ليس السجال حول الديموقراطية محض سجال سياسي في اي بلد من البلدان بما فيها لبنان، بل هو في عمقه سجال فكري معياري في الحياة السياسية.
"قضايا النهار" تنشر بين الحين والآخر نصوصاً "مرجعية" حول قضايا ومعوقات الديموقراطية في المرحلة الجديدة بعد نهاية الحرب الباردة والممتدة الى القرن الحادي والعشرين.
هنا نص لعالم الإجتماع الفرنسي ألان تورين في قلب هذه الإهتمامات:
إن مشكلات الديموقراطية عامة ويومية في آن واحد، لا بل في وسعنا ان نقول انها عملية. والخطر الذي يجب علينا التصدي له هو ان يخطفنا الواقع اليومي، في حين انه من الضروري امتلاك رؤية أوسع. والمشكلات التي علينا ان نتأمل فيها جدية بما يكفي لكي نبذل جهداً فكرياً وننتقل من دراسة الاعمال السياسية الى دراسة السياسة. اي ان نتساءل تالياً حول فكرة الديموقراطية لأن هذه تتحكم في ممارسة الديموقراطية.
ثمة من جهة اشخاص يقولون: انظروا، الديموقراطية تنتصر في كلّ مكان، فقد سقطت الانظمة الاستبدادية في اوروبا الشيوعية، كما انها سقطت في النصف الجنوبي من قارة اميركا اللاتينية. وذلك لأنه ثمة نوع من الحركة الطبيعية للامور. وقد تخيّل فرنسيس فوكوياما، وهو أحد الرجال الذين تكلموا على هذا النحو، نوعاً من الحركة الطبيعية للأمور التي توصل الى اقتصاد السوق والديموقراطية والتسامح في آن واحد. وذلك جزمٌ لم يدافع عنه قطّ اي من كبار المفكرين السياسيين: لا سيتورات ميل، ولا توكفيل، ولا روسو، ولا لوك. وثمة من جهة اخرى كثر يقولون: ديموقراطيتنا تفتقر الى اي معنى، فالناس غير مهتمين بها، اما اطار الدولة القومية، وهو الاطار الذي تطورت داخله المؤسسات الديموقراطية، فيبدو متجاوزاً. فالى اي من الفئتين علينا ان ننحاز في هذا الجدال؟
ليس المطلوب ان نقول ببساطة: ثمة ازمة سياسية، ازمة مشاركة او ازمة تمثيل. فنحن نعيش ازمة اكثر جوهرية، لأننا تعايشنا طوال قرون مع فكرة ان ثقافتنا تشكل مجموعة مترابطة ومؤلفة من ثلاثة عناصر متصلة في ما بينها على نحو وثيق. العنصر الاول هو اكتشاف قوانين الطبيعة بواسطة العقل العلمي. وتلك هي الفكرة الاساسية التي قدّمها عصر النهضة. اما العنصر الثاني، فهو فكرة ان المجتمع يجب الا يخضع لحكم العادات والامتيازات وانعدام المساواة، بل لحكم القانون، اي باسم العقل والسيادة الشعبية. وأخيراً، ثمة فكرة ان الفرد يجب الا يخضع لحكم السلطات الاخلاقية او الدينية او العائلية، بل عليه، مثلما كان يقول ديكارت للاميرة اليزابيت، ان يخضع لحكم العقل الذي يجب ان ينتصر على الانفعالات. سادت إذاً فكرة عالم موحد، حيث الفرد والمجتمع والعالم منسجمون. وكانت لدينا فكرة ان المجتمع يجب ان يكون في آن واحد عالم القوانين وعالم التطور بفعل العقل العلمي.
اما اليوم فنشهد على العكس من ذلك انفصال عالم العقل - الذي بات عقلاً أداتيا - عن عالم الاشياء والتقنيات والاسواق وانظمة التبادل والاشارات والمعلومات. بالاضافة الى انفصاله من جهة اخرى عن عالم الفرد، الذي يمكن ان يقتصر على فرد واحد، لكنه في الواقع لا يقتصر عليه لان هذا الفرد يحاول، في هذا العالم الدائم الحركة، ان يستند الى هويته، أي الى مجتمعه وجذوره وتقاليده وأمته وعرقه ودينه كذلك، وهي انتماءات كنا نخال انها ستندثر شيئاً فشيئاً مع العقلية الحديثة، لكنها تعود الى البروز على سطح العالم المعاصر.
