|
من إبن عربي إلى ت.س. إليوت
محمد علي شمس الدين
الحوار المتمدن-العدد: 2670 - 2009 / 6 / 7 - 10:02
المحور:
الادب والفن
مــن الزمــن النفــسي إلــى الزمــن العظيــم
الزمن الخصب من والزمان في العربية بمعنى واحد. والجمع أزمن وأزمان وأزمنة. وارجح ان اضافة ألف ممدودة للزمن ليغدو الزمان، اشارة الى امتداد وقته. فالعرب على ما جاء في ابن منظور يستعملونه لقليل الوقت وكثيره. وكثيره قد يطول حتى اللانهاية. قال ابو العلاء المعري: «علّلاني فإن بيض الأماني فنيت والزمان ليس بفانِ» وثمة من اعتبر الزمن محدوداً بخلاف الدهر. قال أبو الهيثم: «الدهر لا ينقطع». ونضيف: الدهر لا يحد: قال المعري: «ولو طار جبريل بقية عمره على الدهر ما استطاع الخروج من الدهر» والعربية غنية بالمفردات الدالة على الوقت المحدود والوقت اللامحدود: فهناك الأزل ويتعلق بالماضي المفتوح او اللانهائي وهناك الأبد ويتعلق بالمستقبل المفتوح واللانهائي، وهناك الأمد وهو الغاية، والمدى، وقيل الأمد الثاني هو الموت عطفاً على الآية «ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم». وللزمن مفهوم فلسفي ومفهوم فيزيائي ومفهوم ديني ومفهوم صوفي ومفهوم شعري ومفهوم روائي... فقد كان من قديم الزمان ما يحيّر البشر ويستفزهم في مسائل الولادة والموت وتعاقب الليل والنهار وتعاقب الفصول والأيام والأعوام... فإنهم كانوا يعيشون في هذا المركب الالهي، في بحر لا يعرفون على وجه اليقين آياته وأسراره... وحين جاء الإسلام، اورد في الذكر الحكيم اربعمئة آية في الزمن على مختلف أبعاده ونسبه وأسراره. بعض هذه الآيات على سبيل التوضيح والهداية، وبعضها على سبيل الإعجاز، حيث ثمّة ما يدعو للتفكر، لا في المفاهيم العلمية في الكتاب، فهو كتاب ذكر وتذكرة، على ما جاء في ابن خلدون، ولكن في السبق المبكر للإشارة الى النسبية في مفهوم الزمان ـ على أن ما يحدث حدث على سبيل المعجزة ـ لا بالتفصيل الآينشتايني للزمن الفيزيائي ونسبيته. والآيات في هذا المجرى كثيرة ومدهشة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، الآية 259 من سورة البقرة «... او كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال كم لبثت؟ قال لبثت يوماً او بعض يوم قال بل لبثت مائة عام...». كذلك الآية 47 من سورة الحج «...وإن يوماً عند ربّك كألف سنة مما تعدوّن»، والآية 5 من سورة السجدة «تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة»... ومثلها كثير. فأنت بلا ريب، تعتريك قشعريرة السؤال وفضوله، لا على سبيل تحميل النص القرآني ما لا يحمل من الفيزياء الحديثة، بل على سبيل ما تمليه الفطرة البشرية السليمة، حين تقرأ للعالم بريفوجين Prigogine نوبل للكيمياء 1977) المتوفى في العام 2003 كتابه «بين الزمن والأبدية» «Entre le temps et l"étérnité» أن «الكون ينتج عن حالة عدم استقرار خلاّق، يمكن له ان يتكرر مراراً وهنا نرى الأبدية»... وان النظرية النسبية العامة التي توصل إليها آينشتاين ونشر نظريتها في العام 1915 تكشف النقاب عن البعد الرابع في قياس الكميات الفيزيائية، وهو بعد الزمن... «فإذا وصل أي جسم لسرعة الضوء توقف الزمن بالنسبة له» (ينظر موجز تاريخ الزمن لستيفن هاوكنج والكون الأنيق لبريان غرين). لكن ثمة مسألة في الزمن، ما زال يلفها السرّ والستر، وتتعلق بنهاية العالم. متى وكيف؟ وهي بالتعبير القرآني «الساعة». فقد جاء وفي الآية 34 من سورة لقمان «إن الله عنده علم الساعة»، وقد سئل الرسول الأعظم عن علم الساعة فقال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». هي اذن مسائل تدعو للتفكر، فالزمن ازمنة وازمان: فيزيائي، فلسفي، ديني، نفسي، وهو ايضا صوفي وشعري وروائي. انه الزمن الخصب. ابن عربي وإليوت ابن عربي حين عقد قرانه على نجوم السماء لعل أبدع من كتب في الزمن، عند المتصوّفة المسلمين، ابن عربي (المتوفى سنة 638هـ) وهو ما يعرف به، واسمه محمد بن علي ويلقب بمحيي الدين. أندلسي المولد (في مرسية 560هـ) جاب العالم الاسلامي المعروف في أيامه، واستقر في دمشق حيث توفى، وله فيها قبر ومقام. ولا تخلو حياته من رؤى منام ورؤى يقظة. يروي في الفتوحات المكية (طبعة دار الكتب العلمية بيروت 1999) انه رأى في حال اليقظة نفسه امام العرش الالهي المحمول على اعمدة من لهب متفجر ورأى طائراً جميلاً بديع الصنع يحلّق حول العرش ويصدر إليه الأمر بأن يرتحل الى الشرق... فيبدأ رحلاته بمكة، حيث يلتقي بمرشده السماوي في الطواف فيأمره بتأليف الفتوحات المكية... ثم يرتحل للموصل، فالقاهرة، ويعود الى مكة ومنها لقونية بتركيا، فبغداد حيث يلتقي بالسهروردي ويعود مجدداً الى مكة وآخر مطافه الى حلب فدمشق، وكانت مقره الأخير. وفي الفتوحات ما يدهش من شطح وأسرار فهو يذكر مراتب الحروف وأسرارها ويتوغل في علم الاحوال وهو «فوق طور العقل»، مستعيراً لذلك قول الشريف الرضي: «يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحلّ رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا» وهو القائل في الفتوحات انه «عقد قرانه على نجوم السماء» أي صار عليماً بها. وفي رسائله المسماة «رسائل ابن عربي. طبعة دار الانتشار العربي 2001) (رسالة في أسرار الذات الالهية)» يقسم الزمان الى زمانين: الزمان الآفاقي والزمان الأنفسي... وهذا التقسيم مشتق من الآية الكريمة «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم». وهو يعرّف الزمان الآفاقي على انه «عبارة عن بدء حركة الأفلاك وتعداد أوقاتها». ويعرّف الزمان الأنفسي على انه «عبارة عن مقادير الله تعالى» «وقد اشار الله الى هذين الزمانين بقوله «في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدّون» (السجدة آية رقم 5). والزمان عنده دال على الأزل والأبد... فهو حاصل الثواني والساعات والشهور والاعوام والقرون والاحقاب. والزمان الخصب في تجربة ابن عربي هو الزمان الأنفسي. انه زمان الرؤيا والإسراء والمعراج... وهو زمان داخلي بامتياز حيث تنطبع المعرفة في القلب. سئل رويم عن أدب المسافر فقال «حيث وقف قلبه يكون منزله»... والزمان الأنفسي عند ابن عربي يستطيع ان يكون زماناً معاصراً بامتياز. يقول يونغ: «الشمس الداخلية صورة للإله» فإنه بالنسبة له «أداة الانسان العظمى هي نفسه» (الانسان ورموزه. يونغ وجماعة علماء ترجمة سمير علي/ دائرة الشؤون الثقافية والنشر بغداد 1984 ص 131). بل لعل هنا في عمق الذات، يكمن ما عبّر عنه نوفاليس بقوله «أنا الأنا» Le je de son je... وقد استفاض باشلار في كتابه «شاعرية أحلام اليقظة» بهذه الاشارات. جاء في سورة النجم الآية «ما كذب الفؤاد ما رأى» وجاء في انجيل لوقا (7، 12): «مملكة السماوات هي في داخلكم» ويقول صلاح عبد الصبور في «مأساة الحلاّج» بلسان الشبلي: «وأرى في قلبي أشجاراً وثماراً». هكذا إذن يمكن ان نعتبر الزمان الأنفسي الصوفي الذي تحدث عنه ابن عربي وسائر المتصوّفة اساساً من أسس الرؤيا الشعرية المعاصرة للزمان... ومن اكثر الشعراء إحساساً بالزمان، الشاعر الاميركي الانكليزي ت.