|
خواطر طارق بن زياد في طنجة
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 2685 - 2009 / 6 / 22 - 05:01
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
((والأمطار مضت، لم يستنطقها أحد، وسارت قوافلها الفالية، وراء الكثبان، تفك خيولها المقرونة، الرجال المليئون بالليل يهجرون الأخاديد، حيوانات كبيرة تتجه وحيدة صوب البحر)) الكسي ـ سان ليجيه
((أصير شيئاً من المكان، جدولاً أو سمندلاً أو خزامى أو غيرها من خلائق الرب سبحانه أو: الأشياء وحدها أراها وتراني)) أدونيس
يرعبني المحيط. غبارٌ من الماء لا نهاية له، فمٌ داكن مثل هوة سحيقة، مدى لا ينتهي إلا مع الفزع وأخاديد الضوء المنطفئ في آفاق مجهولة. إنه في جانب منه رعب كبير هذا الأطلسي المدثر بمعطف هرقل وهو يُقرب بين فمي قارتين. بيرس يقول: ثمة.. ثمة أشياء لتقال تحية لعصرنا. إذن ماذا سنعطي لذلك العصر الذي يعبر به الفاتحون محيطاً كهذا بخيولهم وقوارب بسيطة من خشب نحيف جيء به من غابات السرمد المنتشرة على الطريق الأخضر بين طنجة وتطوان. إن أساطير التأريخ لا تنتهي، وطارق بن زياد أحدها. لقد عبر المستحيل إلى حديقة الزيتون. قال: غادرت بهجة أرض مدججة بالخضرة والزرقة والصمت، لأجد بلادا، الورد فيها طلاسم وقبعات للجنود. وصلنا الأندلس من طنجة، وخرجنا من الأندلس إلى طنجة. تلك هي الحكاية كلها. وعلى المحيط أن يمسك قلما من الموج ليكتب خواطر جديدة لما كان، وليكن المكان مقهى (الحافة)، وهو يطل بلحظات الشهوة على البحر والخليج المدثر بعطر زمن من الموسلين والحرير المراكشي، هنا حيث يحلو الجلوس في أثر جميل لمقاهي ترتبط بحلم الذاكرة والمدينة وقد أُسست سنة 1920 وحفل تأريخها بجلاس المشاهير وهم يغرفون من فردوس المدينة خواطر طارق بن زياد ويتساءلون بتعجب: كيف اقتحم المحيط بخطبة واحدة ؟! مقهى الحافة، إرث للذكرى أطل منه لاستعادة يوميات مفترضة لفاتح يذهب إلى الأمام وليس إلى الخلف كما فعل الفاتح الإغريقي أكزينون في رحلته الرجوع خلفا والتي أطلقها بيرس ملحمة شعرية تسمى (آناباز)، ولكن آناباز طارق ملحمة أخرى باتجاه الضوء والبحر وليس باتجاه الرمل والصحراء كما فعل القائد الإغريقي. المقهى تنشر بعذوبة عطر الكاكاو والبوظا والقهوة البرازيلية التي يطنحها النادلون أمامك. تنتشر صور المشاهير، بطل أفلام جيمس بوند (شين كونري) كان هنا، جلس وتطلع وربما بات يقارن مغامراته السينمائية بمغامرة القائد العربي فوجد أن كل ألاعيب وحيل أفلامه لا تساوي جملة واحدة من جدية خطبة طارق، فغادر المقهى محفوفا بنظرات شباب مغاربة متلفين توقيعه على الأوتوغراف، فرقة البيتلز الشهيرة غنت في هذه المقهى. وكأنك تسمع صدى قيثاراتها يملأ المكان بضجيج الموسيقى الكهربائية، جون لينون مطربهم المفضل بشعره الخنفسي يصدح بصوت رقيق وصاخب: (احبك يا فتاتي. وليكن الموعد هنا. في حديقة جميلة، أزهارها تطل من عينيك). هذه العيون ترنو إلى الأندلس مثلما طارق، وكأنها في تحديقها الأبدي تردد صوت أحمد شوقي القائل: قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا مشت على الرسم أحداث وأزمان... إنها أزمان تمضي، نظرات تمضي، بشر يمضون، ولكن المدينة باقية تستلقي على