عالمنا هو عالم "السي. إن. إن." وعالم آيات الله في آن واحد، عالم النفط والعالم المحلي. يقول علماء البيئة: لنفكر على نطاق شامل، ونعمل على نطاق محلي، إلا أن الشامل والمحلي غير متصلين. وبين هذين العالمين، اي بين عالم الاشياء والرؤية الموضوعية، وعالم الذاتية ووعي الذات والهوية، الذي هو أيضاً عالم الجماعة مثلما هو عالم الحياة الجنسية والخيال. بين هذين العالمين، عالم الخارج وعالم الداخل، ليس ثمة سوى ثقب أسود ابتلع المجتمع والسياسة. لم يعد ثمة وساطة بين عالم التثنيات وعالم الذاتية. ونحن نعيش اكثر فأكثر حياة مزدوجة. في الواقع، ان الناس الاكثر تعقلاً هم الذين يملكون حياتين فحسب، لكن ثمة اشخاص يملكون حيوات كثيرة. ولم تعد الحياة العامة، اي الحياة الاجتماعية، تؤمن مبدأ الوحدة. اذاً فإن ما يشكل موضوع الجدال الآن هو وجود السياسة وتمييزها وصوغها.
احدى النواحي الخاصة من هذا الجدال هي ما يسمى ازمة الدولة القومية. ماذا كان مفهوم الدولة القومية؟ تذكروا الدستور الاميركي واعلان حقوق الانسان وشعار: "حرية، مساواة، اخوة". الامة لم تكن تعني الشعب، بل على العكس من ذلك تماماً! الامة كانت تعني السيادة الشعبية في طور العمل، وكانت تعني الناس بصفتهم مواطنين، اي مجموع المواطنين، اولئك الذين يسنّون القوانين. وارغب في ان اقول "المؤسسين" الذين هم في آن واحد افراد ومقومات الارادة العامة.
اما اليوم، فان كلمة "أمة" تؤخذ في جميع الانحاء تقريباً بمعنى مناقض لما سبق: فهي لا تنتمي الى ذلك التصور الفرنسي - الاميركي، بل الى تصوّر يوصف غالباً، وذلك أمر خاطئ جزئياً، بالالماني.
فالشعب (Das Volk بالالمانية او Narod بالروسية) يشير بحسب تحديد الالمان الى وحدة مصير وثقافة وتاريخ ولغة، اي انه شيء تتلقونه وليس شيئاً تصنعونه، مثلما كان يقول فرنسيو الثورة. وتعلمون ان الصفة الآتية من كلمة شعب هي "شعبي"، وتلك هي الكلمة التي استخدمها النازيون لكي يعرّفوا بأنفسهم.
إذاً نحن نعيش من جهة في عالم التقنيات والعلوم التطبيقية وسيطرة التكنولوجيا، الخ... ومن جهة اخرى، في عالم "شعبي". وثمة بين الاثنين نوع من الحرب الاهلية الكامنة على المستوى العالمي، او، مثلما أشرت آنفاً، نوع من الفصام على مستوى الافراد والمجتمعات المنقسمين بين الخاص والعام. وتالياً، إن التأمل في مسألة الديموقراطية، يعني في الدرجة الاولى التأمل في موضوع السياسة: كيف يمكن ان نخلق، او ان نعيد خلق، وساطات سياسية واجتماعية بين عالم الاقتصاد وعوالم الثقافات؟
إن صورة الديموقراطية الكلاسيكية هي "حكم الشعب من أجل الشعب، ومن جانب الشعب"، وتلك صيغة قالها لينكولن في خطابه الشهير عند اندلاع الحرب الانفصالية الاميركية. كانت حكومة "الكلّ" تتصدى لحكومة البعض"، او لحكومة الشخص الواحد، إلا أن الديموقراطية لا يمكن ان تكون حكم الجماهير، اي حكم الغالبية. فهتلر انتخب من جانب الغالبية، وقام النظام الشيوعي في براغ نتيجة انتخابات سليمة عموماً، ويمكن القول إن ستالين، عند وفاته، أثار حسرات غالبية الشعب الذي كان يبكيه في الشوارع.
الديموقراطية تبدأ عند اللحظة التي نريد فيها ان نطبق فعلياً مبدأ حق شمولي، اي على غرار ما نسميه مثلاً الحرية او المساواة او العدالة او التضامن. وترتكز على هذا المبدأ مسألة السيادة الشعبية. اذ رغم ان الناس غير متساوين في الواقع، إلا انه ثمة نظام آخر، هو النظام السياسي الذي يعلو على النظام الاجتماعي، والذي تنفّذ باسمه عمليات تدخل باسم الحق، باسم مبدأ شمولي. في مجال المصالح والآراء والقيم، ويجب ان نتفق على نقطة الانطلاق هذه.
