|
الكتب المقدسة هي جزء من المنتج الأدبي والثقافي الإنساني
نضال الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 2663 - 2009 / 5 / 31 - 05:31
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الفكر الديني أي كان مضمونه، محكوم بالنصوص المقدسة التي تخص هذا الفكر. إن سلطة هذه النصوص على عقل المؤمن تفوق اي سلطة أخرى مهما كانت علمية وبرهانية وهي تزرع في عقل المؤمن وخاصة المثقف إزدواجية عقلية. ففي الوقت الذي يتقبل فيه المثقف الأسس العلمية والمنطقية للتفكير في مجالات العلوم المختلفة فإنه يقف أمام سلطة النصوص الدينية متلقيا وبدون أي مسائلة أو تشكيك. لقد استطاعت المؤسسة الدينية مع الزمن خلق روابط نفسية واجتماعية خاصة لدى المؤمنين صهرت كل المقومات والامكانات والقدرات العقلية والفكرية الفردية لديهم في بوتقة الفكر الجماعي تحت ما سمته الحقيقة الدينية المطلقة. ومن أهم شروط الحقيقة الدينية المطلقة هذه أنها تفرض قبول تعايش التناقضات داخل نظام الإيمان المطلق بدون جدال أو مسائلة وترفض أي محاولة عقلية للتساؤل عن تلك التناقضات. الفكر المسيحي يؤمن بألوهية التوراة والإنجيل وهو يؤمن كذلك أن الله نزل إلى الأرض وتجسد في جسد المسيح الذي صلب لكي يحمل عن الناس ذنوبهم وبعد صلبه خرج من قبره ورجع إلى السماء إلى حضن أبيه حيث يجلس على عرش الألوهية الثالوث الإلهي_ الأب والإبن والروح القدس. الفكر الديني المسيحي يطلب من المؤمنين المسيحيين الإيمان بهذه " الحقيقة الدينية" في الوقت الذي يرفض فيه "الحقيقة الدينية الإسلامية" التي تقول أن محمد بن عبداللة هو نبي ورسول الله ولقد تلقى من الله نصا إلهيا مقدسا هو القرآن. الفكر الديني اليهودي له أيضا "حقيقته الدينية" الخاصة به و التي ترفض المسيحية والإسلام و تقوم على ميثولوجيا أن الإله يهوه قد عقد اتفاقية بينه وبين بني إسرائيل ، وحسب هذه الاتفاقية فإن يهوه اختارهم من بين البشر كحملة عبادته وحده من دون غيره مقابل أن يمنحهم الأرض المقدسة فلسطين كوطن خالص لهم . جرى الاتفاق الأول بين إله إسرائيل وبين إبراهيم التوراتي الذي يعتبره اليهود جدهم الأول، بصفتهم ( كما يدعون)، أحفاد الإسرائيليين التوراتيين. تعهد الرب حسب هذه الإتفاقية بمنح إبراهيم ونسله من بعده( تعني بني إسرائيل فقط) أرض كنعان وهي أرض فلسطين. وبعد انقطاع وغياب طويل، عاد الرب وقرر تجديد الاتفاق بينه وبين بني إسرائيل في سيناء حيث جدد عهده لهم بأن يمنحهم أرض اللبن والعسل فلسطين خالصة لهم من دون غيرهم . الاتفاقية تطلب من شعب الله المختار، مقابل الوعد الإلهي بمنحه الأرض المقدسة، الاخلاص لعبادة يهوه وحده من دون الآلهة و التزامه بالدستور الذي وضعه له في التوراة. بنود هذا الدستور وقوانينه، وبإلهام من الله، شرحها وفندها ورتبها، مجموعة من الحاخامات في مؤلف يدعى الهالاخاه( أي الطريق) وهو موجز للتعاليم والقوانين التي جاءت في التلمود ، وتحتوي الهالاخاه على كل ما يجب أن يفعله ويقوم به اليهودي في مختلف الوجوه الحياتية. كما يدعي الفكر الديني اليهودي بأنه بدون أرض إسرائيل الموعودة لا يمكن تحقيق وتطبيق الاتفاقية مع الله وأن عودة اليهود للأرض المقدسة أمر إلهي من أجل التهيئة لظهور المسيح المنقذ الذي سيقيم مملكة الله على الأرض التي سيعمها السلام. كل فكر ديني له حقيقته الدينية التي ترفض الأخرى. بعد عصر التنوير الأوروبي بدأ التشكيك في الحقيقة الدينية المسيحية واليهودية وسمح لنقاد التوراة برفض ألوهيتها واعتبارها جزء من التراث الأدبي الإنساني. ومن النتائج التي خرجت بها مدارس نقد التوراة أن نسبة الكتب الخمسة الأولى لموسى و أنه