جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 2672 - 2009 / 6 / 9 - 08:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اصدر الاستاذ سمير فرنجية نداء استغاثةSOS الى المسيحيين وباسمهم بعنوان "نداء الى المسيحيين: خلاصكم رهن بذكائكم". واطلعنا على المقال ـ النداء يوم الاثنين 1 حزيران الجاري في الموقع الالكتروني "شفاف الشرق الاوسط" الذي يصدر في باريس عاصمة "الام الحنون" فرنسا.
وسمير فرنجية هو ابن المرحوم حميد فرنجية، احد "رجالات الاستقلال" المسيحيين البارزين، الذي عرف بوطنيته وعروبته المعتدلة، في مواجهة السياسة الكارثية الموالية للغرب والاحلاف الاستعمارية و"المنفتحة" على اسرائيل، التي انتهجها حزب الكتائب اللبنانية وكميل نمر شمعون بعد "استقلال لبنان" وخاصة في الخمسينات.
وقد برز الشاب سمير فرنجية في الملعب السياسي اللبناني، في الستينات وبالاخص بعد اندلاع الحرب الاهلية في السبعينات، بوصفه احد الشباب "الماركسيين الجدد" و"وطنيا مسيحيا" صلبا التزم بقضية الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، ضد النهج الانعزالي ـ التقسيمي لـ"الجبهة اللبنانية" التي كان يترأسها عمه المرحوم سليمان فرنجية رئيس الجمهورية اللبنانية الاسبق.
ولكن في اطار التصنيف السياسي العام في الوسط المسيحي: "وطني" او "انعزالي"، كان يختفي تفصيل صغير يتعلق بآل فرنجية، وهو الخلاف على زعامة "العصبية العائلية لفرنجية" بين ابناء المرحومين حميد فرنجية وسليمان فرنجية. وانحصر هذا الخلاف مؤخرا بين سمير فرنجية وابن عمه الوزير السابق سليمان فرنجية (الحفيد).
وفي سنة 2001 كان سمير فرنجية احد مؤسسي لقاء قرنة شهوان، الذي ضم قوى مسيحية تقليدية وانعزالية (من خصوم سمير فرنجية "السابقين")، والذي اصبح فيما بعد جزءا اساسيا من تحالف 14 اذار بزعامة كتلة الحريري.
ويومها ظن كثيرون من محبي سمير فرنجية، وانا واحد منهم، انه "لا يمكن ان يغيـّر"، وانه بانتسابه الى لقاء قرنة شهوان سيستخدم ذكاءه ومصداقيته الوطنية وموقعه العائلي "المسيحي التقليدي" للعمل على "تفتيح عيون" بعض الاوساط المسيحية التقليدية والوسطية، على الحقائق التاريخية، ونقل تلك الاوساط او بعضها الى مواقع "وطنية" وخصوصا دعم المقاومة الشعبية المسلحة ضد اسرائيل، التي اكدت التجربة التاريخية الملموسة، لا سيما بعد التحرير في ايار 2000 انها هي الضمانة الاساسية للوحدة الوطنية للبنان، ولحماية الوجود المسيحي فيه.
ولكن يبدو ان حسن الظن ليس دائما من حسن الفطن. فقد خيب سمير فرنجية آمالنا: فبدلا من ان يأخذ هو طائفيين مسيحيين تقليديين الى المواقف الوطنية الداعمة للمقاومة، اخذه الطائفيون الى المواقع الطائفية والانعزالية، التي تبلغ درجة "عماها السياسي" الى حد رفض حماية المقاومة للمسيحيين.
ونداء الاستغاثةSOS الذي اطلقه سمير فرنجية مؤخرا يدل على عمق القاع الطائفي الذي وصل اليه. ويكشف هذا النداء عن:
ـ الافلاس التاريخي للقوى المسيحية التقليدية والانعزالية في ان تشكل خشبة خلاص او تعطي اي بارقة امل للجماهير الشعبية المسيحية في لبنان وغيره من البلدان العربية.
ـ الازمة الشخصية لسمير فرنجية ذاته، الذي ربما اصبح يجد نفسه كاليتيم على مأدبة اللئام.