أديم التأريخ تستعيد شذى عبور فارس أرتجل الكلام وقال هلموا معي. أبحث في كتب التأريخ، سير وقصص ومحققات، أخبار بلدان وملوك. لطارق بن زياد وقفة قصيرة ولكنها كبيرة وعليَّ أن أقراها بمستويات امتزاج الرحلة في روح مدينة وحتماً سيكون معي نادلا الوحي ورفيقاي من أول فصل الكتاب (محمد شكري وابن بطوطة). فلكي تصل أي مكان في طنجة عليك أن تستعين بهما. وهاهو ابن بطوطة يختم الفصل الأول من رحيله لبلدان الله ويعود لطنجة، براحلة بعير سار إلى بيت الله حواضر أخرى (بغداد، البصرة، الإسكندرية، أصفهان، صنعاء). مدن لا تنتهي وهي تعبد طرقاتها بالإسفلت تحت خفَّ ناقته. وأول ما فعله بآخر رؤية لطنجة، إنه زار قبر والدته كما ورد في الصفحة 185 من الرحلة. فيما يتمدد شكري في قبره غير البعيد عني بمقبرة المدينة يلفه صمت حياة لم تهدأ قط. فأغادر إلى الكتب، أحاول أن أدرك من خواطر ابن زياد فهما لمدينة تعكس أشياءها على زوراها بأشكال مختلفة. طارق يتأمل المحيط، يدفع نظره إلى لجة كونية عميقة لم يألفها بهذا الجبروت، كان العربي منذ أساطيره الأولى يندفع ضد جبروت الصحراء، الآن أتاهُ البحر صحراء من ماء لا ينتهي، ولكن عقلاء المدينة وأهلها أشاروا إليه بأقرب نقطة عبور سميت (جبل الفتح) واليوم هي ملتصقة بخوذة طارق أبد الوجود وتسمى (صخرة مضيق جبل طارق) لم تزل محمية بريطانية لم تنل حظها من الاستقلال لا لإسبانيا ولا للمغرب. يقول ابن بطوطة في شأن هذا الجبل في الصفحة 186 من رحلته: ((جبل الفتح هو معقل الإسلام المعترض الشجي في حلوق عبدة الأصنام، حسنة مولانا أبي الحسن رضي الله عنه المنسوبة إليه وقريته التي قدمها نورا بين يديه محل عدد الجهاد ومقر آساد الأجناد والثغر الذي افتر عن نصر الإيمان وأذاق أهل الأندلس بعد مرارة الخوف حلاوة الأمان ومنه كان مبدأ الفتح الكبير وبه نزل طارق بن زياد مولى موسى بن نصير عند جوازه فنسب إليه، فيقال له جبل طارق وجبل الفتح لأن مبدأه كان منه وبقايا الذي بناه ومن معه باقية إلى الآن تسمى بسور العرب)). وهكذا يكون التأمل إلى الأقاصي من خلال مدينة. أفكر بطارق وليلته الأخيرة قبل العبور الشاق، فيندفع إلى ذاكرتي خيال سرحان وإيمان لدى رجل يُريد أن ينتصر على غول الماء. وأمامه قصيدة عن الجبل الذي سيعبر صخرته كتبها متهيباً به البليغ المفلق أبي عبد الله محمد بن غالب الرصافي البلنسي في وصف هذا الجبل المبارك: حتى رمت جبل الفتحين من جبل معظم القدر في الأجيال مذكور من شامخ الأنف في سحنائه طلس له من الغيم جيب غير مزرور تمسي النجوم على تكليل مفرقه في الجو خاتمه مثل الدنانير وصف ساحر لهيبة مكان سيبقى هاجسهُ التاريخي صلة وصل بين الحضارات، بين ممالك تولد وممالك تفنى، وحده الجبل سيبقى وهذه القصيدة واسم طارق. يكتب في أوراقه وبحبر غامق الاسوداد مثل دموع كحل: غداً سيبدأ مشواري إلى هناك، سأجني نخلة وجامعاً واسما مهيباً، أنا العابر لجة اليم لأضع قواميس جديدة لرايتي. وستكون طنجة ليلة المفترق، إنها مدينة تهبُ لي بداية الوثوب إلى حلم بلون بنفسجة السيف، حيث علينا نحن المُوكلون بالمهامِ الكبيرة أن نجعلَ المدن الساحرة نقطة وثوب دائمة. هناك سأمسح بخيال الضوء على أشبار الخيول وأصنع منها