جميعنا نخاف من الانظمة التي تُحكّم الجماهير، ونخاف من التظاهرات الضخمة في الشوارع، ونخاف من المواكب امام المنابر الرسمية. ليس ثمة ديموقراطية من دون مبدأ تحديد السلطة. وتلك هي حقاً بداية اي تفكير في موضوع الديموقراطية، وهي الموضوع الجوهري لاعلان حقوق الانسان والمواطن.
إلا ان هذا التصور للديموقراطية، اي ذلك المرتبط بالاعلان الفرنسي لحقوق الانسان وبالدستور الاميركي او حتى بمشروع قانون الحقوق الانكليزي العائد لعام ،1689 كان يتطابق مجتمع مع جامد نسبياً، اي مجتمع ذي سيطرة اجتماعية قوية وتوازنات متجانسة وثابتة الى حدّ ما. في هذا العالم المتكامل والمجزّأ في آن واحد، بل المتدرج على غرار جميع المجتمعات التقليدية، اتخذت الديموقراطية موقع مثال أعلى للمساواة يكسر الحواجز ويشرّع الابواب والنوافذ. لكننا لم نعد في هذا العالم، وعالمنا لم يعد عالم قرى. ولم يعد المسؤولون عن تربيتنا الاقطاعي او كاهن الرعية او الجد، بل برامج التلفزيون والعاب الفيديو والعلوم.
لم يعد في وسعنا ان نستند الى الكوني ضد العالم الذي يزداد غربة عن التقاليد، لأننا نعيش في عالم صناعي وتجاري ومعلوماتي واعلامي. لذا فالسؤال المطروح هو: اي شكل يمكن ان تتخذه الدعوة الى مبدأ كوني في عالم متحرك؟ أفهم جيداً واقع ان الاستناد الى مبدأ شمولي قد أتاح الانفصال عن العالم المغلق والتقليدي للعادات والحقائق الراسخة. لكن ما مصير ذلك الامر حين يتحرك العالم ويصبح صناعياً؟ الاجابة الملموسة هي اننا قد انتقلنا من حقوق الانسان الى الحقوق الاجتماعية. وقد تم الحديث عن الحق في العمل، والحق في انشاء عائلة، وذلك هو الاطار الذي يريد فيه البعض ان تعتبر البطالة غير قانونية.
لقد قالت تجمعات ونقابات عمالية: مبدأ الحرية والمساواة والاخوة جيد جداً، لكن ما يهمنا هو حق العامل في التدخل في مجال تحديد شروط توظيفه وعمله وأجره. فذلك امر أكثر حسيّة، وليست الحقوق التي تتم المطالبة بها حقوقاً شمولية بل انها حقوق خاصة بالاجراء الذين لا يحددهم وضعهم الانساني بل علاقات العمل، اي علاقات انتاج اجتماعية.
وعلى النحو نفسه قال اخرون: أيها الفرنسيون، لقد تحدثتم عن الحرية والمساواة والاخوة، لكنني شخصياً جزائري او فيتنامي او سينيغالي او غيني، وانا خاضع لاستعماركم. لذا فانني اطالب كأمة، ناسخاً مشاريعي عن مشاريعكم، بحرية الشعوب في تقرير مصيرها.
إذاً فان ما يطالب به في هذا الاطار هو بدوره حق شمولي، لكنه مطلب شعوب تريد ان يتم الاعتراف بها بناءً على واقعها الخاص. اذ ثمة فرق كبير بين ان يعترف بالمرء كانسان، وان يقال ان جميع الناس يولدون احراراً ومتساوين: كلا، لأن كل واحد يطالب بالاعتراف به كعربي او جزائري او مسلم او قبيلي.
أخيراً، ثمة تيار ديموقراطي مهم ثالث هو تيار النساء، اللواتي اعتبرن انه من الشائن الا تنطبق مبادئ الحرية والمساواة سوى على نسبة 50 في المئة من الراشدين. ومما زاد من صحة مطالبهن هو ان فكرة التصويت الشامل جاءت بناء على فكرة ان الرجل كائن شمولي وعقلاني ويجب ان يكون في موقع متعارض مع المرأة التي ليست شمولية وعقلانية، مثلما ذكّر أخيراً رونسافالون في كتابه حول التصويت الشامل.
