أبوبكر حسن خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 2645 - 2009 / 5 / 13 - 09:25
المحور:
الادب والفن
مقدمة عن الطقس العام الذي تخلقت فيه القصة :
في الوقت الذي كانت رياح صحراء القصيم في أشد عنفوانها وغلظتها ترسل حبيبات رملها الحارق لكل مواضع الشعور الخاصة بي من دون اكتراث وبغير توقف , حتى كادت مراكز الإحساس لدي أن تنفجر , وتعلن عجزها عن مقارعة كثافة الواقع الجاف ! وصلتني رسالة "موبايل" من السودان تقول : ( الطفل صاحب الخمس سنوات ابن صديقنا ........., قد تم اغتصابه والتبشيع به بصورة في غاية القسوة , كأنه قد أرتكب جرما بمجيئه لعالمنا النتن في هذه السنوات العجاف ! لماذا كل هذا الإذلال لتلك الطفولة البريئة , وأين السماء مما يحدث لملائكة الأرض ؟؟!! ) انتهت الرسالة .
تلك الرسالة قد زادت وجعي بعد أن حسبته لا يحتمل الزيادة ـ من شدة الاتساع ـ فقد ظننته غير متناهي الأطراف ! غير أن واقع سنوات حكم الإنقاذ كذبت هواجسي وظنوني بهذا الشأن , في الوقت الذي صدق فيه الأستاذ الأكبر الشهيد محمود محمد طه تماماً حينما وصف هذه الجماعة قبل أن تصل إلى الحكم بسنين عديدة بأنهم " يفوقون سوء الظن العريض " !!
فإلى القصة.....
فجاءه مات الكاهن , وترك أهل الديرة في حيرة ووجوم شديدين ....., وكأن اعتقاداتهم تجعله في معزلٍ عن الموت ! أو هكذا بدأت المسألة في رؤوس الصبية والأطفال .. أما ( المجنونة ) زوينب فقد كانت في غاية السعادة لفراق الكاهن , الذي أيقنت أنه لا يوجد بعد اليوم منقص لحياة الديرة بمثل ما كان يفعل طيلة فترة مكوثه الطويلة ! وجعلها هذا الخبر تتقافز في العشب الأخضر المجاور للقرية كالمهر الصغير الذي ارتوى توا من ثدي أمه , كما أصبحت روحها فراشة رشيقة نضرة سهلة الانقياد تلين وتتمايل مع نسائم الربيع من دون تكلف, وكاد الخبر أن يحولها إلى بالون في أنامل وأعين الأطفال عند شروق عيد الميلاد المجيد ... قالت بصوت جهور ولغة فصيحة وهي تنظر ناحية السماء : اليوم فقط قد اكتست رقعة العالم بالاخضرار , وازدادت حرية الناس , ودنت السعادة من رؤوسهم ! نعم اليوم فقط قد تم إطلاق صراح السعادة وجئ بها إلى أرض الناس بعد أن كانت محتجزة دهورا طويلة فوق السماء السابعة داخل زنزانة الكاهن الكذاب !