مدناً وغابات زيتون، ستكون لنا جوامع وقصور وخيام نستظل بها من صيف الزيتون والليمون وإجاص ليس مثله سوى ما خلفناه في الشام والقيروان. مدن تحتفي بنا قبل أن نحتفي بها لأنها مصنوعة في الذاكرة أولاً، لهذا تصل المكان قبلنا وتهيئ لجيادنا المذهبة بتباريك صلوات البدء أناشيد بمهاميز خيول من البرونز وطموحات مذهبة، ترفع قامتها أبعد من كل نورسة تسبح في زرقة موج المحيط لحظة وقوف طارق لإلقاء خطبته، وكل منصوب هو شارة أننا كنا هنا فوق هذه الخضرة نمتع أنظار مضاربنا بالسفوح والقلاع والمدن التي أتت إلينا دون موعد/ مدن صنعها البحر وعبرت إليها خيولي. أوراقٌ مكتوبةٌ بخط كوفي لامع أو نسخ لم تحذف منه حروف العلة، تجدها صدفة في رف وراق قديم أو بين ثنايا كتاب عن تأريخ البلدان في زمن الأمان والخلان، الحروف لا ترتعش، وكأن القائد طارق يكتب وهاجس معركة البحر بعيد عنه، وكأن سفنه لم يحرقها بيديه، يكتبُ مثل مغرم والعصافير على شجرة زيتون فوق رأسه تصنع ظلها الطنجاوي وتحرك أجفانها بنعاس ريح البحر وهي تستمتع بخواطره الجذابة. أتذكر أنني شممت عطر تلك الخواطر أول مرة حين صحبني المكتبي الطيب الأستاذ (علي بودرار) ذات ظهيرة في طنجة بعد غداء ممتع مع فواكه البحر وهو طبق لذيذ من أسماك موسى والسردين والكلمار والتونة والكارب. صحبني إلى مخزن لكتبه المعطرة بالأثر حيث يخزنها بعيداً عن العرض والبيع والشراء، إنها هواية اكتسبها من والده رحمة الله وتعلم منها حب الكلمة ومعنى أن تقتني كتاباً لتصير سعيداً وأهلته لغته الاسبانية والفرنسية والعربية أن يدرك في الكتب قيمة ما تقول، ولديه سلسلة طويلة من أعداد لا نجدها في السوق تهم تأريخ المغرب واليهود والعلائق الحضارية بين أوربا وأفريقيا ولديه كتب نادرة يعود تأريخها إلى قرن مضى. هناك بين كتبه الأثيرة المكسوة بغبار أصابعه ونظراته الحنون شممت رائحة أوراق طارق وهي تتكئ على رفوف الحديد، متضايقة من عتمة المكان وازدحام الثقافات بغرفة لاتسع ذاكرة حلم فارس عَبرَ المحيط بخطوةٍ واحدة. أوراق مصفرة ولكن حبرها لا زال يشع بضوءٍ أنيق، تدرك فيه العين عقل الكلام والمراد الذي تهدف إليه. أمد أصابعي بارتعاش إلى دفتر بلون التراب، تطل علي خاطرة أولى من خواطر الفارس الأطلسي: الحلم هو أنك لا تلتفت لشجار الموج وأنت في يم، التفت إليه وأنت على الساحل. أفهم من عبارة طارق، أنه لم ينشغل بالبحر حين ركبه من ساحل طنجة، همه الساحل الآخر الذي قال له من أجله مولاه موسى بن نصير والي تونس وباني القيروان: ستصل إلى بلادٍ لن تفهمها إلا حين تفهم البحر. لم يعرف طارق موسى جيداً، طنجة كان يعني أم الأندلس؟ يقول طارق بعد حين: سألت مولاي وأميري موسى بن نصير. فقال: طنجة أولاً، فحين تمسك حكمة ما بحرها جيداً ستمسك ما بعده. هو عمل بنصيحة قائده، فكتب في خواطر دفتر أوراقه تتخدش من لمسة الأصابع: طنجة، بحر يدفع به التأمل إلى خطوط بعيدة، يشعر قائد الجند هنا بفداحة المهمة، لكنه في أمسية مودة مع طيف خريف البحر، يجد أنه قادر ليصل الغيم، وغدا سأحرق المراكب لأصنع منها سحباً أعبر بها فراش البحر. تدفعني كلمة فراش البحر وتعني في تعبير القائد سطح المحيط، إلى تذكر رومانس جمل كالفينو في مدنه