|
اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الثالثة)*
سعدون محسن ضمد
الحوار المتمدن-العدد: 2677 - 2009 / 6 / 14 - 09:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ثانياً: تلقائية الصديق هل يمكن أن يجتمع في إنسان ما، قدر النبوة وصفة النفاق؟ الجواب المباشر والساذج سيقول لا.. بالتأكيد لا.. لا يمكن للنبي أن يكون منافقاً. والسبب أن النفاق داء يتعارض مع صفة الصدق مع الذات. المنافق لا يفعل الأشياء لذاتها، لا يمارسها بتلقائية، وبالنتيجة لا يمكن له أن يغوص بأعماق ذاته فضلاً عن أعماق الأشياء الأخرى. وهذا ما سيجعله طافياً على سطح الأشياء ومكتفياً بمظاهرها. الأمر الذي يُفرغ صفة: (القابلية على البحث) من جدواها.. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنني لا أقصد المعنى القاموسي للنفاق، لكنني أقصد كل ما يتعارض والانسجام العالي مع الذات، وهذا لا يعني عدم الكذب تماماً، فالإنسان الذي لا يكذب بصورة مطلقة لم، ولن، يوجد. النبوة، إذن، بحاجة لنوع خاص جداً من الصدق، يسميه المتصوفة بالإخلاص. وهم لا يقصدون مفهوم الإخلاص فقط، بل وطريقه الذي يشترطون للسير عليه رياضات خاصَّة ومتعبة، لا يبوحون بإسرارها إلا لمن يعتقدون بقابليته على أن يكون صادقاً. وهنا أريد أن أغتنم الفرصة لأؤكد على الجانب التكويني من موضوع الصفات التي تؤهل شخصاً ما، لأن يكون نبياً.. نعم فأن يكون الإنسان كاذباً هو الآخر خطأ تكويني لا يتحمل جزئه الكبير هو، وبالتالي فالكذب ليس كله خطيئة... أبداً. على الأقل؛ لأن الموضوع متعلق بالتربية، والتربية ليست من ضمن خيارات الإنسان، هذا فضلاً عن مجموعة من الصفات الجسدية والنفسية والظروف الاجتماعية والبيئية، التي تضطر إنسان ما، لأن يكون كاذباً. المهم ما أردت أن أتوقف عنده ملياً، هو تعارض النبوة مع النفاق. وخاصَّة بالنسبة لموضوع البحث عن الحقائق، فالقدرة على البحث أو الهوس المتعلق به لا يتعارض مع النفاق. ومن شأن المنافق أن يكون باحثاً من طراز ممتاز. لكنه سيبقى، محبوساً بالنتائج السطحية؛ لأنه لا يريد الأجوبة لذاتها بل للأسباب الأخرى التي تدفعه إلى النفاق. الصدق عُدَّة يحتاجها الباحث عن أجوبة الأسئلة الكبرى، وهذه العدَّة تمكنه وحده من أن يغوص في أعماق الأجوبة. فقد يكف المنافق عن البحث في أسرار الدين، عندما يجد بأن الأجوبة التقليدية ترضي الناس، بل وتجعلهم يلتفون حوله، الأمر الذي يشغله عن الاستمرار بالبحث، بل وحتى لو أدرك أن هذه الأجوبة ـ التقليدية ـ غير صحيحة فإنه سيمتنع عن النبش بأعماقها خوفاً من انفضاض الناس من حوله. لكن مع الصادق سيكون الأمر مختلفاً جداً. فهو أولاً، لا يعبأ بآراء الآخرين، وثانياً، لا يطلب من وراء البحث عن الجواب إلا نفس الجواب، ولذلك تجده لا يستقر على جواب يجد بأنه غير كاف لسد كامل ثغرة الوعي التي صنعها السؤال. الصدق عُدَّة الأنبياء، هذه الحقيقة اتفق عليها جميع المتصوفة، وأخبر بها