|
من يثرب إلى العراق..
سامي فريدي
الحوار المتمدن-العدد: 2648 - 2009 / 5 / 16 - 09:55
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
(تهميش الحجاز مرة وإلى الأبد!..)
يخضع اختيار العاصمة السياسية لاعتبارات وعوامل استراتيجية، تضمن التفاف الأطراف حول المركز. واختيار (يثرب/ إثرب) مركزا للدولة الفتية كان يتناسب مع العوامل النفسية لمحمد وأنصار حركته، فيما يتعلق بموقف بطون قريش منه، وبالتالي سعيه لتهميش مكانة مكة نسبة إلى (المدينة). ان قيام حركة اصلاحية أو تجديدية تسعى لتأرخة مرحلة جديدة (مميزة) في تاريخ البلاد، يضع في أولوياته السياسية بناء مدن وقصور تأسيس قيم وتقاليد جديدة، تضرب صفحا عن الماضي وتعدّ لبناء جديد. وأفضل مثال لذلك هو تعدد العواصم الفرعونية تبعا لتعدد بيوتات الحكم، وربما كانت مصر البلد الأكثر تعددية سياسية في مجال حركة المركز في العالم. وكل مدينة تؤرخ لحقبة وحكم يختلف عن الآخر. في مجال التاريخ القديم كذلك، كشف الآثاريون عن مدن متحاقبة متراكبة على بعضها، جراء ابتناء مدن فوق مدن. أما أفضل مثال معاصر فهو ظاهرة الدولة الأتاتوركية الناشئة في أعقاب امبراطورية آل عثمان. تخذ العثمانيون مدينة القسنطينة التي ابتناها الامبراطور الروماني (Costantin) مقرا سياسا لدولتهم باسم معدل عن (Cosantinople) إلى (استانبول) أو (الأستانة). أما مصطفى كمال الملقب (أتاتورك) أي أبو الترك فقد صمم له مدينة جديدة إلى الداخل التركي باسم (أنكرة/ Ankara)، وقام بتعديلات وتحديثات في الدستور واللغة والثقافة والتقاليد المجتمعية وبما يناسب ولادة مجتمع عصري غير تقليدي. أراد محمد تجديد المجتمع التقليدي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مستهدفا بشكل أساس تحطيم التراتبية الاقتصادية لتجار قريش، وانتاج مقومات طبقة برجوازية جديدة تختلف في قواعدها وأساليبها عن المنظومة التقليدية المكونة أساسا من (أغنياء مترَفون/ فقراء معدَمون) أو (تجار سادة/ عبيد وخدم)، وهو ما افترضه البعض بوادر ثورة اجتماعية ذات منحى انساني متقدم. الواقع أن العوامل الشخصية كان لها دور فيصل في ترسم تلك الخطوات أكثر من كونها ففكر اصلاحي تقدمي. سيما وأن هتيك الأفكار لم تلبث أن اختنقت وارتدت إلى ما كانت عليه وأكثر تعسا، وبالشكل الذي لم يستثنِ شخص محمد نفسه من أثاره. لم يبتنِ محمد مدينة جديدة عاصمة لدولته (على فرض عدم صحة أفكار الألماني لاكيش- انظر / اسلام بلا محمد- اعداد وترجمة نادر قريط- أرشيف مجلة الحوار المتمدن)، ولم يبتنِ معبدا جديدا لمركز ديني لدعوته ذات الطابع الديني التجديدي. وبالتالي، لم تتعدّ الحركة الجديدة، - رغم كل شعاراتها الثورية- تأسيس مجد شخصي يرتفع به زعيم الحركة إلى مصاف/ أو فوق زعماء قريش التقليديين، وبدل العمل في خدمتهم، صار محمد يقطع لهم من أموال الغنائم وينفق عليهم قبل غيرهم من المقاتلين والفقراء (انظر/ المال والهلال- تأليف شاكر النابلسي- كتاب منشور). إضافة إلى أن محمد صان منزلة قريش ورفعها أكثر مما قبل في دينه ودولته وقرآنه. لكن قريش وبقية القبائل، ما فتئت ان انقلبت عليه مستأثرة بالأمجاد الجديدة لنفسها عقب موت محمد واستنفاذه شروط زعامته ومزاياها. وكون علي خلف محمد الوحيد من الرجال المتبقين على قيد الحياة، بعد موت أعمامه، وقعت عليه أوزار موقف قريش وتبعات سياسة ابن عمه غير المتزنة. لذلك لم يجد