اللامرئية وكيف غارت عيون الخان في دهشة السماع عن يوتبيات مفترضة نصنعها لنديم وجود مدينة حقيقية أخرى نحنُ إليها وهي بعيدة. كان طارق يفعل هكذا في تخيله بظهيرة من ظهاري طنجة، كان يتفق مع قبلاي خان: إن المدن التي يرتديها البحر مدن لا تستسلم بسهوله رغم إن أسوارها ليست سوى فنارات ومصائد أسماك وشعاب مرجانية، ولكنها للقادم تعني الغموض دائماً، لهذا كتب طارق بن زياد في خواطره: لكي أفكَ غموض المدن التي أريد الوصول إليها عليَّ أن أفك غموض المدينة التي أتطلع منها لعبور المضيق والوصول إلى فردوس الأندلس، هناك سيكون لقبائلنا اليمانية والحجازية والشامية والعراقية فيلات وبيوت من قرميد أحمر وجاريات يعزفن موشحات الهوى ونايات غابات تعيد صدى تعب الفتوحات وتهدجها الذي لا ينتهي. كتب طارق خواطره بقلق في بعض مراحل التفكير بالعبور إلى الضفة الثانية، فالذهاب إلى أرض النصارى عن طريق البحر لم يجرب إلا مرة واحدة في ذات الصواري. لقد كانت الصحراء هي بحر المنازلات لرجال الفتوحات، الآن يركب صحراء أخرى خببها الموج، يحصر رؤاه في نقطة تفكير واحدة أن لا يُبقي لجنده خيار عودة سوى التقدم إلى الإمام. إنها رحلة المصير لهذا التكليف الصعب. يقول له مولاه موسى: دع أيامك في طنجة قصيرة كي لا يلهيك سحرها عن خطط الحرب. على الساحل الرملي للمدينة الغائرة في غيوم الضوء والنعاس ـ طنجة ـ يمسكُ طارق بعصاً نحيفة ويرسم مخططا لمعركة مفترضة. في الماء تتراقص أسماك مبروك ملونة وتحوم نوارس بيض كشعاع ضحكة نهار، يعدل من وضع خوذته لتطل إلى مرآه أسوار المدينة وجوامعها، يتمنى أن يستقر في طنجة ويتولاها فردوساً يرثه هو وأبناؤه، لحظة ويتذكر تحذير مولاه عن مدينة أخطر ما فيها إنها تغري، ينهض بثبات ويهجس إلى نظرات البحر ويقول: غداً سيكون لي شأن آخر معك! قلت للسيد بودرار وأنا أتصفح دفتر صنعت تراكمات الأزمنة شيخوخة أوراقه: لماذا طنجة تمتلك غموضا بهذا الشكل وتجذب إليها من تريده فقط؟ ـ لأنها مدينة تعرف قيمة البشر الذي تودهم. ـ وهل يغتاظ الطنجاويون حين يكون هذا البشر ليس من أهل طنجة؟ ـ لا أعتقد رغم مزاجهم المتقلب، لأن المدينة أقوى من رغبة البعض لتكون لهم وحدهم. إنها مدينة أنشأتها الآلهة لتجعل البحر هادئاً، إذن هي ملك الآلهة أولاً. ـ هذا دفتر فيه خواطر طارق بن زياد، خطه إنسان مجهول. يعتقد الناس أنه شيء من دعابات ذاكرة حكواتي وكما يفعل الجوالون مع سيرة ابن هلال والزير سالم وحرب البسوس وحتى أسطرة بطولات عنترة، هل ترى أن خواطر بهذا المعنى، لا تمت بحقيقة لطارق؟ ـ أعتقد نعم، ولكنها نقلت لتكون لسان حال القائد خلال فترة انتظار وتحشيد الجيش من أجل الذهاب إلى الأندلس، ولكنها حتماً قريبة إلى أفكاره وثقافته واللحظة التي يعيشها. أقتنع بثقافة السيد على بودرار وتبريراته، أمسك الدفتر بين يدي، يشع اصفراره غبارا مذهباً بقرون من النسيان، أتخيل وجه القائد بين أوراقه فتقفز خواطره الملونة كما فراشات بين الورد. يشدني حنين قوي لأحمل المدونة معي إلى فندق أطلس في شارع يحمل اسم مولاه موسى بن نصير. بودرار يوافق. الخواطر تبتسم. طارق بن زياد يأمر بإحراق السفن كلها إلا السفن التي حملت مؤونة الماء والأكل ودنابك النصر. أخرج