صاحبها أو كاتبها بوحي من الله، قد أصبحت نسبة باطلة تماما ولا ظل لها من حقيقة. ولقد أبدت الكنيسة الكاثوليكية تفهما لذلك و سجلت اعترافها بذلك في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس الصادرة في عام 1960 حيث تقول : "ما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته قد كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو اشرف على وضع النص ، لأن النص قد كتبه عديدون بعده ، لكن يجب القول أن ازديادا تدريجيا قد حدث ، و سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية و الدينية". يقول الأب المسيحي جان بوتيرو في كتابه ( بابل والكتاب المقدس) أن الكتاب المقدس باقتباسه أي شيء كان من أدب سبقه ، لم يعد ذلك الكتاب الفريد و الفوق طبيعي، لم يعد إذن أقدم الكتب جميعا، الذي كتب من عند الله شخصيا ، أو بإملاء أو إلهام منه كما كنا نراه دوما، تبين أنه في الواقع كتاب مغمور ضمن تيار هائل من الفكر و الأدب الانسانيين . لم يعد يمكن إذا قراءته كما في السابق على أنه منزل مباشرة من عند الله شخصيا، لقد تحول قبل كل شيء إلى كتاب كتبه بشر. أن رياح الليبرالية التي هبت على أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أصابت اليهود في أوروبا فبدأت حركة التجديد في العقيدة اليهودية والتي دعيت "هاسكالا" . ولكن التجديد لم يصب لب وأصول العقيدة اليهودية وإنما أصاب الأدوات الخطابية لهذه العقيدة مثل السماح باستعمال لغة أخرى غير العبرية والسماح بسماع الموسيقى وغيره. رياح التجديد هذه بأشكالها المختلفة أصابت مجموعات من يهود أوروبا الغربية ولكنها لم تصل إلى يهود أوروبا الشرقية ولا لليهود الشرقيين في البلاد الاسلامية ولقد جابهت مقاومة عنيفة من اليهودية الكلاسيكية والأرتودوكسية الأصولية بشكل عام . "الحقيقة الدينية" الإسلامية لا تزال فوق النقض ولا يسمح على الإطلاق بمجادلتها والتشكيك بألوهية مصدرها وهو القرآن، القرآن في الفكر الديني الإسلامي هو نص مقدس إلهي وهو كلام الله منزل على النبي محمد. الفكر الديني الإسلامي يطلب من رعاياه الإيمان المطلق والأعمى في حقيقته الدينية وعدم محاولة التشكيك فيها، باعتبارها ثوابت عقائدية ودينية،وباعتبار أن كل ما وجب قوله فقد قيل. ولم يستطع المفكرون التنويريون المنتمون للثقافة الاسلامية القيام بعملية تفكيك الفكر الاسلامي وإعادة بنائه على أسس علمية معاصرة، لكونهم محكومين بسقف ليس بمقدورهم تجاوزه، فهم مهددون دوما بالتكفير وإقامة حد الردة عليهم. وبما أن الجدل مع الحقائق التاريخية والعلمية المعاصرة لا تشبعه الأدلة المبنية على الفكر القهري وإنما يتطلب أدوات عصرية تحتكم إلى العقل والعلم فإنه لا يسع للمفكر العقلاني إلا أن يطرح الأسئلة الصعبة ويحاول الإجابة عليها. كما لا يستطيع المفكر العقلاني إلا الإعتراف بأنه بغض النظر عن المصدر الأول للنص القرآني وبغض النظر عن الإيمان بألوهيته أو عدمه، فإنه حالما جرى نطقه من قبل النبي محمد وجرى تداوله بين الناس ونسخه وجمعه وإعادة ترتيبه، أصبح نصا أرضيا بشريا يخاطب البشر المتلقين بلسان أرضي بشري هو اللسان العربي. وأعني بذلك أن المخاطبين به بالأساس هم الناس الذين ينتمون إلى النظام اللغوي الذي نطق به النص وينتمون إلى الإطار المعرفي والإجتماعي والثقافي في فترة تأسيسه. القرآن، كما قال طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي أصدق مرآة للحياة الجاهلية" وهذا يؤكد الصلة الوثيقة بين النص والمجتمع الذي خاطبه وإلا لما فهموه وما تقبلوه ولما تفاعلوا معه. إنه نص ظهر في الزمكان وإلى البشر الذين عاشوا في ذلك الزمكان وبوسائلهم