أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد باسل سليمان - العولمة والدولة ودولة البلدان العربية















المزيد.....



العولمة والدولة ودولة البلدان العربية


محمد باسل سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 2636 - 2009 / 5 / 4 - 07:45
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


ظهور الدولة القومية
يحبذ علماء الاجتماع وبعض المؤرخين وكذلك علماء الاقتصاد ربط بداية عمر العولمة بالاكتشافات الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر الميلاد، وذلك لأن العناصر الأساسية لهذه الفكرة التي منحتها اسم العولمة في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين بعد انهيار الإتحاد السوفيتي وظهور الأحادية القطبية، هي نفسها العناصر الأساسية التي أسست منظومة المفاهيم التي عرفتها البشرية قبل خمسمائة سنة، كنتيجة مباشرة للاكتشافات الجغرافية؛ والتي يتلخص مؤدّاها في ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم سواء في مجال تبادل السلع والخدمات، أو في انتقال رؤوس الأموال، أو في انتشار المعلومات والأفكار، أو في تأثر أمة بعادات وقيم غيرها من الأمم.
ومنذ ذلك الحين والعلاقات الإقتصادية والثقافية بين الدول والأمم تزداد تنوعاً واتساعاً، ما عدا بعض الاستثناءات التي نتجت عن العزلة التي عاشتها بعض الدول لأسباب تتصل بالتحولات الأيديولوجية التي عرفتها في القرن العشرين (الإتحاد السوفيتي، الصين، كوبا، اليمن، بعض الدول الأفريقية.... إلخ).
كان بزوغ ظاهرة الدول القومية واحداً من استحقاقات الإكتشافات الجغرافية الكبرى. فقد تطلب التقدم التكنولوجي في مجالي الاتصال والتجارة بعد اختراع البوصلة والمحرك البخاري، توسيع نطاق السوق ليشمل الأمة كلها بعد أن كان محصوراً في حدود المقاطعة. فحلّت (الدولة) بنتيجة ذلك محل ( الإقطاعية)، والملك محل السيد الإقطاعي، وأصبح الولاء للدولة والملك بعد أن كان للمقاطعة والإقطاعي. ولم يعد الملك الآن (إن كان هناك ملك قبل ذلك في بعض المناطق ) شخصية هامشية تثير الإستهزاء أكثر مما يثير الإحترام كما كان عليه الأمر في النظام الإقطاعي. وأصبح الملك ظل الله على الأرض، يملك سلطات حقيقية وإمكانيات فعلية لممارسة هذه السلطات.
وتطلب التقدم التكنولوجي وما نتج عنه من زيادة في الإنتاجية، وجود أسواق خارجية. وحيث يصعب بلوغ ذلك دون الغزو العسكري، وجدت الدولة نفسها مجبرة على إنشاء الجيش القومي الذي يمكنها من منافسة الدول الأخرى في الحصول على الأسواق الخارجية الحديثة (أي المستعمرات)، ويمكنها من حمايتها.
كما كان نمو السوق في مرحلة من المراحل ضرورة لإنشاء الدولة فإن فوضى الإنتاج واتساع حجم السوق وتزايد قدرات التوزيع والسيطرة على أسواق جديدة لعب دوراً رئيساً ومركزياً في تطوير فكرة الدولة وآلية الحكم، وفي ترسيخ دورها الفرداني وكذلك التحالفي ضمن منظومة دول. ووفق كذلك وراء الكيفيات التي يمكن أن يؤول إليها هذا الدور وفق الأولويات الفكرية واستتباعاتها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية المتمثلة بها، وفي هذا السياق كان التطور الرأسمالي في مراحله المختلفة وكل عوالم تجلياته الحياتية. وكان كذلك ظهور الإشتراكية كنظام إقتصادي ودولاني، ونموذج تمثلي وأيديولوجيا نقيضه وبديلة للرأسمالية كأيديولوجيا وإقتصاد ونظام حكم.
لقد كان التنافس الدولي قائماً على السيطرة على الأسواق طيلة القرون الأربعة التي سبقت القرن العشرين. وقد عرفت حروباً وصراعات وغزواً متعدداً ذاقت، منه الشعوب الإستعمار والحرمان والآلام والويلات. ولكن هذا الصراع وما اكتنف من حروب كان بين دول المنظومة الإقتصادية والأيديولوجية نفسها. ومنذ منتصف العقد الثاني من القرن العشرين دخل إلى حلبة الصراع الإتحاد السوفيتي كخصم أيديولوجي وإقتصادي سياسي، يريد أن يجعل من نظامه نموذجاً يسود في العالم بأسره.
وحدث في أجيج هذا الصراع تطورات مذهلة عرفها العالم في مجال الإقتصاد وفروعه المختلفة خصوصاً الصناعة، والتكنولوجيا، والخدمات، والاكتشافات العلمية بما فيها غزو الفضاء وسباق التسلح والحرب الباردة، وكذلك في المجالات الإجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية... إلخ.
ويلاحظ أنه قد حدث في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن الماضي جملة من المعطيات البارزة في سياق هذه التطورات، أو كنتيجة مباشرة لها، أو لتفاعل الاستحقاقات الناشئة عنها دللت على أن تحولاً جديداً يتشكل على النطاق الكوني، يضطلع بوظيفة الإحاطة بالمتغيرات التي تتسارع يوماً إثر الآخر ونَظْمِها في إطار مختلف عن كل ما سبقه، وهو متأهل لأداء المهمة التاريخية الجديدة وفق ما يليق بمستقبل البشرية. وأن من أبرز المعطيات المشار إليها ما أمكن ملاحظته من مظاهر وأشكال الإنهيار المدوي لأسوار العزلة العالية التي كانت تعيش وراءها بعض الدول والأمم اختيارياً أو إجبارياً، وانكشاف المستور والمسكوت عنه فيها.
ووفق تأثير نفس المفاعيل حدثت زيادة كبيرة جداً في تنوع السلع والخدمات التي يجري تبادلها بين الأمم، وكذلك تنوع مجالات الإستثمار التي تتجه إليها رؤوس الأموال من بلد لآخر. ولم تعد صادرات الدول الأقل نمواً" تنحصر في مادة أولية واحدة. كما لم تبق وارداتها مقتصرة على عدد معين ومحدد من السلع كما كان عليه الأمر في ظل الإستعمار التقليدي. كما أن الإستثمار الأجنبي لم يبق مقتصراً على إنتاج المادة الأولية الواحدة وتطوير البيئة الأساسية اللازمة لهذا الإنتاج، بل تعددت وتنوعت الصادرات والواردات؛ وكذلك المجالات التي ينتقل إليها رأس المال الأجنبي بحثاً عن فرص الربح. ونتج عن هذا الازدياد في اتساع العملية الإقتصادية بشقيها الإنتاجي – الإستثماري والتبادلي – التجاري، وما أحدثته من تطورات إشكال في القدرة على تلبية متطلبات واحتياجات الأسواق الخارجية، الناجمة عن ازدياد نسبة السكان في داخل كل مجتمع وأمه، الذين أصبحوا يتصلون بالعالم الخارجي ويتأثرون به؛ في حين أن هذه النسبة كانت في العقود السابقة ضئيلة جداً ومحدودة ولا تشمل أحياناً حتى الناس الذين يقومون بالعمليات الإنتاجية نفسها.
وإن نظرة إستقرائية لمكونات التحول المنوه إليه خلال الفترة نفسها يرينا انه قد ظل تبادل السلع ورؤوس الأموال هو العنصر المركزي المسيطر على العلاقات بين الدول. ولم تتأثر مركزيته إلا منذ وقت قريب جداً عندما اخذ تداول المعلومات والأفكار يحتل حيزاً واسعاً في العلاقات الدولية، وعندما أخذ هذا الخير يزداد بشكل سريع نتيجة النمو المتسارع في قدرة المعلومات والأفكار على الإنتشار على إثر التطورات المذهلة لوسائل الاتصال وتقنياتها.
ومن جانب آخر فإن تحليل عناصر هذا التحول وآليات دفعها يسوقنا إلى حقيقة مؤادها أن تطورات هذه الحقبة قد ولفت لنفسها ميكانيزمات أكثر فعالية ونشاطاً في تحقيق تبادل السلع ورؤوس الأموال والمعلومات والأفكار، وأكثر قدرة على تشغيلها والهيمنة عليها. وهذا المنتج هو ما عرف بالشركات المتعددة الجنسيات. وانتهى بذلك نمط الشركات الدولية الذي كان سائداً. وجعلت هذه النمطية الإنتاجية العالم كله مسرحاً لعملياتها المتنوعة والمختلفة، والمتصلة بجوانب مجالات الحياة كلها. وحيث كان انهيار الإتحاد السوفياتي ومنظومة البلدان الإشتراكية سنة 1989م هو أكثر تجليات هذا التحول درامية، خصوصاً بعد أن أخذ التحول واكتنافاته يعرّف باسم"العولمة"؛ ويذكر بأنه يحمل للبشرية وعد" نظام الليبرالية الأوحد" أذي سيقوم على أنقاض الواقع ( مفاهيماً ومعارف وقيماً ونظريات أيديولوجية، ليحل محله بمفاهيم وقيم ومعارف وأيديولوجيا جديدة. وهنا لا بد من التساؤل عن مفهوم الدولة في العولمة، وكذلك السؤال عن مصير الدولة القومية في عصر العولمة ؟!.