من مخزن المكتبي، يطل عليَّ شارعٌ بعماراتٍ حديثة ورائحة سمك يتقلب ألماً في إناء الزيت، عطر شاي اخضر، مازوت سيارات. رياح بحر تصطدم بشجار ممتع مع الأبنية الشاهقة. الخواطر في يدي وأحس فيها نفسا يتصاعد كبالونة في الهواء. أتعجب.. أرى الأوراق تتجه بحافاتها صوب جهة جبل الفتح!! كانت سجينة كل هذا الوقت وتريد أن تذهب هناك لتعبر مرة أخرى. في الغرفة 308 / فندق أطلس، حيث الطلاء الوردي الفاتح يتحد بتمازج مع خواطر دفتر قديم، قضيت الليل وأنا أدرك مع الفاتح وعي لحظة التفكير بالذهاب إلى أمكنة لم نرها قبل. يكتب طارق: هنا تملأني اللحظة بالشعور الغريب. المكان يتسيد الحس، والحس يقود إلى التساؤل، والتساؤل يفضي إلى حاجتي لجواب: كيف يكون شكل المكان الذي أذهب إليه؟ أقطع خاطرة طارق بوصفٍ كتبه ابن بطوطة وهو يعبر الأندلس مشدوداً بشغف البلاد الجديدة التي كان جبل الفتح بوابتها. حيث يجد غرناطة فردوساً من الخضرة، ولكن لولا طارق لما رأى الرحالة الطنجاوي هذه البلاد ليسجل سحر ما رآه في الصفحة 189 من رحلته تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار: ((مدينة غرناطة قاعدة بلاد الأندلس وعروس مدنها وخارجها لا نظير له في بلاد الدنيا وهو مسيرة أربعين ميلا يخترقه نهر شنيل المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة والبساتين والجنان والريضات والقصور والكروم محدقة بها من كل جهة ومن عجيب مواضعها عين الدمع وهو جبل فيه الرياض والبساتين لا مثل لها)).. إذن، عليه أن يذهب لأمكنة يتخيلها كما في ذاكرة الراحلين إليها، وسنابك خيله تمشي الهوينى في مالقا وطليطله وقرطبة واشبيلة وغيرها من مدن ستتحف ذاكرته المتخيلة بهالات عجيبة من سحر الأمكنة التي لا تذهب عن البال حتى في الشيخوخة المتأخرة. في الأوراق تجد طنجة حاضرة وكأنها لحظة للتوثب إلى مجهول يعتقده الفاتح جميلاً لأن أخيلته تتراقص أمامه جنيات بأجنحة براقة وصغيرة، ليكتب: ليل طنجة والبحر يدفعان رغبة المكوث فيَّ أن أستوطن جسد المدينة وأنسى شكل المغامرة، ولكني أمتلك قدسية التكليف لأذهب باسم الله بعيدا (اسم الله وسيفي) ولا مكان لهاجسٍ آخر، وحين تكون معهما مدينة مثل طنجة سيصيبني الخمول حتماً، لهذا غدا سيكون لي معها آخر صباح وآخر ظهيرة وآخر متعة مستقرة لرقصة نورس وابتهاج موجة. سأدع المقاهي لأهلها، والحدائق لأناسها الذين لا يرتعشون خشية من خوذة الحرب ويتمنون أن لا أبقى هنا، فهم مثلي يريدون أماكن يذهبون إليها مع طنجة ليكتشفوا إن كانت مدينتهم حقاً فردوساً مميزاً في هذا العالم الفسيح، سأشد رباط الخيل بصواري السفن وسأركب الموج وأصل إلى المكان من نقطة وثوب واحدة لا نفترضها بل نثبتها فوق الأرض وننطلق منها واثقين وحتماً سيكون هذا الوثوب من نقطة على الساحل ولكن باتجاه البحر. بربري من قبيلة (الصدف) التي كانت منذ الأزل تضرب خيامها فوق قمم الجبال العالية، دخل الإسلام وتولى طنجة لبأسه وحكمته، وكان فضله كبيراً قبل فتحه الأندلس أن يُخضعَ قبائل البربر للإسلام، وهاهي خواطره لا تنتهي عند رؤى مدينة ورغبة كشف بمصائر وأراض أخرى. أعطاه موسى جيشاً ليس بكثير فمسك صناعة النصر وقتل اللذريق ملك القوط برمحه، ذهب إلى أبعد