مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 2680 - 2009 / 6 / 17 - 09:10
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
قد يدعو للتفاؤل أن مصر باتت تدرك قيمة النقد الذاتي بوصفه أول خطوة علي طريق التغيير, من حيث كونه تجاوزاً لسلبيات ترسخت, واختراقاً لحصار طال أمده, وانطلاقاً إلي فضاء طالماً اشتهت الروح أن تتنفس فيه وأن تتألق وتبدع.. ينطبق هذا على عناصر ذات وزن داخل النخب السياسية ، لبراليين وقوميين ويساريين وربما أخوانيين أيضا ً .
بيد أن ما يمكن تسميته بالنقد الذاتي ليس هو – يقينا ً - تلك الاتهامات التي نتوجه بها إلي أنفسنا في ساعات الهزائم , أو فترات الإحباط , مثل القول بأننا مقصرون, فاشلون, سلبيون كسالي, عبـّاد ملوك ومنافقو رؤساء... إلي آخر هذه القائمة المنبثقة عن حالة سيكوباتية مازوكية ، يلذ بتردادها العامة و الكتـّابُ السطحيون.
النقد الذاتي مسألة مختلفة بالجوهر والعرض . فهو عملية Process ذات منطلقات تعرف إلي أين تتوجه ، تبدأ بالحفر حتى الجذور، مستخدمةً منهجاً " علميا ً" مرناً, يقطع مع أية "علماوية " تدعي الحياد, بينما هي تبرر للسائد المستقر بحجة التوصيف الموضوعي ، زاعمة ً أن القوانين التي يسنها البشر إنما هي ذاتها قوانين الطبيعة , ومن ثم تكرس لما يسمي بالحق الطبيعي( للطبقات المهيمنة دون غيرها طبعا ً ) بينما منهجية النقد الذاتي تتلون بلون الحقل الذي تعمل فيه , كل بما هو عليه من محددات عملية قابلة بدورها للمراجعة , وللتخطئة , وللتجاوز . ومثال ذلك أن المنهجية العلمية المرنة في تفهمها لإعادة تشكيل الجغرافيا البشرية بالهجرة (من/ إلي) أو بالغزو الخارجي المؤقت أو المنتهي بالاحتلال الاستيطاني , فإنها لا بد تعتمد علي التحليل العلمي الصارم وليس على خرافة المؤامرة التاريخية ( ضدنا بالذات ؟! ) أما حين تنتقل إلي محاولة رصد التاريخ السياسي والاقتصادي و الاجتماعي للعالم , أو لأمة بعينها , فإنها لا مشاحة سوف تغير الكثير من أدواتها وآلياتها حيث تلتقي الأفعال َ الإنسانيةَ بتعقيداتها التي يشتبك فيها ما هو موضوعي بما هو ذاتي , و التي تختلط فيها الحقائق بالخرافات, ويتصارع علي ساحتها العقل مع الأيديولوجيا , ويمضي في دروبها المتعرجة النضالُ من أجل التحرر جنباً إلي جنب دواعي الاستكانة , وتتمايز عندها المقاومة الناضجة عن مجرد الصراخ والأفعال غير المحسوبة . وهنا تغدو ثقافة النقد الذاتي تحديدا ً بمثابة البوصلة التي تحدد للسفينة التائهة ميناء الوصول الآمن .
النقد الذاتي إذن هو أرقى أدوات النموذج المعرفي الحداثي، وأساسه أن الإنسان هو صانع مصيره وليس لعبة في يد الغيب، ومن ثم فلا مجال للوم الأقدار ، وإنما المجال متاح للتغيير بنقد السلبيات الذاتية ، توطئة ً لمحوها . أما أعمدة هذا النموذج فنتائج العلوم الإنسانية ، وقوانينها المغايرة لقوانين الطبيعة وشرائع الغاب، وأما سقف النموذج فملكوت الحرية، إن كان للحرية سقف. وهو بعد هذا وذاك نموذج يقطع مع الميتافيزيقا بترسيخه للوعي الواقعي لحركة التاريخ ، تلك التي انتهت في عصرنا إلى التسليم بأن الشعوب هي مرجعية كل حكم ، ومصدر الشرعية لكل إدارة .
