|
الجذور التاريخية للصراع الوجودي القومي
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 2652 - 2009 / 5 / 20 - 04:31
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لا شك ان الصراع الدائر بين الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية، وبين جميع شعوب الامة العربية، بمختلف الاشكال وعلى مختلف الدرجات، هو صراع مصيري، يشتبك بكل معطيات العصر، الستراتيجية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بحيث لا يمكن فصل احد الجوانب عن الاخرى. وقد سقطت تماما، في لبنان مثالا، مقولة "صراع الحدود" و"لبنان قوته في ضعفه"؛ وسقطت تماما، فلسطينيا، مقولة "الدولتين" التي بدأت بقرار تقسيم فلسطين سنة 1947، ولمـّا تنته بتقسيم "مزرعة اوسلو"؛ وسقطت تماما، عربيا، مقولة "الارض مقابل السلام". وتتأكد اكثر فأكثر المقولة التاريخية ان هذا الصراع هو "صراع وجود". وبهذا المعنى، فمن الخطأ تماما، على المستوى السياسي والفكري، الراهن والتاريخي، ربط هذا الصراع بمرحلة تاريخية معينة، اي مرحلة "سايكس ـ بيكو" و"وعد بلفور"، او مرحلة بداية الغزوات الاستعمارية الحديثة للشرق (كاحتلال الجزائر ومصر ودول الخليج)، او حتى مرحلة الحروب الصليبية. بل ان هذ الصراع، بمعناه الوجودي، يرتبط بظاهرة الولادة القومية ذاتها، في معمعة الصراع بين الحضارة الانسانية والنزعة العدوانية الاستعمارية، وهي المعمعة التي ولدت في خضمها ما يسمى "الديانة السماوية" والاصح تسميتها "الديانة الاستعمارية" اليهودية. وبعد سقوط المنظومة "السوفياتية" السابقة ونهاية "الحرب الباردة" لم تعد الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية قادرة على التستر خلف الشعارات المضللة كـ"معاداة الشيوعية"، فأطلقت شعارات اكثر تضليلا مثل شعار "صراع الحضارات" و"مكافحة الارهاب" و"الاصولية الاسلامية"، لتبرير العدوانية الامبريالية وستراتيجية الهيمنة والاستعمار والاحتلال. ولكن هذه الشعارات ذاتها تفضح الامبريالية والصهيونية وتعريها اكثر مما تبرئها. وهذا ما يقتضينا القاء نظرة تاريخية الى جذور نشوء النزعة العدوانية الاستعمارية وصراعها مع شعوب امتنا. "التوازن الدولي" في العالم القديم: في العصور ما قبل المتوسطة برزت على مسرح التاريخ ثلاث قوى عالمية كانت تتنافس وتتصارع فيما بينها: ـ1ـ الدولة المقدونية/الإغريقية، وكان المحور المركزي لفعالية هذه الدولة هو: الحضارة. فالشعب المركـّب المقدوني /الاغريقي، صغير العدد نسبيا، الذي كان يشغل جبال البلقان العالية ويشرف على الافق الواسع للبحر الابيض المتوسط والمدى الشاسع للسهول والجبال الآسيوية، استطاع ان يطور حضارة انسانية متميزة فيزيائية ـ مناقبية (رياضية ـ قتالية) وادبية ـ فكرية ـ فلسفية. ومع الاخذ بالاعتبار كل الشوائب والمصائب المرافقة لولادة الدول واندلاع الحروب، فإن شعب سقراط وارسطو وافلاطون، شعب الالياذة، دخل التاريخ كمعلم للشعوب، وكمطور وحامل وناشر للحضارة. ولم تكن الدولة المقدونية/ الاغريقية التي بلغت أوجها في عصر الاسكندر الكبير تطمح الى استعمار ونهب الشعوب الاخرى، حتى وهي مهزومة، بل الى تحقيق التفاعل والاندماج الحضاري بين مختلف شعوب الارض. وقد استخدمت الحرب كوسيلة قسرية في هذا السبيل (بعد ان دخل الاسكندر ايوان كسرى، لم يسبِ نساء الفرس، بل أمر قواده بالزواج من الاميرات الفارسيات لخلق التحابّ والانسجام بين الشعبين العظيمين). وبعد ان