س. إليوت. وجوه الزمان ومراتبه تحوّل ت. س. إليوت خلال حياته وبعد موته، الى شاعر مسيطر وصاحب سطوة عالمية من خلال اشعاره التي تنقل بها بين الازمنة واللغات والحضارات وتناول من خلالها الوجود البشري والتاريخ والازمنة... وهو يطل من نافذة الشعر على الفلسفة، في مسرحياته المشهودة مثل «حفلة كوكتيل» و«جريمة في الكاتدرائية»... وفي قصائده الطويلة مثل «الأرض اليباب» و«الرجال الجوف» و«أربعاء الرماد...»، وفي هجرته من الولايات المتحدة الاميركية الى بريطانيا وعودته الى اميركا كان كمن ينتقل من المعاصرة الى التراث ثم يعود في دورة لولبية للزمان من خلال المكان. وإليوت منقول باكراً الى العربية، لكن اهم من ترجم أشعاره بدقة وشغف، هو المصري الدكتور ماهر شفيق فريد، فقد ترجمه كاملاً بجميع اعماله المسرحية والشعرية بما في ذلك الرباعيات. وقد قامت الفلسطينية المقيمة في واشنطن مريم قاسم السعد، بوضع كتاب بالانكليزية عن أنماط الزمن في رباعيات إليوت، قام بنقله للعربية بمساعدة الكاتبة وإشرافها كل من فريد الخطيب ورياض القاسم، وتشوب الترجمة هنات لا تخفى على القارئ. يتدرّج الزمن في شعر إليوت من زمن الساعة الى الزمن النفسي الى الزمن التاريخي وينتهي بما يسميه «الزمن العظيم» او الزمن الصوفي... حيث يتقاطع مع ازمنة الصوفية المسلمين، على الرغم من انه يرشح من صوفية مسيحية لدى إليوت. والمفاهيم المختلفة للزمن لدى إليوت مغموسة بفلسفات قديمة وحديثة، تتدرّج من هيرقليطس الى برغسن وويندهام لويس. ويظهر ايضا تأثير لكل من فرويد ويونغ في الزمن النفسي. أما الزمن العظيم الكوني فيلخصه بصعود اللحظة والمكان المحدود الى المطلق: «التاريخ هو الآن وانكلترا/ تقاطع اللحظة السرمدية/ انكلترا واللامكان/ أبداً ودوماً». وهو يصبو من خلال رباعياته لشعر «يقف عارياً حتى عظامه العارية»، بل الى «ما خلف الشعر» كما جاهد بيتهوفن للوصول الى ما خلف الموسيقى. ان التجربة الدينية للشاعر قادت خطاه الى الزمن الأزلي... ادنى انواع الزمن لدى إليوت زمن الساعة... زمن العيش اليومي المحدد المادي الفيزيائي المحسوس. يكيله العاشق برفروك «بملاعق القهوة»... «حيث يبصق جميع نهايات نهاراته وطرقه» وحيث «تزدحم الجنائز وليس ثمة من يدفن». يتدرج إليوت من زمن الساعة الى الزمن النفسي وهو زمن وسيط في طريق الزمن التاريخي. وفيه يقترب الماضي من الحاضر وتظهر رواسب ذاتية وقومية وعائلية. إلا انه زمن خاص وذاتي... في حين ان الزمن التاريخي هو زمن الحضارات والتاريخ والدين. وتظهر في الزمن التاريخي فلسفة هيرقليطس في العناصر وتحولاتها ووحدتها، فيستعيد مقولة هذا الفيلسوف «النار تعيش بموت الهواء/ ويعيش الهواء بموت النار/ ويعيش الماء بموت الأرض/ وتعيش الأرض بموت الماء...». وفي هذا الزمن يعلو نشيد الاضداد «إن الطريق الى فوق هي الطريق الى تحت/ في بدايتي نهايتي» وكل ذلك في صيرورة الى الزمن العظيم... فما هو في شعر إليوت؟ يتميّز هذا الزمن بغياب الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتذوب فيه التجارب البشرية بكاملها. انه زمن الأزمنة. إليوت يكون فيه ذاته والآخرين. وانكلترا هي كل الأمكنة واللامكان ويصبح الزمن كالجرّة الصينية تتحرك وهي جامدة: «...لن يكون هناك رقص وليس هناك سوى الرقص فقط». وهنا يلتقي إليوت، في الزمن العظيم، بابن عربي وبسائر المتصوّفة الاسلاميين، على الرغم من اختلاف المنابع واللغات.
#محمد_علي_شمس_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أم كلثوم.. هل كانت من أقوى الأصوات في تاريخ الغناء؟
-
بعد نصف قرن على رحيلها.. سحر أم كلثوم لايزال حيا!
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|