داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 2667 - 2009 / 6 / 4 - 09:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
التسامح في القرآن3/3
انواع التسامح
ان للتسامح انواع كثيرة , ومتعددة , لكن الذي يهمنا هنا في هذا الاطار اربعة انواع من التسامح , تعد هي الاهم في هذ المضمار او المعترك , ولا سيما ان القران الكريم قد اكدها , كما ذكرنا في فصول سابقة وشرحنا ذلك مفصلا . والانواع الاربعة هي :
1- التسامح الديني .
2- التسامح السياسي.
3- التسامح الاجتماعي.
4- التسامح الاخلاقي .
وسنحاول , قدر الامكان , شرح هذه الانواع الاربعة , وبحسب ما يسمح لنا المجال , في هذه الجولة السريعة من البحث , وقد تجنبنا الافاضة والاطناب , كي لا يشعر القارئ الكريم بالسأم والملل .
اولا : التسامح الديني .
وذكرناه اولا لأنه المقصود والمعني والاهم من سواه , كونه يعد المحور الاساسي الذي تدور من حوله جميع القضايا والامور العالقة به و لان للدين غالبا ما يتسيس لجهة معينة , كما راينا هذا في عصرنا الراهن , وشاهدناه بأم اعيننا كثير من الجهات السياسية , او ما تدعي السياسة قد حولت القضايا الدينية الى خطابات ومنابر تتكلم فيها عن السياسة , وتمزج بينها وبين الدين, حتى أن اغلب الناس صار عنده تصورا بان الدين سياسة والسياسة دين , نسوا او تناسوا قول الإمام علي بن ابي طالب (ع) حينما جاءته اخبار معاوية وما فعله فقال : (والله ما معاوية بادها مني في السياسة لكنه يغدر ويفجر) .
إذن , أن الدين والسياسة ضرتان او نقيضان وان النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان كما في القاعدة الفلسفية , وبهذا الجانب خصوصا . فتحدث الكراهية والنفور , وتبدأ الصراعات حتى تتحول فيما بعد الى قتال واحتراب خطير يؤدي الى زهق الارواح ومصادرة الحريات والكرامات بين الاديان المختلفة والمذاهب , بل وبعض الاحيان بين المذهب الواحد والدين الواحد كما نراه اليوم شاخصا امامنا في وقتنا الراهن وسبب ذلك يعود الى بعض رجال الدين وما بثوه من افكار ورؤى ذلك بشرح بعض الاحاديث والآيات بحسب اهوائهم وطموحاتهم الشخصية , استغلال مناصبهم الدينية او السياسية , فيصطادون السذج من الناس , من البسطاء واصحاب التفكير المحدود , او الذين ليس لهم نصيب من العلم والثقافة , وقضايا الدين الاخرى والتي تعصمهم من الوقوع في شباك هؤلاء المدعين لتنوير الامة , وهم في الحقيقة ما يسعون الا لأضلالهم , ومن ثم تمزيق الدين وتشويه صورته الناصعة البياض . وهم في الحقيقة قد حققوا بعض ما كانوا يصبون اليه ونالوا مطلوبهم . وقد وجب على المصلحين ورجال الدين والمثقفين , توعية الامة , وانتشالها من الغرق والضلال والتيه , وذلك بان تنشر ثقافة التسامح , وتجعل نصب اعينها بان الدين الحنيف قد امر بالتسامح والمحبة , وان يعيش الجميع في وئام , وان من اكبر الكبائر قتل النفس المحترمة وان القاتل مصيره الخلود في نار جهنم . فلو كان هناك افضل واحسن من التسامح لأمرتنا الشريعة الاسلامية به . لان الإسلام هدفه بناء الإنسان وديمومة بقائه لأعمار الارض ومن عليها . فالعنف , في كل الاحوال لاينسجم مع ما امرت به الشريعة الاسلامية , من كون العنف بمنزلة الطاغون القاتل حينما ينال من الإنسان , بل لعله اخطر من ذلك .
ثانيا : التسامح السياسي .
