سامي العامري
الحوار المتمدن-العدد: 2679 - 2009 / 6 / 16 - 08:32
المحور:
الادب والفن
فصل من كتاب (*)
---------------------
تخَيَّلتُ أنْ ألقى السُّلوَّ إذا نأتْ
وأعتُقَ جَفنَيها الضحوكَينِ من جَفني
ولكنَّ أعواماً مضتْ وحضورُها
يفوحُ بروقاً من فؤادي الى الكونِ
---------------
عُدْ الى طفولتك ,
إستحضرْ المبهج من تفاصيلها ,
حتى وإن تخلَّلهُ بعضُ العذاب فستصل الى ما يُشبه الرؤيا .
أعذبُ الأشياء تختفي وراء أبسطِها
فأنت هنا أوتارٌ تُصدِر نغماً عذباً ولو لم يلامسها قوس .
قال : نعم
رغم أني إذا تذكرتُ الطفولة فسرعان ما تغمز لي الحروب بحاجبيها ! وتلوح أحياناً كالمخلوق الخرافي العملاق الذي يقف على بوابة الطفولة وكم تمنيتُ لو يملُّ او يتعب او ينعس فأغافله وأتسلل ...
آهٍ أيتها الطفولة , آهٍ أيتها البساتين ,
أهٍ أيها المجد القديم !
لم تَعُدِ الشمسُ طائرةً وَرَقيَّهْ
وخِصاماً لطفلينِ صُبْحاً
على لُعبَةٍ أو هَديَّهْ !
ما لها أصبَحَتْ ناسِكهْ ؟
إنَّها الشمسُ -إنْ تأتِ -
لا تأتي إلاّ على مَوجةٍ مُنْهَكهْ
مِثْلَ إهليلَجٍ
زورقاً كانَ أمْ قَلْبَ مانجو
وفي كُلِّ حالٍ
هيَ التهْلُكهْ !
---------------
وقال لنفسه , حسناً , لأُحاولْ رغم كل شيء ولكن بلا حروب ! ولأبتديء بماضٍ ليس ببعيد كثيراً .
تنتابُ الإنسان في مسعاه لتكوين علاقة حُبٍّ جديدة مع شريكٍ جديد أحاسيسُ شتى , بعضُها متوافق وبعضها متباين وآخر شديد التناقض ,
غير أن أقساها هي تلك العلاقة التي تُبنى بدافع ردِّ الإعتبار للذات بَعد تجربة مؤلمة سابقة , تجربة لم يكن فيها الطرف الثاني ( أخا ثقةٍ ) .
وها أنت اليوم لم تخنك امرأةٌ بل كانت نزوة منها ومحاولة منها كذلك لاختبار قلبِها هل ما زال يخفق ! وأنت عرفتَ ذلك منذ البداية ولكنك وقد أشرقتْ شمسٌ أخرى على جبينِ قلبك , تحمل تذكار حبٍّ نقيٍّ عميق غيرهِ , سامقٍ كشجرة الحَوَر ورقراقٍ عذبٍ كفراتٍ , حُبٍّ لم تكن لك ولا لها يدٌ في توقفِ نبعهِ فهي قد رحلت عنك جسداً منذ سنين قليلة فلَمْ ترْثِها وكيفَ ترثي شجرةَ حَوَرٍ ؟ لقد عاشت في قلبك وكيانك ولكنك قلتَ لنفسك فيما بعد ,
وكما الإلهام , لم تكن تلك المحبة إلاّ صفحةً واحدة من كتاب الروح .
بهذه الكلمات انطلقَ مُحدِّثاً نفسه بينما هو جالس في إحدى الكازينوهات المطلة على الراين يدخن ويحتسي القهوة بالحليب ! وبهذه الروح وبمؤازرة من هذا النهر وإوزّاتهِ المثقلةِ أجنحتُها بحفيف ورفيف وخرير ! وصخورهِ المتكورة على بعضها كالكواسج ,
راح يستحضر ذاته حين كان شاباً في عقده الثالث ففي تلك المرحلة من العمر كان قلبه رغم الحرب وأخبار الموت , يجد متسعاً من الحنين لأنهار وقصائد وامرأة تعشقه ويعشقها وكم كان يغضب عندما تنتهي محاولة ما الى الفشل !
سقى اللهُ أيامَ الصبى ما يُسرُّها
ويفعل فعلَ البابليِّ المُعتَّقِ (**)
---------------
قال : أيام الصبى , وإنْ لم يكن صبياً وقتَها ولكن الجميع أطفال عندما يتعلق الأمر بالحب . إنه المساء الآن والكازينو يرتادها الكثير من أهل مدينته لذا فلمْ يستغرب حين أطلَّ من بابها الرئيسي شابٌ تخيِّلهُ من وطنه وزميلاً له في العمل بإحدى المطابع الأهلية , ويسكن على مسافةِ محطتين من بيته , في حين أن هذا الشاب لم يكن إلاّ ذاتَهُ نفسها , كيانه لمّا كان في الثلاثين والذي راح يفكر به ويقارنه مع شخصه وهو في هذا العمر أي بعد أكثر من خمسة عشر عاماً ويراقب ما طرأ على حياته وفكره ومزاجه من تحولات
حتى صار يحسبه أشبه بالحقيقة , الحقيقةِ التي تزداد التصاقاً به كل لحظة .
أشرقت أساريرهُ فأومأَ لنفسه وهي في شبابها وراح يبتسم على إيقاع القهوة ودخان السيجارة .
هرعَ الشاب باشّاً فسأل قبل جلوسه : بماذا كنت تفكر فإني أقرأ في عيونك ضياءً قلِقاً ؟ أتمارسُ قراءة طوالع الحب !؟ الحبُّ ياصديقي هو تصوُّفٌ لخسارات دائمة , لإحباطات , لخيبات دائمة !