في هذا الـSOS ينصب سمير فرنجية لنفسه برجا عاجيا صغيرا يطل منه كحكم مجرد على "الملعب اللبناني" حيث يتنازع مختلف الفرقاء. وهو يساوي بين "الجبهة اللبنانية" و"الحركة الوطنية اللبنانية"، وبين المقاومة واعدائها؛ بدءا من "المقاومة الشعبية عاة 1958" حتى المقاومة الوطنية عام 1982، والاسلامية منذ عام 1985، التي يعتبر انها جعلت "من لبنان، عن قصد او غير قصد، ساحة معركة دائمة، خدمة لمصالح حزبية او خارجية؟!".
اي ان مشكلة لبنان لم تعد في وجود الاستعمار والاحلاف الاستعمارية واسرائيل والاحتلال والعدوان الاسرائيلي، وسياسة الخيانة الوطنية التي كانت تفرض على الشعب اللبناني المظلوم. بل ان مشكلة لبنان اصبحت في "المقاومة".
وفي عنوان رسالته يتحدث سمير فرنجية عن "الذكاء" باعتباره الفرصة الاخيرة للمسيحيين. وللاسف ان سمير فرنجية، في هذا التحامل "التاريخي" على "ثقافة المقاومة" يبدو اقل "ذكاء" من الطائفيين المسيحيين انفسهم، والطائفيين اللبنانيين عموما، الذين اخذوا يتسابقون على التظاهر بتأييد المقاومة التي حققت التحرير، كي "يتذاكوا" عليها بطلب نزع سلاحها طالما انها قد انجزت التحرير. وهو ما يذكر برد السلطة الارستقراطية القرطاجية على هنيبعل حينما طلب ارسال المساعدات اليه بعد انتصاره العظيم في كانا: "اذا كنت تنتصر فأنت لست بحاجة الى مساعدة؛ واذا كنت لا تنتصر فأنت لا تستحق المساعدة!". يبدو ان "ثقافة الخيانة" لها جذور عميقة في تربتنا.
وفي هذا الـSOS يردد سمير فرنجية كثيرا عبارات مثل: العيش المشترك للبنانيين، الدولة اللبنانية، الوطن، الهوية، الصيغة؛ الكيان... ولكن هذه العبارات تبقى بوالين معلقة في الهواء بدون تقديم اي بعد قومي واجتماعي.
الا انه ـ في رغبته الدفينة في المزايدة على المسيحيين التقليديين ـ يقع، من حيث يقصد او لا يقصد، في منزلق شعار "امن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار" الذي سبق ان رفعه المرحوم بشير بيار الجميل؛ اذ يقول سمير فرنجية ان المسيحيين هم "جماعة لعبت الدور الاساسي في قيام الكيان اللبناني وبناء الدولة"، ثم يقول "ان حمايتنا لم تعد تأتي من دولة اوجدناها اصلا لحمايتنا".
وهنا علينا ان نسأل المثقف سمير فرنجية: هل هو يصدق فعلا ان المسيحيين هم الذين اوجدوا الكيان اللبناني؟ اي هل المسيحيون هم الذين وسعوا "المتصرفية" وضموا الاقضية الاربعة اليها واعلنوا "لبنان الكبير"، ام هم المستعمرون الفرنسيون الذين احتلوا الاراضي اللبنانية، واعتقلوا اعضاء مجلس ادارة المتصرفية الذين طالبوا بالانضمام الى الحكومة العربية بقيادة فيصل، وانزلوا بالقوة العلم العربي عن السراي في بيروت ورفعوا مكانه العلم الفرنسي، ثم اقتحموا دمشق وطردوا الحكومة العربية، وبعدها فقط تمكنوا من اعلان دولة "لبنان الكبير".