جميع الأنبياء. ولذلك كثيراً ما يبلغ الصدق بالباحث الحقيقي حد أن يحوله إلى أبله بين الناس. أو ربما مجنون، أو مغفل. كم من منافق أدرك بعضاً مما أدركه الحلاج، مثلاً، إلا أنه لم يفكر بأن يبوح بشيء منه. أما بالنسبة للحلاج فإن الموضوع لم يكن بحاجة للتفكير أو التأمل، فإعلان الإجابة خطوة مهمة في طريق البحث عن المدى الأبعد من مدياتها. لذلك يجد المنافق بأن الصادق أبله؛ لأنه يُفَرِّط باحترام الناس وبالغنائم التي يجرها هذا الاحترام، وهو يُسْمِعُهُم ما لا يريدون سماعه، وفعلاً ألا يكون أبلهاً من يعلن الحقيقة على ملاء لا يريدون سماعها، متجاهلاً، مع ذلك، مخاطر إعلانه؟ أي أبله ذلك الذي يعلن ما لا يحضى بأي قبول؟ الصادق هو الآخر يعتقد بأن المنافق أبله، ويعجب كيف أنه يتوقف عند الإجابات السطحية، مفرِّطاً بالحصول على أعماق أكثر نقائاً من الحقيقة.. أي أبله ذلك الذي يجعل البحث وسيلة يطلب بها رضا الناس؟ وهنا تحديداً.. أقصد عند هذا الحد، كثيراً ما طرحت على نفسي سؤالاً محرجاً ومزعجاً، ولذلك لم أستطع الإجابة عليه هو: أيهم أكثر ذكاء، النبي أم عالم الدين، الحلاج أم الذي أفتى بإحراقه؟ المسيح أم مجموعة الربانيين الذين صلبوه؟ حسن ربما لا يبدوا على هذا السؤال أنه محرج ومزعج لهذه الدرجة، فالمسيح أكثر ذكاء ممن صلبوه، فقد أخلص لعقيدته حدَّ أن وهبها روحه، ما يعني بأنه صاحب وعي حاد ومتقد.. كان يعرف ما يجب عليه أن يفعل وفعل؟ المسيح نبي والنبوة ذكاء، وهي لذلك لا تجتمع مع النفاق، لذلك لم يستطع هذا الرجل أن ينافق على حساب المساكين، لا يمكن لأمثال المسيح أن يستثمروا غباء الناس أو سلامة نياتهم، ويقاسموا الربانيين الغنيمة، ويقودون الناس إلى مذابح الخديعة.. خديعة الدين الذي يترهل فيتحول لمجموعة تعاليم تُبقى الناس غافلين عما يحاك من ورائهم وقانعين بمآسيهم. وتُبْقى السادة والرؤساء، من جهة أخرى، هانئين مطمئنين على عروشهم، وتبقي رجال الدين متأكدين من أن حصتهم من ضرائب الفقراء ستكون دسمة جداً. إذن، والحال هذه، يجب أن يكون الغباء حصة الربانيين ـ أقصد منهم من يُتاجرون بالدين، ولايعباؤن إلا بالترويج للتعاليم المربحة ـ أو أن تكون حصتهم من الذكاء أقل؟. لكن لا يبدوا أن الحكم بالغباء لائق بمثل هؤلاء الصنف من البشر، يمكن أن يقال بحقهم أنهم منافقين، دجالين، وصوليين، كذبة... الخ، إلا الغباء، فهذه الصفة لا تليق بهم. على الأقل من وجهة نظر اختبرت النبوة ووجدت بأن الناس أميل لرجل الدين الذي يستغفلهم، منهم للنبي الذي يوجع عقولهم ويرهق أرواحهم. الأول يعطيهم ما يريدون، من إيمان مجاني ووعود باذخة ومشاريع سعادة أبدية. والثاني يشككهم بالذي أدمنو التصديق به وألفو الرضوخ لأوهامه. هذا من جهة، ومن جهة أهم، أجد بأن النبي ورجل الدين كلاهما يعرف الحقيقة، فعلماء الدين لا تغيب عنهم معالم الواقع وتنكشف للنبي فقط. ربما أن النبي يدرك الكثير من الحقائق التي تغيب عن علماء الدين. لكنهم يدركون