غزت الدولة المقدونية/الاغريقية الشرق العربي، تماهت معه، ونتج عن هذا التزاوج الحضارة الهيلينية العظيمة، التي هي نتاج مشترك لحضارة شعوب اوروبا الشرقية والشرق العربي، بجناحيه الغرب آسيوي والشمال افريقي. ـ2ـ قرطاجة الفينيقية (اي: السورية ـ العربية القديمة) في شمال افريقيا والتي كانت امتدادا لـ"المدن ـ الدول" الفينيقية: صور وصيدا وغيرهما؛ وقد بلغت قرطاجة درجة كبيرة من التقدم الحضاري والقوة والغنى، وكان المحور المركزي لديناميتها الحضارية: التجارة. فهي كانت تطمح ليس الى استعمار واستعباد البلدان الاخرى، بل الى اقامة مستعمرات تجارية فيها، وايجاد شبكة عالمية للتجارة، والتبادل الحضاري الرفيق الدائم للتجارة، بدون القضاء على اي دولة اخرى او سحق اي شعب آخر. وبلغ من هذه "الليبيرالية" التجارية للفينيقيين ـ الاراميين ـ الكنعانيين، الذين اسسوا قرطاجة، انهم تناسوا العداء القديم الذي يكنه لهم العبرانيون المتهودون، والذي كرسوه في "ديانتهم اليهودية" العنصرية، التي تدعو الى الابادة التامة للكنعانيين، فسمحوا لهم ـ اي لليهود ـ ان يعودوا للسكنى في بلاد الشام، بعد ان كان نبوخذنصر قد دمر مملكة يهوذا، ثم سمحوا لهم ان يرافقوهم ويعيشوا ويعملوا في قرطاجة بعد تأسيسها. كما ان الفينيقيين، بدافع من "براغماتيتهم" التجارية، قاتلوا مع الفرس وضدهم، ومع المصريين القدماء وضدهم. وفي سعيها لاقامة الشبكة التجارية العالمية، اضطلعت قرطاجة بدور ناقل للحضارة الشرقية العظيمة، وحافظ وناقل ومطور لحضارات الشعوب التي اتصلت بها قرطاجة او اقامت مستعمراتها التجارية في ظهرانيها. ونظرا للموقع الجغرافي المتوسط الذي كان يشغله الفينيقيون، والتقاليد التجارية التي اشتهروا بها، فقد شكلوا همزة وصل عضوية بين شمال افريقيا والحضارة البربرية والحضارة القبطية ـ الفرعونية، وخلفهما كل الحضارات الافريقية الاصيلة، وبين الحضارة المقدونية/الاغريقية في البحر الابيض المتوسط وشبه جزيرة البلقان، وحضارة الشعوب الاوروبية الغربية التي كانت تتقدمها روما، وبين حضارات المشرق العربي في شبه الجزيرة العربية وما بين النهرين وفارس ووراءها الهند والصين وروسيا وشمال اوروبا. ـ3ـ الدولة الرومانية، وكان المحور المركزي لفعاليتها: القوة العسكرية. وقد قويت شوكة روما، كمدينة ـ دولة، وتوسعت بواسطة الغزو والقوة المسلحة والحرب، داخل شبه الجزيرة الايطالية اولا، ثم في محيطها القريب، وكانت تطمح الى الانتصار على كل ما عداها، واستعمار واستعباد ونهب خيرات الشعوب الاخرى بالقوة. واخذت تتطلع نحو السيطرة على حوض البحر الابيض المتوسط، ومن ثم على العالم القديم بأسره. ولكن قوة الدولتين المقدونية/الاغريقية والقرطاجية كانت تقف سدا منيعا في وجه نزعة التوسع الرومانية. ازدهار العالم القديم: وطوال مئات السنين عاش العالم القديم في ظل صراع وتزاحم وتوازن قوى رجراج بين هذه القوى العالمية الثلاث. وبقي الامر على هذه الحال حتى بعد ان اقتحم القرطاجيون اسبانيا، بقيادة هملقار، ثم ايطاليا نفسها، بقيادة ابنه هنيبعل. إن تلك المرحلة كانت احدى اهم المراحل الذهبية في تاريخ البشرية، التي كان الطابع الغالب فيها هو التفاعل والتبادل الحضاري والتجاري. ففي هذه المرحلة وضعت الاسس الاساسية والخطوط العريضة للعلوم الوضعية (الهندسة، علم فلك، علم الملاحة، الرياضيات، الطب والتشريح وغيرها) والفنون (الرسم والنحت والتطريز والفسيفساء وغيرها) والعلوم الانسانية (الابجديات والقواعد والآداب، والاخلاقيات، والجماليات، والحقوق، والفلسفة، والتاريخ وغيرها) ومختلف المهن والحرف اليدوية والادواتية، والزراعة والري وتدجين وتربية المزروعات والاشجار والحيوانات، والصناعات كالتعدين وصناعة المركبات والاثاث وبناء السفن وغيرها. وكان دور قرطاجة خاصة والفينيقيين عامة دورا رائدا اساسيا في هذه العملية الحضارية العالمية. وفي هذه المرحلة تم وضع الاسس الاساسية لبناء الحياة المدنية وبناء الدول وبناء البنية التحتية للحياة الاجتماعية والتعليم والطبابة والتجارة، حيث بنيت المعاهد والمعابد والمسارح والملاعب والمصحات والمستشفيات، وشقت الطرقات البرية في ما بين مختلف المدن والارياف والمناطق ومختلف الدول والبلدان، وبنيت المرافئ ورسمت الخطوط البحرية فيما بينها، واقيمت الاسواق والخانات والمستودعات لاستقبال قوافل التجار ودوابهم وبضائعهم؛ ووضعت الاسس لنظام البريد والمراسلات، وشرع في استعمال ابجديات النظام المالي كالنقود وصكوك الائتمان وسندات القروض والتفقيط (الفاتورة) والوكالات التجارية والبيوت المالية والتسليفية؛ ووضعت الاسس للعلاقات الدولية بمعناها الحقوقي والسياسي، كتبادل السفراء واقامة المعاهدات الدولية، السلمية والعسكرية. ولكن بمقدار ما ان عوامل التفاعل الحضاري والتقدم والازدهار، القائمة على التوازن الدولي، كانت تفعل فعلها، لخير الشعوب جمعاء، بما فيها اصغرها واضعفها، فإن عوامل الحسد والطمع كانت تتراكم وتتفاقم في التلافيف الدماغية لقادة روما القديمة، التي لم تتخل يوما عن ستراتيجيتها القائمة على العدوان وفرض ما يسمى "السلام الروماني" (Pax romana)، الذي يعني تدمير الدول وسحق الشعوب الاخرى، وفرض السيادة الرومانية المطلقة عليها. اي ان روما اقتحمت عنوة الدورة الحضارية العالمية من خارجها. وللاسف ان سياسة العدوان والحرب والهمجية والوحشية الرومانية (الغربية) انتصرت اخيرا على سياسة الحضارة والتجارة التي كان يحمل لواءها الشرق الفينيقي ـ الاغريقي.
ــــــــــــــ * كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصراع الوجودي العربي الاسرائيلي: ظاهرة الحرب الاستعمارية و
...
-
المهزلة الطائفية المفضوحة للنظام المصري ضد حزب الله
-
ازمة الغاز الروسية الاوكرانية: هل تتحول الى صراع مسلح بين ا
...
-
اميركا تتراجع: بداية انهيار الحصار على كوبا
-
الحرب الباردة الجديدة: هل تستفيد الدول العربية -المعتدلة- من
...
-
رجب طيب اردوغان وعبدالباري عطوان والدور العثماني الجديد في م
...
-
كلمة حق الى مناضل صادق
-
السقوط التاريخي للاستعمار الصهيوني: ...ومن سيحمي اسرائيل غدا
...
-
البلقان المضطرب: أي مستقبل؟!؛
-
الوجه الافريقي لأوباما لن يستر الوجه الحقيقي البشع لاميركا
-
خطوط النار من البلقان الى افغانستان، ومن جيورجيا الى فلسطين
...
-
اميركا فتحت ابواب الحرب الباردة على مصاريعها، فهل تستطيع اغل
...
-
فؤاد النمري: حلقة -مستورة- بين المعلوم والمجهول..
-
اميركا والكابوس الصاروخي الروسي
-
فؤاد النمري: ماركسي مزيف وستاليني حقيقي
-
الازمة المالية العالمية: الكانيبالية الامبريالية العالمية وع
...
-
لينين، على الاقل كإنسان، يستأهل كشف وادانة قتلته!!
-
اميركا بعد 11 ايلول 2001
-
دولة -اسلامية- في كوسوفو بدلا من دولة -عربية- في فلسطين!!؛
-
ثورة اكتوبر: المنارة الاكبر في تاريخ البشرية!
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|