|
لعبة الخنازيز..ولعنة الخنازير
جلال القصاب
الحوار المتمدن-العدد: 2641 - 2009 / 5 / 9 - 07:20
المحور:
كتابات ساخرة
اجتاح العالمَ ذُعرُ حمّى الخنازير لدرجة تصدّرها للأنباء والأشرطة الأخبارية، وأرقامُ الإصابات تتزايد يوميّاً ما أدّى لإعلان منظمة الصحة العالمية رفع درجة انتشار المرض للدرجة الخامسة، وربّما السادسة إذا تفشّى الوباء، وقد تمّ قتل مئات الخنازير، وحظر واردات لحومها في دول عدّة. الخنزير (Hog/Pig/Swine/Boar): حيوان خلقه الله لسببٍ يفيد وجود الإنسان ما دام قارّاً في نظامه الطبيعي الوظيفي ولم يُخرَج منه، أشادت بعض الثقافات به، كالحضارة الصينية التي أدرجت باسمِه سنةً بتقويمها/أبراجها، بيد أنّ هناك مَن يلعن "الخنزير" جاهلاً أنّ اللعن خاصٌّ بالكائن الواعي الشرّير فقط (كالإنسان)، وهناك مَن يستقبح الخنزير ويظنّه مسخاً، مع أنّه مخلوقٌ له دورُه بدوْرةِ الحياة، خلقَه سبحانه بصفاتٍ معيّنة يُتمّ بها وظيفته، فلا مسوِّغ لاستقباحه، بل تُستقبَح صفاته لو انتحلها الإنسان، كصفة الشرَه والتولّع بالقذارات، فالخنزير لو غيّر طبيعته لفقدَ فائدته، الإنسانُ واجبُه ألاّ يُحاكيه، ولهذا أوردتْ الأدبيّات والثقافات العالمية وسمَ الشرِهين والمبتذلين والنجسين بـ"الخنازير".
يسعُنا القول أنّ الإنسانَ أخرج "الخنزير" مِن وظيفته حين حلّى به مائدةَ طعامه، فلحمُ الخنزير خطيرٌ لدرجة يحتاج إلى طهي متقن وشديد لتأهيلِه (ظاهريّاً)، وحين أدناه وربّاه كحيوان أليفٍ وكثّره مع كونه ناقلاً لأمراض خطيرة بخلاف الحيوانات المستأنسة، كثّر إنتاجه وتعداده ليبلغ 2 مليار خنزير بالعالم، وإنّ إعدام 300 ألف خنزير يقتاتون الجيَف والنفايات بمصر -نتيجة "فوبيا" الوباء- ونيّة تخزين لحومها للاستهلاك، هو ردّةُ فعلٍ غير مبرّرة، وخطأٌ مزدوج، على العالَم إصلاحُ الخلل بثقافته البيئية ونمط استهلاكه، بدل تحميل الحيوانات وزر أخطائه.
لقد اختصرتْ الأديان القول الفصل بتحريم أكل الخنزير لنجاسته، فبديانة مصر القديمة قرَنوه بالشيطان "سيث" ومنعوا دخوله المعابد، ونجاسته تعني عدم طهارة لحمه للأكل، لكونه غير عشبيّ، بل "قمّامًا" (Scavenger) يأكل لشراهته النبات والحيوان، والجِيَف والنفايات العضوية، إنّه "مُنظِّف بلديّات" كصرصور البلاّعات تماماً، مخلوقٌ كهذا.. وظيفتُه تدويرُ النفايات وهضمُ قذاراتنا وتحويلها بمعدته.. لا ينبغي تقديمه بموائدنا فقط لاحتوائه لحماً.. ولو نجساً ومشبّعا باليوريا وبالبكتيريا وبالسموم، كما لا يُمكننا أن نُبهِّر أحذيةً ونشويها للمضغ فقط لاحتوائها جلودَ البقر!
إنّ تسعين بالمائة من يهود العالَم ترجع أصولُهم لقبائل خزريّة كانت تُربّي الخنازير (ومفردة "خَزِر" تعني"خنزير" بالعبريّة المزعومة)، إلاّ أنّ متديّنيهم يلتزمون التوراة التي نصّتْ: (وَالخِنْزِيرُ.. نَجِسٌ لكُمْ، فَمِنْ لحْمِهَا لا تَأْكُلُوا وَجُثَثَهَا لا تَلمِسُوا) و"بسِفْر أشعيا" أدان سبحانه آكلي الخنزير واللحوم النجسة، ثمّ جاء القرآن الكريم وأكّد تحريمه أربعَ مرّات: (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ)، لكنّ المسيحية لاحقاً تساهلتْ مع أنّ السيّد المسيح لم ينسخ شريعة موسى(ع) في الخنزير، لذا أنبأتْ الآثار الإسلامية أنّ بآخر الزمان يرجع عيسى(ع) و"يقتل الخنزير"، أيْ يُلغي هذه الخلل ويُعيد النّسَب الطبيعيّة له.