من ذلك، أخذته نشوة النصر وذكرهُ ليل ولاية طنجة أن الأمكنة عندما نريدها فعلينا أن نغني من أجلها أغنية الخيول والسير الموسيقي، لهذا كانت خيوله تضرب في أصقاع الأرض الأيبيرية حتى ما بعد برشلونة، حسدهُ موسى عليه وأمره بالرجوع إلى طنجة أو المثول أمام الخليفة في دمشق. وهكذا تتداعى أحلام النصر دائماً وتعود كلمة قيصر ماثلة للعيان: أتعس ثمن للنصر دمعة في أحداق من كان منتصراً ومسك في الآخر خيبته. الأمر ينطبق تماماً على طارق بن زياد، وهو يدرك في خواطر أخيرة كتبها في دمشق حيث يقول التأريخ أنه مات متسولاً في إحدى بوابات جوامعها سنة 720 هجرية، وتلك فداحة الخسارة التي يجنيها المنتصرون جراء نشوة الذهاب بعيداً. ذهب طارق من طنجة إلى ربى تنبع عسلاً ولبناً ونبيذاً كاتلونيا لا تُمل عذوبته، وعاد ليجد في انتظاره حسدَ مولاه وغضب الخليفة عليه. لم يكشف طارق في خواطره سر ما حدث بل تاه في نشوة ذلك النصر والحنين إلى طنجة وهو يتألم من ضنك الفاقة والفقر والحرمان في ليل دمشق البارد. يكتب طارق في دفتره بعمر متقدم: لا تشبه دمشق طنجة، سوى أن أسواقها لها عطر مميز وأحجارها قصورها تشبه ثمرة التين، ولكن هواء طنجة أصلح لذاكرة البريري من هواء أي بلد رغم إن دمشق محاطة بالجبال ولكنها ليست شاهقة كما جبال مضارب أهلي في الصدف. إن المدن التي تصحو في شموخنا لن تُنسى بسهولة، فكيف لي نسيان مدينة عبرتُ منها إلى الجانب الاخر. أتذكر قراءاتي لسيرة الرجل وفتحه بلاد الأندلس وأجمعها من أخبار وكتب ومصادر شتى، ابن الأثير في الكامل من التأريخ وحسين مؤنس في كتابه فجر الأندلس ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس- مكتبة الخانجي- القاهرة- (1408 هـ= 1988م). مصادر شتى أسوح فيها وأحصل على بانوراما مختصرة كتب عنها الكثير ولكنها، كانت بداية نشوء حلم عربي في أوربا تلاشى بعد قرون ليعود عبر طنجة مع دمعته وضياع الملك فيما كان طارق مدفوناً في ربى الشام، لقد تُرك القائد البربري الذي امتلك جبروت الخيول كلها، ساهياً مُنشَدَّاً إلى عزلته ومعزياً بخواطره ذكريات غربته ومجد بطولته وانتصاراته التي لا تنسى: ((خرج طارق بن زياد في سبعة آلاف جندي معظمهم من البربر المسلمين، وعبر مضيق البحر المتوسط إلى إسبانيا، وتجمع الجيش الإسلامي عند جبل صخري عرف فيما بعد باسم جبل طارق في (5 من رجب 92هـ = 27 من إبريل 711م). سار الجيش الإسلامي مخترقاً المنطقة المجاورة غرباً بمعاونة يوليان وزحف على ولاية الجزيرة الخضراء، فاحتل قلاعها، وترامت أنباء هذا الفتح إلى أسماع اللذريق، وكان مشغولاً بمحاربة بعض الثائرين عليه في الشمال، فترك قتالهم وهرع إلى طليطلة عاصمته، واستعد لمواجهة هذا الخطر الداهم على عرشه، وبعث بأحد قادته لوقف الجيش الإسلامي، لكنه أخفق في مهمته. وكان طارق بن زياد قد صعد بجيشه شمالاً صوب طليطلة، وعسكرت قواته في منطقة واسعة يحدها من الشرق نهر وادي لكة، ومن الغرب نهر وادي البارباتي، وفي الوقت نفسه كان اللذريق قد أكمل استعداداته، وجمع جيشاً هائلاً بلغ مائة ألف، وأحسن تسليحه، وسار إلى الجنوب للقاء المسلمين، وهو واثق من النصر مطمئن إلى عدده وعتاده، ولما وقف طارق على خبر هذا الجيش كتب إلى