أدى اتساع وتنوع الإنتاج وتوظيفه في أعراض الإستقواء والسيطرة إلى نمو حجم السوق، فكان ضرورياً لنشأة الدولة القومية ونمو قوتها منذ خمسة قرون. وحيث نرى أن وقائع التحول الرأسمالي تفرض استحقاقاتها على الأسواق والأذواق والأشواق على الصعيد العالمي، خصوصاُ بعد انهيار الإتحاد السوفياتي كنظام إقتصادي وسياسي قبل عقدين من اليوم، نستطيع أن نتبين تفسير المظاهر الجديدة التي أخذنا نلحظها في دور الدولة وفردانية مسؤولياتها الداخلية والخارجية، والعلاقاتية الدولية أيضاً. ويبدو أن مفهوم تشيبيء الموجودات الحسية او الدلالاتية وتحويلها إلى سلع بواسطة قوة قرار الشركات متعددة الجنسيات، ودور نمو حجم السوق في السيطرة والتحكم، سيحتم ربما بداية التضاؤل في قوة الدولة وازدياد الوهن والضعف في دورها التقليدي؛ وذلك تمهيداً لإمكانية أن تحل الشركة عابرة القارات والمتعددة الجنسيات محل الدولة، كما حلت هي ذات يوم في الماضي محل المقاطعة.
لقد أخذت مظاهر التحول الجديد أبعاداً متسارعة أفقياً وعمودياً، بشكل يطال جميع جوانب حياة البشر ويهز ركائز بنياتها، بما في ذلك تلك التي تشمل السلوك والوعي والفكر. أي بمعنى آخر أن هذه الجوانب قد أخذت تتأثر به، لا بل وتتجاوب مع استحقاقاته وتتأثر بها في المعطيات السياسية: كالدولة والسيادة والحكومات ومخرجات ومدخلات النظام السياسي برمته، وكيف يؤثر بروز الكل العالمي على السلوك والوعي السياسي؛ ويحتم من جانب آخر طرح أسئلة في مجالي الهوية والمواطنة، ولعل أوضح الأدلة على ذلك هو ما نشهده اليوم من ملامح انكماش في صورة العالم الكلية، في حين تزداد الدول ارتباطاً، وتبدو الإقتصادات أكثر اندماجاً، والثقافات أكثر انفتاحاً. ومن جانب آخر تظهر البشرية أكثر التصاقاً واكبر وعياً وأوضح انتماءاً لكوكب واحد.
وفي هذا السياق يمكن فهم تعدد الإجتهادات في محاولات تفسير هذه المظاهر قد تعددت وتنوعت في دوافعها وأهدافها، بما في ذلك طمأنة الأفراد والجماعات والمجموعات البشرية على واقع ومستقبل أمنهم وصيرورة حياتهم المباشرة.
لقد طرأ تغير مهم على حاجات المنتجين منذ الثلاثين عاماً الماضية، نتج عن التطورات التكنولوجية المذهلة التي حققتها الدول الصناعية الكبرى، وعن اتساع تداول واستخدام لهذه التكنولوجيا من ناحية؛ ونجاح الدول الصناعية في دخول حلبة المنافسة على الأسواق والمواد الأولية من جديد، بعد أن تمكنت هذه الدول من التخلص من الآثار التدميرية للحرب العالمية الثانية عليها من ناحية أخرى. وكانت بداية هذا النجاح تمكن الدول الصناعية من إعادة تأهيل الأسواق إلى ما كانت عليه قبل الحرب من سعة، وذلك لتستوعب الزيادة في الإنتاج التي طرأت بنتيجة تطور التكنولوجيا.
وقد أحدث التنافس الإقتصادي بين الدول إلى زيادة في الإنتاج استوجبت حراكاً للبحث في كيفية توسيع الأسواق لتتجاوز الحدود القومية وكذلك الإقليمية إلى ما هو أبعد. وكانت النتيجة المباشرة لذلك، ولأسباب أخرى، تتكامل معها وتدعمها؛ ظهور الشركات العملاقة عابرة القارات والمتعددة الجنسيات التي تستعيض عن ضيق السوق الوطنية بالخروج إلى العالم بأسره، وتعوض غزو الإقتصادات الخارجية لأراضيها بأن تغزو هي أيضاً أراضي الغير
لقد تمثلت السياسات الإقتصادية الجديدة وهي تقيم نظام علاقاتها الدولية، النهج الذي عملت به الدولة القومية؛ ولكن ليس في إطار حدودها الجغرافية وإنما في مجال أقصى ما يمكن أن تصل إليه من حدود جغرافية، وما يستجيب لحدود أفق الطموحات التي تريد أن تبلغها أسواقها على الصعيد الكوني. وعُبّر عن ذلك بقفز الشركات المنتجة فوق أسوار الدولة. وأخذت هذه الأسوار تفقد قيمتها الفعلية. بل أصبحت تدريجياً أسواراً شكلية، سواءً تمثلت في حواجز جمركية، أو حدود: ممارسة السياسات النقدية والمالية، أو بث المعلومات والأفكار، أو السلطة السياسية، أو الولاء والخضوع، أو... ألخ. وقد جُعل لأشكال القفز والتخطي كيفيات وأساليب عديدة ومختلفة بدءاً من الصيغ البسيطة المباشرة، ومروراً بالإستثمار المباشر أو من خلال عقد الإتفاقيات (اتفاقية ألغات مثلاً)، أو إلزام الدولة بتبني برامج لا تحتاجها حتى الآن وربما في المستقبل القريب أيضاً ( برنامج التثبيت الإقتصادي، وبرنامج التصحيح الهيكلي،... إلخ)؛ وانتهاءاً بتعيين وتوصيف وتحديد شكل وطبيعة النظام السياسي الذي يجب أن تؤول إليه الدولة (بما في ذلك تغيير الملوك والرؤساء ورؤساء الحكومات ونوع نظام الحكم برمته). وأما حدود بث المعلومات فقد تكفلت بتجاوزها التطويرات التكنولوجية لوسائل الإتصال وانتشار الفضائيات والكمبيوتر والإنترنت وخلافها.
وبخصوص موضوعات الولاء والخضوع والتي يمكن اعتبارها الأصعب في منظومة التجاوزات، لاعتبارات تتعلق بطبيعة تكوينها الوجدانية والشعورية والإنسانية المباشرة؛ فتتكفل التحولات الكونية الجديدة بتخطيها بشكل يحدث على نحو طبيعي وتدريجي، عبر ما ينتج من تغيير في الولاء مع تغير مصدر الكسب والربح. وكذلك عبر بذل جهود واعية ومتعددة لنشر أفكار تساعد على تحطيم موضوع الولاء القديم للوطن والأمة، وإحلال أفكار ومفاهيم ولاءات جديدة محله، من نوع:" القرية الكونية"،" نهاية التاريخ"و" نهاية الأيديولوجيا" و" مفهوم الإعتماد المتبادل"و" المجتمع الليبرالي الأوحد" و " الشمال والجنوب" و" دول شمال المتوسط" و" دول جنوب المتوسط" ومجتمع شرقي المتوسط" و"الشرق أوسطية" و" الشرق أدنوية" و"شعوب مجموعة سيام" و"المجتمع العولمي" وغيرها.
ولا تقوم الشركات العملاقة عابرة القارات وحدها بهذه التغييرات والتعديلات، بل يعينها في ذلك هيئات ومؤسسات أخرى أنتجتها أو اقتضتها نفس الظروف والتحولات التي أنتجت الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة الدولية، وكذلك المؤسسات المالية الدولية الأخرى.. ووكالات الأمم المتحدة المختلفة العاملة في ميادين التنمية والثقافة.
ويدعم الشركات المتعددة الجنسيات في تحقيق هذه الغايات مؤسسات ووسائل التأثير في الرأي العام: الصحف، والمجلات السيارة، وشبكات الإذاعة والتليفزيون، والإنترنت، وغيرها.
إن ملامح صورة الدولة التي يمكن رسمها من هذه المعطيات ترينا أن تراجعاً لدور الدولة يحدث تدريجياً ويترافق بإنحسار لنفوذها، وكذلك تخليها عن مكانتها لمؤسسات أخرى تتعاظم قوتها يوماً بعد يوم، وهي الشركات العملاقة متعددة الجنسيات. وهذا يؤشر إلى أن حركة عولمة العالم قد قطعت أشواطاً بعيدة على مختلف الأصعدة: الإقتصادية والتكنولوجية والسياسية. وكذلك على الصعيد الثقافي الذي يضطلع بمسؤولية عولمة وعي الأفراد بما يحقق بسط قضايا العولمة وأسئلتها، ويعمق مفاهيم ثقافة المجتمع الليبرالي الأوحد الموعود أي ثقافة العولمة لعالم بلا حدود بعد أن أمكنه تجاوز محددات الأسوار الجغرافية والإقتصادية والسياسية، ويعد بإلغائها جزئياً وتدريجياً حتى يتمكن بلوغ غاية الإلقائية الكلية.