غير أن نبرات صوت الكاهن الغليظة , وعينيه الواسعتين , كانت توحي للأطفال بأنه في معزل عن الموت أو هكذا قد ظن أطفال الملجأ , والأيتام , الذين سئموا خطبه المملة ومواعظه المتكررة التي يتوسل فيها استدرار الدموع , ومن ثم يخرج ذلك المنديل المبتل ! ويبدأ في مسح عينيه الواسعتين , وأثناء تلك الخطبة الرتيبة الخالية من التأثير .. كان يرمق أحد أطفال الملجأ دون غيره بنظرة مكتنزة بالشهوة الصامتة ..! كان يفعل ذلك في كل خطبه ( مدفوعة الأجر ) , وفي كل مرة يحاول أن يخفي ولههُ وعشقه لذلك الغلام حسن الوجه , غير أن شهوته تفضحه في كل حين , ولم يستطع لجامها وربطها كما فعل ببطنه الواسعة المتدلية ناحية التراب . وذات يوم من أيام الصيف الحار قرر أن ينزع كل ملابسه أمام ذلك الغلام بعد أن استدعاهُ إلى مكتبه الصغير ..., فأندهش الغلام وبدأ جسمه النحيل يرتعش ويتصبب عرقا من شدة الخوف , وظن أن الكاهن اليوم لا محالة سوف يبتلعه , وهو ينظر بذات الوجل إلى أسفل بطن الكاهن وهي تتحرك ويتمدد منها جسم غريب يزداد انتفاخا كل حين حتى بدأ كمخلوق ضخم ذي عين واحدة يسيل منه لعاب لزج يقرب المسافة بينهما لحد الالتصاق ..., صاح الغلام من شدة الوجع الذي ألم به صيحة أفزعت زملائه النيام , وشهقت بمقتضاها مربيتهم الودودة ( سارة ) بمستشفي الديرة وسلمت روحها إلى بارئها , وبدأت ( المجنونة ) زوينب في رمي الكنيسة بالحجارة بعد أن تمكنت من اقتحامها وأسقطت مجسم العذراء , وشج وجه المسيح وهو على الصليب بعد أكثر من ألفين عام من صلبه لأول مرة !
بدأ الغلام غير قادر على المشي بسهولة من مكتب الواعظ إلى غرفة نومه , وعينيه تدمع .. ومؤخرته قد أدميت , وأحشائه تغلي بماء الكاهن اللعين !
وقع على سريره وهو يبكي بكاء متصاعد وبحرقة شديدة .., فقد تخلت عنه أمه التي أتت به إلى هذا الملجأ البائس نظير عشيق جديد ؟! أما أباه فقد كان مجهولا , إذ لم ترتبط أمه يوما مع رجل بعقد نكاح ! وها هي المربية العظيمة ( سارة ) يفتقدها اليوم هو وزملائه بالملجأ في نفس اللحظة التي أفتقد فيها ما يدعونه بالشرف ؟!
وفوق ذلك , وقبل ذلك تخلت عنه السماء تماما , ولم يكن يسوع / الرب .., في استطاعته أن يقدم أي نوع من المساعدة لغلامنا الجريح . بل في الحقيقة لم يستطع أن يدافع عن نفسهِ ولا عن أمهِ السيدة مريم العذراء من تلك اللكمات الموجعة التي ألحقتها بهما ( المجنونة ) زوينب في ذلك اليوم البئيس .
وأما الأب الذي في السماء فلعله كان في غاية الاستمتاع وذروة النشوة , شأنه شأن واعظه الناطق باسمه في أرض الناس , وهو يفض بكارة ذلك الصبي في نفس الوقت الذي يقرر فيه الأول زهق روح المربية الجليلة إمعانا في زيادة الوجع لتلك الطفولة البريئة العاجزة عن صد الشرور !!
أشتعل الملجأ بالبكاء على فقدان المربية الودودة ( سارة ) وحزن الأطفال عليها حزنا شديدا ...
صلى الواعظ على المربية العظيمة ( سارة ) من دون أن يغتسل من أدران فعلته النكراء !
( المجنونة ) زوينب بالت وتغوطت على ما استطاعت جمعه من كتب مقدسة داخل الكنيسة ؟
الطيبون من أهل القرية كلما لمحو لوحة الحزن الأبدي وحالة الانكسار المتفاقمة على وجه الصبي الجميل ـ الذي أصبح في حضرة الناس يطأطئ رأسه ناحية الأرض , وعند عزلته ووحدته يرمق السماء بغضب واحتقار مماثل ـ تيقنوا أن لا مفازة من أن اللعنة سوف تحل بهم وبأهل قريتهم عند أقرب صباح !!
