مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 2682 - 2009 / 6 / 19 - 08:41
المحور:
القضية الفلسطينية
الحقيقة أن القضية الفلسطينية تتجه بوضوح نحو طريق مسدود دون مواربة و أن أية محاولات لإيهام النفس بشيء آخر هو شكل آخر من خداع الذات , إن التباين الشديد في ميزان القوى و الاتجاه الإجباري لدى الإسرائيليين نحو تدمير خصمهم و استئصاله , وهو ما يقومون به بالفعل تدريجيا , و قبول النظامين العالمي الرأسمالي و العربي الرسمي بالتضحية بالفلسطينيين لبقاء هذه التوازنات و لبقاء الواقع كما هو لصالح القوى السائدة , و وصول العدمية في المشهد الفلسطيني إلى واقع سيطرة قوى مستعدة للتفريط بكل شيء في سبيل لقمة العيش المغمسة بالاحتلال أو بعض المازوت و الدواء كهدف قائم بحد ذاته و إلى واقع الانقسام الغبي بين سلطتين غير موجودتين أصلا , كل هذا يدل ببساطة شديدة على المصير الفعلي الذي ينتظر الفلسطينيين على أرضهم : إنهم هنود حمر العالم المعاصر , كم من الغريب أن تكون أمريكا البيضاء هي أيضا قد وقعت أعدادا لا تحصى من الاتفاقيات مع هنودها الحمر التي كانت هي بالذات من يخرقها و يدوس عليها تباعا قبل التوصل لاتفاق جديد و هكذا دواليك , مع كل اتفاق كان الهنود الحمر ينسحبون أكثر فأكثر و تنخفض أعدادهم تحت وابل من رصاص الجنود الاتحاديين , لكن العالم المعاصر الذي يعتمد شريعة جديدة لحقوق الإنسان و الذي توقف عن قياس جماجم الآسيويين و الزنوج ليثبت تفوق الرجل الأبيض أو العرق الآري كما كان الحال في ثلاثينيات القرن العشرين , لن ينصب محرقة بدائية لهؤلاء الفلسطينيين , بل إنه على الأغلب سيسمح لكل من يشاء منهم , أو لأكثرية هؤلاء , بالحياة في دول أوروبية و أمريكية جنوبية , حيث سيحل الفلسطيني في تلك البلاد التي فر إليها اليهود من محرقتهم الأوروبية في الثلاثينيات أو إلى تلك البلاد التي قتلت هنودها الحمر لصالح الوافدين البيض الجدد , و سيستبدل اليهودي التائه كما سماه الدكتور المسيري بالفلسطيني التائه هذه المرة , هذا الفلسطيني الذي يعيش ذات الأزمة بين المنفى و بين ذكرى الأرض المقدسة في بحثه دائم الترحال عن منفى أخير أو عن وطن لا يأتي , هذه هي مفارقة واقع لا يتوقف عن بناء معسكرات موت جديدة , بعد أن سفك الغرب دماء اليهود طوال قرون اكتشفهم فجأة و على الفور تغيرت هوية القاطنين في معسكرات الموت ( يمكن اعتبار الضفة و القطاع الشكل الأكثر معاصرة لمعسكرات الموت هذه ) , و ها هو ذا الغرب "يكتشف" عبيده السابقين , لكن ليس في صورة مالكولم اكس و لا حتى لوثر كينغ الأكثر اعتدالا التي يجري تغييبها عمدا , بل في صورة رئيس أسود , بل و رئيس أسود مخلص للمؤسسة الحاكمة , النظام العربي انتهى عمليا من هذه القضية , و من ورائه الليبراليون العرب , الذين توصلوا إلى أن أقصى تبعية ممكنة , بما تفترضه و تشترطه من اقتلاع للشوكة الفلسطينية من الخاصرة الأمريكية الإسرائيلية , للنظام الرأسمالي العالمي هي الشرط الأساسي و الوحيد لنهضة مزعومة و لديمقراطية ما تستثني أعداءها المفترضين أي الأصولية كهدف بحد ذاته , ألم يكن الهنود الحمر ذاتهم ضحية تلك الديمقراطية الأم , إضافة إلى شعوب بأكملها , الذاكرة الغربية مريضة لدرجة أنها سخرت طويلا من مطالبة القذافي غير الجادة على الأغلب بتعويضات عن فترة الاستعمار الإيطالي الذي لا يتصور الإيطاليون المعاصرون درجة همجيته و وحشيته سواء في ليبيا أم في أثيوبيا و لا يكترثون لها دون أي تأنيب ضمير , و لا يعرف الفرنسيون على الأغلب أن مليون جزائري قتلوا قبل أن يغادر الجنود الفرنسيين بلدهم أو لا