إن التجليات العولمية على اختلافها تتضافر في مهمة تعزيز عوامل إقناع الناس بحتمية الوصول إلى المجتمع الليبرالي الأوحد، ودولته الكونية الواحدة، ونظامه العولمي الخيّر. وهي تبني بلا هوادة مفاهيم سياسة جديدة تؤسس لما يعرف باسم"الكل العالمي" الذي لن يكون تعبيره السياسي أبعد من مهمته التي على رأس أجندتها"التأثير في الدولة"، فهل يدفع" الكل العالمي" في اتجاه إلغاء الدولة وانتهاء السيادة؟!. ثم هل ستؤدي مثولية"الكل العالمي" إلى "إضعاف الدولة الوطنية أو القومية" تمهيداً لقيام حكومة عالمية مركزية، تضطلع بمعالجة القضايا الإنسانية المشتركة: حقوق الإنسان، الثقافة الواحدة، المواطنة العولمية، الهوية العولمية بديلاً للهويات الإثنية والعرقية والأيديولوجية... إلخ؟.
إن الإجابة على هذه الأسئلة وفهم أسباب الوجاهة التي تتمتع بها التساؤلات حول حقائق ودلالات التحولات الجديدة على الصعيد الكوني، يوجد في معطيات الواقع المعاش خلال العقود الثلاث الأخيرة؛ وبما يقتضي أن تكون بـ" نعم كبيرة" من جهة، ويعزز التأويلات التي تبشر بحتمية العولمة؛ ولكنه لا يجزم بشكل قطعي أبداً حتمية إلغاء الدولة من جهة أخرى.
إن هذه الإجابة تعتريها مظاهر إلتباسية تبلغ حد عدم اليقينية في بعض الأحيان، وذلك لأن تراجع دور الدولة وفق ما تشي به دلالات من الواقع يبدو غير متأهل ليس في المدى المنظور فحسب، وإنما في المدى غير البعيد أيضاً، لأن يطال جميع الأمم وينطبق على جميع البلدان في العالم الثالث وفي بعض البلدان الأوروبية المشاركة في آليات العولمة وحقائقها. كما أن التراجع المنتظر سيكون متفاوتاً زمنياً وكيفياً بين دولة وأخرى من تلك التي سيتراجع دورها وربما سيلغى.
تحدد دور الدولة القومية منذ ظهورها في بداية عصر الرأسمالية التجارية باعتبارها أداة في يد القوى المسيطرة لفرض إرادتها على الطبقات الأخرى، وإقامة نظامها الإقتصادي السياسي وفق مقتضيات ما يتطلبه تطبيق أيديولوجيتها من آليات حكم وسيطرة وتحكم.
وكما لاحظنا في محطات مسيرة الدولة القومية، فإن هذا الدور كان لا يتطلب دائماً الأدوات والعوامل والأعمال نفسها، ولا يقتضي القيام بالوظائف نفسها. وحتى عندما يكون لا بد من معاودة استخدامها في المرحلة اللاحقة لا تكون بالضرورة كلها، ولا بالدرجة نفسها، وهذا يفسر لماذا تغيرت وظائف الدولة بين مرحلة وأخرى، أو على الأقل تغيرت الأهمية بالنسبة لكل وظيفة منها مع تغير الظروف.
إن الإحاطة بمشاهد صورة الدولة في مراحل صيرورتها المتتالية، واستشراف الملامح التي ستبدو عليها هذه الصورة بعد تعملق الثورة الصناعية الراهنة والمنجزات التي حققتها، تشير إلى دور "الاقتصاد والسوق"بمتطلباته ومتفرعاته واستحقاقاته ومكانته في أيديولوجيا الدولة، وفي مركزية فكرها السياسي. فحيث كانت وظيفة الدولة في عصر الرأسمالية التجارية (أي عصر بزوغ الدولة العولمية) هي: إنشاء الاقتصاد القومي عبر توحيد السوق وإزالة العقبات والحواجز التي كانت قائمة بين المقاطعات، وإنشاء الخدمات، وإقرار النظم اللازمة لذلك بما فيها تدخل الدولة الفعال في عملية الإنتاج نفسها، وإن مراقبة تطور حركية الاقتصاد والسوق في المرحلة الجديدة لا بد أن يستبدل منه على دور الدولة قد تراجع في عصر الثورة الصناعية؛ خصوصاً لجهة التدخل في عمليات الإنتاج، ولجهة حماية المنتجات من المنافسة الخارجية؛ وتركت التجارة الداخلية والتجارة الخارجية حرة.
ولم تتخل الدولة في هذه المرحلة عن وظيفة" حماية مصالح الطبقة المسيطرة" في الداخل عبر قمع" مطالب رفع أجور العمال"، وفي الخارج عبر حماية الأسواق القائمة والحفاظ عليها، وكسب أسواق خارجية جديدة ( بالإستعمار وتوسيع المستعمرات، والحروب... إلخ)، وجذرت القناعات بان القيام بهذه الوظيفة ليست مقتصرة على الدولة فحسب، وإنما على المجتمع أيضاً. فأشعلت بسبب ذلك الحماس الوطني والقومي، ووفرت المقومات اللازمة لاستمرارية تأججه، فترسخ بسبب ذلك "الشعور بالولاء للأمة والدولة"، وتصوير "مصالح الطبقة على أنها مصالح الأمة".
وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى نمت القوة الإنتاجية للدولة؛ فضاقت بها السوق الوطنية؛ وكذلك امتداداتها التسويقية الخارجية (المستعمرات ومناطق عمليات التصدير الخارجي)، فاضطرت الدولة للإضطلاع بدور" إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات الدنيا"، فظهرت دولة الرفاهة ( أي الدولة الكينزية)، ودولة روزفلت وفق تعبير علماء الإقتصاد) وسادت في الغرب منذ الثلاثينات وحتى بداية سبعينات القرن الماضي. وكانت دولة قوية وعسكريتاريه ليس على صعيد الأرض وإنما في غزو الفضاء أيضاً. وقد اهتمت هذه الدولة منذ بداية عام 1940م بالعمل على تغذية الشعور القومي والولاء للوطن، وما اقتضاه ذلك من موجبات الإستجابة لمطالب الطبقة العاملة والتعاون مع منظماتهم النقابية، والتخلي عن وظيفة قهر العمال التي أصبحت من اختصاص ومهام أرباب العمل وأسياد السوق.
وبرغم مصائب وويلات الحرب العالمية الثانية وآثارها المدمرة على مختلف المستويات، وفي جميع الاتجاهات؛ فقد أدت سياسات مفهوم دولة الرفاهة إلى انطلاقة الثورة الصناعية الثانية. حيث استطاعت دول أوروبة التخلص من آثار الحرب وتفاعلت بإيجابية عالية مع التطورات التكنولوجية الكبيرة والمتنوعة المجالات، بما في ذلك الخدمات. فارتفعت القدرة الإنتاجية إلى مديات قصوى كانت أكبر بكثير من القدرة الإتساعية للسوقين الوطنية والخارجية. كما ازدادت المنافسة بين الدول الأوروبية مع بعضها البعض، وبينها الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت النتيجة المباشرة لذلك أن تتخلى الدولة عن وظيفة "المشتري للإنتاج" حتى عندما يؤدي ذلك إلى"تراخي في معدلات النمو في العالم الصناعي"، وإن تستعيض عن الطريقة التقليدية في تحديد مساحة السوق (السوق الوطنية ثم أسواق المستعمرات الخارجية) بالطريقة الحديثة الأكثر حدودية التي تقوم على اعتبار"العالم كله مساحة السوق". وكانت الإستجابة العملانية لتبني هذا المفهوم هو ظهور الشركات العملاقة عابرة القارات والمتعددة الجنسيات، التي جعلت العالم كله مجالاً لنشاطها ولعملياتها الإنتاجية والتسويقية معاً. وكذلك كمجال لنظام جديد لتقسيم العمل، لا يقتصر على التخصص في إنتاج سلعة أو أخرى، بل يشمل التخصص في إنتاج جزء من أجزاء السلعة في بلد ما، وإنتاج جزء آخر و/ أو أجزاء منها في بلد و / أو بلدان أخرى في مناطق العالم المختلفة.
وأدى هذا التطور في مفاهيم وطرائق ووسائل وآليات العمليات الإنتاجية إلى تغير ملحوظ في دور وظيفة الدولة. فتحولت دولة الرفاهة إلى ما يسميه الإقتصاديون الدولة التاتشرية وليس الدولة البريطانية (نسبة إلى مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية في السبعينات، ورونالد ريغان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في الثمانينات ). وبدل أن كانت وظائفها المساهمة في شراء الإنتاج وتحسين أوضاع العمال، أصبحت وظيفتها قهر العمال، وإصدار التشريعات التي تساعد على المنافسة في السوق الخارجي بما يعنيه ذلك من تخفيض لقيمة الضرائب وتقليص في النفقات الحكومية؛ وذلك تسهيلاً لمهمة الشركات متعددة الجنسيات وعابرة القارات في غزو العالم.