موسى ابن نصير يخبره بالأمر، ويطلب منه المدد، فوافاه على عجل بخمسة آلاف مقاتل من خيرة الرجال، فبلغ المسلمون بذلك أثنا عشر ألفاً. وكان لا بد من الصدام، فالتقى الفريقان جنوب بحيرة خندة المتصلة بنهر بارباتي الذي يصب في المحيط الأطلسي بالقرب من مدينة "شذونة"، وكان لقاء عاصفاً ابتدأ في (28 من رمضان 92هـ = 18 من يوليو 711م) وظل مشتعلاً ثمانية أيام، أبلى المسلمون خلالها بلاءً حسناً، وثبتوا في أرض المعركة كالجبال الراسيات، ولم ترهبهم القوى النصرانية، ولا حشودهم الضخمة، واستعاضوا عن قلة عددهم، إذا ما قورنوا بضخامة جيش عدوهم ـ بحسن الإعداد والتنظيم، وبراعة الخطط والتنفيذ، وبشجاعة الأفئدة والنفوس، وبقوة الإيمان واليقين، والرغبة في الموت والشهادة. نجح المسلمون في الصمود والثبات ثمانية أيام عصبية، حتى مالت كفة النصر إلى صالحهم، وتحول جيش اللذريق العرمرم إلى غثاء كغثاء السيل، لا خير فيه ولا غناء، فقد كان على ضخامته متفرق الكلمة موزع الأهواء، تمزق صفوفه الخيانة؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يحقق المسلمون النصر على ضآلة عددهم؛ لأنهم التمسوا أسباب النصر وعوامل الفوز، فتحقق لهم في اليوم الثامن بعد جهاد شاق، وفر اللذريق آخر ملوك القوط عقب الموقعة، ولم يُعثر له على أثر، ويبدو أنه فقد حياته في المعركة التي فقد فيها ملكه، أو مات غريقا في أحد الأنهار عند فراره. وكان ذلك في (رمضان 91هـ = يوليو 710م) وجاست الحملة خلال الجزيرة الخضراء، وغنمت كثيرا ودرست أحوال إسبانيا، ثم قفلت راجعة إلى المغرب، وقدم قائدها إلى موسى بن نصير نتائج حملته. بعد هذا النصر تعقب طارق فلول الجيش المنهزم الذي لاذ بالفرار، وسار الجيش فاتحا بقية البلاد، ولم يلق مقاومة عنيفة في مسيرته نحو الشمال، وفي الطريق إلى طليطة بعث طارق بحملات صغيرة لفتح المدن، فأرسل مغيثاً الرومي إلى قرطبة في سبعمائة فارس، فاقتحم أسوارها الحصينة واستولى عليها دون مشقة، وأرسل حملات أخرى إلى غرناطة والبيرة ومالقة، فتمكنت من فتحها. وسار طارق في بقية الجيش إلى طليطلة مخترقاً هضاب الأندلس، وكانت تبعد عن ميدان المعركة بما يزيد عن ستمائة كيلومتر، فلما وصلها كان أهلها من القوط قد فروا منها نحو الشمال بأموالهم، ولم يبق سوى قليل من السكان، فاستولى طارق عليها، وأبقى على من ظل بها من أهلها وترك لأهلها كنائسهم، وجعل لأحبارهم ورهبانهم حرية إقامة شعائرهم، وتابع طارق زحفه شمالا فاخترق قشتالة ثم ليون، وواصل سيره حتى أشرف على ثغر خيخون الواقع على خليج بسكونية، ولما عاد إلى طليطلة تلقى أوامر من موسى بن نصير بوقف الفتح حتى يأتي إليه بقوات كبيرة ليكمل معه الفتح. كان موسى بن نصير يتابع سير الجيش الإسلامي في الأندلس، حتى إذا أدرك أنه في حاجة إلى مدد بعد أن استشهد منه في المعارك ما يقرب من نصفه، ألزم طارقًا بالتوقف؛ حرصًا على المسلمين من مغبة التوغل في أراض مجهولة، وحتى لا يكون بعيداً عن مراكز الإمداد في المغرب، ثم عبر هو في عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر إلى الجزيرة الخضراء في (رمضان 93هـ= يونيه 712م)، وسار بجنوده في غير الطريق الذي سلكه طارق، ليكون له شرف فتح بلاد