وهل هو يصدق فعلا ان الدولة اللبنانية وجدت لحماية المسيحيين؟
فإذا كان يصدق ذلك، فعلينا ان نسأله ايضا: اي مسيحيين هم الذين يريد سمير فرنجية حمايتهم؟ هل هم مسيحيو زغرتا والشمال؟ او مسيحيو كل لبنان؟ ولو فرضنا ذلك، ماذا عن المسيحيين العرب الاخرين الذين يبلغ تعدادهم اضعاف اضعاف تعداد المسيحيين اللبنانيين؟
مرة اخرى يخون "الذكاء" سمير فرنجية. فهو يعرف تماما انه لا يمكن حل مسألة الوجود المسيحي في الشرق الا من منظار تحرري قومي شامل؛ وان اي تلويح او تلميح بفكرة "الوطن القومي المسيحي" في لبنان، سيكون بمثابة خدمة مجانية تقدم للصهيونية العالمية التي انشأت الوطن القومي اليهودي، وهدية مجانية تقدم لادعياء الاسلام المزيفين والمشبوهين الذين يريدون تطهير بلاد العرب من النصارى.
وطالما اننا في صدد الحديث عن حماية المسيحيين، فإن سمير فرنجية يرفض "ورقة التفاهم" التي وقعها الجنرال ميشال عون مع السيد حسن نصرالله، لانه يرفض ان يكون المسيحيون "اهل ذمة"، كما يرفض "الرهان على الجمهورية الاسلامية في ايران لحماية مسيحيي الشرق!".
وليسمح لنا سمير فرنجية ان نذكره ان هناك "ثقافتان" في الوسط الاسلامي في النظر الى المسيحيين الشرقيين: "ثقافة" التكفير والتطهير والالغاء، وهي ثقافة لاوطنية ولاقومية كانت مرتبطة بالاستعمار العثماني وصارت مرتبطة بالامبريالية الاميركية والصهيونية. وثقافة "وطنية" و"قومية" و"تحررية" وجدت قبل "ورقة التفاهم" وقبل حزب الله وقبل الجمهورية الاسلامية في ايران. فخلال مذبحة 1860، مثلا، فإن شيعة لبنان لم يشاركوا في المذبحة بل قاموا بايواء المسيحيين وحمايتهم؛ كما فعل الشيء ذاته الامير عبدالقادر الجزائري وفرسانه في دمشق، وهو بالاضافة الى زعامته السياسية، رجل دين مسلم، ووطني حارب الفرنسيين 17 سنة قبل نفيه الى دمشق.
ولا حاجة لان نذكر سمير فرنجية بأن الذين حموا المسيحيين خلال مذابح 1860 لا علاقة لهم بـ"ورقة التفاهم" بين الجنرال عون والسيد نصرالله؛ واكثر من ذلك ان "حزب الله" ذاته حينما قام بحماية المسيحيين في جزين والجنوب، بعد التحرير في 2000، لم تكن "ورقة التفاهم" بينه وبين تيار عون قد وجدت بعد، اي ان "حزب الله" قد فعل ما فعل ليس انطلاقا من اي صفقة سياسية، بل انطلاقا من "ثقافة المقاومة" التي هي حتما ثقافة "وطنية" و"قومية" حتى وهي ثقافة "دينية". وفي هذا الصدد نرجو من الاستاذ سمير فرنجية ان يسأل لنا جميع المراجع الدينية المسيحية، وعلى رأسها الفاتيكان: ما هي المشكلة اذا كانت الجمهورية الاسلامية في ايران تأخذ على عاتقها مهمة تاريخية حضارية مشرفة، كمهمة حماية مسيحيي الشرق؟!
واخيرا، وبالرغم من كل الطابع الجدي والدراماتيكي لرسالة سمير فرنجية، فإن فيها ايضا بعض التفكهة، حيث انه في معرض دفاعه الطويل عن "السلام العادل والشامل" يقول ان السلام هو شرط لاقامة "دولة مدنية تكفل للمواطنين من دون تمييز حقوقا متساوية وفرصا متساوية للحصول عليها" ودون ان يرف له جفن يتابع "دولة تضمن الحضور الحر للطوائف خارج منطق العدد الذي يستخدم لتخويف اللبنانيين".
احترنا معك: "دولة مدنية" او "دولة طوائف"؟
مؤسف جدا ان "ماركسيا سابقا" و"يساريا سابقا" مثل سمير فرنجية لم يعد يعرف ماذا يريد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