واستحدثت وظيفة هامة للدول القومية الغربية جميعها وللدول المشابهة لها و/ أو المتحالفة معها من الدول القومية الأخرى، وهي محاربة الإتحاد السوفياتي والعمل على تفكيك منظومة الدول الإشتراكية وتغيير الأنظمة فيها ليحل محله" نظام العالم الحر المعادي للشيوعية".
وان متابعة التطورات السياسية في العشرين سنة الأخيرة تدل على أن معاداة النظام السوفياتي كانت من الوظائف الرئيسة وربما الأهم التي اضطلعت بها الدول القومية الغربية في عصر الثورة الصناعية الثانية. إذ أن هذه الدول تعتقد بأنه في ظل استمرار النظام السوفياتي بما هو عليه من قوة وبما يتميع به من تأثير على النطاق الدولي لن يمكن إنتقال رأسمالية الثورة الصناعية الثانية والإمبريالية كتعبير لها إلى مرحلة العولمة كهدف مرتجى وموعود للبشرية. ويستدل على هذه الحقيقة من شواهد عديدة عرفها الواقع الدولي في السنين الأخيرة، ومن بينها إعلان انطلاقة العولمة بالتزامن مع سقوط الإتحاد السوفياتي في سنة 1989م وانهيار دول المنظومة الإشتراكية في أوروبة الشرقية بعد ذلك.
وإن دراسة الوقائع المعاشة وتفاعلاتها، وتحليل نتائجها، وكذلك تأويل معطياتها التي تتصل بدور الدولة ووظيفتها، لا تشير إلى أية إشارات دلالاتية جديدة على إمكانية اختفاء الدولة أو احتمال فقدها لكل دورها التقليدي. ولكن هذا لا ينف أبداً أن تغيراً ملحوظاً هاماً قد طرأ على الوظائف الأساسية المنوط بالدولة تنفيذها. أي أن الدولة قد عادت في وظائفها إلى المراحل السابقة، أي إلى وظيفة الدولة في عصر الثورة الصناعية الأولى؛ حيث كان الإقتصاديون التقليديون ينادون بتقليص دور الدولة في الاقتصاد، ولأن المطلوب الآن هو نفسه ما كان مطلوباً حينذاك أي حرية التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال، مع مراعاة وجود فارق رئيس مخالف بين المتطلبات في وظيفة الدولة في هذه المرحلة عما كان عليه في المرحلة السابقة؛ويمكن تحديده بالضبط على أنه وهو ضرورة قيام الدولة ببذل جهود كبيرة ودؤوبة لهدم الحواجز العالية التي سبق لمختلف إقامتها طوال سنوات نصف القرن الماضي.
وإن المؤسسات الدولية الجديدة وفق مسمياتها العولمية التي لم تكن معروفة في السابق، مثل: منظمة الغات ومنظمة التجارة العالمية، يتبين دورها ومثوليتها في كل عملية وكل مجال، وفي أي مكان. كما أن السوق الوطنية لم تعد الآن كافية للشركات المتعددة الجنسيات، وبذلك فهي ليست قائمة في أي مستوى تداولي بعد أن حل محلها مصطلح" السوق" الذي يجب أن يكون مدى حاله وامتداد أفقه باتساع بدلن العالم ليكفي للشركات العملاقة عابرة القارات.
وفي المرحلة الراهنة حيث اندحرت دولة الرفاهة، عادت الحركة المطلبية إلى معاودة نشاطها، فاستحثت الدولة على مزاولة وظائفها التقليدية في قهر العمال وقمع تحركاتهم المطلبية، لأن العمال في هذه المرحلة تحولوا من مصدر قوة شرائية ومجالاً هائلاً للتسويق، إلى مصدر للمتاعب والمضايقة. وأن على العمال الآن أن يقبلوا بارتفاع معدلات البطالة، وتخفيض الإنفاق الحكومي، وضمور حجم الخدمات والتأمينات، وزيادة الأسعار وعدم شرط ارتباط الأجور بمعدلات هذه الزيادة وان على الدولة إقناع العمال للقبول بذلك، فإن لم يقبلوا فيجب إكراههم على ذلك.
إن هذه المهام التي تضطلع بها الدولة في هذه المرحلة أيضاً هي ضرورية، وحيويتها لا يستهان بأهميتها في خدمة المصالح الحديثة للطبقات المسيطرة، خصوصاً عندما نستذكر المهام التي يجب على الدولة المداومة على القيام بها في بلدان العالم المتخلف أو" العالم الثالث" لقد اقترن عصر دولة الرفاهة في البلدان المتقدمة صناعياً بنشوء عصر الدولة القوية في البلدان المتخلفة، وتقارب أو تباعد المفهومان على الصعيد الدولي في منظومة واقعية ولكنها غير مجسده عملياً، سميت" الحرب البارده". وقد تبارز خلالها وكاستحقاق لها، المعسكران الغربي والشرقي لكسب ثقة البلدان المتخلفة عن طريق تقديم أحجام كبيرة ومتنوعة من المعونات لحكومات هذه البلدان. وبسبب ذلك قوي دور الدولة في هذه البلدان.
واقترنت حقيقة التنافس بين المعسكرين الغربي والشرقي على استقطاب الدول المتخلفة في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، بظاهرة اعتماد الدول الصناعية بعضها على بعض أكثر من اعتمادها على الدول الأقل نمواً، كمجال للاستثمار، وكسوق لتصريف منتوجاتها، نتج عنه تكوين" السوق الأوروبية المشتركة" ونموها، وتزايد الإستثمارات الأمريكية داخل هذه السوق. ونتج عنه أيضاً تقوية دور الدولة في البلدان المتخلفة، بعد أن أسبغ كلا المعسكرين على هذه الدول ألقاب تصنيف إقتصادي سياسي استقبلتها أنظمة هذه البلدان بتقدير واستحسان لا تقل عن الكيفية التي استقبلت بها المعونات الإقتصادية. وكان من بين ألقاب التصنيف التي أطلقتها دول المعسكرين على البلدان المتخلفة، مسميات:"بلدان العالم الثالث"، و"بلدان التطور اللارأسمالي" و"والبلدان الأقل نمواً" وغيرها.
وساد في دولة ( العالم الثالث ) القوية كل مظاهر ومقومات ومفاهيم "الدولة التجارية الجديدة" التي أصبح من وظائفها التدخل في كل شيء في الاقتصاد والمجتمع: خطط التنمية المنسوبة لفئات زمنية ( ثلاثية، رباعية، خماسية،... إلخ)، والأسيجة الجمركية لحماية المنتجات الناشئة، و إنجاز مشروعات البنية الأساسية، وإعادة توزيع الدخل وفق مسميات مختلفة بما فيها الإشتراكية، في كثير من البلدان بما فيها تلك المتحالفة مع الدول الرأسمالية، ودعم الحكومات لعدد كثير من السلع الإستهلاكية، وغيرها.
وما هو أكثر من ذلك أن المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أبدت تسامحاً غريباً مع هذا السلوك الوظائفي الجديد لدولة (العالم الثالث)، لا بل وأنها في بعض الأحايين عكست رضا عن بعض تنويعات هذا السلوك في المجال الإقتصادي.
دولة الوعد
إعتبر الإقتصاديون وعلماء الإجتماع أن ما حدث في دول ( العالم الثالث ) تطوراً في الإتجاه الصحيح، ورأوه أنه يؤسس لما بعده من تغييرات تقدمية محتملة. والمدهش في الأمر أن الرعاية لهذه (الدولة) كانت تستمد عناصر قوتها المتنامية يومياً من تلاقي وأحياناً تقاطع رغبة المعسكرين الشرقي والغربي على ذلك. وظل هذا الأمر يتمتع بدرجة اهتمام دولية كبيرة إلى أن سطع عالياً نجم الشركات العابرة للقارات بدءً من منتصف سبعينات القرن الماضي، حيث كان على (دولة) العالم الثالث أن ترخي قبضتها عن الإقتصاد والمجتمع تدريجياً لصالح الشركات العملاقة عابرة القارات وجوهر حركيات العولمة كنظام دولي جديد يَجبُّ ما قبله من أنظمة إقتصادية وسياسية ومفاهيم ومعارف إجتماعية وثقافية، ويغيّر في القيم والسلوك وطرازات الذوق. فالأسواق الجمركية بدا يجري هدمها، ونظام التخطيط سيتم إلغاؤه، و(الإشتراكية) تصبح مضغة في الأفواه، ويحكى عن تعارض إعادة توزيع الدخل ودعم السلع الضرورية مع اعتبارات الكفاءة من ناحية، ويضر بالتنمية من ناحية أخرى.