المعرفية . ولم تكن تلك الرسالة مفارقة لقوانين واقعهم بكل ما يحتوي هذا الواقع من أبنية و أهمها البناء المعرفي والثقافي والإجتماعي . نحن نعرف أن مجرد البحث في هذا الموضوع هو كالمشي في حقل ألغام ولذا فإننا سنقوم بالإستعانة بمصادر التراث الإسلامية المعترف بها من المسلمين لكي نبين أن كثيرا من التسائلات التي لا يجرؤ الكثيرون اليوم على طرحها قد طرحت فعلا من قبل كتبة التراث الإسلامي وإن لم يستطيعوا في زمنهم الإجابة الصريحة عليها وخوفهم على حقيقتهم الدينية دفعهم في كثير من الأحيان إلى طرح التبريرات التعسفية ليخرجوا من المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه. ولكننا بقراءتنا بين السطور نستطيع أن نقرأ ما لم يستطيعوا البوح به علنا. لقد اختلف علماء التراث الإسلامي في الشكل اللغوي الذي نزل فيه القرآن على الرسول محمد واللغة التي نزل بها وكيفية الانزال، فقيل أنه حفظ باللفظ والمعنى في اللوح المحفوظ وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف منها بقدر جبل قاف وأن تحت كل حرف منها معاني لا يحيط بها إلا الله. وقال البعض أن الله ألهم كلامه جبريل وهو في السماء وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان. وقال البعض الآخر أن جبريل تلقفه تلقفا روحيا ومن ثم نزل به على الرسول، وهذا قول ينسب النص اللغوي إلى الملاك جبريل حيث أنه تلقاه من الله روحيا وليس لغويا. وقيل أيضا أن جبريل نزل على الرسول محمد بالمعاني وأن النبي محمد عبر عنها بلغة العرب وهذا قول ينسب النص اللغوي القرآني إلى الرسول محمد حيث أنه قول يدعي بتلقي الرسول المعاني القرآنية ومن ثم صاغها الرسول بالنص اللغوي العربي . وفي قول آخر أن جبريل ألقى عليه المعنى واللفظ بلغة العرب لأن أهل السماء يقرئونه بالعربية.( السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن: الاتقان في علوم القرآن،الجزء الأول ص: 39 -43، المكتبة الثقافية، بيروت، عام 1973 ، وفي هامشه إعجاز القرآن لأبي بكر البقلاني.ِ ). يخرج القارئ من هذا القول بأن الفكر الاسلامي سمح بإمكانية أن يكون النص اللغوي القرآني الذي بين يدينا هو من صياغة النبي محمد، وبشكل أوضح أن النبي محمد صاغ النص القرآني لغويا بلغة العرب بناء على معاني إلهية ألهمت إليه، وهو قول ما كان ليجرؤ اليوم أن ينطقه مسلم دون التعرض للاتهام بالكفر والخروج عن أمة محمد . ثم تعالوا لنقرأ في كتب التراث المعترف بها عند أمة المسلمين إعترافا بوقوع أخطاء لغوية في نص مصحف عثمان الذي بين يدينا رغم المحاولات لإيجاد تبريرات تعسفية لهذه الأخطاء. مثلا الآية 69 من سورة المائدة: " ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". والنحو يتطلب ان تكون كلمة " الصابئون" منصوبة لانها اسم "ان"، وكل اسماء " ان" الاخرى في الاية منصوبة الا " الصابئون" ، والاصح ان تكون " الصابئين". ولقد حاول اللغويون الخروج من هذا المأزق فطرحوا عدة أسباب لقول الآية والصبئون بدلا من الصائبين فمثلا في تفسير القرطبي عن الفراء " إن جاز الرفع في "والصابئون" لأن "إن" ضعيفة فلا تؤثر إلا في الإسم دون الخبر" وهو تعليل تعسفي يخرج عن المألوف والمنطق. كما أننا اذا نظرنا الى الاية 17 من سورة الحج، نجد ان " الصابئين" منصوبة، كما ينبغي ان تكون: " ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين اشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شئ شهيد". وفي سورة النساء الآية 162: " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر". فكلمة : المقيمين" لا تتماشى مع قواعد النحو المعروفة. فهي معطوفة على " الراسخون" ويجب ان تكون مرفوعة، وليست منصوبة كما في الآية، فالمعطوف دائماُ يتبع ما عُطف عليه. وقال القرطبي في تفسيره: ( قرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة " المقيمون" على العطف، وكذا هو في حرف عبد الله. ولكن سيبويه قال: إنه نُصب على المدح).