جديدة، فاستولى على شذونة، ثم اتجه إلى قرمونة وهي يومئذ من أمنع معاقل الأندلس ففتحها، ثم قصد أشبيلية وماردة فسقطتا في يده، واتجه بعد ذلك على مدينة طليطلة حيث التقي بطارق بن زياد في سنة (94هـ = 713م). وبعد أن استراح القائدان قليلا في طليطلة عاودا الفتح مرة ثانية، وزحفا نحو الشمال الشرقي، واخترقا ولاية أراجون، وافتتحا سرقطة وطركونة وبرشلونة وغيرها من المدن، ثم افترق الفاتحان، فسار طارق ناحية الغرب، واتجه موسى شمالاً، وبينما هما على هذا الحال من الفتح والتوغل، وصلتهما رسالة من الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، يطلب عودتهما إلى دمشق، فتوقف الفتح عند النقطة التي انتهيا إليها، وعاد الفاتحان إلى دمشق، تاركين المسلمين في الأندلس تحت قيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي شارك أيضا في الفتح، بضم منطقة الساحل الواقعة بين مالقة وبلنسبة، وأخمد الثورة في إشبيلية وباجة، وأبدى في معاملة البلاد المفتوحة كثيراً من الرفق والتسامح. وبدأت الأندلس منذ أن افتتحها طارق تاريخها الإسلامي، وأخذت في التحول إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، وظلت وطنا للمسلمين طيلة ثمانية قرون، كانت خلالها مشعلاً للحضارة ومركزاً للعلم والثقافة، حتى سقطت غرناطة آخر معاقلها في يدي الأسبان المسيحيين سنة 897هـ = 1492م)). هذا كشف مختصر لفتوحات قائد اتخذ من ليل طنجة وولايتها لحظة تفكير لصناعة نصر. ترك خواطره وذكريات الأزمنة المتحمسة لصعود ذرى تركها إلى رفوف المكاتب بعد أن نال النسيان والفقر والإهمال بدلاً من النياشين والنصب والعز، ولكن التأريخ لا يهمل الحقيقة. أعطى طارق جبلاً باسمه، وصارت مدن الأندلس ذات العبق الباقي في الجوامع والأسوار والقصور الأثرية تحمل عطر نظرته التي كان يدفعها إلى الجزيرة الخضراء في الجانب الآخر مقابل طنجة. هي خواطر حالم وصل إلى مبتغى الحلم، ولم يصل إلى مستقر يستحقه صانع كبير لمثل تلك الأحلام. مات في فاقة وعوز ولم يكن معه سيفه أو حصانه. يُقال إنه توفى قرب باب الجامع ومعه صرة ملابس قديمة وأرغفة خبز يابسة. solingen 2009
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص قصيرة لجدتي الخطيرة ...
-
المرأة ، الرجل ( المسافة بينهما )...!
-
طنجة ...وصناعة فردوس متخيل كقصيدة
-
رائحة المكان الأول ...
-
وردة الكاريبي بموسيقى معسكر التاجي()
-
الروحاني الذاهب إلى عينيك
-
داخل الوردة... خارج الشكل
-
قصائد إلى نساء الهنود الخضر ..
-
قصيدة حب إلى شيخ المندائيين...
-
طنجة وغرباؤها ، جان جينيه وبول بوولز أنموذجان
-
صوفية المكان السومري ..
-
دع الوردة تنبت بين شفتيك...
-
شيء عن مدينة العمارة العراقية...
-
الماركسي الطيب ، ( هل أصبح أسطورة الأولين )..!
-
رائعة كافافيس : ( جسد ذكوري بعطر النعناع ) ...
-
السياب ورؤيا البلاد ..
-
اليونسكو ...دمع أور ، يُسفح مرة أخرى .....................!
-
الفنان أحمد الجاسم ..صباح أور ..صباح برلين*
-
موسيقى .. لباروكة الملكة الأيزابيث ، ولسوق الغزل* ..
-
ديك أوباما ..والمعدان ، هجروا أفغانستان الى فرجينيا ...
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|