وزادت هذه المطالبات من (دولة) العالم الثالث تزايد شعور قادتها بثقل وطأة بعض الإستحقاقات لملحاحية تنفيذية بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط منظومة البلدان الإشتراكية في أوروبة الشرقية، وسقوط النظام السوفياتي وتفكك دوله وعودتها إلى داخل سياجات حدودها القومية. وإزاء ذلك أصبح على الدولة تقليص حجم الإنفاق على الجيوش تمهيداً لحلها، وأصبح على الدول أيضاً أن تقوم بواجبات ضد نفسها مباشرة خدمة لأهداف يتم تحقيقها تدريجياً حتى تبلغ هدف إلغاء الدولة بمواصفاتها ووظائفها وآليات حكمها الراهنة من جهة، وإقناع الناس بضرورة ذلك وبقلة حاجاتهم إليها اليوم. ومن جهة أخرى فإن على الدولة أن تسلم مهامها ووظائفها القديمة الواحدة بعد الأخرى، إلى الشركات العملاقة عابرة القارات أو المؤسسات الدولية التي تعمل لحساب هذه الشركات وتتكلم باسمها. ثم تبدأ بالظهور الملامح الأولى لصورة ( دولة ) عصر العولمة السائرة على" درب العولمة" نحو "المجتمع الليبرالي الأوحد" الموعود.
إن المظاهر الأولية العامة لصورة هذه ( الدولة ) التي يمكن استشراقها من المعطيات التي تفرضها العولمة اليوم، ومن الأيلولات المتوقعة لها؛ وكذلك من تأويلات تفاعلها وتأثيراتها، نرى أن لهذه الدولة كل المظاهر الخارجية للدولة ذات السيادة. ونراها على الصورة التي نعرفها بها هي تباشر صورياً كل المهام التي تقوم بها من قبل. ولكنها في الحقيقة تقوم بوظيفة تكاد تنحصر في وظيفة" الإجلاء والتسليم"، أي سحب يدها من كل ما كانت تضع يدها فيه من قبل وتسليمه للأجانب، مع القيام بالترويج لهذه الوظيفة والزعم بأنها تحقق المصلحة العامة، أي مصلحة الأمة بما فيها مصلحة الفقراء أيضاً. فهي مثلاً تبيع الشركات والمشروعات التي تأسست في عهد الدولة القوية، إلى الشركات الدولية العملاقة، ويسمى هذا" خصخصه أو تخصصيه"، أو اسماً آخر من هذا النوع لا يفصح عن هوية المشتري. وهي تسحب الدعم المقدم للفقراء وفق ما تسميه" تثبيتاً إقتصادياً. وهي كذلك تفتح أبواب الإستيراد على اتساعها لتحل السلع المستوردة محل السلع الوطنية، وتسمي ذلك" تكيفاً هيكلياً". وهي... وهي... إلخ.
إنها دولة حديثة بالفعل حتى وهي تحمل من المشابهات مع الدولة القديمة الكثير. إنها دولة جديدة حتى عندما وكأنها تبدو تقوم بمهام كانت قائمة في عهدها السابق، وتمارسها إضافة إلى المهام التي استحدث في وظائفها في عصر العولمة.
إنها" دولة نظريات النظام العولمي" ذات المهمات الخاصة والمختلفة التي: تفكك ولا تبني، لأن البناء ليس من مهمتها وإنما من مهام غيرها. وتسلم أهلها للأجنبي ليعمل بهم ما يشاء، ويتصرف بخيراتها ومقدراتها كيفما يشاء.
وأيا يكن اسم" الدولة الجديدة" فهو يمكن أن يكون إصطلاحياً ومؤقتاً. وأما الوظائف المقررة لها، والمهام الموكلة إليها فهي دائمة وعولمية. وأما حكوماتها فستظل برغم كل ما يمكن أن تتمتع به من ألقاب وصفات، كحكومات الدولة القوية السابقة أو الآيلة شموسها إلى الغروب ذات سمة استعداد عالية للفساد، ولتجاهل حكم القانون، وتغليب مصالح أفرادها الخاصة على المصلحة العامة. وستظل مفاهيم الولاءات فيها دونية ومتخلفة، وأسئلة الهويات بلا إجابات، وحتى عندما سيتوفر بعض هذه الإجابات سيكون ملتبساً أو غير محدد، وربما غامضاً في معظم الأحيان.
إن العولمة قد أحدثت بلا شك إنحساراً في بنية ووظيفة ودور الدولة التقليدي، من دون أن يعني ذلك أن الدولة المعاصرة ليست لديها وظائف جديدة مهمة ينبغي عليها القيام بها في خدمة المصالح المسيطرة التي هي في الأساس مصالح الشركات العملاقة عابرة القارات. وكذلك من دون أن يعني هذا الإنحسار أنه يحدث الآن لأول مرة، لأنه قد حدث منذ ظهور الدولة القومية قبل خمسة قرون. وإن حدوث الإنحسار في قوة وظيفة ودور الدولة، لا يعني أبدا أن المواصفات التي أصبحت تتمتع بها الدولة المعاصرة متطابقة أنّى كانت هذه الدولة متماثلة السمات ومتشابهة البنيات قبل الإنحسار وبعده. ثم إن ذلك لا يعني أبداً حتمية حدوث الإنحسار عند كل الصيغ الدولية في مختلف المناطق في مختلف القارات، وذلك لأن هناك استثناءات في أكثر من منطقة لم يحدث فيها التراجع، وربما لن يحدث لأنه لا لزوم لحدوثه حتى الآن. وإن منطقتنا أياً كان اسمها:" المنطقة العربية" أو"شرق المتوسط" أو"منطقة الشرق الأوسط" أو" منطقة الشرق أوسط الكبير" أو...، إلخ هي أحد أبرز الأمثلة النموذجية على مثل هذا الإستثناء. وذلك لأن دولة إسرائيل إحدى دول هذه المنطقة التي تعيش دولها تغيراً منظوراً أو متوقعاً، تحتفظ دولتها في واقعها المعاصر بنفس قوة دور دولة إسرائيل التقليدي. ويحتفظ جيشها بديمومة واستمرارية قوة عديده ويمارس مهام ووظائف ومسؤوليات الجيش الإسرائيلي منذ نشأته وحتى اليوم وتتدخل دولة إسرائيل في كل صغيرة وكبيرة تتصل بالإقتصاد والمجتمع أيضاً وفق مفهوم دور الدولة القومية ولا نتلقى أية توجيهات من البنك الدولي أو غيره من المؤسسات الدولية وتتمسك إسرائيل بأيديولوجيتها الصهيونية كهوية قومية وترفض الإنفتاح على الآخر، وتضحي بالإعتبارات الإقتصادية إذا تعارضت مع الأهداف السياسية، وتتمسك بالولاء التقليدي للأمة والوطن.
ووفق هذه التباينات والتعارضات لا بل والاختلافات مع الشروط الجديدة التي تطرحها العولمة لدلالات الوظيفة الجديدة للدولة بما يساعد على توفير الشروط المطلوبة لتشييد بنية النظام الكوني الجديد، فهل يمكن اعتبار دولة إسرائيل ضد العولمة، وأحد مكونات معارضة العولمة التي يجري الحديث عنها بشكل واسع ومتواز مع الحديث عن العولمة نفسها ؟!. الجواب هو بالنفي بكل تأكيد فدولة إسرائيل تقدم نفسها على إنها عضو في منظومة الشركاء المؤسسين للعولمة، لا بل وأحد أسيادها. وهي تمتلك مفهومها الخاص لكيفية استجابة المنطقة لنداء العولمة، والإنضواء تحت لواء العولمة والسير في ركبها ، وذلك عبر تصور" الشرق أوسطية" كأحد تجليات تفاعل الديمغرافيات الاثنية والعرفية لخلق جغرافيا هوياتيه مشتركة للجميع، محكومة بمفاهيم إيديولوجيا العولمة وتعمل على هدى قوانينها التي ستعتني بمهمة تهشيم الفوارق، وتكسير الحواجز، وتوسيع آفاق الإنفتاحات، وتغيير مسوغات الخضوع، وتجديد دلالة الولاءات والإنتساب الهوياتي.
وحيث أقنعت دولة إسرائيل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الأخرى المتشاركة في العولمة بأهمية تبني تصور" الشرق أوسطية"، والمساعدة على تجسيده كنموذج عولمي، بإقامة" الشرق أوسط الجديد" أو" الشرق أوسط الكبير"، فإنها أخذت تدعو الدول المحيطة للقبول بتصور" الشرق أوسطية" والإنضمام إلى عالم "الشرق أوسط الكبير" (أو الجديد) باعتباره أحد التكوينات الإقليمية للعالم الليبرالي الأوحد. واستخدمت دولة إسرائيل في دعوتها لهذا التصور العولمي، وللدفاع عن العولمة نفس الحجج والمسوغات التي اقترحها منظّروا العولمة للدعوة لها والتبشير بها: اعتبارات الكفاءة، رفع معدلات النمو، تنموية الخصخصة، مزايا التخصص وتقسيم العمل، إنتهاء عصر الأيديولوجيا، الإعتراف والإنفتاح بين"الأنا" و"الآخر"، خطأ التمسك بالولاء التقليدي لأمة أو وطن، مزايا وفوائد السلام، أضرار وخسائر الحروب، إنسانية التشارك الهوياتي بمساواة وعدالة وبدون تمييز... إلخ.