مع ذلك شطراً مهما مما يدركه هو. على الأقل ذلك الشطر المتعلق بترهل العقائد التي يدعون الناس إليها ويصدهم النبي عنها. ما يعني بأنهم أذكياء لدرجة كبيرة. النبي والفقيه يتسالمان على وجود الكثير من الأوهام، لكن الفقيه يخفي رأيه هذا عن الناس والنبي يبديه لهم. لكن التاريخ أخبرنا بأن الناس يحتفون بالفقيه ويرجمون النبي. ومن هنا عرف الفقهاء اللعبة، درسوها جيداً، وتسالموا على حقيقة أن الناس بحاجة للاستغفال، خاصَّة وأن هذا الاستغفال يدر الأموال من جهة، ويرضي الناس من جهة أخرى. لهذا السبب لا أجد بأن الإجابة على السؤال السالف متاحة لدرجة كبيرة، نعم الأنبياء أذكياء، هذا أكيد، ولكن هل هم أذكى من رجال الدين؟ أشك، فقط أشك ولا أستطيع أن أجزم؛ خاصَّة عندما نحتاج من أجل الجزم إلى تحديد المعنى المراد من مفهوم (الذكاء) فهناك ذكاء اجتماعي وهناك نفعي وهناك إصلاحي وهكذا. ــــــــــــــــــــــــــ * ليست رواية بالتأكيد، مع أن فيها الكثير من السرد، وعذري أن الذي اعترف بهذه الاعترافات، أمامي، اشترط علي أن اسردها كما قالها هو ما أمكن؛ يقول: لأن تجربة النبوة حساسة لدرجة تحتم علينا التعامل مع اعترافاتها بحساسية كافية.. إذن فهذه الكلمات هي ما استطعت الاحتفاظ به، وما أحاول إيصاله، من سرديات خاصَّة توثق اعترافات آخر متصوفة بغداد.
#سعدون_محسن_ضمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خطر الكويت
-
علامة تعجب
-
لعنة ابليس
-
أدباء ومعاول
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد الحلقة الثانية*
-
افتى بها سعد وسعد مشتمل
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد* (الحلقة الأولى)
-
حارس مرمى
-
الدين والانثروبولوجيا
-
أدونيس يبحث عن العراق.. ثلاث لقطات من مشهد كبير وواسع
-
لقد ذهبت بعيدا
-
من المسؤول عن عودتهم
-
إحساس ومسؤولية
-
ناقل كُفْر
-
اسمه الوحي
-
الخائفون، ممن؟
-
من لي برأس هذا الفتى الصخّاب*؟
-
كذبة الحرية
-
خطاب الصناديق السياسي
-
وداعا للخراتيت
المزيد.....
-
هكذا أعادت المقاومة الإسلامية الوحش الصهيوني الى حظيرته
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة-إيفن مناحم-بصلية
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تعلن استهداف مستوطنة كتسرين بصلية
...
-
المواجهات الطائفية تتجدد في شمال غربي باكستان بعد انهيار اله
...
-
الإمارات تشكر دولة ساعدتها على توقيف -قتلة الحاخام اليهودي-
...
-
أحمد التوفيق: وزير الأوقاف المغربي يثير الجدل بتصريح حول الإ
...
-
-حباد- حركة يهودية نشأت بروسيا البيضاء وتحولت إلى حركة عالمي
...
-
شاهد.. جنود إسرائيليون يسخرون من تقاليد مسيحية داخل كنيسة بل
...
-
-المغرب بلد علماني-.. تصريح لوزير الشؤون الإسلامية يثير جدلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف حيفا ومحيطها برشقة صاروخي
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|