه وقفصه الصدري, استعارها من صديقته توفا, أخذها اليوم لأنه كان مضطراً لذلك سواء كانت حلوة أوبشعة, جيدة أو سيئة!
ـ ليس في حوزته أي شيئ, قالت الشرطية الشابة موجهة كلامها لزميلها الحانق ثم التفت إلى ياسر.
ـ هل لديك محفظة نقود, بطاقة بنك, نقود, تلفون جوال, مفاتيح؟
هزياسررأسه في إشارة على أنه لا يملك شيئاً.
لم يكن في حوزته شيئاً في هذا الوقت, لأنه أودعهم عند صديقه أنتي . بقي لديه المكر, إذا تبخرسيقبض عليه لا محالة. في مثل هذه الحالة لن يحدث شيئ حقيقي.
ـ علينا الذهاب, تعال!
مدت يدها إلى ساعده بلطف جم وقادته إلى السيارة.
في الحقيقة, تبدومثل المعلمة/ آناـ ليز/. هذه المعلمة بالتحديد, كان ياسريحبها كثيراً, ويشتاق لها أكثرعندما انتقل إلى الصف السابع. ربما تكون المعلمة / آناـ ليز/ قد غيرت عملها منذ أن أنهى تحصيله الدراسي في الصف السادس.
ـ اسمكِ/ آناـ ليز/؟
جلس ياسرإلى جانبها في المقعد الخلفي, بينما الرجل الحانق يقود السيارة.
ـ لا. لست أنا. أجابت الشرطية مع ابتسامة عريضة على محياها. تلك كانت ابتسامتها الأولى منذ بداية الجولة هذه الليلة. لماذا تسأل؟
ـ تشبهك.
ـ من هي /آنا ـ ليز/؟ حبيبتك؟
ـ لا. أنها معلمتي في الفترة السابقة من المدرسة. أنها تتحدث مثلك.
خيم الصمت بعد هذا الحديث القصيربينهم إلى أن وصلوا إلى المخفرالقريب من الكراج. عند مدخل البوابة فكرياسر بما حدث:
الحماقة كلها من أنتي!
في الواقع ياسرليس لصاً. لوأنه أقدم على مثل هذا الفعل لتكلم, لقال الحقيقة! هو ليس من ذلك النوع من الناس الذين يسطون على السيارات في الكراج القريب من المخفر.
أين هو أنتي وفرريد في هذه اللحظت الصعبة التي يمربها؟ لماذا لم يأخذوه معهم عندما رأوه واقفاً بلا حراك في تلك البقعة من المكان, لماذا لم يحاولوا أن ينتظروه؟ لقد فضلوا الهرب على البقاء إلى جانبه. في البدء هموا في مساعدته, لكن فيما بعد أثروا الهرب. ماذا قالوا في السابق؟ إذا قبضت الشرطة على أحدنا, عليه أن يقول إنني وحدي. على المرء أن لا يشيئ على غيره, هل هذا مفهوم؟ أن لا يشيئ على الأطلاق. أوأن ينطق بأقل ما يمكن من الكلمات. لم نبلغ الخامسة عشرة بعد, ليس في وسعهم أن يفعلوا أي شيئ بنا, هذا هو كل شيئ. كم هو سهل هذا الأمر. لن يكلفنا شيئاً في مخفرالشرطة سوى فنجان قهوة, والسلام.
دخل ياسرمع الشرطية الشابة إلى مكتب صغير. في وسط المكان طاولة وكرسيان. على الطاولة كومبيوترمن النوع القديم, هاتف من النوع القديم أيضاً, وزوجان من الكلبشات. كان لديه متسع من الوقت كي يفكر قبل أن يطلب منه الجلوس بالقرب من الرجل الغاضب الذي تبعهم فيما بعد. سيلعن نفسه مرة أخرى, لأنه يعرف الأسئلة الحمقاء المقرفة الذي لا يصدقها العقل ستطرح عليه في مثل هذه الظروف السيئة. مثلما كان يقف في متجرأبيه, في الفترة الماضية, من مدة ليست طويلة, منذ الحادث, ليس أكثرمن أسبوعين, عندما وقع والده على الأرض على أثرطلق نارصوب نحو رأسه, عند ذلك, تدحرجت علب المرطبات في كل مكان مما جعله يحس بتأنيب الضمير لما حدث.