دولة البلدان العربية
تعتبر البلدان العربية وفق التقسيمات الإيكوبوليتيكية (الإقتصادية ـ السياسية) جزءاً من منظمة يلدان آسيا وإفريقيا. وتعتبر كل واحدة من دولها في البناء الهيكلي للبلدان المختلفة، نموذج توصيف لواقعها ولمستوى تطورها. ووسط الأسئلة والتوقعات عن مصير(دولة) العالم الثالث المعاصرة بعد التحولات العولمية المذهلة، وتسارع إندفاعاتها نحو هدف النظام الليبرالي الموعود، وما يحكى عن حتمية حدوث الإنحسار في دور بعض الدول المعاصرة، وتأكد الإستثناء من حتمية حدوث الإنحسار لدى بعضها الآخر؛ فماذا حدث وسيحدث للدولة القومية في البلدان العربية؟! وما هو شكل ومواصفات ومقومات الدولة المعاصرة في دول البلدان لعربية؟! وهل هناك من احتمال إلتغاء أو إنمحاء الدولة القومية في البلدان العربية ؟
ظلت البلدان العربية تفقد استقلالها الوطني تدريجياً منذ بداية الإقتدار الأوروبي على السيطرة على مركز التجارة العربية الدولية في النصف الأول من القرن السابع عشر وحتى أواخر الستينات من القرن الماضي؛ حيث إنتهى الحكم الإستعماري المباشر في هذه البلدان (ما عدا فلسطين طبعاً)، وأصبح يحل محله نموذج دولة يمكن أن تسميه "دولة البلدان لعربية". وكانت هذه الدولة تحمل صفات وسمات الدولة المتخلفة، وتتشابه معها في وظائفها؛ وفي الكيفيات التي تمارس به دورها الوظائفي في مجالات الحياة المختلفة. ودول البلدان العربية لا تختلف كثيراً عن بعضها البعض، سواء كان نظام الحكم فيها تقليدياً وراثياً، أو نظام حكم حركة تحرر وطني، فيما عدا إستثناءات بسيطة شكلانية وغير جوهرية وفي معظم الحالات شعاراتية. وان قسوة هذا الدور وطغيان حيثياته القهرية التي لا تزال ندوب جراحها ظاهرة في الحياة العربية وكذلك في الفكر العربي. وهي ماثلة حتى يومنا. ولا تستدعي بذل جهود بحث إسترجاعية للتعرف على بؤس ذلك الدور فآثاره قائمة حتى اليوم. وشعارات ( وحده، حرية، اشتراكية، سيادة، استقلال، محاربة العدو الصهيوني و تحرير فلسطين، الأمة العربية، القومية العربية... إلخ ) التي استخدمت ذرائعاً وتبريرات لاعتماد السياسات العربية التي انتهجتها (الدولة) أي دولة، برغم أنها لم تحقق منها شيئاً، لا تزال تردد وتسمح أحياناً في مناسبته وأخرى؛ وأكثر من ذلك أن بعض دول البلدان العربية تراها صالحة حتى الآن، برغم الزلزال السياسي الدولاني الذي أحاق بالعالم.
لقد منعت حقائق الواقع العربي التي كانت قائمة منذ بداية العقد الثاني من القرن العشرين، إضافة إلى تضافر الجهود الإستعمارية الأوروبية ضد تطلعات الشعوب العربية في الإستقلال والحرية والتطور؛ نجاح الثورة العربية الكبرى التي أطلقها الشريف الحسين بن علي في تلك الفترة، ففشلت أولى المحاولات لإقامة الدولة العربية الواحدة برئاسة الأمير فيصل في دمشق، وتعذر وجود البديل الدولاني التوحيدي العربي لأيلولة تقطع وسائط الإتصال العلاقاتية المشتركة المباشرة التي كانت قائمة إبان الإستعمار التركي؛ فتدشن نتيجة ذلك منذ حينها وحتى اليوم نظام" دولة البلدان العربية"، أي بمعنى: دولة، حدود، علم، نشيد، سياسة خارجية... إلخ. وكانت هذه (الدول) متفاوتة العلاقة بين بعضها البعض إلى الحد الذي كانت تصل فيه درجة التعادي والتلويح بالتحارب أو التدخل العسكري، وإعلان الحرب أيضاً. وكثيراً ما كانت تسوغ ذلك بدواعي" الوحدة العربية" !. ولكنها جميعها كانت تبرر السياسة التي تمكنها من احتفاظها بالسلطة، باعتبارات ترتيب الأولويات. فالديمقراطية والحريات والمشاركة الشعبية في إقرار السياسات ليست أولوية على تحرير فلسطين. وتحرير فلسطين يجعل الاتفاق على المجهود الحربي هو الأولوية وليس تحسين أحوال الشعب وزيادة رفاه المجتمع.
ونستدل من العودة الإطلاعية على وقائع العقود القليلة الماضية أن وظيفة (دولة) البلدان العربية في البلدان المستقلة قديماً أو حديثاً هي نفسها، سواءاً في سنوات الثورة الصناعية الثانية أو فيمرحلة الباردة التي انتهت منذ عقدين ونصف. ولا زال حكام بعض ( دول ) البلدان العربية يواصلون الحكم في بلدانهم وفق المفاهيم التي كانت سائدة خلالها.
كانت إنتسابات الحكم في هذه البلدان لخيار نمط الدولة (رغباتياً، ولا يتأسس على المواصفات المطلوب توفرها في كل خيار: ملكية، إماراتية، مشيخة،... إلخ، أو: جمهورية؛ رئاسية، برلمانية، عسكريتارية (مجلس قيادة الثورة)... إلخ. وكانت انتماءات النظام: رأسمالية، أو إسلامية، أو اشتراكية عربية، أو إشتراكية قومية، أو اشتراكية ديمقراطية... إلخ. وكان يجمع بين أنظمة الحكم على اختلاف إنتساباتها المبررة أم غير المبررة، سمة التفرد والاستبداد والنزوع إلى أزلية الحكم. وهي مشتركة بشكل فاضح التشدد في دول حركة التحرر الوطني العربية، وأقل منها في دول الملكيات الحديثة حيث تبدو أكثر قوننة وحضرنة وتمدناً وشفافية إزاء ردات الفعل المتوقعة على أشكال ممارسة هذه السياسة من الرأي العام وبعض الأوساط الدولية الحكومية والشعبية.
وبرغم كل ما قيل ويقال عن تغير وظيفة الدولة القومية يعد بزوغ فجر العولمة في مرحلة تألق الثورة الصناعية الثانية، وكذلك برغم ما يحكى عن إنحسار دور الدولة في مجالات الحياة المختلفة ،والآليات التي تمارس بها الدولة القومية وبضمنها (دولة) البلدان العربية وظيفتها، فإن معطيات الواقع في بعض البلدان العربية لا يوحي بحدوث ذلك؛ ويشير إلى رفض الإعتراف بحقيقة وقوعه إن حدث. فأنظمة الطوارئ لا زالت نافذة ومعمول بها في: سورية ومصر، برغم رفض منطق العصر لها، وتواصل المطالبة الشعبية بإلغائها. وما هو أكثر إيلاماً على هذا الصعيد أن انخراط هاتين الدولتين في التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001م قد اقترن بالتخلي عن المطالبة بوقف العمل بقانون لطوارئ/ و / أو تشريع قانون مكافحة الإرهاب والإرهاب الدولي في كلا البلدين بالاستناد إليه، والإستفادة من نتائج الأحكام التي صدرت بموجبه. وفي الجزائر واليمن برغم جمهورية أنظمتها، والالتزام بمبدأ الانتخابات البرلمانية واحترام نتائجها، فإن الجندرما العسكريتاريه تتمتع بسطوة ونفوذ في هذين البلدين، يؤخذان بعين الاعتبار حتى عند تشكيل الحكومات الجديدة على ضوء نتائج الانتخابات.
وما هو أشد مرارة من هذا وذاك أن مفهوم السيطرة على الحكم عن طريق الإنقلاب العسكري الذي راج منذ خمسينات القرن الماضي وانحسر إلى الحد الأدنى الذي أوحى بوجاهة الإعتقاد بتوقفه، عاد على الواجهة من جديد بنجاح الانقلاب العسكري في موريتانيا عام 2006م حيث تتألق تجليات العولمة في كل اتجاه بما في ذلك البلدان العربية. ونرجو أن لا يكون نجاح الانقلاب العسكري في موريتانيا عام 2008م واستيلاء العسكر على مقاليد الحكم فيها تكريساُ لاستمرارية هذا النهج.
وتدل معطيات الإستقراءات البحتية عن علاقة البلدان العربية بتجليات العولمة ومثولياتها في مجالات الحياة المختلفة والمعبر عنها في قبول المنتجات غير العربية بما فيها التقنيات (والتي هي أغلب إحتياجات الحياة، لأن علاقة العرب بالعولمة هي علاقة متلقى استهلاكي غير مشارك)، وإنتقائية الاكتساب المعرفي أي" الثراء الفكري في مفهوم القرن الثامن عشر الأوروبي"، الذي يعتبر "المثقف" في ضوءه "الإنسان الواسع الإطلاع في مجالات الأدب والعلم والفكر والمعارف، والقادر بالتالي على استخدام العقل وعلى الإكتشاف والإبداع". كما أن الثقافة وفق هذا" المفهوم العظيم" ليست أنماطاً بعينها، كما أنها ليست قوالب معرفية جاهزة، بقدر ما هي تهيئ وقابلية وقدرة على الفهم والإدراك.