بقاءه في ظل قريش ممكنا، مفضلا الانطلاق إلى مكان جديد، يؤسس لبداية جديدة، تتجاوز أوزار المرحلة السالفة. وكما سبق الذكر، فقد ساقته جملة عوامل عدة، في مقدمتها الـ (عائلية) ليكون قريبا من أنسبائه الفرس، يائسا من دعم قريش وقبائل الجزيرة. كان بناؤه (الكوفة) عاصمة لحكمه قرار صائبا في التجييل السياسي. وكان لها أن تكون علامة مميزة لحقبة سياسية ثقافية مختلفة. من الممكن القول أن مشروعا ما كان يشغل عليا في نقله لمركز الدولة وابتنائه (دار الامارة) واهتمامه بتنقيط القرآن والبدء بسياسة اعتبارية تحاول بلوغ ما فشلت دولة محمد أو انحرفت عن أغراضه. لكن القوى التقليدية، أو ما يصطلح عليه قوى اليمين المحافظة التي حاصرت حكم محمد واخترقت برامجه الدينية والسياسية، هي نفسها التي حاصرت عليا وتجربته الاعتبارية أو التصحيحية الجديدة. وتكشف الأحداث المتتالية ذكاء الفريق المضادّ وخبثه في سحب البساط من تحت أقدام عائلة محمد وورثة بيته. فتحريك (عائشة) برفقة جماعة من أقرب المقربين لمحمد وعلي في (معركة الجمل)، نسبة إلى جمل (عائشة) قريبا من موقع البصرة كان كفيلا باحباط زعامة علي أو ادعاءاته والتسليم لقوة تخرج من تحت بيت محمد وأقرب زوجاته إلى نفسه. ولكن حنكة (علي) وقناعته ساعدت في تجاوز أزمة كانت ملامحها (عائلية) أكثر منها (سياسية)، وبقرار إعادته أرملة ابن عمه وجملها إلى دارها معززة، تجاوز أزمة عائلية عارمة. لكن نجاحه الأول لم يكن غير باب ينقله لمواجهة أو مواجهات جديدة أكثر فاعلية وخطورة، مع التركيز على صيغة الصراع السياسي والقبلي بين (زعامة) تقليدية قديمة و(زعامة) دينية مستحدَثة. المواجهة أو الصراع وسمت أربع سنوات حكمه بأربعة حروب متفاقمة انتهت بنهايته، تاركة انبعاجا عميقا في سطور التاريخ، وانشقاقا حادا في قاعدة أمة كانت قيد التكوين. لماذا لم يتخذ علي (البصرة) المدينة التجارية المتقدمة مركزا لحكمه، وابتعاده عنها مسافة حتى وسط العراق أو أعالي الفرات، فهو أمر يتجاوز فكرة (تشاؤمه) من مقبلها، أو نفورا من طقسها وارتفاع معدل رطوبتها، إلى أمر ابتنائها أو تطويرها على يد عمر زعيم الجناح اليميني المناوئ لبيت محمد، ولا غرابة أن تشكل (البصرة والكوفة) مدينتا (عمر) و(علي) قطبي صراع فكري وثقافي وديني لاحقا. والنتيجة أن علي فشل في سياساته كلّها فشلا ذريعا، وخرج منها محبطا، متذمرا، مهزوما. وأكثر من ذلك، لم يكتف بالتصدع الهش بين قريش والقبائل (أكبر علاماتها الردة والفتنة)، وانما حفر أخاديد عميقة متعددة المستويات والاتجاهات والانعكاسات التي قصمت جوهر الحركة السياسية والدينية الجديدة، ورسخت سلطة قريش التقليدية في الدولة الجديدة. * من الكوفة إلى دمشق.. شكّل نقل مركز دولة محمد بادرة ريادة لخروج نهائي لمركز الزعامة المكية الحجازية بعيدا عن الجزيرة إلى بلاد الشمال. فمع تولي معاوية الحاكم في دمشق، انتقل مركز الدولة مجددا من (الكوفة) إلى (دمشق) وتختلف هذه الأخيرة عن سابقاتها، اختلاف طوبوغرافيا التربة بين ضفاف الفرات الصحراوية وأرض الشام الصخرية البازلتية. دمشق من أقدم المدن التي استمرت محتفظة ببهائها ورونقها ولم يؤثر عليها اختلاف الحكم أو تحول المركزية سلبا. ففي مقوماتها الذاتية وتصاميم دورها وحاراتها وحدائقها ما يجعل انتماء المقيم فيها إليها قبل انتمائه للطارئ عليها. ومع كونها من أعمال الرومان المعروفين باهتمامهم بالعمران