وليست مصادفة ان يكون البلد الاوروبي الذي قام بأول تصويت شامل، اي فرنسا، وذلك عام ،1848 قد انتظر 97 عاماً قبل ان يعطي النساء حق التصويت، وكان لينتظر على الارجح وقتاً اطول من هذا لو لم يصدر مرسوم عن الحكومة الموقتة في الجزائر!
النساء يقلن نعم، نريد حقوق المواطنية، فذلك حق شمولي. لكنني اريد ان يتم الاعتراف بالنساء من حيث خصوصيتهن، وقد كانت الحركة العمالية الاولى التي تحدثت في هذا الموضوع، بما ان احد اول القوانين التي تم التصويت عليها كان حظر العمل الليلي للنساء. هكذا طالبت النساء بالحصول على كل الحقوق السياسية القانونية والشمولية بغية الدفاع عن مصالح خاصة، على غرار اجازة الامومة مثلاً.
وفي وسعكم ان تلاحظوا انه في الحالات الثلاث: اي مشكلة الطبقات الاجتماعية، ومشكلة الامة، ومشكلة الجنس (بمعنى الذكور والاناث)، المطلوب هو، مثلما يؤكد التاريخ الاجتماعي للاعوام المئة والخمسين الاخيرة، الانتقال من توكيد الشمولية (اي حقوق الانسان الاساسية، والحقوق الطبيعية)، الى رؤية اكثر تعقيداً تسعى الى تجسيد الحقوق الشمولية على صعيد فئات وظروف وعلاقات اجتماعية خاصة.
فلنعطِ الآن صياغة اكثر شمولية لهذه التحولات. نحن لا نعتقد أنه يكفي ان نتحدث عن الحقوق الاساسية، ولا نعتقد خصوصاً ان افضل طريقة لحماية الحقوق الاساسية تتمثل بالاعتماد على عالم سياسي يعلو على العالم الاجتماعي.
وصحيح ان هذه الصورة الارسطوطاليسية ما زالت تحظى بدعم عقول كبيرة، ونفكّر أولاً في هذا الاطار بحنّا أرندت، الا اننا نتردد اليوم في السير على هذه الدرب، ونريد ان تتجسد هذه الحريات الاساسية في مجال العمل، وفي العلاقات بين النساء والرجال، وفي العلاقات بين الامم. لا بل أذهب الى حد القول باننا نرغب جميعاً في أن نقول: مما لا شك فيه أن الديموقراطية هي قانون الغالبية، لكنها أيضاً احترام الاقليات. وتكفي هذه الجملة للتعبير عن الانقلاب الذي طرأ على مفهوم الديموقراطية لدينا. ان جوهر التفكير السياسي يعني ايجاد طريقة للجمع ما بين الاستناد الى الشمولي والاستناد الى حقوق الانسان، الى جانب احترام الخصوصيات.
ويقول اشهر فيلسوف سياسي، وهو جون رولز، في كتابه الاخير الذي يحمل عنوان "الليبرالية السياسية"، وبأسلوب بسيط للغاية، ان الديموقراطية تقوم على دفع اناس ينتمون الى ظروف ومعتقدات مختلفة الى العيش معاً، اي في ظل القوانين نفسها. وذلك هو ما نعبّر عنه عموماً في لغتنا الفرنسية بكلمة واحدة، هي العلمانية، اذ ليس ثمة ديموقراطية غير علمانية. وان اول نص علماني والنص الابرز والاكثر اهمية في مجال العلمانية هو من دون شك دستور الولايات المتحدة وانني اتخذه مثالاً لأنه يحلو للاميركيين الرجوع الى القيم الدينية.
ويطرح الدستور الاميركي مبدأ العلمانية والدنيوية: اذ يجب عدم المطابقة بين الدولة واي هيئة، او معتقد، او اقتناع. لذا حين يقول التماميون: يجب نزع صفة العلمانية عن الدولة، ويجب ان تكون الدولة تالياً اسلامية او مسيحية او يهودية او بوذية او هندوسية، يعني ذلك ان الدولة المعنية لا يمكن ان تكون ديموقراطية.