وفي تفسير محمد حسين الشيرازي يقر بأن القاعدة اللغوية تجب أن تكون الكلمة مرفوعة لأنها معطوفة على "الراسخون ولكنه يعلل الخطأ ويقول :" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ" عطف على "الراسخون"، أي الذين يقيمون الصلاة من اليهود، فإن لكل دين صلاة وإنما عطف بالنصب والقاعدة الرفع أي "المقيمون" لأنه نصب على المدح وهذا تفنّن في الكلام لإزالة الضجر النفسي الذي يحصل من سبك واحد.(كذا) و أما في الميزان في تفسير القرأن فيقول مؤلفه محمد حسن الطباطبائي:" ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله «و المقيمين الصلاة» و عن قوله «و الصابئين» و عن قوله «إن هذان» فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود: «و المقيمون الصلاة» فمما لا يلتفت إليه لأنه لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الذين أخذوه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)". وهنا بيت القصيد فالصحابة لا يخطئوا وإذا كان هناك غلط فيجب علينا تعليله بشتى الوسائل، وكلها محاولات قصرية من أجل تعليل الأخطاء التي ارتكبت أثناء النسخ والجمع والترتيب وهو أمر طبيعي وليس بخارج عن المألوف. وفي سورة الحجرات الآية التاسعة: " وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما". فكلمة : اقتتلوا" كان يجب ان تكون " اقتتلا" لانها ترجع الى " طائفتان" اي مثنى، وأقتتلوا ترمز الى الجمع. وفي تفسير القرطبي أن ابن أبي عبلة قرأ "اقتتلتا" ولم يزد على ذلك. أما ابن كثير فيمر على الآية دون أن يعلق على وضعها اللغوي. الزمخشري في الكشاف يتسائل ما وجه قوله "اقتتلوا" والقياس" اقتتلتا" كما قرأ بن أبي عبلة، أو اقتتلا، كما قرأ عبيد بن عميرعلى تأويل الرهطين أو النفرين؟ ثم يجيب: قلت هو ما حمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبدالله: حتى يفيئوا إلى أمر الله. وفي سورة الحج ألآية 19: " هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قُطعت لهم ثياب من نار يُصب من فوق رءوسهم الحميم". فكلمة " اختصموا" يجب ان تكون " اختصما" لانها ترجع للمثنى " خصمان". وقول لقرطبي في تفسيره فقال اختصموا لأنهم جمع(كذا) ولو قال "اختصما" لجاز. وهناك أمثلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه العجالة ولكن ما قصدناه أن كتب التراث المعترف بها عند أمة المسلمين تعترف بوقوع تلك الأخطاء ولكنها تختلق التبريرات التعسفية التي تخرج عن المنطق وكان يكفي الرجوع إلى قول عائشة وهو قول منطقي " هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب"، ولكن الكتاب كانوا من الصحابة والصحابة في رأي الفكر الديني لا يخطئون. لقد اشتهر في كتب التراث أن عثمان بن عفان هو أول من جمع المصاحف وكان قصده من الجمع هو جمع الناس على قراءة محصورة والمنع من غير ذلك . وتفيد كتب التراث كذلك أن النص القرآني المعروف بمصحف عثمان وهو النص الوحيد الذي بين يدينا، لا يحتوي على النص الكامل الذي نزل على الرسول محمد حيث رفعت تلاوة بعض الآيات منه مع معناها أو رفعت التلاوة فقط وبقي المعنى وهو ما يقع في التراث الإسلامي تحت عنوان الناسخ وامنسوخ. لقد قسم علماء القرآن الناسخ والمنسوخ إلى ثلاثة أنماط : أولا، ما نسخ حكمه وبقي خطه: مثلا الأمر بالعيش مع غير المسلمين ورد في مائة وأربع عشرة آية موزعة على أربع وخمسين سورة ، وكل هذه الآيات حسب رموز الخطاب الديني منسوخة من قبل الآية 5 من سورة المائدة والآية 116 من سورة البقرة اللتين تقولان " كتب عليكم القتال" وهكذا بجرة قلم قام رموز الفكر الديني الأصولي بشطب مائة وأربع عشرة آية بآية أو آيتين . إنهم يعبثون بالآيات القرآنية ويتهمون غيرهم بالكفر إذا رفضوا هذا العبث .