|
هل العلمانية مجرّد خدعة بَصرية؟
سعيد ناشيد
الحوار المتمدن-العدد: 2678 - 2009 / 6 / 15 - 09:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حين يكون على الشعوب أن تنتظر قلــيلا من الوقت، فإنها تصغي لرجال السياسة، وحين يكون عليها أن تنتظر كثيرا من الوقت، فإنها تصغي لرجال الفكر، وأما حين يكون عليها أن تنتظر كل الوقت أو لا تنتظر، فإنها تصغي لرجال الدين وللحركات الدينية. أفق الانتظار اليوم، محتجب عن الأنظار، والشعوب عليها أن تنتظر كلّ الوقت وخارج كل انتظار، فقد توارى المستقبل عن مدارك العقل وامّحى مبدأ التقدم من الأفق المعلوم مثلما تحتجب الشمس خلف الغيمات الداكنة. لم يعد أي مشروع أو تخطيط للمستقبل أكثر من تدبير لانعدام اليقين، ما عاد هناك من يتحدث عن البرامج طويلة الأمد، أو عن معارك النفس الطويل، وأما الزمن فمثل الزّبد بدأ يذوب ويتوارى عن الأنظار. في هذا الغسق الليلي للتنوير الأوروبي، حيث أنذرنا نيتشه بغروب العقل وأخبرنا بودريار بموت الواقع، وبينهما توالت متتالية الميتات المفجعة، من التاريخ الى الدولة، ومن الإنسان إلى الوعي، إلى حد لم يترك لنا فيه هؤلاء المنذرون بالأفول من ملاذ آخر غير الأثر والعلامة والحلم والأوهام. في هذا المناخ الثقــافي الذي تشــتدّ فيه أزمة العــقلانية إلى حد يتوقع فيه الكثيرون دنوّ أجلها، بتنــا نرى أبــرز رجـال الدّولة والسياسـة وهم يتحــوّلون إلى واعظين دينــيين ومُرشدين روحيين، (كارتر، بلـير، بوش، خـامنئي) حين يُصرحـون أو يتحــدّثون أو يكتــبون، إذ لا يــتردّدون في استعارة حُجَجهم، من الكتب الدينية وقصص الأنبياء والنّصوص المقدّسة. في هذا الغسق الليلي للتنوير، لم يعد للزّمن من معنى، فقد أضحى على غير عادته، مجرّد استعارة تزدحم فيها الصور والأحداث من دون أي مسار ولا اتجاه. قليلون من يجرؤون اليوم، على الاستشهاد بنصوص الفلسفة السياسية، مثلما كان يفعل الآباء المُؤسسون للولايات المتحدة الأميركية، أو مثلما كان يفعل آباء الثورة الفرنسية، لا أحد من الأبناء المؤسسين للاتحاد الأوروبي المعطوب اليوم، يستشهد بقيم الفلسفة السياسية، وفي المقابل لم يعد أحد يخجل من الاستشهاد بقصص الأنبياء والكتب المقدّسة، وهكذا هم صاروا بلا وجل يفعلون. تحوّل أبرز رجال الدّولــة إلى رجــال دين، وأمـسى أبرز الوُعّاظ والواعظين الدينيين زعماء سياسيين بارزيــن ومستشارين كباراً لرجال الدّولة، ويكـفي أن نصغي لما يقوله بيلي غراهام، بات روبرتسون، الدّلاي لاما، وغــيرهم، وأن ننصت لما يُقال عنـهم، لنرى كــيف صار هؤلاء وأمثالهم، يتــحلّقون حول أهم مراكز القرار السـياسي في العالم، لا يتردّدون في التدخل في كل تفاصيل الحياة الخـاصة للــساسة ولـقادة الدّول، تحت طائلة أنّهم سادة الرّوح في زمن عودة الرّوح إلى أجساد أنهكتها الثورات الثقافية المغدورة لسنوات الستين والسبعين. وإنّ المرء حين يطّلع اليوم، على أسماء من يكتــبون أهـمّ التقارير التي تصدرها سنوياً وزارة الخارجية الأميـركية، عن حالة الحريات الدينية في العالم، فقد يستشعر الخيبة والرّيبة، لأنّه نادراً ما سيجد من بين كتاب تلك التقارير، من لا ينتمي إلى إحدى الطوائف الدينية أو إلى كنيسة من الكنائس الموجودة هنا أو هناك. حسبُنا أننا نقف اليوم، أمام حقائق مُريبة ومذهلة، ومن بينها أن من كانوا متهمين باضطهاد العلماء والمفكرين في الماضي، لم يكتفوا بانتزاع صكوك البراءة لأنفسهم عنوة وتزويراً، بل احتلوا مقاعد القضاة، وأصبح قادة مَحاكم التفتيش بالأمس، مطالبين اليوم بالحقّ المدني، ومعهم