ويأتي بالمرتبة الثانية , بعد التسامح الديني اذ ان الخلافات السياسية كثيرة , ودائما ما تفضي الى نشوب النزاعات تنتهي بالنهاية الى صراع يصل الى الاحتراب والاقتتال باليد واللسان, وكله بغية الوصول الى السلطة , والجلوس على اريكة الحكم , لاستعباد الانسان وهدر الاموال والانفس في سبيل الملذات الشخصية والطموحات الذتية , اذ ان الانسان له القابلية السايكولوجية على الظلم والوصول الى الغايات المرجوة وان كلفه ذلك زهق الارواح , وسحق الضمير . والقرآن الكريم وقد علم سلفا بولادة احزاب وتيارات فكرية وسياسية فقد قالت الآية: (كل حزب بما لديهم فرحون). لذلك امر بالتسامح وان يحترم كل طرف الطرف الآخر , لان النزاعات والقتال لا تصب في مصلحة الإنسان , والقران رغم ذلك اراد من الجميع التحلي بالصبر والتعقل , وترك كلما يهدد حياة الإنسان ويدعو الى انقراضه , ولا يوجد اشد من الاحتراب والاقتتال وممارسة الاعمال الارهابية التي تساعد او تسبب انقراض الإنسان وتهدد وجوده وكلنا يعلم بان الحروب التي وقعت قديما وحديثا ماذا سببت , وماذا تركت من عواقب وخيمة دفع الإنسان نفسه ثمنها. فالحربين العالميتين الاولى والثانية في وقتنا الحاضر قد خلقت ملايين القتلى , فضلا عن الجرحى والمعاقين وما خلفته كذلك من اثار نفسية ومادية ومعنوية , لا زال يعاني منها الإنسان الى وقتنا هذا . اذن فالتسامح السياسي امر واقع وحالة ملحة يجب ان يبذلها الجميع ويضحون من اجلها , في سبيل تركيز هذا المبدأ العظيم (التسامح) وتثبيت وجوده في الواقع الراهن . فعلى السياسيين ان يدركوا هذا المبدأ , ويفهموا هذه الفلسفة ويسعون جادين للنهوض بها وتفشيها في المجتمع.
ثالثا : التسامح الاجتماعي :
وهذا المبدأ لا يقل اهمية على من سواه من المبادئ التي اشرنا اليها قبل قليل فغالبا ما تحدث نزاعات وامور اجتماعية , تصل الى حد القتل وارتكاب الجرائم البشعة وقد حدث مثل هذا ويحدث كثيرا , وما المحاكم الجنائية التي انشاتها الدول الا لهذا الغرض , وان اكثر هذه الجرائم قائمة بسبب الاموال من الذهب والنقود وسواها , بل إن الامر يصل احيانا الى اغلى واهم من النفس , وايضا هناك شواهد كثيرة على ذلك شاخصة امامنا ونشاهدها يوميا هنا وهناك في الاوساط الاجتماعية عموما وعلى مستوى جميع المجتمعات ولا سيما المثقفة منها . والتسامح , هنا قد يحل او يساعد على حلول مثل هذه القضايا ويعالجها معالجة موضوعية فالمتسامح يصبح وسط المجتمع قدوة صالحة , ومحط انظار الجميع , اضافة الى احترامه من قبل الكل , وهكذا حتى نستطيع ان نخلق مجتمعا تشيع فيه ثقافة التسامح والتآزر ونقضي بذلك على الانانية والنرجسية وحب المصالح الشخصية على المصالح العامة , ولا يحصل مثل هذا قط ما لم نتمكن من نشر هذه الثقافة وسقيها باستمرار حتى تنمو وتثمر , كي نجني تلك الثمرة فيما بعد دون عناء .
ونحن عندما نعمل ذلك فاننا نبني مجتمعا متسامحا يحترم الآخر ويؤمن بالتعددية واتساع الرؤئ ولا يوجد في قاموس حياته مفردة (عنف) او (إرهاب) او اعتداء على الآخر , وغمط حقوقه , وانكار وجوده وهو مخالف للعقل والمنطق وترفضه الفطرة السليمة.
رابعاً: التسامح الاخلاقي .
وهو من اهم المبادئ التي اكدها القران الكريم , واشار اليها اشارة واضحة وحرص كل الحرص على نشرها وافاضتها , بل ان التسامح الاخلاقي من اهم القضايا التي ركز عليها القران , لانها مفتاح كل الامور الحسنة والتي تصب في صميم الدين وتعتبر من اهم الأطر التي تحافظ على الدين وتساعد على انتشاره, حيث ان صاحب الخلق الرفيع هو محط انظار الجميع وقبلتهم , فضلا عن كونه قدوة حسنة بين المجتمع هو عندهم صدوقا لذلك فقد مدح الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم حينما قال في حقه :(وانك لعلى خلق عظيم). لذلك فان نبي الرحمة محمد بن عبد الله (ص) كان قمة في حسن الخلق والتسامح وهناك روايات كثيرة تؤكد مسامحته وحسن خلقه حتى مع أعدائه وألد خصومه , فقد كان ابن عمه ابا لهب اول من جحد نبوته وحاربه بكل ما اوتي من قوة , وعمل معه ما عمل من امور منكرة في سبيل تخليه عن الرسالة التي بعث من اجل تبليغها الى الناس كافة , لكنه (ص) قد عامله باللين والرفق, ولم يؤذيه حتى بكلمة نابية . وكذلك في فتح مكة حينما جاؤوه بابي سفيان وولده معاوية وبعض رجالات قريش , من الذين ناصبوه العداء , وشنوا عليه حربا شعواء لا هوادة فيها , لكنه (ص) تحلى بحسن الخلق وطبق معهم مبدا التسامح , ونسيان الماضي , واراد أن يعلمهم بان الاسلام هو دين التسامح والمسامحة , فقال كلمته المشهورة التي سجلها لنا التاريخ بحروف من نور (اذهبوا فانتم الطلقاء).