وسط هذا كله, وقف مشلول الإرادة, معقود اللسان من الخوف. في هذه الظروف تساءل فيما إذا كانت شركة التأمين ستغطي خسائر والده من علب المرطبات أوأنهم سيحسبونها خسارة عادية أوسرقت.
ـ يا ولد! يبدو إنك أطرش! أجلس على الكرسي الذي هناك!
ـ هنري! كل شيئ على ما يرام. سأهتم بالأمر.
ـ هل تريدين مني أن لا أبقى هنا؟ أريد ان أذكرك, أنه ما زال متهم بارتكاب جريمة سرقة.
ـ لا نعرف عنه أي شيئ إلى الأن ولا يحمل سلاحاً. إذا أعرب عن رغبته في المشاجرة, من المحتمل أن نتعارك, فأننا من نفس الوزن, كما يوجد زرجرس الإنذار يمكنني أن استخدمه إذا حدث شيئ من هذا القبيل.
الرجل الحانق هنري خرج من المكتب تاركاً الباب نصف مفتوح.
جلس ياسرعلى الكرسي مقابل الفتاة الشرطية الشابة التي وضعت مرفقها على الطاولة وكفيها تحت ذقنها واسترخت تماماً مثل المعلمة/ آناـ ليز/.
ـ والأن؟
ـ ماذا تعنين الأن؟
ـ هل لك أن تتحدث أين كنت, وماذا كنت تفعل في كراج السيارات في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل, بعد رنين جرس الإنذار الذي وصل إلى أسماعنا؟
بقي ياسر صامتاً لفترة طويلة, ينظرإلى الأسفل, إلى يديه. ماذا عليه أن يقوله, ما هي الأشياء التي تريد وترغب أن تعرفه. لقد حدث معه ما لم يكن يرغب أن يحدث قبل ساعتين من الزمن, لكن أصدقاء السوء, أنتي وفرريد دفعوه رغماً عنه إلى هذه المصيبة اللعينة عندما طلبوا منه أن يبقى حارساً دون أن يؤثرهذا الأمرعليه أو يكون متورطاً بشيئ. لقد أوهموه أن الكراج يفتقد إلى جرس الإنذارالحديث بالرغم من أن السيارات الواقفة فيه من الطراز الحديث. القطع الداخلية في تلك السيارات غالية جداً, المسجلة, الراديو, ال/س. د/. لقد وجد أنتي في المقعد الخلفي لإحدى السيارات الواقفة حقيبة وثائق غالية الثمن وجميلة وربما في داخلها نقوداً. نشم رائحة نقود تنبعث من تلك السيارات, قالوا هذا من باب السخرية وترافق ذلك مع ضحك هستيري رخيص من أنتي وفرريد ثم أضافوا, يمكنك أن تقف هناك لبعض الوقت وتتحمل تلك الرائحة!
لدى فرريد أسلوب مقرف في الضحك, لهذا فأن ياسرلم يكن يحبه أويحس ناحيته بأي شيئ ودي. لماذا لديه..........
ـ يا صبي! من الأفضل لكلينا أن تتحدث.
ـ لا أستطيع؟ خرجت الكلمات من حنجرته مبحوحة.
ـ لماذا؟
ـ لقد وعدت.
ـ من؟
فكرياسرمع نفسه لبعض الوقت, ماذا علي أن أفعل. لا أريد أن أعترف على الآخرين
ـ وعدت نفسي. لقد وعدت نفسي أن لا أتكلم شيئاً
ـ لماذا؟
ـ لأنه... أريد أن أبقى في السجن.
الشرطية الشابة ضحكت في قراراة نفسها بصمت.
ـ أنت صغيرالسن ولا يمكن لأمثالك من البقاء في السجن. يا ألهي, لا يمكن أن يكون عمرك أكثرمن أثنتا عشرة عاماً, أوفي أقصى الحدود ثلاثة عشرة عاماً.
شعرياسربالإهانة ثم رد عليها دون أن يفكر:
ـ اللعنة على الشيطان, كيف تعتقدين ذلك. لقد بلغت الخامسة عشرة من العمروعليها حبتان زيادة.
ـ يا للهول, قال الشرطية الشابة ذلك ومضت في الضحك مرة ثانية. الأن علمت كم يبلغ عمرك الحقيقي.