وتتأسس هذه الإنتقائية التي غالباً ما تكون: غير ضرورية، أو غير صحية، أو ليس بحاجة إليها الآن، أو... إلخ، على عدد من الأسباب تتصل بمجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية أيضاً. وأن أبرز هذه الأسباب هو التوهان الهوياتي والإعتداد الزائف بثقافة غابرة والإفتخار الأجوف بالإنتسابات الهوياتية: القومية والدينية التي هي في معظم الأحيان نقليه لا عقلية، وإفتراضية في جوانب كثيرة دائماً.
وبسبب هذا التوهان الهوياتي وإستهلاكية المشاركة، لم تحظ ( دولة ) البلدان العربية بموطئ قدم على الخط الفاصل بين المنتج والطفيلي في بنية الهيكل العولمي. وهذا يعني ببساطة أن خطر الإنمحاء إن لم يكن ماثلاً مهدداً لهذه (الدولة) فهو إحتمالي متوعد. وهذا ما جعل (دولة) البلدان العربية تواجه هذه الخطورة بمفاهيم خطاب خشبي أفل نجم زمانه، وتستمد مسوغاتها من واجبات حماية الهويات والتمسك بالإنتسابات وفق منظومة من المفاهيم لا يستقيم معها المنطق، لأنها تنطلق من اعتبار الثقافة طريقة وكيفية تحديد لنمط معين وأسلوب في الحياة. وبما يعني أن الثقافة مجموعة معقدة من العناصر المتشابكة المتكاملة القائمة على عادات وتقاليد، وعلوم وفنون، ومعتقدات وأخلاق وقوانين.
وجعل المدافعون عن حياض الإنتسابات والهويات في عصر يتجه نحو حماية الخصوصيات والتنوع الثقافي في إطار الهوية العولمية الواحدة، من التمسك بالثقافة العربية المستمدة من المنطق الخشبي، دريئة لحماية" الثقافة العربية"، وسلاحاً للدفاع عن التراث والتاريخ والدين و... إلخ. والمأساوي الذي يبرهن على درجة القصور في الفهم والإستشراف (العربي) هو أن الثقافة العربية التي يخافون عليها هي تلك المقصود بها ثقافة الأربعة عشر قرناً الماضية التي تسكن أرواحنا وعقولنا، والتي تقبع في أعماق ذواتنا. وهي ليست" ثقافة الآن وهنا" التي نعايشها وتعايشنا وتكّون بعضاً من ذاتنا وردود فعلنا اليومية وسلوكنا. وهي أيضاً ليست ثقافة الغد المأمولة القادمة من رحم المستقبل.
لقد انحصر مفهوم الثقافة العربية طوال عقود من العقم والتيه، في إشكالية التراث والحداثة. وفي راهن الأيام من عصر العولمة أصبح الإنخراط في الحداثة عند أتباع "راية التراث قيمة أمثل ومرجعاً أوحد"، هو تبعية للغرب. وأما التراث عند أتباع "الحداثة والقطعية مع الماضي" فيعني الماضويه والتخلف عن ركب المعاصرة. وفي أيامنا حيث يتساكن في نفس الفضاء، الإثنان معاً: الحداثة والماضوية، فهذا يوحي بشكل أو بآخر وكأن ليس من وظيفة الدولة في ذلك. لا بل ويلاحظ ما هو أبعد من ذلك في هذا الاتجاه. فدولة البلدان العربية حداثية مدنية، متنوعة الأسواق ومتعددة الأذواق. وتظهر فيها مستويات عديدة من تجليات العولمة في: الإقتصاد، والإدارة، والسياسة، والتعليم، والصحة، والخدمات، والثقافة، والإجتماع، والتشريعات والقوانين والمحاكم، و.... إلخ، ودولة البلدان العربية تصرخ جهاراً نهاراً بأنها" وطنية – فلسطينية، أردنية، مصرية،... إلخ" وبأنها" عربية"، وبأنها" إسلامية" أيضاً. وهي (أي دولة البلدان العربية) إذ تبدوا غير خائفة من ازدواجية الموقف في الموقع نفسه، فإننا لا نلحظ نقداً صارخاً ومرفوضاً لهذه الإزدواجية من البلدان الغربية. وإذا كان لا بد من النقد الغربي لهذه الازدواجية فغالباً ما يكون خفيفاً ودعابياً.
وتسوق هذه المعطيات إلى الإعتقاد بأن مفهوم إنحسار ثم تلاشي الدور التقليدي للدولة، ليحل محله دور آخر في الوظائف الجديدة للدولة في عصر العولمة، لم تتأهل له جميع الدول بعد. ثم إن الوظيفة التقليدية المنوطة بـ ( دولة ) البلدان العربية لم تنته بعد، شأنها في ذلك شأن العديد من بلدان العالم الثالث. حيث ترى الدول الرأسمالية ومعها الولايات المتحدة الأمريكية أنه لا يزال لهذه (الدول) دوراً مهماً في هذه المرحلة أيضاً ويتمثل في اتجاهات كثيرة، أهمها: تهيئة المناخ الآمن وإلى اقتصاد السوق، والقيام بأعمال الخصخصة. كما أن الدول الرأسمالية تريد من دول العالم الثالث وبضمنها دول البلدان العربية أن تكون شديدة وحازمة في قمع شعوبها، وقوية وحاسمة في محاربة الإرهاب. وهي تريد من (دول) البلدان العربية أن تحتفظ بقوتها التقليدية التي تمكنها من القدرة على التوقيع على معاهدة السلام العربية – الإسرائيلية التاريخية عندما يأزف موعدها.
وستظل ( دولة ) البلدان العربية تحتفظ بهذه الوظيفة التقليدية، وستقوم بالأدوار اللازمة لأداء هذه الوظيفة حتى تنتفي مسوغات الإستمرارية بزوال الأسباب الدافعة لها.
إن تفسير الوقائع وتحليل المعطيات المنظورة في الواقع العربي، و ما يمكن أن يتمخض عنه من دلالات يشير على هزال وضعف دولة البلدان العربية، وأحياناً تبعيتها الوظائفية كما ذكرنا سابقاً؛ وفي هذا ما يبدو قاسياً، وفيه من التعسف شيئاً. حيث يظهر هذه الدولة وكأنها بدائية الإدارة وعديمة التنظيم وخارج أطر التخطيط، في حين أن وقائع سيرتها التاريخية خلال الخمسين سنة الأخيرة تدلنا على أنها اعتمدت أنماطاً للتنمية ارتكزت في معظمها على النموذج المركزي للتخطيط، و(الاشتراكي!) في توزيع الثروة والحمائي في الحفاظ على الصناعات الوطنية. وقد تكون درجة الانحراف عن هذا النموذج إن وجدت بسيطة، وتختلف بين دولة وأخرى. ولا تزال معظم هذه النماذج سائدة في عدد من (دول) البلدان العربية في أيامنا الحاضرة.
وكانت النتيجة المباشرة لاعتماد هذه الأنماط ومراعاة الإشتراطات المطلوب اعتبارها، بسبب دور العوامل الجانبية أو الفرعية أو التأثيرية التي تتصل بهذه الأنماط، قد انعكست في جملة من المؤشرات تساعدنا على تبين واقع تطور (دولة) البلدان العربية وكذلك استطلاع آفاقة في مراحل عصر العولمة أيضاً. وإن من أهم هذه المؤشرات: نمو في معدلات زيادة عدد السكان يفوق غيره في بلدان العالم الأخرى بما فيها بلدان العالم الثالث، وتدني متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو المستويات الأكثر إنخفاضاً في العالم، (يستثنى من ذلك دول الخليج )، وارتفاع عال ورهيب في نسبة الأمية، وهزال تأثير البرامج المخصصة لمحو الأمية في تخفيض نسبة ارتفاعها؛ وهذا يعني فشل السياسات العربية المكرسة لمعالجتها. وتضاؤل نسبة التخصيصات المالية للإنفاق على التعليم والصحة من إجمالي الإنفاق الحكومي في كثير من البلدان العربية، وازدياد إجمالي الديون الخارجية لمعظم البلدان العربية.
وتدل هذه المؤشرات على أن التخطيط التنموي الذي اعتمدته البلدان العربية لا يحقق التنمية وإنما الفقر والجهل والتخلف وإن بدرجة متفاوتة بين دولة وأخرى؛ ويكرس مفهوم سياسة الخضوع للقهر السياسي. فلا النمط الرسمي للتنمية كانت نتائجه إيجابية، ولا الآلية التي اعتمدت الدعوة للتكامل والقومية أحدثت تكاملاً حقيقياً للشعوب العربية أو حلت الخلافات ومنعت من التصارعات بين الدول العربية، ولا أصبحت إقتصادات البلدان العربية في معظمها اقتصادات متكاملة، لأن هذه الإقتصادات ظلت على نفس صورتها اقتصادات تنافسية بديلة، يشهد أغلبها اختلالات هيكلية تتمثل في اعتماد معظمها على سلعة واحدة أو عدد قليل جداً من السلع؛ لا يمكن أن ترتقي بمعدل التنمية على المدى الطويل أو تحقيق الإستقرار في المدى القريب.