خصوم التسامح
بطبيعة الحال أن لكل دين , ومبدأ , ومعتقد وفكر لابد من وجود معارض او مناوئ او مضاد , او حتى خصم عنيد وعدو لدود , و (التسامح) كمبدأ وقيمة عظيمة من قيم الإنسانية الخلاقة والتي أثبتت , هويتها وماهيتها , لابد من وجود من يقف بالضد منها ويحاربها , ويحاول تفنيدها , لهروب الناس من دربها الواضح وطريقها المعبد , المحفوف بالمحبة والمزروع بالوئام والمعنون بالكرامة . وخصم التسامح لم ينكر تلك الآيات ولم يعارضها , او يقول انها ليست من القران , ابدا لا هذا ولا ذاك , بل ادعى بان تلك الآيات قد نسخت بآيات السيف , وابطل حكمها على عهد رسول الله (ص) . وان الآيات التي نسختها دعت الى جهاد الكفار , ومحاربة البغاة وقتل المشركين , واعداء الدين حتى يقولوا لا اله الا الله , فيعصموا بذلك دمائهم وأموالهم واجرهم على الله . فهم من هذا الباب يقتلون المخالف ويحاربون المناوئ .
ادعاء النسخ :
القران الكريم , فيه المحكم , والمتشابه , وفيه الناسخ , وفيه المنسوخ , وفيه القصص والمواعظ والحكم وغير ذلك . وهناك أراء كثيرة تناولت ذلك بعضها مختلف وآخر مؤتلف , ولا يمكن في حال من الأحوال الاعتماد على تلك الأقوال والآراء للخروج بحكم حازم في طبيعة القضية , او الخروج بمحصلة ترضي الجميع وتصب في مصلحة الكل فقد ذكر العلامة (النحاس) في كتابه (الناسخ والمنسوخ) أقوال وأراء بشان الآيات المنسوخة , لا ترضي حقيقة , جميع الأطراف , وكذلك فانها لا تصمد امام العقل والمنطق , والبحث والتنقيب , اذ ان هناك آيات محكمة قيل انها منسوخة وهكذا .: (لاخلاق بين المسلمين في وقوع النسخ , فان كثيرا من احكام الشرائع السابقة قد نسخت باحكام الشريعة الإسلامية , وان من جملة احكام هذه الشريعة قد نسخت بإحكام اخرى من هذه الشريعة نفسها , فقد صرح القران الكريم نسخ حكم التوجه والصلاة الى القبلة الاولى , وهذا مما لا ريب فيه . وانما الكلام في ان يكون شيء من احكام القران منسوخا بالقران , او بالسنة القطعية , او بالاجماع , او العقل ) .البيان ص 282 .
والاختلاف قد وقع في النسخ , ولا يمكن أن تتفق المذاهب الإسلامية جميعها , على رأي واحد وقول ثابت في مسالة صغيرة او كبيرة إلا ما ندر ومن هذا المنطلق ظهرت مدارس كثيرة و كل مدرسة لها رأيها الذي يستند على ركائز تستمد قوتها من الشريعة وفق نصوص تفسرها بحسب ما فهمته في تلك النصوص , ومدعومة كذلك بسيرة بعض العلماء الذين كانوا يذهبون الى تلك الأقوال , ويسيرون بتلك السيرة .
العنف:
وما تمخض عن بعض تلك المدارس , الإيمان بالعنف والاعتماد على قوة السلاح للوصول الى الهدف المرسوم او الغاية المرجوة , لتسلم المناصب واخذ المهام , والارتقاء الى المناصب العليا , او الحصول على المرام ومن المكاسب الدنيوية , ويربطون جميع ذلك بروابط الدين وما امرت به الشريعة , لقيام الاعوجاج وما تردى من امور المسلمين , وغير ذلك من الحجج الواهية التي لا تصمد أمام العقل , لأنها هشة ومبنية على ارض رخوة .