والمواصلات، كان لبني أمية وأصولها المسيحية أثر في الحدّ من طابع البداوة في العلاقات الاجتماعية التي وسمت المراكز والحواضر الأخرى. على الصعيد السياسي كان الحكم الأموي ترسيخا لجملة الانشقاقات والتمزقات التي أفرزتها ولاية علي القصيرة والخائبة. استمرت مزاعم أهل بيت علي في السلطة من بعد أبيهم، رغم افتقادهم الأهلية السياسية والقاعدة الجماهيرية المؤهلة لحمل تلك المطاليب إلى منصة التحقق. ومن الغريب جدا أن يتطرف كثيرون في المناداة العلنية بالسلطة والزعامة، مما زاد المسافة بين الخنادق، وسجل على ذمة التاريخ مجازر، قام البعض بأسطرتها في جملة طقوس سنوية تتكرر في كل العالم، تذكر بالزعامة السياسية المسلوبة، متناسين، علاقة الكهانة الدينية (الامامة) بالتسلط السياسي، وجدوى محاولة تكرار في ما فشل فيه الأولون فشلا ذريعا، بدء بمحمد وليس انتهاء بعلي وولده الحسين. * العراق.. فواتير الصراع الديني والقومي والطائفي.. عبر هذه السياحة التاريخية السريعة يمكن استشفاف جذور حقيقة الانشقاقات والتشظيات التي حرثت المجتمع العراقي عبر عشرات القرون، واللغة المناوئة التي وسمت الخطاب السياسي الرسمي والشعبي للحكومات المتلاحقة بعد علي حتى اليوم. فحين فاتح الانجليز أبناء علي بين الحسين أمير مكة عقب الحرب العالمية الأولى لتولي عرش مملكة العراق، كان جواب العائلة الأميرية يعرج على ما - فعله- (أهل العراق) بأجدادهم ، والمقصود حادثة الحسين بين علي بن ابي طالب. فما هي ملامح العقلية السياسية التي حكمت العراق في عهد الملكي، بالاستنتاج والتحليل السابق. وحين عرض البعض في التسعينات، على أحفاد العائلة الملكية، العودة الى حكم العراق، وكانت ثمة دعايات حول قرار امريكي بتغيير النظام العراقي، جاء (ردّهم) معرجا على ما جرى للعائلة المالكة صبيحة يوم الرابع عشر من يوليو 1958 . وهكذا يستمر الماضي يحكم الحاضر والمستقبل، ويلقي عليه غباره الثخين. وبنفس العقلية وصف حسني مبارك الشعب العراقي وان قيادته لا تكون بغير (العنف والبأس)، حتى ثبت لدى كثيرين ان للشعب العراقي جينات وراثية تختلف عن بني البشر، وعن بقية العرب والبدو، وأن هذه الجينات تتطلب زعامة خاصة ودكتاتورية خاصة. ولم لشعب أن رمي في خصائصه الجينية كما حصل مع أهل العراق (راجع مقالنا السابق – شتائم اسلامية- أرشيف مجلة الحوار المتمدن)، إلا الشعب اليهودي، وهم الجبهة الأخرى التي وقعت عليها لعنات أبناء عمومتهم، قوميا ودينيا.
#سامي_فريدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العمال والعولمة
-
قبل موت اللغة..!
-
براءة العراق من علي ومزاعمه..
-
شتائم اسلامية في أهل العراق
-
(عليّ) في العراق..
-
العراق من عمر إلى علي..
-
المقدس.. من السماوي إلى الأرضي.. (جزء 2)
-
المقدس.. من المطلق إلى النسبي.. من السماوي إلى الأرضي
-
محاولة في تعريف الدين والمقدس
-
العنف والمقدس (2)
-
(كوتا.. كم.. نوع!!..) المرأة العراقية والمرحلة..!
-
دعوة لحماية الحيوان وحفظ كرامته واحترام حقوقه..!
-
الكلام.. جدلية الكم والنوع
-
العنف والمقدس
-
فصل الدين عن الدنيا
-
فكرة الاشتراكية.. بين صنمية النظرية وأسواء التطبيق
-
ثورة أكتوبر .. (نعم) أو (لا)
-
من قتل فيصل الثاني؟..
-
تأملات في الحالة العراقية - 5
-
نحو يسار اجتماعي.. ومجتمع مؤسسات دمقراطية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|