صار أولئك الذين انتهكوا حرية الفكر والرّأي في الماضي، يطالبون اليوم بالحرية الدينية لأنفسهم وللآخرين. إنّها صورة من صور العلمانية المغدورة في أوضح تجلياتها. لقد انهار جدار برلين، ومن بين أنقاضه خرج عالمٌ جديدٌ، وهذا الأمر مَعلوم للجميع، لكن جداراً آخر انهار، لا نحكي شيئاً عن انهياره، ورُبّما لم ينتبه إلى انهياره سوى القليــلين، لكـنّه وكما في الجدار الأوّل، من بين أنقاضه ينبعث اليوم، عالم جديد؛ هذا الجدار المنهار ليس سوى جدار الفصل بين الدين والسياسة، وهذا العالم المنبعث من الغبار، ليس سوى عالم الثورة الدينية المحافظة. العلمانية: انسحاب الدين أم إعادة انتشاره؟ خلال الانتخابات الرئاسـية التي أوصــلت أنــجيلا مــيركل إلى رئاسة ألمانيا، لم تكن هذه الأخــيرة تتردّد في الاعتزاز بنشأتها الدينية، وكانت تتباهى بكــونها ابــنة قس ألماني، وعلى هذا المنـوال، فكــثيراً ما كــانت وزيرة الخــارجية الأميركية السابقة كوندليسا رايس تعتزّ بأنّها ابنة قس أميركي، فيما مُجمل المواقف المُعلنة من المسألة الدينــية لعـبت دوراً أساساً في حسم نتائج الانتخابات الفرنسية لفائدة نيكولا ساركوزي. ومن بين شعائر الانتخابات الأميركية أن يختار المرشحون كنائسهم أوّلاً، وأن يعلنوا عن تلك الاختيارات، عليهم أيضاً، أن يختاروا قساوستهم، على المقاس المطلوب، قبل أن يعرضوا أنفسهم للتسويق السياسي والمُنافسات الانتخابية. إنّها نظرية الحق الإلهي العائدة على صهوة قيم الديموقراطية والانتخابات الحرّة والنّزيهة. هكذا توحي لـنا مُجــمل المَظــاهر، بأننا أمام ظاهرة عودة الدين، ولربّما لا يـكون مثل هذا الانطبــاع هو التعــبير الدقيق عن واقــع الحـال، ذلك لأنــّنا أمام ظاهــرة تتــجاوز مجرّد عودة للدين، كما لو كان الأمر يتعلق بدورات الحياة وتقلبات الزّمن. إنْ بدا الدين وكأنّه انسحب فعلاً من السياسات الغربية، إلاّ أن انسحابه لم يكن سلِساً، انسيابياً، كاملاً وحاسماً، وربّما يَجْدُرُ بنا الحديث عن إعادة الانتشار بدل الانسحاب الكامل والنهائي، فالقوانين والتشريعات الأساسية لم يحقق فيها الدين سوى مستويات ضئيلة من الانسحاب، وإلى اليوم، لم يُثر أيّ نقاش جدي حول ضرورة الانسحاب الكامل منها، وأمّا في المجالات الاجتماعية والسياسية، فلم يُحقق الدين إلاّ انسحاباً متفاوتاً في الدّرجة والجودة. تكشف القوانين والتشريعات الأساسية لمختلف المجتمعات الغربية، أنّ العلمانية لم تكن تعني انسحاب الدين انسحاباً قطعياً ونهائيّاً من الحقل السياسي، أكثر ما كانت عبارة عن إعادة انتشار الدين داخل الحقل السياسي، وهو الأمر الذي سيمنح القوى المحافظة إمكانيّة خوض معارك مضادّة من أجل استرداد مواقعها وسلطتها، دون أن تعترضها أيّة عوائق تشريعية أو حواجز قانونية، وهو ما يحيلنا إلى مفارقة صارخة ومدوية، وهي أن القوى المُضادّة للحداثة عادة ما تجد من التسهيلات القانونية والتشريعية، داخل العديد من المجتمعات المتقدمة، أكثر ما تجده داخل العديد من الدّول الأقل تقدماً. اِنّ الذي يطبع عالمنا اليوم، ليس عودة الدين، والذي لم يسبق له أن انسحب، لا سيما من مَجال التشريعات والقوانين، حيث ظلت هناك ثلمٌ وشقوق تطبع جدار الحداثة الغربية، وإنّما يتسم عالم اليوم بعودة سلطة رجال الدين، تلك السلطة التي لم تجد في طريق عودتها أيّة معيقات تشريعية أو قانونية، هذا إن لم تجد في قوانين الدّول دعماً وسنداً. وهُنا لا بدّ من التمييز بين مفهوم عودة الدين، بحسب نبوءة البعض وتشخيص الكثيرين، وواقع عودة سلطة رجال الدين، ذلك أنّ عدم