عض ياسربقوة على لسانه من الحنق والغضب. أنها ذكية. بعد قليل ستسأله عن كل شيئ, ما هو اسمه, أين يقطن, من هم أهله. لا.. لا ليس هذا, لن أقول لها ذلك. لن اسمح لها أن تعرف أين اسكن. لأنني لا أرغب في ذلك, ليس الأن على أقل تقدير. إذا كشفت القليل من جوانب الحقيقة ربما تسمح لي أن أذهب بعد حين من الزمن. من المستحسن أن أعثرعلى فكرة جيدة.
ياسرمعتاد على ابتكارالحكايات والقصص الجميلة والشيقة للأطفال الصغارعندما يكونون على أسرتهم ويهمون في النوم.
ـ أستطيع أن أقول لك لماذا كنت في المرآب أوالكراج.
ـ شيئ رائع وجيد! في البدء تكلم ثم أدون أقولك كلها. في هذه الحركة لم تأخذ وضعية المعلمة/ آنا ـ ليز/, لم تعقد يداها تحت ذقنها باسترخاء.
ـ كنت.. لقد ذهبت إلى ذلك المكان لمدة قصيرة, في تلك الساعة التي جئتم فيها.
ـ لماذا؟ هل هناك سبب محدد؟ هل تشاجرت مع أحدهم؟ هل تبحث عن إنسان ما؟ حبيبتك؟
ـ أنها مسافرة. لا.. لا على الأطلاق, لقد ذهبت إلى هناك لأتجول, لم يكن لدي أي شيئ أفعله لهذا ذهبت.
ـ كم كانت الساعة وقتئذ؟
ـ لا أعرف, الثانية عشرة, الثانية عشرة والنصف.
ـ وماذا بعد ذلك؟
ـ كنت محصوراً, لهذا ذهبت لأبول. لا أرغب أن أبول أمام المارة, هذا شيئ مقزز. في تلك اللحظة كنت أبحث عن مرحاض.
ـ فكرة ممتازة. كنتَ محصوراً, ذهبت لتتبول في الكراج, خاصة بعد منتصف الليل, إجابة قوية جداً, أفحمتني, أليس كذلك!
ـ نعم, لم أعثر على مكان آخر. رأيت الكراج, فكرت في نفسي, قلت, ربما يكون فيه مرحاضاً.
ـ و.. و بعدين.
يبدو أنها أقتنعت بأقواله. الأن, أحس ياسربالأمان لذا راح يسرد القصة التي ابتدعها. بالفعل, هكذا كان الوضع, حدث الذي حدث, الجميع له صلة بالكابوس المزعج.
ـ و... دخلت إلى الكراج وجدت المكان معتماً إلى حد ما. لم أعد أستطع الخروج من شدة الظلام, فكرت, قلت في نفسي, إذا غيرت مكاني, ربما أجد بقعة ضوء, ربما أجد مصباحاً دون زر, ماذا يسمونه.... نسيت.
ـ جهاز الإحساس, الذي يلتقط الحركات بالإستشعار؟
ـ بالتأكيد, بالتأكيد, هذا هو, لدينا هذا الجهاز في صالة الجمبازوالممرات الواسعة.
ـ كم هو حديث, أين تقع مدرستك؟
ـ تورنيروز....
لا شيئ جديد. أنها مجرد امرأة ذكية. صوت المطرالمتساقط ينبعث من الخارج. بينما ياسر يحرك فمه قدر ما يستطيع. أحس بالدموع تنساب من عينيه, من التعب والإحباط والشعوربالقهر.
ـ كيف حالك الأن, هل تشعربوعكة؟
ـ نعم.... لا..لا, أنا متعب ليس إلا, جائع, كما أنني لم أفعل أي شيئ يستحق أن أبقى هنا, سأذهب إلى البيت.
ـ ساتصل مع البيت وأقول لوالديك إنك هنا؟
ـ لا..لا!
بدأت الدموع تنهمر من عينيه بهدوء وتسيل على خديه. شعربالخجل من نفسه, كأنه طفل صغيرواقف أمام معلمته. لكن, لم يكن في وسعه إلا أن يبكي.
ـ هل ترغب في شرب شيئ, مرطبات, شيئ حار, تحب أن تأكل سجقاً أو شيئاً من هذا القبيل؟
سجق! مجرد أن سمع هذه الكلمة حتى ساَل لعابه. أين أكل سجقاً أخرمرة؟ جزء من البيتزا المقسمة إلى ثمانية أقسام عند أنتي. أومأ ياسربرأسه علامة على القبول من دون أن ينطق بكلمة واحدة.