لكن مع ذلك , فان أصحاب هذه النظريات الباطلة والطروحات الساذجة , قد اصطادوا بها كثير من العقول الهرمة , وأوقفوهم في شراكهم وحبالهم والعنف لا زال قائم على قدم وساق , ليس على مستوى فكر معين او ايديولوجيا مخصوصة , لا بل على مستوى العالم برمته , حتى صار العنف , في وقتنا الراهن ثقافة يشيب عليه الصغير ويهرم عليها الكبير , وكل ذلك - بطبيعة الحال له اسبابه ومبرراته التي تكون اغلبها قائمة على حب المناصب والاموال , والمراكز السياسية والاجتماعية المغرية بين هؤلاء اعداء الحياة ومثيري الشغب .
فلو كان الوازع الديني لدى هؤلاء قويا , ويصب في مصلحة الدين وقضايا المسلمين المصيرية , لآمنوا بمبدأ التسامح ورضخوا لفلسفة القران التي أكدت على التسامح ونادت به . لكن هؤلاء وكما هو واضح - لا يهمهم امر الدين , وان كانوا يدعون ذلك , بقدر ما تهمهم مصالحهم الشخصية والغايات التي ينشدونها , فيسهل عندهم قتل الإنسان وهتك حرمته وسرقة امواله , بتهمة مروق هذا الإنسان عن الدين , وخروجه من الملة , فهم يلبسون الجريمة رداء الدين , فيسدون الباب بوجه المعترض اوالمناوئ , لهذه الأفكار الظلامية القائمة على القتل , ومصادرة حقوق وواجبات الآخر .
الفكر التكفيري:
وهذا الفكر من اخطر الافكار التدميرية , واشدها قسوة وظلما , وقد انبثق عنها الإرهاب , وان كان هذا الإرهاب ضارب جذوره في عمق التاريخ , لكنه اليوم قد توسع اطاره العام , واصبح هذا المفهوم يعرف على مستوى العالم , نتيجة ما يقوم به من اعمال اجرامية من قتل واغتيال , وسرقات واختطاف , وغير ذلك من جرائم يندى لها جبين الانسانية . وهذا الفكر من اشد خصوم التسامح واخطرها على الاطلاق حيث يقوم على تكفير الآخر , ويطلق الأحكام عليه جزافا من دون تروي , او النظر في الامر , ويوعز ذلك الى الدين , فيقتص من خصمه بالحال ويقضي عليه , ولا يفسح له مجال الدفاع عن نفسه , لأنه لا يريد ان يسمع حججه لان سماع الحجة في معركة مع النفس والضمير , وقد يعلم مسبقا هو الخاسر فيها كون اسلحته الدفاعية قاصرة , ولا تقوم على مبدأ العدالة وحكم العقل , بل أن الهوى هو الفصل والفيصل .
فشتان ما بين هذا وبين ما طرحه القران الكريم , و أشار اليه وأكده من آيات نادت بالتسامح ودعت الى الحكمة والتروي , وعدم سفك الدماء , والتحكم الى العقل والمنطق واتباع سواء السبيل والكلمة الطيبة . وان حرمة الإنسان اشد من حرمة الكعبة, كما ورد في الاثر , هذا الإنسان الذي خلقه الله في احسن تقويم , فليس هين على الله تعالى , ومن كمال تقويمه بان خلقه معتدل القامة , ويسير على قدمين وقد زوده بجوهرة , هي اعز ما يملك الإنسان , والجوهرة هذه هي العقل , وهو اول شي خلقه الله تعالى إذ امره بالإقبال فاقبل ثم بالادبار فأدبر , وجعل الاثابة والعقاب بما يقوم به هذا العقل , لان العقل يدرك ويعي ويفهم ما يدور من حوله . وحكم هؤلاء (التكفيريين) على الانسان بهذه الصورة البشعة , انما هي مخالفة صريحة لأوامر البارئ , واعتداء صارخ ليس له مبرر , وتحدي لارادة الله والاستهزاء بهذا الخلق الذي ميزه الله عن غيره من المخلوقات , وامره بالعبادة والتقرب اليه تعالى , وحثه على التحلي بالأخلاق ومعاملة الناس بالقول الحسن , وعدم اتباع الهوى وما تريد النفس , لان النفس - كما وصفها الله أمارة بالسوء .
المصادر
* القران الكريم
* تفسير الميزان ،محمد حسين الطباطائي ،طبع بيروت ،سنة 1972 .
*رسالة في التسامح ،جون لوك تقديم عبد الرحمن بدوي طبع بغداد 2007 .
* البيان ،السيد الخوئي ،طبع ايران 2003 .
*التسامح وجذور اللاتسامح ماجد الغرباوي ،طبع بغداد ، 2007 .
*المعجم الفلسفي ،جميل صليبا ،طبع ايران ، 2004 .
* وسائل الشيعة ،الحر العاملي .
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