الصبي الممزق بدأ تفكيره ينحو في اتجاهات بعيدة عن السن ومقتضياتها , وعن كل ما هو معهود أو مألوف ؟ كان دائما ذهنه مشغول بالتساؤل عن الله .., ومع الله :( لماذا لم تترك مربيتي العظيمة بعد أن اخترتها لي بديلا عن أمي , ولماذا أصبتها بذلك المرض اللعين ـ السرطان ـ وجعلتها تذبل أمام عين ـ أبنائها ـ أبناء الملجأ حتى الموت , في حين تكافئ الكاهن الشرير بالصحة الجيدة , وتجعلني أنا الصبي الصغير وسادته التي متى شاء وطائها , فعل . وأفرغ فيها ماءه الآسن , الحارق , اللعين ؟؟؟!!! )
كان التساؤل قائما رغم انطواء صفحات الزمن .....,
بدأ الغلام في النضوج الغريب , وأبتسم لأول مرة في تاريخ حياته حين أكتشف أنه يمكنه أن يقوم ببعض المهام التي عجز عنها إله الكاهن ! ومن ثم جعل أهل الديرة في حيرة ووجوم شديدين .., فقبل صياح الديك فقدت القرية الكاهن وإلى الأبد ....!
جاءت ( المجنونة ) زوينب وجثت على ركبتيها أمام الفتى الممزق , وقالت له : أنت أحق بالحياة من الكاهن اللعين , وإلهه السكير الغافل ؟!! ثم ربتت على صدره , وابتسمت , لم تزد على ذلك , وهي تتقهقر إلى الوراء ملوحة بكلتا يديها والابتسامة لا تفارق وجهها الغريب .., خرجت من الملجأ , والديرة بنفس الخطوات الخلفية , حتى توارت عن الأنظار ......
يا للحسرة ....!
لقد كان الكاهن أبا ذلك الغلام , تلك حقيقة كانت تدركها ( المجنونة ) زوينب وحدها , فهي صديقة أم الغلام , وقد أسرت لها بذلك , حين حبلت , ووضعت ذلك الطفل . كان كل ذلك في بيت زوينب شبه المهجور بالقرب من الديرة , وحينما قررت أم الصبي المغتصبة من قبل الكاهن أن تذهب إليه وتخبره بأنه قد أصبح له ابن ينتظره في مقبل الأيام , وعليه أن يعترف بذلك ويلحقه باسمه ..., فعلت ذلك .., ولكنها لم تعد ؟؟!! ولعل ذلك ما فأقم من حالة زوينب , وجعلها أشد فتكاً بكل المعتقدات المألوفة والموروثة منذ زمن بعيد .
وتلك الحالة مكنت أحدى اللاهيات من أن تكسب قضية تبني الطفل , ولكن بعد أقل من عامين أتى ذلك العشيق , وأشترط عليها أن ترمي ذلك الطفل اللقيط مجهول الأبوين في الملجأ ؟ وقد فعلت ! ولم يكن من أحد يعلم تفاصيل حياة ذلك الصبي غير ( المجنونة ) زوينب , وقد حكت هذه القصة أكثر من مرة غير أنه لم يصدقها أحد , غير المربية الودودة ( سارة ) وهي على فراش الموت "المفاجئ أبداً" !!
ففي نفس تلك الليلة التي مات فيها الكاهن سمع أهل القرية صوت متحشرج أشبه بصوت ( المجنونة ) زوينب التي غابت تماما عن مسرح القرية بعد ذلك اليوم , وهو يقول : لقد نال الكاهن اليوم جزاءه الذي يستحقه هو وإلهه السكير الغافل ؟!
أستنكر أهل القرية البسطاء جميعهم هذا القول (الفاحش !) واستهجنوه , غير شخص واحد ...!!
بالطبع هو ذلك الصبي الذي كان جسده المسرح ( القذر ) لحياة الكاهن الخاصة المخفية عن أنظار الناس . " انتهت "
الساعة الأولى من صباح الجمعة 8/5/209م
محترق القصيم
أبوبكر حسن خليفة
#أبوبكر_حسن_خليفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