نهضت الشرطية الشابة من على كرسيها ودارت حول الطاولة وسارت بأتجاه الباب وراحت تنادي على أحدهم من الخارج.
ـ سام! هل لك أن تجلب لنا سندويشة سجق وو... أي نوع من المرطبات ترغب؟ سألت ياسرمرة ثانية.
ـ هل عندكم مشروب غازي؟ مع الكثير من الصلصة وبعض الخضار.
ـ سام! سجق مع صلصة ومشروب غازي, وخضار, وأيضاً, كأس شوكولا حارة وبيتزا صغيرة لي.
عادت وجلست في مكانها ثانية. تبدوكأنها رئيسة القسم هنا.
ـ هل أنت رئيسة القسم هنا؟
ـ لا. أنا لست رئيسة القسم. ضحكت مثل السابق. لكنك تستطيع أن تقول أنني مسؤولة المخفرفي الليل, للأشخاص الذين مثلك. حسناً, أين كنا؟ دخلت الكراج, كان المكان معتماً. ماذا فعلت بعد ذلك؟
ـ أنا... مشيت فاصطدمت بالسيارة الواقفة أمامي لأنني لم أرها في العتمة, بعد ذلك بدأت السيارة تطلق جهازالإنذارالتي بداخلها. خفت كثيراً جداً, عندئذ جئتم أنتم.
ـ لكن, لماذا لم تخرج خارج الكراج ثانية؟
ـ كانت الظلمة داكنة ومخيمة على المكان, كان الموقف صعباً, شنيعاً. خفت كثيراً جداً. اللعنة على البول.
فتح الباب, ظن ياسرأن الطعام قد جاء, لكن القادم كان الشرطي هنري بوجهه العبوس, الحانق, ناول زميلته, الشرطية الشابة ورقة.
ـ إيكا هنا, ربما يساعدنا في أنجاز الاستجواب بأسرع ما يمكن, قال ذلك مع إبتسامة صفراء ساخرة على شفتيه, ثم أقفل عائداً من حيث جاء.
ـ إيكا, هكذا تدعى, قرأت الورقة بسرعة ثم رفعت عينيها ونظرت إلى ياسر.
ـ كيف قلت, أن زمورالإنذارفي السيارة أطلق لوحده؟ آه. من كان واقفاً معك, هناك؟
ـ اعتقد.. اعتقد, ربما كان هناك العديد من الناس. لا أعرف ! يبدو أنه كان هناك الكثيرمن الناس في الكراج. لكن ليس لدي معرفة بذلك.
نظرت إليه بعينيها الزرقاوين دون أن تنبس بكلمة واحدة, دون أن تبتسم. إما أنها علمت الكثيرعن الموضوع وفضلت أن تكتمه في قلبها وصدرها أوأنها فكرت أن الوقت غير مناسب للمزاح والضحك. كل شيئ جائزعلى كل حال. بقيت صامتة. هذا الصمت أزعج ياسر. رغب أن يقول شيئاً, لكن ماذا يقول؟ هل يقول الحقيقة, أم يبتدع المزيد من القصص الوهمية؟
ـ ما هو المكتوب في الورقة التي بين يديك؟ هل هناك أوراق أخرى غيرالتي بين يديك؟ سؤالي سخيف أليس كذلك.
ـ إنه بلاغ من مالك السيارة. لقد اتصل للتو. أنه صاحب السيارة التي زمرجرس إنذارها. في البدء فحص سياراته, ثم اتصل بالمخفر, إلى هنا. لقد سطوعلى السيارة وأخذوا منها المسجلة والراديو وال/س.د/ كما اختفت الحقيبة الثمينة. لقد شكرالقدرلأنه لم يكن فيها أي شيئ ثمين أو غرض له قيمة. أقفال الأبواب أتلفت, وخدش طلاء السيارة. ليست المرة الأولى التي يحدث ذلك, لهذا ربط جهازالإنذارمعه ومع قسم الشرطة مباشرة. علاوة على ذلك أنه يمكث في الكراج لأنه يحب سياراته كثيرجداً.