فهل الأوبئةُ المُفاجئة تمرّدُ الطبيعة على الإنسان لانتهاكه قيَمها الفطرية حين زاد جشعُه وتشوهّت فطرتُه؟! لاسيّما وأنّه يقوم لاأخلاقيّاً بصناعة جرثومة وفيروسات الأمراض أحيانًا ويصنّعها مخبريّاً بمعامله وبيدِه لشنّ حروب الاستباحة والإبادة لبني جنسه، ففي النبوءات القديمة عن أخبار آخر الزمان أنّ الأرض تنتفض جرّاء الفساد وتُعاقب الإنسان بكوارثها وأوبئتها الطاعونيّة، فهل آن حينٌ يدفع فيه إنسانُنا الأخير ثمن خسيس أفعاله، وفاقًا لحديث نبويّ: (لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إلاّ فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا)؟! فالإيدز، وجنون البقر، وأنفلونزا الطيور، والآن حمّى الخنازير، وغدًا.. ربّكم أعلم، لقد حصدت الحُمّى الأسبانية وحدها 50 مليون شخص بداية القرن الفائت، وحصد الطاعون منتصف القرن الثامن عشر.. عشرين مليونًا بأوروبا وحدها.
فهل نحتمل وجود علاقة بين أفعال الإنسان والأوبئة الكارثيّة المتربّصة به، كما بين السِّمنة وأمراضها، بحيث أنّ آكل الخنزير -وقد نَهى الوحيُ لعلّةٍ عقليّةٍ عنه- يُصبح عرضةً أكثر لاختراق نوعيّة أمراضه؟ وأنّ آكل لحم السباع ولحوم أموات البشر تُؤذن مناعتُه لتقبّل أدوائها؟.. ثمّ، هل عادتْ خياراتُ الحرّية الشخصية المنفلتة مسوَّغةً هنا وهي قد تفضي إلى هلاك جنسنا البشري أو شقائه؟!
لم تدعْ شهوةُ الإنسان وتحرُّره من الضوابط الفطريّة والأخلاقيّة أنْ جعلته يُجرّب في مطعوماته كلَّ "زقّوم"، حدًّا فاق ما تحتمله الغريزةُ منه، فصار يأكل الكلاب والخنازير والقرود والدود، ويتفنّن بتصنيف أطباقها، ويُجرّب في منكوحاته كلّ "حرام وزرام"، منفلتاً عن قانونه الطبيعي التزاوجيّ الذي رسمته السماء ("مِن ذكرٍ وأنثى")، وصار ينكح مثيله، وينكح نفسه بيده، ثمّ ينكح أقاربه سفاحًا.. ويصطنع ثقافةً سافلةً وأفلاماً ومسلسلاتٍ ورواياتٍ تُلذّذ أفاعيله، ثمّ ينكح أدواته المصنوعة بلاستيكياً، ثمّ ينكح "البهائم"، ويروّجها فضائيّا وإنترنتياً.. لعولمتها، كما عَوْلم ألوانَ الشذوذ وجعلها مستساغة ومقنّنة وجائزة!
أحقّاً، ليس وراء هذه الشذوذات عقوباتٌ تقتضيها الطبيعةُ؟! لقد كان حكمُ النبيّين للبهيمة المنكوحة -مِن سفهاء البشر- الإحراق، لاجتثاث أيّ داءٍ محتَملٍ حصولُه، وعرّف الشرعُ "الدجاج الجلاّل" و"البهيمة الجلاّل"، وهي الحيوانات -الجائزة الأكل وليست خنزيراً- التي تغذّت بالقاذورات والنجاسات، فأوجب استبراءها أيّاما عدّة قبل ذبحها لاستهلاكها، كلّ هذا للحفاظ على ناموس السلامة الكوني والتناسب الصحّي.
إنّ انتفاضة الأرض بكائناتها على الإنسان المستهتِر العابث الظلوم.. لتُخبره أنّ الصانع الخبير صنع كلّ شيء بقدَر ووفق نظام موزون، وأنّ توالي انتهاك النظام والإفساد يستجلب عواقب وبيلة، العبثُ بالطبيعة ليس "لعبةً" غير مدفوعة الثمن، "يومئذٍ تُحدّث أخبارَها".
#جلال_القصاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قانون الشهامة ومسرحيّات الأمن
-
الأجرُ الجزيل.. بالجُهد الهزيل
-
كياناتنا الدينيّة والمدنيّة.. ذاتُ الفلقتيْن
-
أفواهٌ وأرانب.. وتسوسُها ذئاب
-
تُجّار الأذكار ونيْل الأوطار
-
الصهيونية الملعونة على لسان عيسى
-
فبراير.. تحيّة وذكريات وآمال
-
دعه في النار وأنا في الدار
-
-الحجاب- وشرعية فرضه أو منعه
-
شهرزاد.. هل شيءٌ زاد؟!
-
بومبو وتوكتو وبدرو
-
الحكم لله أم لشريعة المتعاقدين-1؟
-
أفغانستان وجورجيا وترقّبنا المهديّ
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|