كيف يمكن الجمع ما بين المبادئ الشمولية واحترام حرية الافراد؟ ثمة اجابتان رئيستان عن هذا السؤال، وكلاهما غير مقبول. ثمة اولاً الردّ، الفرنسي غالباً، القائل بمنح الشمولية امتيازاً حصرياً في مواجهة كل ما تبقى وضده، اي رفض كل خصوصية (ولا بد انكم تذكرون في هذا الاطار الجملة الشهيرة التي قالها عدد كبير من الثوار، وأذكر منهم القسّ غريغوار وكليرمون تونير، حول موضوع اليهود: "كل شيء لليهود كأفراد، لا شيء لليهود كجماعة"). وذلك هو الموقف الذي يسعني ان اطرحه بكلمة واحدة في ما يتعلق بأكثر المشكلات تعقيداً، ألا وهي مشكلة الهجرة. اذ لطالما كان الموقف الفرنسي على هذا الصعيد كالآتي: فليكن تشريعنا منفتحاً، ولنحمِ حقوق الافراد، وليكن مفهومنا عن الجنسية مرحباً. وما زال الاغراء موجوداً.
لقد اصدر المجلس الاعلى للهجرة كتاباً يمكنكم بسهولة ايجاده في المكتبات، ويحمل عنوان "الاندماج بفرنسا". وهو نصّ ليبرالي للغاية في روحيته، لكنه فرداني وشخصي، ويطرح مفهوماً يصعب اليوم اعتباره كافياً، لأنه من الضروري ايجاد جواب عن السؤال الآتي: كيف يمكن الجمع ما بين الشمولي والخاص. والمقلق هو ان يقال: ان تندمج بفرنسا، يعني ان تندمج ببلاد حقوق الانسان. تالياً كلّما ازددت شمولية، ازداد انتماؤك لفرنسا: وذلك لا يتطابق مع الواقع.
تعلمون جيداً ان العالم اليوم منجرف نحو الجهة المعاكسة، اي في اتجاه التعدد الثقافي، وذلك في العالم الثالث خصوصاً ولكن أيضاً في "العالم الاول"، اي عالم البلدان الصناعية. والرأي العام، والميل الثقافي هما السائدان في عدد كبير من البلدان، وخصوصاً في الولايات المتحدة، وفي شكل رئيسي في افضل الجامعات الاميركية. وما نصفه بالكلام "اللائق سياسياً" يقضي بأن نقول انه يجب وضع حدّ لتفوّق الثقافة المتمحورة حول اوروبا والذكورية، او المتمحورة في اي حال حول الثقافة الذكورية واليهودية - المسيحية والبورجوازية.
هناك أناس يقولون انه ثمة ثقافة انثوية، وانه من الضروري عرض وجهة النظر التاريخية للنساء الى جانب تلك الخاصة بالرجال وانه يجب كذلك القيام بتأريخ للولايات المتحدة من وجهة نظر الهنود، او بتأريخ لاميركا اللاتينية من وجهة نظر المستعمرين، او بتأريخ للولايات المتحدة عن وجهة نظر المثليين الجنسيين، في حين أن التاريخ عموماً هو تاريخ مشتهي الجنس الآخر. ويمكن ان نضيف: تاريخ الشباب، وتارخ المسنّين.
ويكمن الخطر في احتجاز كل مجموعة في ثقافتها، وفي الغاء كل شمولية. لكن كيف يمكن آنذاك ان نعيش معاً؟
قد يكون ذلك بواسطة الحرب او الحملات الصليبية او الجهاد او السوق. لكن ذلك لا يشكل تواصلا اجتماعيا. فاذا رد موظف البريد عليكم باللغة العربية وجاره باللغة السواحلية قد يشعر الايرلندي العابر امامهما بالضياع! لنترك اذا المواقع المتطرفة ولنتساءل عن الناس الذين اقترحوا حلولا افضل.
يبدو لي ان الرجل الذي قدم الاقتراحات الاكثر تطورا هو ذلك الذي لهذا السبب يمارس اكبر قدر من التأثير الفكري في العالم وهو في الوقت الحاضر يورغن هابرماس. اذ يقول هذا: الشمولية موجودة في كل الميادين اي في ميدان العقل العملي (نقد العقل العملي لايمانويل كنت) وفي ميدان الجمالية (نقد الحكم لكنت) كما في ميدان العلوم (نقد العقل الخالص لكنت كذلك).