بقي ياسر صامتاً. كل شيئ بقي على حاله. فهمتْ الأن أنه يكذب عليها. خجل منها, من نفسه. لكنه ماذا يفعل, كيف يقر بالسرقة, كيف يقول إنني حرامي, لهذا فضل أن يبقى على موقفه.
ـ أنا لا أعلم أي شيئ عن السرقة! سمعت جرس الإنذار, اعتقدت أنني أطلقته. كان هناك غيري, لكن لست أنا!
ـ هل رأيت أحدهم يقترب من السيارات الواقفة؟
ـ ربما لم أر, لكني سمعت عدة أصوات.
ـ لم تقل هذا من البداية.
لا أمل يرجأ منه. لا يقربما فعل.
ـ في الحقيقة, أعرف أنكَ لن تقول؟ لا جدوى من ذلك. المهم في الأمر, كل شيئ واضح, مكتوب على الورق, بالإضافة إلى ذلك, هناك آثارأقدام بجانب السيارات, يثبت أن هناك الكثيرمن الناس تواجدوا في تلك اللحظة. هل كنت حارساً؟
لم يجب ياسر, لقد وعد رفاقه أن لا يتكلم. ولكن كل الأقوال الذي أدلى بها تعريه وتكشف زيفه وكذبه. خفض رأسه, لم يرغب أن تقع عينه في عين إيكا.
فتح الباب مرة ثانية. وأخيراً جاؤوا بالسجق. دخل شاب صغير, شعره أسود, في يديه صينية عليها سندويشتان من السجق مع طبق من البيتزا, قدح وعلبة مشروب غازي.
ـ لقد تناولت قطعتان من السجق في وقت واحد, بشكل متأخر, وجبة الفطوروالعشاء مع بعض.
ما هي إلا لحظات حتى قفزياسرمن مكانه ظاناً أن الشاب القادم هووالده مما أثاراستغراب إيكا. لكن يبدو للناظرإليهما عن قرب يقدرأنهما أقرباء من جهة أمه لأن شعر أبوياسرأشقروعينيه زرق.
رمق الشاب القادم على ياسرنظرة فضولية فاحصة وهوواقف في مكانه, لكنه لم يقل كلمة واحدة. وقبل أن يخرج نادى على إيكا.
ـ هل لكِ أن تأتي إلى خارج الغرفة لبرهة قصيرة, هناك شيئ أريد أن أقوله لك.
تركت إيكا قطع البيتزا والأشياء الأخرى على الطاولة ثم نهضت من مكانها وذهبت بأتجاه الشاب.
ـ كن هادئاً, وحاول أن تأكل على مهل. لا أريد أن تسبب لنفسك أي أذى.
بعد ذلك, خرجت من المكتب تاركة الباب نصف مفتوح.
ما أن مضى ياسرفي أكل السجق حتى تناهى إلى سمعه همسات متبادلة ما بين الشاب وإيكا. هو يتكلم وهي تصغي, ثم ترد عليه ببعض كلمات. قال ياسر لنفسه, ربما هناك مسألة بينهم, والمطلوب من الشاب أن يقوم بها, لكن ماذا يعني هذا الأمر, لست مهتماً بالموضوع.
كان ياسرجائعا وفي مقدوره أن يتناول أربعة أو خمسة قطع من السجق دفعة واحدة مع المياه الغازية التي جلبت له. من شدة السرعة في الأكل يمكن للمرء أن يسمع كلا السحق والمياه الغازية تقرقع في جوفه من على مسافة ليست قريبة.
بعد الأكل أحس بالتعب الشديد لهذا رغب أن ينام مباشرة وفي أي مكان سواء على الطاولة أوعلى كرسيه الجالس عليه.
دخلت إيكا إلى غرفة المكتب ثانية ثم أغلقت الباب وراءها. مضت إلى كرسيها وجلست عليه بمنتهى الهدوء والصمت بينما عيناها تجولان المكان إلى أن سلطتهم على ياسر. قفزإلى ذهنها سؤال آخرفي هذه اللحظات بشكل أكثرإلحاحاً
ـ من الواضح, إنك جائع جداً, بمقدورك أن تتناول البيتزا أيضاً إذا رغبت. تلك التي طلبتها لنفسي. لكن المذاق سيكون مختلفاً.