بيد أن مادية هذا النموذج الذي يشارك النقد الذاتي في بنائه ,لا تخلو بالطبع من الروح ، وفي عصرنا تسمى هذه الروح باسم : الديمقراطية . فالديمقراطية ليست مجرد إدارة للحكم بقدر ما هي فلسفة تضع الأنا في دعوى يقابلها نقيض ( =الآخر) يمتصهما مركب هو نحن (=الجنس البشري) فالأنا لا معنى له إلا بوجود الآخر, و الآخر هو الأنا خارج جسدي, وسعيي للتوحد به سعي لتأكيد الذات, بقدر ما يكون نفيه نفياً لذاتي معرفياً بل ووجودياً . واللغة البشرية – بحسبانها كيانا ً اجتماعيا ً لا فرديا ً – خير دليل على هذا .
حي بن يقظان خرافة مؤكدة
ومن هنا فإن التأمل في قصة حي بن يقظان يكشف عن استحالة وصول شخص منعزل إلي حقائق الوجود, إذ تغم عليه تسمية الأشياء ، فالتسمية تحتاج إلى لغة، ولا توجد لغة بغير جماعة تتوافق على العيش بالعمل الإنتاجي المادي المشترك : تخزين المؤن وتوزيعها , بناء المساكن , التزاوج وتحديد أنساق القرابة , ونقل خبرات الآباء للأبناء بواسطة التعليم.. الخ وأثناء ما تقوم الجماعة بهذه المهام فإنها بالضرورة تسميها. هكذا تنبثق اللغة , لا باعتبارها كائناً علوياً منفصلاً يهبط من لا مكان Utopia بل كمنتج لمسيرة طويلة , بدأت مع مولد الكون , وانتقلت إلي المخ البشري عبر تطورات فيزيائية وبيولوجية وفسيولوجية وبيئية معقدة. وعليه فإنني حين أتكلم أعبر عن الكون بأسره.. عن الانفجار الكبير Big Bang وعن مولد المجرات و النجوم , و الشمس , و القمر, والأرض، أعبر عن النار و الهواء و التراب و الماء , عن النباتات والفطريات والزواحف و الثدييات و القردة العليا , وأشباه الإنسان , والإنسان البدائي. دعني أنطق بكلمة ، لتعلم أنني أستخدم أرقي ما أنتجه التطورُ الخالقُ من تقسيم لخلايا المخ بنشاطه العصبوي الكيمائي الكهربي، الناجم – عبر العصور البيولوجية – عن تكيف اليد مع انتصاب القامة الذي أدى لتحرر عظام الفك فالرقبة ثم اللسان ، وانعكاس هذا كله علي نمو المخ، مستودع اللغة صانعة الفكر والسلوك البشري .
المعنى الفلسفي للديمقراطية
بهذا الفهم ُتري اللغة كصورة للكون المتجلي ، وعليه فإن قصد المتكلم لا يمكن أن يكون محصوراً داخل دماغه, بل متوجهاً لغيره ولو بالتخيل . فالدماغ بغير تصور الآخر ، مجرد عظم فارغ ، شأن الصخرة الجامدة أو السحابة العابرة.
فمن الذي يتبنى دون غش ذلك الفهم ؟ تتبناه الديمقراطية كفلسفة تمارس ولا تكتفي بالتأمل الواهم ، الذي يتصور للذات الإنسانية وجوداً منفردا ً يستغني به عن غيره . وربما كان هذا هو ما دعا علم النفس " ما بعد الفرويدي" إلي انتقاد حصر "الذات" في مبدأ الليبيدو : لذة الجسم المعزول ، وهو أيضا ما حفز البنيوية , في جانبها الأنثروبولوجي , إلي تحجيم الأنا ، هذا الطفل المدلل فلسفياً والذي لا ُيحتمل – بحد تعبير ليفي ستروسStrauss- كي ُيفسح المجال للعمل الجدي. ولعل ستروس كان يقصد بالعمل الجدي البحث عن وسائل ملائمة, تساعد الجنس البشري علي العيش معاً , بديلاً عن تكرار الكوارث التاريخية المثقلة بالكراهية, و العنصرية ، و المذابح , و الحروب ...الخ.