ثانيا، ما نسخ خطه وبقي حكمه: وهنا تشط مخيلة كتبة التراث والفكر الاسلامي في نسخ ما يحلو لهم تارة نسخ آية بأخرى وتارة نسخ آية بحديث نبوي. ثالثا،ما نسخ خطه وحكمه. (1- الإمام أبو القاسم هبة الله، الناسخ والمنسوخ على هامش كتاب أسباب النزول للنيسبوري، بيروت، دار المعرفة، ص: 10 ، 2- الزركشي في البرهان، دار المعرفة بيروت 1391 ه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، سبق ، ج2 ص:35 ، 3 - السيوطي، الاتقان في علوم القرآن ، المكتبة الثقافية، بيروت ، 1973 ،وبهامشه الباقلاني، إعجاز القرآن ، ج2 ، ص: 25- 26 ، 4- الناسخ والمنسوخ، هبة الله بن سلامة بن نصر المقري، المكتب الاسلامي – بيروت، 1404 ه ط1 ، تحقيق زهير الشاويش و محمد كنعان ، ج1 ص:20، 5 – قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن، لمرعي بن يوسف بن أبي بكر الكرمي، ، دار القرآن الكريم ، الكويت،1400 ه، تحقيق : سامي عطا حسن، ص: 22 ، 6 – الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم،دار الكتب العلمية بيروت، عام 1406 ه ، تحقيق د/ عبدالغفار سليمان البنداري، ص : 9) وهذا ما يدعم القول بأن المصحف الذي لدينا والمدعو مصحف عثمان لا يحتوي على كامل النص القرآني الذي نزل على الرسول حيث رفعت منه تلاوة آيات لا نعرف عددها ، منها ، حسب مصادر التراث الاسلامي، ما رفع خطه وبقي حكمه ومنها ما رفع خطه وحكمه معا. وتصب معظم أحاديثهم على أن القرآن الموجود لدينا لا يبلغ عدد حروفه ثلث عدد حروف القرآن الأصلي. يقول الزركشي في برهانه (ج2،ص40 ) والسيوطي في إتقانه(نفسه،: ج1 ص 70 ) أخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب قوله: " القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف ." مع أن القرآن الموجود بين أيدينا فعلا أقل من ثلث هذا العدد. ويذكر السيوطي كذلك (نفسه، ج2،ص: 25-26 ) عن أبي عبيد قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه قال :" ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير. وعن أبي الأسود عن عروة عن عائشة تقول : " كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي مائتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن." ويورد السيوطي (نفسه، ج1 ص: 25) انه سقط من سورة برائه الكثير ويقول : " فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. وعن ابن كعب أنه قال أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة وأن كنا لنقرأ فيها آية الرجم : " إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم." . وروى عبد الغفار بن داود عن لحّي عن علي بن دينار ان عمر بن الخطاب مر برجلٍ وهو يقرأ من مصحف، فقرأٍ: " النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم وازواجه امهاتهم وهو ابوهم" ( الاحزاب/ ألآية السادسة). فقال له عمر: لا تفارقني حتى نأتى اُبي بن كعب. ولما جاءا اُبي قال له عمر: يا اُبي،هلا سمعناك تقرأ هذه الاية؟ فقرأ اُبي الاية بدون " وهو ابوهم" وقال لعمر: انها من الاشياء التي اُسقطت. وروي نحو ذلك عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن.( تفسير أبن كثير للآية السادسة من سورة الاحزاب). وفي مصحف أُبي، حسب تفسير القرطبي، نجد نفس الآية تقول: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وازواجه أمهاتهم وهو أب لهم". وقرأ ابن عباس: " ألنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم". (تفسير القرطبي للآية السادسة من سورة الاحزاب) ويتضح هنا الاختلاف في ترتيب الكلمات، وهو أمر يسهل فهمه إذ ظل القرآن يُحفظ في الصدور دون كتاب يُرجع اليه. فذاكرة الانسان لابد لها أن تخونه مهما كانت قوة ذاكرته. وقال أبو عبيد حدثنا أبن أبي مريم عن أبن الهيعة عن يزيد بن عمرو المغافري عن أبي سفيان الكلاعي: أن مسلمة بن مخلد الانصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين في القرآن لم يُكتبا في المصحف، فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال أبو مسلمة: " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا وأنتم المفلحون" و " الذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرةٍ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون.(الاتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي، مصدر سابق) والآن تعالوا يا سادة يا كرام نتفحص ما مر معنا وما قرأناه في كتب التراث الاسلامي المعترف بها عند أمة المسلمين. أمامنا إذن كتب موثقة عند أمة الإسلام أصحابها شيوخ معتبرون ومحترمون في الثقافة الاسلامية مثل السيوطي والزركشي والنيسبوري وغيرهم يوردون أحاديث عن صحابة لهم وزنهم في الفكر الإسلامي مثل عائشة زوجة الرسول وابن عمر وأبي بن كعب وغيرهم يقرون حقيقة ترددها كتب التراث المعروفة والموثقة في التراث الاسلامي بأن آيات قرآنية سقطت بعد وفاة الرسول وبالضبط بعد أن جمع عثمان القرآن، والجمل صريحة بما لا يوجد مجال لتأويلها على غير ما هو عليها، ويمكن لكل قارئ باللغة العربية أن يطلع عليها و يقرأها. ولم نسمع أن أحدا كفر أصحابها واتهمهم بالزندقة والكفر والخروج عن الدين على كتابة هذه النصوص ولم نسمع أن مرجعا دينيا مسؤولا طلب بشطب هذه الأقوال ومنع طبعها. وإذا كان نسخ خط بعض الآيات ممكنا تعليله زمن الرسول ،مع صعوبة تقبل ذلك ، فكيف نستطيع أن نفهم وأن نعلل تعليلا منطقيا نسخ آيات قرآنية بعد وفاته وبالذات بعد جمع القرآن من قبل عثمان ومجموعته ؟ والقول بأن النبي توفي وبعض القرآن متلو موجود في الرسم ، ثم ينسيه الله ويرفعه من أذهانهم ( الزركشي في الاتقان ج2،ص: 40 و في الكشاف للزمخشري وفي البرهان للسيوطي سبق ص : 26 وفي الناسخ والمنسوخ لأبي القاسم هبة الله، مس، ص10 وغيرها)، هو قول تبريري يحاول الخروج من ورطة فكرية عقائدية خلقها ما سبق أن قرأناه عن سقوط آيات من القرآن بعد وفاة النبي وبالذات بعد أن جمع عثمان المصحف . لم يستطع كتبة التراث الاسلامي التعامل مع تلك الحقائق، مع أن الجملة المعترضة في الخبر المنقول مثلا عن عائشة وغيرها من الصحابة عن سقوط آية أو آيات و التي تقول " ولما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الان" أو " أن الآية أو الآيات كانت موجودة قبل أن يغير عثمان المصاحف " يربط إسقاط هذه الآيات ربطا واضحا وصريحا بعملية جمع عثمان للمصاحف. إذن ومن كل ما سبق وما أوردته المصادر الاسلامية الموثقة في التراث الاسلامي نقرأ الحقائق التالية: أن القرآن الذي بين يدينا والذي يسمى مصحف عثمان لأنه قام أو أمر بجمعه وتصنيفه، ليس كل القرآن الذي نزل على النبي محمد حيث أن، آيات نسخ خطها وحكمها على زمن النبي وقبل وفاته. وآيات نسخ خطها وحكمها ، بعضها قبل أن يجمعها عثمان( نسيها الحفظة أو رفعت من أذهانهم كما يفضل الفكر الديني قوله) والبعض الآخر سقطت إما عمدا وإما سهوا في عملية جمع القرآن من قبل عثمان