تقاس الديموقراطية بدرجة التنوع الذي تديره قوانين مجتمع ما. يجب على القانون ان يعترف بحقوقي الاساسية، اي بحريتي وهويتي على حد سواء. ولبضعة اعوام خلت، عمد فيلسوف من مرحلة ما بعد الحداثة، هو جان فرنسوا ليوتار، الى اطلاق صيغة لقيت شهرة واسعة النطاق حول نهاية الروايات التاريخية الكبرى. وليوتار على حق: اذ لم نعد نؤمن بان العالم هو السير نحو التقدم، نحو الليبرالية، نحو الاشتراكية، نحو الشيوعية. شرط ان نضيف الى ذلك ما هو الاهم في رأيي: نعم، لقد انتهت حقبة الروايات التاريخية الكبرى، لكننا دخلنا حقبة حيث يحاول كل واحد منا ان يجعل من حياته الخاصة رواية، ويحاول التصرف باكبر مجموعة من العناصر التي يمتلكها. اي حياته، لكي يجعل منها حياة فردية ومتميزة بقدر تميز بصمات اصابعنا. اذ يريد كل شخص ان تكون حياته هي حياته الشخصية، لا حياة طبقته الاجتماعية او جنسه او لغته او مهنته، الخ.
ويريد كل واحد ان يعتبر كل عنصر من عناصر حياته كاشارة الى تفرده. واظن ان هذا هو ما يشكل القيمة الرئيسية اليوم، في عالمنا العصري هذا: وهو ما عبر عنه غالبا علماء النفس الاميركيون مشيرين الى اهمية "تقدير الذات". وانني الان في صدد استخدام كلمة خطيرة، لكنني استند في ذلك الى نص شهير لسيغموند فرويد يعود الى عام 1914 حول النرجسية، والكملة التي اعنيها هي "النرجسية الثانوية". لكن بما ان هذه قد اكتسبت دلالة سلبية، لنقل ببساطة "حب الذات".
ذلك هو في رأيي اكبر مطلب ثقافي اليوم، اي حب الذات. لا بمعنى الاناني، لا بمعنى الانغلاق في شرنقة، بل بعض ما اسميه الفاعل، اي رغبة كل فرد في ان يكون فاعلا، في ان يكون طرفا. والديموقراطية هي مجموع الظروف المؤسسية التي تمنح الفرد فرصة افضل لكي يكون فاعلا. اذ لم نعد نقول: يجب ان نضحي بالفرد في سبيل المجتمع والامة والله والعلم والعقل والتاريخ ونظام العالم. بل اننا نفكر في شكل اساسي بان المجتمع والاجتماعي والقانوني والسياسي يجب ان تكون جميعا ادوات في خدمة التفردية، او في معنى اكثر عمقا، في خدمة التحول نحو الذاتية".
كان ميشال فوكو يرى في هذا الامر خطر تحول الاشخاص اتباعا لامير او لنظام وهذا الخطر واقعي جدا، الا ان عالمنا، الذي يستطيع استعباد الافراد بواسطة حملات الترويج والاعلانات واشكال التطبيع، منح مفهوم الفاعل اهمية جوهرية.
يجب ان تفهم السياسة، اذا توخى المرء ان يكون ديموقراطيا، على انها الدفاع المؤسسي عن الانسان، اي عن الفرد والاقليات والجماعات ومجموع الجماعة. اي وبكلام آخر، الفئات السياسية هي فئات اداتية موضوعة في خدمة شيء اكثر جوهرية، وهذا الاخير هو بحسب مبادئه نفسها معاد للمجتمع، وهو ما نسميه ببساطة هنا الحرية.
وذلك ما كان يقوله عالما اللاهوت الاسبانيان سواريز ولاس كاز في بداية عالمنا العصري، وان بتعابير وتصورات مختلفة تماما، حين هاجما الغزاة الاسبان قائلين ان الهنود هم مخلوقات الله بقدر الاسبان، ويتمتعون تاليا بميزة تتجاوز شخصيتهم وثقافتهم، الا وهي واقع ان جميع الناس هم مخلوقات الله.
واسمحوا لي ان اختتم بالعودة الى نقطة انطلاقي: فهذا التفكير النظري بعض الشيء هو اقرب الى الواقع اليومي من الجدالات المؤسسية الصرفة. لن يكون ثمة دفاع عن الديموقراطية، وتاليا لن يكون ثمة حرية، اذا لم يكن في وسعنا اليوم ان نضع للديموقراطية اسسا متينة بقدر الاسس التي شيدها لها اسلافنا حيث كتبوا الاعلان عن حقوق الانسان.
عن نشرة La Republique des Lettres
ترجمة جمانة حداد |