|
فاطمة زكي ونساء الثورة
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 813 - 2004 / 4 / 23 - 08:09
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
عرفت الثورة الروسية نساء كالأساطير . عرفت " لاريسا " بجمالها الباهر وشجاعتها المذهلة ، وكبريائها الذي يتجمد الآخرون عنده . لاريسا التي صعدت إلي سطح المدرعة " أفرورا " مساء 7 نوفمبر 1917 ، ووقفت في عرض النهر تتأمل السكون لحظة ثم أعطت أوامرها للبحارة بإطلاق المدفعية على القصر الشتوي، وتحطيم آخر قلاع القيصرية . وبذلك دفعت لاريسا البشرية خطوة إلي الأمام ، وغدت أسطورة . وقد لا يكون في تاريخنا الحديث أساطير عن النساء والمدرعات البحرية وطلقات المدافع ، لكن لدينا حكايات و بطولات أخرى : لدينا فاطمة زكي ، وشفيقة محمد التي استشهدت في مظاهرات ثورة 19 ، وأم صابر أولى النساء الشهيدات في غمرة الكفاح المسلح بقناة السويس عام 1951 ، ونساء أخريات احتشدت صدورهن بآمال الحركة الوطنية قبل ثورة يوليو ، قبل أن تحتشد بأحلام البيوت والأطفال . فتيات كانت تقرأ الكتب خلسة في الليل ، وتوزع المنشورات ، وتخط على جدران الشوارع بالطباشير عبارات الاحتجاج على القصر الملكي ، والاستعمار ، وتخفي المطابع السرية ، وتنظم المظاهرات ، وتندفع إلي التطوع لحمل السلاح ، وتقيم أسرة ، وترعى أطفالا ، وتواصل المسيرة . لدينا أساطيرنا الخاصة بنا ، وكانت فاطمة زكي إحدى أجمل تلك الأساطير العذبة التي مشت مع محامي الشعب المصري نبيل الهلالي دربه الطويل ، إلي أن فارقته مؤخرا. من الذي لم يأت إلي جامع عمر مكرم ليقدم العزاء ؟ جموع وراء جموع من كل الأجيال التي تقدم الهلالي إليها بواجب الدفاع على امتداد نصف القرن ، واختلاف السجون ، والقضايا، والمحاكمات ، والعصور ، والتهم .
ولدت فاطمة زكي في 21 ديسمبر 1921 ، ونما وعيها في ظل ذكريات ثورة 1919 ، وظلت تذكر جيدا أن جدتها كانت تفاخر بأنها هي التي أخفت عن عيون البوليس الورداني الذي اغتال بطرس غالي عميل الاحتلال . وهي نبت لحركة النساء اللواتي قمن بمظاهرات كبرى لإعادة دستور 1930 ، ونبت الاحتجاجات النسائية التي تفجرت ضد تصريح " هور " الاستعماري ، ونبت لحركة اليسار المصري العارمة في الخمسينات حين ترسخ الوعي بأن تجويع الشعب المصري صناعة استعمارية ، وأن جوهر الاستقلال الوطني ينطوي على الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية . وعام 1942 التحقت فاطمة زكي بكلية العلوم ، وكانت الكلية بؤرة للنشاط الثوري ، يتحرك فيها د . عبد المعبود الجبيلي الذي أصبح وزيرا للبحث العلمي وآخرون ، واجتذبتها فكرة العدالة وهي بعد شابة في مقتبل العمر ، تعتقد أن جزيرة السعادة الفردية في محيط من تعاسة الجموع أمر مستحيل ، وأن على المثقف واجبا واحدا : الدفاع عن بلاده ، وإجلاء المحتلين ، والإطاحة بالنظام الملكي ، وإقامة الجمهورية ، ونشر الديمقراطية ، وضرب الإقطاع ، وبناء المصانع ، وتمكين الناس من العلم والثقافة . هذه كانت أحلام فاطمة زكي ونساء الثورة . وانخرطت فاطمة بحماسة في الحركة الطلابية داخل كلية العلوم ، وكانت تقود الطلاب في مظاهرات ضد الملك والاحتلال في العباسية والمناطق المجاورة ، وحين رشحها زملاؤها لدخول مجلس اتحاد كلية العلوم ، حل عليها الذهول ، وسألت : أنا بنت وأرشح نفسي ضد الأخوان المسلمين؟ وأصر زملاؤها ، وخاضت التجربة ونجحت ، وكانت أول فتاة تفوز بمقعد داخل الاتحاد في تاريخ الكلية . وأخذت تصدر مجلة اسمها " هي " . في عام 1946 شاركت بقوة في الإعداد للانتخابات التي أثمرت فيما بعد " لجنة الطلبة والعمال " التي كان ظهورها حدثا سياسيا ضخما في تاريخ مصر . عام 1947 أنهت فاطمة زكي تعليمها ، وفي المظاهرات التي جرت في 21 فبراير 1948 ألقي القبض عليها في ميدان سليمان باشا ، ودفعها رجال البوليس بالقوة إلي السيارة مع زميلاتها ، وارتبكت الفتيات ، لكن فاطمة زكي ما لبثت أن قفزت من السيارة إلي أرض الشارع واندفعت تختفي عن أعين البوليس ، لتواصل كتابة الاحتجاجات على جدران الشوارع وتوزيع المنشورات وتنظيم اللقاءات السرية . عام 1949 انتقلت إلي الإسكندرية بتعليمات من التنظيم ، وهناك عكفت على توعية عمال شركة سباهي وغيرها بحقوقهم ، وهي تشير للجميع إلي طريق الخلاص الوحيد الذي تعرفه . واعتقلت فاطمة زكي وظلت في السجن نحو العام ، وكانت المسئولة عن مطبعة سرية . ما الذي جعل فاطمة زكي وهي شابة في تلك السنوات تفضل دفء الأحلام الكبيرة على دفء عش صغير ، وتواجه السجن بشجاعة ، إلا أن يكون المرء إنسانا حقا ؟ . وعندما اندلع الكفاح المسلح في قناة السويس عام 1951 كانت وثيقة الصلة بتعبئة الممرضات وتقديم المساعدات والإسعاف وتدبير الموارد للفدائيين . وخلال العدوان الثلاثي على مصر تطوعت للدفاع المدني ، وتلقت تدريبا في معسكرات الجيش بالقلعة . وعام 1959 ألقي القبض عليها ، وظلت رهينة الحبس أربع سنوات كاملة ، نظمت خلالها إضرابا عن الطعام من أجل تحسين أحوال المعتقلات ، والإفراج عن الجميع . في الفترة الأخيرة ، وهي على فراش المرض ، وأحوج ما تكون إلي لمسة تقدير رفضت جائزة من ملتقى المرأة لأنه قائم على التمويل الأجنبي . فأيقظت في الحركة النسائية من جديد أن على المصريات أن يخضن معاركهن بالاعتماد على القوى المصرية .
في الحركة الوطنية نساء للثورة احتشدت صورهن في ضمير فاطمة زكي منهن : لطيفة الزيات ، ووداد ديمتري ، وثريا شاكر، وإنجي أفلاطون، وثريا أدهم ، وأسماء حليم ، وانتصار خطاب ، ومحسنة توفيق ، وأخريات . نساء لم تحقق بمسيرة الثورة ما راود الخيال لكنها كسبت نفسها ، وكسبت شعورها بالإرادة ، وكرامة التحدي . رحلت فاطمة زكي دون أن تظهر يوما أنها قامت بشيء خاص ، ودون أن تجمع تاريخها ، وكانت قليلة الكلام ، كثيرة العطف ، فارقت محامي الشعب نبيل الهلالي بالرقة التي يتبدد بها العطر من حول الزهرة ليتقدم هائما فوق كل الحقول .
**
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد
-
وجهة نظر روسية في الاستراتيجية الأمريكية لعالمنا
-
الشيخ أحمد يـاسـيـن ما الذي اغتالوه .. ؟
-
القاهرة تهتف للعراق
-
راشـيـل كـوري ضـميـر الـزهرة
-
الدكتور أبو الغار وكتابه إهدار استقلال الجامعات
-
الصحافة المصرية لحظـات مضيـئـــة
-
الرد على العملية الأخيرة في العراق
-
محمد صدقي .. وداعا
-
البيان الختامي للملتقى الأول للجان الشعبية المصرية لدعم الان
...
-
ليس من جدار واحد ينشع دم الفلسطيني
-
مضارب الأهواء عمل جديد لإدوار الخراط
-
صورة الإسرائيلي في مصر
-
ديوان - وطنيتي - قصة الروح الثائرة
-
زراعة الكارثة في مصر
-
الزهرة السوداء لحضارة الروائي العالمي - كوتزي
-
بطاقة لطفل فلسطيني عام جديد .. يا حبيبي
-
زهور قليلة في حقل الهزيمة
-
عام ثالث .. على - حوار متمدن
-
جائزة الثقافة الأمريكية في مصر
المزيد.....
-
الحياة الواقعية تحت وطأة الصراعات.. المرأة اليمنية في أدب وج
...
-
سن التقاعد للنساء في الجزائر 2024 الجريدة الرسمية بعد أخر ال
...
-
المجلس الوطني يدين جرائم الاحتلال ضد المرأة الفلسطينية ويطال
...
-
وزارة المالية : تعديل سن التقاعد للنساء في الجزائر 2024.. تع
...
-
المرأة السعودية في سوق العمل.. تطور كبير ولكن
-
#لا_عذر: كيف يبدو وضع المرأة العربية في اليوم العالمي للقضاء
...
-
المؤتمر الختامي لمكاتب مساندة المرأة الجديدة “فرص وتحديات تف
...
-
جز رؤوس واغتصاب وتعذيب.. خبير أممي يتهم سلطات ميانمار باقترا
...
-
في ظل حادثة مروعة.. مئات الجمعيات بفرنسا تدعو للتظاهر ضد تعن
...
-
الوكالة الوطنية بالجزائر توضح شروط منحة المرأة الماكثة في ال
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|