يكترثون ( سيان ) , هذا في معارضة هجمة 11 سبتمبر مثلا التي تسجل بدقة بالغة و توصف بأقذع الأوصاف الهمجية على عكس إلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما و ناغازاكي , هكذا تتشكل ذاكرة الغرب الرأسمالي التي يتبناها النظام العربي الرسمي و الليبراليون العرب بحذافيرها , هنا تبدو خيارات الإنسان الفلسطيني إلى حد كبير إجبارية , ففي مواجهة وضع يائس على هذه الدرجة لا يمكن إلا اللجوء إلى الآمال اللاعقلانية التي يقدمها المقدس , الذي يبدو القوة الوحيدة القادرة على هزيمة عدو بهذه القوة و على تغيير واقع على هذه الدرجة من انسداد الحلول , مأزق هذا الحل السماوي أنه لا يتطلب أية جهود حقيقية من المظلومين من أهل الأرض سوى الصدق و الإخلاص في عبادة السماء المخلصة المنقذة , ما زال المخيال الشعبي المازوخي يتصور إمكانية , إن لم يكن ضرورة , ظهور مخلص مستبد كصلاح الدين , طاغية شعبوي , و لذلك كان الحديث عن فلسطين أقرب الطرق لتبرير الاستبداد في عالمنا , ذات المخيال المازوخي هو الذي يدفع النخبة للصمت عما يجري في فلسطين و تبريره كمدخل ضروري لديمقراطية على نمط ديمقراطية القتلة التي توصف بأنها الشكل الوحيد الجدي من الديمقراطية , كنوع مازوخي من التماهي مع المعتدي , من محاولة تقليد المعتدي , لقد تعرض الفلسطينيون للتهميش لدرجة أن دعوتهم إلى النضال اليوم تبدو غير مضمونة , و قد جاء التهميش بالتحديد من جهة ممثلهم الشرعي كما يسمى , المؤسسة الرسمية الفلسطينية التي بعد أن تبقرطت بالكامل اليوم أصبحت أكثر من مجرد عقبة أمام التحقق الذاتي للفلسطينيين العاديين , بل أصبحت مستعدة لدور الشرطي المحلي التابع لسلطة الاحتلال , لا يمكن الطلب من المكبوتين المهمشين أن يقاوموا فعليا دون تهديد ذات حقيقة هذا الكبت و التهميش للناس العاديين , أما تقديس هذا التهميش فيعني باختصار الاعتماد الدائم , كما هو حاصل الآن , على ألاعيب النخب و مساوماتها الفوقية كشكل أساسي لما يسمى بممارسة السياسة , كما أن نتائج هذا النضال لن تكون مضمونة هي الأخرى في الظروف الحالية و ترتبط عضويا بنتائج النضال ضد مجمل منظومة الاضطهاد المحلية و العالمية , فيم يبدو من شبه المستحيل إمكانية ظهور نخبة عربية أو فلسطينية , و لو مستقبلية , مرتبطة عضويا بالقوى السائدة و الحاكمة في بلاد المركز الرأسمالي , تلعب دور هرتزل – روتشيلد التاريخي في خلق ارتباط عضوي بين مشروع كياني فلسطيني ما و بين مصالح تلك القوى السائدة في المركز الرأسمالي في قلب لمنطق وجود الكيان اليهودي الإسرائيلي في فلسطين , هذا يعني أن الصراع يتجه نحو نهاية حتمية في الأفق المنظور , أما أية احتمالات أخرى فهي تحت رحمة تغييرات لا يد لنا فيها , كشعوب و جماهير مغلوبة على أمرها , مثل العودة إلى حالة من الجمود في حالة صعود قوة موازية للقوة الأمريكية ( الصين مثلا ) و دخولها في صراع مع المركز الأمريكي للنظام الرأسمالي , أو حتى صعود طاغية باحث عن الشعبوية و عندها سيبدأ كل شيء من جديد , سيكتشف الناس بعد نشوة النصر حقيقة واقعهم و سيبدأ التناقض بالتصاعد بين الاستبداد و البشر المحكومين حتى ينتهي إلى حل ما ( سقوط الطاغية غالبا لصالح طاغية أكثر تهذيبا أو تحت أسماء جديدة ) و هكذا من جديد , هذه الاحتمالات البعيدة يجب ألا تحجب الحقيقة الأقرب عن مصير الفلسطينيين المعاصر الذي يشكل نسخة عن مصير الهنود الحمر , إننا نشاهد محرقة القرن الواحد و العشرين أمام أعيننا لكن هذه المحرقة ينكرها الجميع بهدوء و دون صخب........
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