التمييز بينهما، لا يعبر عن واقع الحال، فضلاً عن أنّه يقودنا إلى نتيجتين مُجحفتين: أولاهما، أنّه يقودنا إلى الخــلط بين مفــهوم الحرية الدينية، من حيث دلالته التنويريــة على حرية الضــمير الإنــساني، وهي الحرية التي وضعتها الثــورة الفرنســية وفلسفة التنوير في مُواجهة السلطات والتسلط الدينيين، ومفــهوم الحرية الدينـــية، من حيث دلالتــه الجديدة على حقّ رجال الدين في أن يمارسوا وظائفهم، وعـلى حقّ الجــماعات والمجموعات الدينية، في استقطاب الأفراد. إنّنا حين نخــلط بين هذا وذاك، فإنّنا نفرغ مفهوم الحرية الدينية من مضــمونه التّحرري، ونحوله إلى مجرّد حقوق لرجال الدين، وواجــبات للدّولة والمُجتمع إزاء كل من رجال الدين، السلطة الدينية والمنظمات الدينية. ثانيتهما، أنّ مثل ذلك الخلط، يقودنا إلى اختزال النضال ضدّ سلطة وضدّ هيمنة رجال الدين، إلى مُجرّد نضال ضدّ الدين نفسه، كما يفعل الكثيرون من الذين يقعون في نقيضة محاولة البرهنة على خطأ ما لا يمكن البرهنة على صحّته، وفضلاً عن ذلك، فهو اختزال من نتائجه السياسية أنه يفقر معسكر النضال ضدّ سلطة رجال الدين وضدّ الحركات الأصولية، وذلك حين يقصي بالضرورة المُجحفة، أولئك المتدينين والمثقفين الدينيين الذين قد يكون الكثير منهم في طليعة النضال الأممي ضدّ كل الأصوليات الدينية. الأصولية: عودة الدين أم ثورته؟ لقد كانت القيم اليهودية ـ المسيــحية تتمتع دائماً بحضور قوي، فاعل وحاسم داخل أوروبّا، كما يُؤكد ميــشيل أونفراي، لكنها لم تكن تتجاوز حدود اعتبارها مكونــاً من مكونات الحضارة، ولذلك فــإنّ ما نعيــشه اليوم ليــس مُجرّد عودة أو رد الاعــتبار للمـكون الديني ضمن بناء الحضارة، بل نشهد بداية اختزال الحضارات في مجرّد بعد واحد ووحيد، وهو البعد الديني، فقد توارى الحديث على ما يسمّى بالجذور اليونانية الرّومانية لأوروبّا، لفائدة حديث متنامٍ عما بات يعرف بالجذور اليهودية ـ المسيحية، وأصبحت الحضارات تتـخذ مُسمّيات دينية: الحضارة الإسلامية، الحضارة الكونفوشــيوسية، الحضارة الهندوسية، الحضارة اليهودية ـ المسيحية، وهكذا قفز رجال الدين إلى ناطقين رسميين باسم حضارات يعيشون عالة عليها. ولعلّ اختزال مَفهوم الحضارة في مُجــرّد بُعــده الديني هو الذي فتح الباب أمام تحوّل مفهــوم حــوار الحــضارات، من حوار بين الشــرق والغرب ثم بين الــشمال والجنوب، وأخيراً، إلى مُجرّد حوار بين الأديان، بين الــقادة الدينــيين، وبين الطوائف الدينية، وأصبح الحوار بين الأديان مُجرّد مظهر استعراضي، سمر ليليّ يمحوه كلام الصّباح، ويعود بعده كلّ بما لديهم فرحين. [ باحث في الفكر الاستراتيجي ـ المغرب عن السفير
#سعيد_ناشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما نتعلمه من سيون أسيدون وما تعلمناه
-
الحادي عشر من شتنبر.. مرتين: أضواء على معمار ما بعد الحاثة
-
هل ستكون هناك حرب عالمية خامسة؟
-
العلمَانية المَعْطوبَة بين الهَوَسُ الجِهَادِي والهَوَسُ الص
...
-
حوار لم يكتمل مع قيادة حزب البديل الحضاري المنحل
-
سعيد ناشيد في برنامج حواري حول اليسار الفرنسي و الإسلام
-
اليسار الفرنسي و الإسلام .....دفاعا عن العيش المشترك
-
إعادة بناء مركز التجارة العالمي
-
تحالف الأصوليات
-
أزمة اليسار، أزمة مابعد الحداثة أم أزمة القلسقة المعاصرة
-
لكي لا تكون الديمقراطية ضد الحداثة
-
اليسار و سؤال الإسلام في فرنسا
-
المسألة الدينية عند نيكولا ساركوزي
-
الجريمة بتفويض إلهي
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|