ومجموعته. بل أن كتب التراث قد ذهبت أكثر من ذلك وادعت بأن الآيات القرآنية كانت في بعض الأحيان تتغير أو يضاف إليها اذا اشتكى بعض الناس أو سألوا النبي سؤالاً، فمثلاً، كما يقول البخاري، لما نزلت الاية 95 من سورة النساء: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله باموالهم وانفسهم..." اشتكى رجل اعمي ( ابن أم مكتوم) للنبي قائلاً: اني اعمى ولن استطيع الجهاد ولذلك سيفضل الله المجاهدين عليّ. فأنزل " غير أولي الضرر" واصبحت: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر والمجاهدون..". (البخاري في صحيحه،دار ومطابع الشعب،القاهرة، بدون تاريخ، ج4 ،الكتاب السادس ص: 60 ). ونفس الواقعة يحكيها الواحدي النيسابوري فيقول عن زيد بن ثابت: كنت عند النبي –ص- حين نزلت عليه " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله" ولم يذكر أولي الضرر، فقال أبن أم مكتوم: كيف وأنا أعمي لا أبصر؟ قال زيد: فتغشّى النبي – ص- في مجلسه الوحي فأتكأ على فخذي فوالذي نفسي بيده لقد ثقل على فخذي فخشيت أن يرضها، ثم سُري عليه فقال: أكتب " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " فكتبتها.( أسباب النزول للواحدي، طبعة 1968، مؤسسة الحلبي بمصر، ص 117 ). وهذا هو نفس أبن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه النبي عندما جاء يسأله فعبس النبي وتولى عنه، فانزل الله: " عبس وتولى إن جاءه الاعمى". ويقول أبن عباس : (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: للفيروزي – ص 358- الطبعة الثانية 1950 مكتبة مصطفى البابي الحلبي – مصر ): لما نزلت ألآية 228 من سورة البقرة: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلالثة قرؤء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم ألآخر" قام معاذ ( أي معاذ بن جبل) فقال: يا رسول الله: ما عدة اللائي يئسن من المحيض؟ وقام رجل آخر فقال: ألا رأيت يا رسول الله في أللائي لم يحضن للصغر ما عدتهن؟ فقام رجل آخر فقال: أرأيت يا رسول الله ما عدة الحوامل؟ فنزل " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن أرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن . وهناك أمثلة كثيرة مشابهة. الآن ليسمح لي أن أستعمل عقلي الذي خلقه الله لي وأن أتسائل. هل من المعقول أن الله سبحانه في حاجة لمن يذكره، وهو المحيط بكل شيء، حتى يضيف إلى الآيات أحكاما بناءا على طلب المذكرين والسائلين من الناس؟ أليس كل ما ورد في كتب التراث المعترف بها دليل على أن مصحف عثمان هو في حقيقنه منتج إنساني ثقافي، ظهر في إطار معرفي إنساني، قام الناس على جمعه وتهذيبه وإسقاط جزء منه وإضافة جزء آخر وفي إثناء تلك العملية حصلت أخطاء لغوية من صنع الكتبة والذين قاموا على عملية الجمع والترتيب والتهذيب؟ المثل الشعبي يقول" عندما لم يقدروا على الحصان دقوا في البردعة" وهو حال رموز الفكر الديني اليوم. سيثورون غضبا على أمثالي الذين أشاروا فقط إلى ماكتب في كتب التراث الإسلامي المعترف بها من قبل أمة المسلمين ويتغاضون عن توجيه النقد لتلك المصادر التي تملأ المكاتب الإسلامية ويعاد طبعها بالآلاف من قبل المؤسسات الدينية.
#نضال_الصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلطة التاريخ على السياسة
-
بين نقد الفكر الديني الإسلامي وسياسة الغرب الإستعمارية. رد ع
...
-
رفض الغير ليس حكرا على الغلاة والمتشددين الإسلاميين
-
الآخر في الخطاب والفكر الديني
-
الله والمؤسسة الدينية
-
المسيحيون العرب شركاء لنا في الوطن وليسوا على ذمة أحد
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|