دون أن ينطق بكلمة واحدة امتدت يداه إلى قطعة البيتزا, مزقها وطواها على بعضها ثم دفعها بعنف إلى فمه تاركاً أدوات المائدة, الشوكة والسكين جانباً دون أن يلمسهم. ما أن يمضغ اللقمة قليلاً حتى يبلعها بسرعة.
ابتسمت إيكا ابتسامة لطيفة قبل أن تتابع كلامها:
ـ هل تعرف ذلك الشاب؟ ذلك الذي جلب الصينية؟
دون أن يلتفت إليها أو يعرها أهتماماً:
ــ لا ... لماذا مطلوباً مني أن أعرفه؟
شعرت بأنه بدأ يغتربنفسه فعلياً. رمقته نظرة عميقة من فوق لكنها لم تقل كلمة واحدة حتى لا يحس أنها تلقنه درساً في آداب الحياة مثلما يفعل الآخرون معه كمعلمات المدرسة على سبيل المثال أو عمه سعيد!
ـ إنه يعرفك, يبدوالأمرغريباً, أليس كذلك؟
صمت ياسرتماماً. فجأة, وعلى حين غرة أصيب بوعكة صحية من كثرة الأكل مثلما حدث معه سابقاً في الكراج. تلاشى الجوع ولم يبق في معدته أي مكان لمتابعة الأكل. لقد وصل إلى مرحلة التخمة وصارمن الصعب عليه أن يبلع اللقمة الأخيرة المتبقية.
ـ لقد غادرالبيت منذ أسبوعين. اتصل الناس على رقم الطوارئ/112/ لتبلغ عن وقوع جريمة. لقد سمعوا صوت إطلاق الناربالقرب من باب المتجرالصغيرفي حدود الساعة العاشرة ليلاً عندما هم صاحب المحل في إغلاق محله. لقد صوب شابان مجهولا الهوية النارعلى رأس الرجل المسكين. الأن ذلك الرجل راقد في المشفى في حالة غيبوبة كاملة!
بدأ صوت إيكا ينوء بعيداً, كأنه قادم من بئرعميق لا قرارله. بقي ياسرجالساً في مكانه في الغرفة كأن شيئاً لم يكن, كأن الأمرلا يعنيه على الأطلاق. يسمع الشرطية الشابة تتكلم دون أن يعركلامها أي أهمية, كأن الموضوع يعني شخصاً آخر, أوكأنه جالس في صالة سينما أوأمام جهازالتلفزيون يشاهد فيلماً. كأن القصة لا تتعلق به, لا تتعلق بحياته وحياة أسرته. كأنه لا يعرف أي شيئ عن الموضوع الذي تتكلم عنه إيكا, أوكأنها تتكلم مع شخص آخر. وقالت:
ـ الشرطة تواجدت في مكان الجريمة في الحال. واتصلوا مع قسم الإسعاف من أجل تجهيزالسيارة والتعزيزات اللأزمة لهذا الغرض. في الجهة الخلفية من المتجرعثروا على صبي في حالة رعب, يبكي. لكن ذلك الصبي لم يستطع أن يقترب من المكان أوحاول أن يسأل من الذي طلب مجيئ سيارة الإسعاف. لقد هرب ذلك الطفل واختفى. من سخريات القدرأن أحد عناصرالشرطة ويدعى سميرتعرف على ذلك الطفل, قال:
من المحتمل جداً أن الذي هرب هو أبن الرجل المصاب بطلق ناري, وفي القريب العاجل سيكون شاهداً على كل شيئ. لكن ما يسوء في الأمرأن سميرسيأخذ إجازة في اليوم التالي ولن تكون له يد أوصلة في القضية. في هذه الليلة ستبدأ ورديته الأولى. هذا الرجل, الشرطي سميريتمتع بذاكرة قوية جداً في معرفة الوجوه. لقد قال لنا أن ذلك الصبي هو أنتَ
لم يتغيرأي شيئ في ملامح ياسر, كأن القصة لا تتعلق به, تتعلق بطفل آخر.
سيقوم سميربجلب التقريرمن الأرشيف من أجل تحضيره وتقديمه؟ هل تستطيع أن تتحدث من البداية عن كل ما حدث معك؟ سواء فيما يتعلق بهذه الليلة أوالأيام التي سبقتها؟
على كل حال, خلال خمسة دقائق, سأعرف كل شيئ, من أنت, ما هو اسمك وأين تسكن.
الكاتبة السويدية
ماريا شانتال لونغ
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