ذلك هو المعني الفلسفي المباطن لمصطلح الديمقراطية . فالكون يؤسس لمبدأ المساواة في الفرص لجميع الكائنات , وأما الإنسان – أرقي تجليات الكون – فينبغي أن يؤسس لمجتمعه علي نفس المبدأ , نابذاً كل دواعي التمايز Discrimination العنصري والجنسي و الديني
و الطائفي.. .الخ نبذاً غير مشروط . فأي شرط أيديولوجي ذلك الذي يمكنه أن يناجز الحقائق البيولوجية و الفسيولوجية و الفلسفية الساطعة؟
أنظمة لفظها التاريخ
غير أنه في السياق التاريخي عرف البشر أنظمة ً سياسيةً مختلفةً : الديكتاتورية (حكم الفرد) ، الأوليجارشية (حكم القلة)، الثيوقراطية (الحكومة الدينية) فأورثتهم جميعاً البلاء والتعاسة، ويوما ً بعد يوم راح التاريخ يرمي بها في مزبلته ، في الوقت الذي طفق يبشر فيه بالديمقراطية باعتبارها النظام المتضمن إمكانية حل المنازعات المجتمعية حلاً سلمياً مقبولاً: أغلبية تحكم ، وأقلية تعارض إلى أن تصبح بدورها أغلبية فتحكم..دواليك .
ومع ذلك فلقد يعكر على ترسيخ هذا النظام التطبيقُ الشكليّ له ، حين يحصر فكرة الديمقراطية Democracy أي حكم العامة ، في مبدأ التصويت دون غيره . فلقد يقبل العامةُ تحت وطأة الفقر وتضليل القلة المهيمنة ، أن يعهدوا بمصائرهم إلى مستغليهم ، مستبشرين بالوسيلة (= الانتخابات) غافلين عن الغاية ( = سيادتهم الفعلية ) والعامة بذلك يقعون في شرك الشكل المفرغ من المضمون ، فيصوتون ، بإرادتهم "الحرة" ربما لنسق شمولي Totalitarian يقوم على إخضاعهم لأغراض دولته فاشيةً دينيةً كانت أم علمانية ً. ويساعد العامة ُ هذا النسق َ الشريرَ ، بإحجامهم عن أية مشاركة سياسية بعد الانتخابات ، وكأنهم بمشاركتهم في هذه الانتخابات حسبُ ، قد اختاروا بـ "حريتهم" أن يتنازلوا عن حريتهم ، وهو خُلف واضح، ومصادرة على المطلوب ، به تسقط الديمقراطية مثل جواد ميت على إسفلت الوهم والضلال.
الأمر في الديمقراطية الحقة ليس كذلك من كل الوجوه ، فحكم الشعب نفسه بنفسه، معناه أن ينهض الناسُ لتحرير أنفسهم من الاستلاب الواقع عليهم اقتصادياً ( سلطة رأس المال) أو سياسيا ً ( سلطة الزعامة الكاريزمية ) أو أيديولوجيا ً ( سلطة الأوهام الميتافيزيقية) فبهذا التحرير – وليس دونه - يتسنى لكل رجل وامرأة أن يشارك في صنع مصيره الخاص جنباً إلى جنب مصير وطنه، ومصير الجماعة البشرية كلها .
فهل يطلب المصريون هذه الديمقراطية حقاً ؟ وهل هم راغبون في ركوب القطار الذي يمكن أن يتحرك نحوها : قطار النقد الذاتي ؟
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