|
دونما حب*
سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 2678 - 2009 / 6 / 15 - 08:36
المحور:
الادب والفن
في زحام شوارع أثنا ، وفي حر صيف لاهب ، ورغم اختلاف ملامح الوجوه ، ومدة زمنية طويلة من الافتراق لكنها عرفته حين وقعت نظراتها الأولى عليه ، وقالت لنفسها : إنه سامي ! أنا متأكدة من أنه هو بعينه ، لم يتغير فيه شيء كثير ، شاب نحيف البنية ، يميل الى السمرة ، سريع الخطو مثلما عهدته حين كانا يدرسان في صف واحد من الكلية التي تخرجا فيها . ولهذا لم تتوانَ منى من ألحاق به ، وتنادي عليه من على مقربة بعد أن تيقنت أنها لا تستطيع اللحاق به ، وبعد أن أخذتها سورة من التعب في ذلك الجو المفعم بالحرارة : - سامي ..! سامي ..! التفت سامي نحو مصدر الصوت بعد أن حبس أقدامه عن السير . ثم قال مع نفسه : من أين عرفتني هذا الفتاة الشقراء ؟ فهو لم يسبق أن تعرف على واحدة من البنات اللائي أمضى معهن شطرا من حياته في تلك الجامعة بهذا الشعر الأشقر الحريري الذي راحت الريح تعبث به على وجه بضي بلون الثلج وعلى عينين حوراوين ضاحكتين ، كما إنه لم يتعرف في حياته على نساء بهذه الصورة في حياته العملية إلا اللهم أولئك المدرسات الأوربيات اللائي زاملهن في ثانوية من ثانويات العاصمة الجزائرية ، ولكن هذه الفتاة ليس واحدة من هن ، فهي من بلده ، وتتحدث بلهجته . - هل عرفتني ؟ - من أنت ؟ هل أنت سميرة ؟ - كلا . ليس أنا هي ! ظل سامي يتصفح وجوه بعض الطالبات اللائي درس معهن وجها وجها ، وهو يرمي بنظراته بعيدا عنها ، يعلقها تارة في المارة المتراكضين، وتارة على شبابيك البنايات المصطفة على امتداد ذلك الشارع الضيق ، والذاهب نحو الأكروبولص الذي لا يبعد سوى بضع عشرات من الأمتار . - سأقول لك من أنا ، قالت ذلك ثم ضحكت ضحكة بانت معها أغلب أسنانها ، عندها تذكر سامي صاحبة ذلك الوجه الذي طالما نم عن مرح طفولي . - أنت منى ! قال ذلك وهو واثق من قوله ، ثم أردف : لقد غيّر صبغك لشعرك كل ملامحك التي اعتدت أنا على رؤيتها ، لقد كان لونه الأسود منسجما تماما مع بياض وجهك الذي كنت تطالعيننا فيه كل صباح ، حينما كنا على مقاعد الدراسة . - هل تريدين من الآخرين أن ينظروا لك على أنك من الفتيات الأوربيات في هذا البلد الأوربي ؟ - لا . ولكن تلك رغبة ظهرت عند فتيات هذا الزمن . - هل وصلت وحدك أم أن هناك أخريات معك ؟ - معي أحلام زميلتنا وواحدة أخرى أنت لا تعرفها ، ولهذا آمل أن نلتقي جميعا مساء اليوم وفي تام الساعة السادسة مساء في الطرف الجنوبي من ساحة أمونيا سكوير . سار سامي في طريقه دون أن يسأل منى عن وجهة سيرها ، فقد كان هو حريصا على رؤية الآثار اليونانية القديمة ، خاصة تلك التي تعلقت في الروابي القريبة من مركز المدينة وبعد أن أمضى فيها ساعات عاد ليلتقي بصديق له تركه وراءه في أحد الفنادق ، ومن هذا الفندق انطلقا الى مكان اللقاء الذي حددته منى من قبل . الشمس جانحة للغروب ، والشوارع التي تتراكض نحو تلك الساحة تعكس أشعتها بقوة حيث تمنع البصر من أن يمتد طويلا ، ولكن مع ذلك فقد شاهد سامي من على مقربة ثلاث فتيات يقفن في المكان المحدد مع فتى واحد ، هو ابن عم أحلام . كان المؤمل أن يسير الجميع الى مقهى ما يمضون فيها بعض ساعات يعيدون فيها ذكريات أيام الدراسة التي فرت سراعا ، ولكن الأمر انقلب الى حالة من وجوم سيطرت على الوجوه بعد أن استبد الغضب والانزعاج بمنى حين سألها سامي عن صديقة لها كانت لا تفارقها دوما ، ففي الصف كانت تجلس الى جانبها ، وفي ساحات تلك الكلية كانتا تتمشيان أو تجلسان معا. - أرجو منك أن لا تسألني ثانية عنها .. أنا لا أريد أن أسمع عن الماضي شيئا ! - لكنني لم أقصد شيئا مما تتصورينه في سؤالي عنها أبدا ، فهي زميلتي وزوجة صديقي ، وكل ما كنت أطمح فيه هو معرفة مصيرها ومصير زوجها صديقي ، ولا شيء آخر. كان سامي قد أدرك حالا أن سبب الغضب الذي استبد بمنى هو أنه كان على معرفة من خلال صديقتها تلك بعلاقة حب بينها وبين طالب وسيم الطلعة ، جميل الملابس ، أنيق الحذاء ، يدرس في كلية أخرى ، ولكنه كان بين الحين والآخر يزور صلاح خطيب صديقتها ، ويجلس معهما في حديقة الكلية لساعات مثلما كانت منى هي الأخرى تجلس معهم كذلك ، ومن هنا أعجبت منى بحامد صديق صلاح ، ولكن إعجابها ذلك كان منصبا على ملابسه الجميلة وحذائه البديع المستورد من فرنسا على ما يظهر ، وذات يوم سأل سامي صديقه صلاح عن السبب الذي جعل منى تتعشق طالبا من خارج الكلية وليس من الطلبة الذين تدرس معهم . - هي تعلقت بحذائه ، فكثير ما كانت تقول لخطيبتي : انظري الى حذائه كم هو رائع وجميل ؟ - أتقول صدقا !؟ رد سامي مندهشا . - نعم . هذا ما كانت تقوله لخطيبتي صراحة . لقد كان سامي يدرك أن حامد لم يحب منى أبدا ، فهو مشغول بأمر خطير كان يصرف معظم وقته عليه ، ويبدو أنه لم يوصد بابه بوجه منى حين طرقته عليه عطفا عليها ، أو ربما كان يريد تمضية بعض الوقت معها ، فحامد يخوض غمار معركة كفاح مسلح ، ولهذا فقد كان يخفي تحت قميصه مسدسا معدا لإطلاق النار في أية لحظة بقدر ما هو معرضا للموت في أية لحظة كذلك ، فلقد كانت أجهزة الأمن وشرطة تطارد أعضاء التنظيم الذي ينتسب له هو خاصة بعد تصاعد نيران الكفاح في أهوار الجنوب ، ففتى مثل حامد قد استبد به حب العمل السياسي ، حب الثورة والكفاح كثر من أن يستبد به حب فتاة تعشقته لحذائه الجميل ، وربما كان هو يعرف مبعث هذا الحب عندها . لقد كانت منى من دون كل الطالبات مغرمة بكل شيء شاذ من الملابس والأحذية وحتى الحلي ، وهذا ما كان يثير استغراب الطلبة والطالبات على حد سواء ، ولكن ظل هناك سؤال معلق على شفاه الجميع دون أن يجد له إجابة : من أين تأتي منى بهذه الشواذ ؟ يبدو أن حبها المفرط للشواذ تلك هو الذي انسجم تماما مع حبها لملابس حامد الغريبة الفصال والصنعة ، مثلما انسجم مع حبها لحذائه الذي لم يحتذ ِمثله طالب من الطلاب الذين كانت منى تدرس معهم ، فحامد على ما يظهر كان يأتي بملابسه وأحذيته عن طريق أقرباء له من خارج البلد ، ومن هنا اكتسبت تلك الملابس والأحذية صفة الشذوذ التي كانت تنشدها منى وتريدها لرجل تطمح في أن يكون لها زوج رغم علمها بأن هذا الزوج مشغول عنها بحب الثورة والكفاح ذلك الحب الذي ذاب فيه فسقط شهيدا تاركا وراءه فتاة تعلقت غراما بإناقته وإناقة حذائه ، ولكنها بعد فقدانها له قررت أن تنشد اللذة بحرية تامة ، وفي أي بلد تريد حتى لو كان ذلك البلد غريبا عليها في كل شيء مثل اليونان ، وهذا ما قالته صراحة لزميلها سامي حين ردت غاضبة عن سؤاله ذاك ، والذي ما كان يقصد به أبدا أن يعود بها الى الماضي حين سألها عن صديقتها ، ولهذا حاول هو أن يهدأ من غضبها قائلا : - إذا كان سؤالي قد أغضبك - يا منى - ! رغم برأته فأنني سأسحبه أمام الجميع هنا ! لكن يبدو أن السؤال ذاك قد أعادها الى دروب الماضي الجميل ، تلك الدروب التي لم تستطع كل دروب أثنا المتشابكة والمتقاطعة أن تحجب عن فكرها صورة دروب محلة الوزيرة التي عرفت خطاها ، وخطا حامد ، وهما يسيران فيها سوية أيام كانت هي تتعشقه لجمال حذائه ، وكان هو يتعشقها تمضية لساعات فراغه . = = = = = = = = = = = * قصة قصيرة .
#سهر_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ(3)
-
الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ ( 2 )
-
الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ (1)
-
الدينار
-
رحلة في السياسة والأدب ( 4 )
-
رحلة في السياسة والأدب (3)
-
قصيدتان من زمن الصبا
-
على أطراف المتوسط *
-
الحريق الأمريكي – الإيراني للعراق
-
المنهج الدراسي في العراق : تاريخنا وتاريخهم !
-
مات آشي !*
-
السود سيسودون في العالم !
-
ورطة يا صولاغ !
-
جنون شاعرة*
-
الدولة في خدمة الطبقة الرأسمالية
-
بعد حرب الطوائف حرب العشائر !
-
مقهى البوهة وحلزونية أزمات الرأسمالية !
-
وحي الكلمات*
-
يحرمون الغزو الثقافي ولا يحرمون الغزو العسكري !
-
حين باع ملا صباح بقرته !
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|