أجابه بعد أن عانقه بحميمية وهو يغالب بسمة حزينة : إجلسْ , يا زميلي , إجلس أيها الحَنِق ! لا أوافقك , فلو قرأتَ جميع كتب الحب التي ألَّفها الإنسان عبر تأريخه لوجدتها على سعتها لا تزيد عن عدة صفحات من كتاب كوني , كتابٍ , صفحاته غيومٌ يبقى يقلِّبُها الله بأصابع من برق ما شاءت أبديتُهُ .
قال الشاب الثلاثيني : قد عملنا سويةً أنا وأنت ورأينا ومازلنا نرى ما تفعل الماكنة التي تصفُّ ملايين الأوراق وتنظمها في ورشتنا برتابة قاسية والتي تذكِّر بالمفاقس الصناعية وهذا المفاقس بدَورها تذكِّرُني بسيل عبارات الحب والحنان التي سمعتها وما من دفء حقيقيٍّ !
قال له معترِضاً : أنت عشت الحُبَّ غير أنك لم تلمس منه غيرَ شعرة واحدة لذا أسألك : وماذا عن باقي فروة الرأس !؟ لا تتعجلْ في أن تقرر , عليك أن تؤكد .
عقَّبَ الشاب بسؤال : أتعني أنَّ حُبك مكرسٌ لِما هو أبعد من حُبِّ البشر ؟
أجابه : لا ولكني عنيتُ أن خيبة واحدة وحتى العديد من الخيبات لا تعني نهاية الحياة .
فأنت تقرر على عجل , الفارق بين قلبي وقلبك هو أن قلبك شلالٌ أمّا قلبي فهو نهرٌ !
ردَّ الشاب الثلاثيني ضاحكاً : أعارضُك ,
ما النهر إلاّ شلالٌ أفقي , وما الشلال إلاّ نهر عمودي ,
وهكذا أبطلتُ نظريتك !
بدأت السماء تمطر رذاذاً جَذِلاً :
تزحفُ روحي نحوك
عبر بساتينَ بليلةٍ
حيث السواقي متفرِّعةٌ كقرون الأيائل ,
روحي
تُذيبكِ بأثيرية كواكبها ,
ومِن براكين حبنا
تتطاير فقاعاتٌ من نار
وتَلوحين ثانيةً
فأقفُ
ومن بعيدٍ أرى ذراعيَّ تحتضنانكِ
وتطرِّزانِ لكِ فساتينَ من حريرٍ وفيءٍ
ها قد تذكَّرَ النحلُ زهورَ فستانكِ
فلا غرابةَ إنْ صعدَ طعمُ العسلِ الى الشفاه !
---------------
إنتبهَ الى أنه لم يَقُمْ بواجب الضيافة لذاته الشابة فهو الذي دعاها فأحستْ او أحسَّ الشاب الثلاثيني بما طاف في بال مُضيِّفه فهتفَ دون إبطاء : قدح ( جن ) بالليمون !
دقائقَ وكان القدح بين يديه .
قال مضيِّفُه : صار المطر عنيفاً ...
ما أبهى البروق , أنظرْ ...
بروقٌ تتقاطع في الأفق كخيوط شِباكِ الصيادين .
أتعرف لماذا تهطل الأمطار ؟
لأنَّ الطائر مَهما حلَّقَ لا بدَّ وأن تأتي ساعة يُتعِبُهُ فيها التحليق !
رفع الشاب كأسه مُحيِّياً مُضيِّفَه الذي رفع فنجان القهوة , وقال بعد تناوله جرعة وقطعةَ ليمون وهو ينظر الى صحن الليمون الصغير : كم متميزةٌ رائحةُ الليمون وطعمه , نكهته أيضاً , أتذكَّرُ قريتنا والبساتين بأشجارها وهي تتمايل مع كل لمسة ريحٍ حيث كنت طفلاً فمع أن البساتين تلك كانت تنوءُ أغصانُها بمختلف أنواع الفاكهة والثمار إلاّ أن الرائحة الغالبة كانت دائماً رائحة الليمون المسكرة , وكنتَ تشعر بهذا قبل دخولك البساتين فهي تستقبلك من بعيد , أتذكَّرُ جارتنا الراعية نازك وموسم وِلادات أغنامِها وماعزها وتناطُحِ الأكباش !
هكذا , وضربَ كأسَهُ بفنجان قهوة مُضيِّفهِ !!!
فراحا يضحكان .
إمتدت يدُ المُضيِّف لاشعورياً لتشعل شمعة على الطاولة كما لو أنه أرادها أن تشاركهما الحديث بعد أن طال إصغاؤها .
ثم قال : في المرات السابقة كان ما يؤثِّرُ على صفاء تأملي هنا بعضَ الشيء هو لغط الزبائن ولكن اليوم ...
حاول المضي في الكلام ولكنه بدلَ ذلك أشعلَ سيجارةً وسرحَ بعيداً :
النجمُ عالٍ مثل أعذاقِ النخيلِ !
والعودُ والقيثار مالا عن بساتيني
وسارا في السبيلِ !
أنا مُذْ وعيتُ – وما وعيتُ –
إذا وَهبتُ من السرورِ فَجُلَّهُ
فَخُذي الذي تهوين قِنطاراً
وأرضى بالقليلِ !
--------------------------------------------------------
(*) فصل من كتاب قصصي نثري شعري بعنوان : النهرُ الأول قبل الميلاد .
(**) المتنبي , والبابليَّ : المنسوب الى بابل ويريد الخمر .
كولونيا
2009 /6/ 10
[email protected]
#سامي_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