وأمام (دولة) البلدان العربية التي هي على هذه الصورة هل هناك إمكانية لحدوث تغير في وظيفتها، بما في ذلك التقليدية؛ ما دامت معطيات اندفاعات تقدم تشير إلى استثناءات دول وشعوب كثيرة في العالم الثالث وفي البلدان العربية تحديداً من مسارات تشكلها وتهيكلها معاً؟!.
إن وظيفة ( دول ) البلدان العربية حتى وهي على هذه الصورة التي هي عليها الآن، لأزمة للتعامل مع من يُحتمل إستعصاء إستيعابه على العولمة؛ بسبب عدم وجود أي حيثية فيه لها ما يشبهها في تكوينات بناء العولمة وتجليات مفاهيمها.
وفي هذا السياق يبدو حماس الدعوة العربية للإنخراط في العولمة حماقة، وتكون أشكال الرفض المسبق لكل ما يمكن أن يأتي من الغرب عباطة، لأن هذا الرفض لن يخلق بالضرورة قوى دفع ذاتية تساهم في تحسين حياة الشعوب العربية؛ وفي تعديل نظمها السياسية بما يتوافق وتطلعاتها. كما أن الإنفتاح الكامل على الغرب واللهاث وراء أطياف العولمة لن يؤدي إلى التنمية المنشودة، ولن يوصل إلى الدور المأمول للدولة المرجوة ولكن حتى لو كانت النتائج المنتظرة لن تبتعد عن ذلك إلا نحو ما هو أسوأ، فهل سيكون الموقف المطلوب من الشعوب العربية أن ترفض ما تعد به العولمة في محطتها العربية على طريق تقدمها نحو النظام الليبرالي الموعود؛ انطلاقاً من عدم الثقة بمسوغات الوعود. لأن الحرية ستكون بالضرورة شكلية، ولإن التخطيط للتنمية سيكون لصالح الشركات الكبرى، وإن الديمقراطية ستكون صورية.
إن مثل هذه التوقعات فيها قسط كبير من الوجاهة. ولكن ما هو ليس بوجيه أيداً رؤيتها من جانب واحد، وتحديد موقف رفضوي منها على ضوء هذه الرؤية الأحادية. وما هو سفيه على هذا الصعيد التشبت بهذا الأسلوب السلبي في التعامل مع منطلقات العولمة دون الاستفادة من خبرة دول أخرى تعاملت بعقلانية وعلم مع هذه المنطلقات. فتجاوزت موضوع حماية نفسها من خطر الإندفاعات العولمية المتسارعة والشديدة الخطورة، إلى خلق مفردات استفادة من منطلقات العولمة؛ حققت معدلات نمو فعلي تُرى اليوم حقائق ماثلة في دول شرق آسيا والصين.
إن دولة البلدان العربية تقف اليوم وأكثر من أي وقت مضى أمام لحظة الإختيار المصيري بالنسبة لكل واحدة منها على حده، وكذلك بالنسبة لها ولمن هو على شاكلتها من دول العالم الثالث على المستوى الإقليمي. أي القبول بالإنخراط في مسار العولمة في الموقع والدرجة التي تستأهلها، بالإعتماد على المستوى الذي تتمتع به في مجال النمو والتقنية من جهة، والإستعداد لتغيير وظيفتها التقليدية ودورها الأدائي إلى وظيفة جديدة ودور مختلف تستدعيه اشتراطات الإنخراط إلى الإنتسابات العولمية، من جهة أخرى. وإذا لم يكن في استطاعة دول البلدان العربية القيام بذلك تفصيلياً وإستراتيجياً، فإن هذه الدولة ستحتفظ بوظيفتها التقليدية إلى حين لم يعد لمثل هذه الوظيفة من ضرورة، وسيكون يومذاك إنتقاء لأية ضرورات لوجود مثل هذه الدول.
إن دولة البلدان العربية يجب أن تتجهز ذاتياً للقبول باستحقاقات خيار مغادرة الوظيفة التقليدية نحو الدولة المعاصرة ووظيفتها والآليات التي ستؤدي بواسطتها هذا الدور. وتحتاج دول البلدان العربية لبلوغ هذه الإستطاعة إتخاذ قرارات حاسمة بشكل واضح تتصل بتابوات الإنتماءات الإنتسابية غير القابلة للإتصال بالمعاصرة التي أصبحت شرط الوجود الكينوني لكل أشكال الإنتسابات والانتماءات والولاءات: العرقية والإثينية والحداثية والتقليدية والمحافظة السلفية و... إلخ.
إن تمسك دولة البلدان العربية بالإنتساب القومي المشهور على مدى سني القرن الماضي، والقائم على وجود أمة عربية"وفق مفهوم فكري مختلف في بنيته التكونية عن المفهوم الفكري المتعارف عليه علمياً للأمة، ولمقومات وجودها وعناصر تكوينها، وقد ثبت ــــ وسقطت محتولات تجاربه التطبيقية، بدءاً من المحاولة الصادقة للشريف الحسين بن علي لإقامة الدولة العربية سنة 1916م، ومروراً بكل نمطيات وأشكال محاولة إقامة دولة الوحدة أو الإتحاد بداءً من خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم، كدولة الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958 م، وقبلها دولة الإتحاد العربي بين العراق والأردن في الخمسينات. ثم وحدات واتحادات ليبيا مع مصر وبلدان عربية مغاربية منذ سبعينيات القرن الماضي، بما فيها دولة الإتحاد المغاربي التي ولدت فكرتها ميتة أصلاً. ثم ما كلفته وحدة اليمن من دماء وعذابات ودمار وحروب أهلية مدمرة تعاني اليمن آثارها ونتائجها حتى اليوم. وما هو أكثر من ذلك أن الدعوات الوحدوية العربية بين دول البلدان العربية طيلة العقود الماضية، كانت تتساكن في نفس المكان مع مجموعة من الوقائع والمعطيات من صنع الأطراف (القومية) نفسها: دولاً وأحزاباً ومنظمات واتجاهات وتكتلات، تعارض هذه الدعوات أو تشير إلى عدم جديتها. ولا تتردد نفس الأطراف من الإيحاء إلى ما يفيد بأن الفكر القومي والعمل القومي يواجهان تراجعاً يطال موضوعة" وجود الأمة العربية" في الأساس ويسخّف فكرة" دولة الوحدة العربية". ويمكن أن يذكر في هذا السياق: خلافات الناصرية مع حركة القوميين العرب حينا وتصالحهما أحياناً، وخلافات الناصريين والبعثيين والقوميين العرب مع الحركات القومية الديمقراطية والليبرالية التي نشأت في بعض البلدان العربية منذ سبعينات القرن الماضي، وكذلك خلاف هذه الكتل القومية الرئيسة الثلاث مع حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وفصائل فلسطينية أخرى حول برنامج" تحرير فلسطين" لأن الأنظمة القومية لا تريده إلا من خلال برامجها وتحت وصايتها، ثم خلافات وتصارع وتحارب الأحزاب القومية مع نفسها: بعث سورية وبعث العراق، القذافية والاتجاهات الناصرية في البلدان العربية الأخرى. ثم ما هو أسوأ من كل ذلك نهج التوحيد بالحسم العسكري، كغزو العراق للكويت، ثم إقامة دولة الوحدة بين اليمنيين الشمالي والجنوبي.
وفي هذا السياق لا يجوز اعتبار الانشغال بتأكيد الانتماء القومي العربي لدول: السودان، والصومال، وأريتريا، وجيبوتي، وجزر القمر، مبررأ مقبولاً لمواقف دول البلدان العربية من الحرب الإيرانية – العراقية، ومن الحرب الأمريكية – الدولية على العراق في مرحليتها الأولى والثانية، التي تكللت بسقوط النظام السياسي القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي دون أن يرف جفن أي من عيني جناح حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في دمشق.
وفي مسيرة علاقة دول الاتجاهات القومية العربية مع القضية الفلسطينية الكثير من مواقف التناقض مع دعوة العمل القومي، وكذلك التعارض مع الفكر القومي العربي، التي كانت تبدو في أحايين كثيرة معادية للشعب الفلسطيني وقيادته الفلسطينية المستقلة ولبرنامجه التحرري، أكثر من عداءها لإسرائيل؛ وفي هذا السياق ما يؤكد على شعارية" الأمة العربية" وخواء مضمون" القومية العربية".
إن تمسك ( دولة ) البلدان العربية بالإنتسابات الوراثية الإفتخارية والتحصن وراءها، هرباً من مواجهة تجليات العولمة الصارخة المثول في كل مجالات الحياة، لن يديم طويلاً إستمرارية بقاء هذه الدولة حتى عندما يكون مطلوباً منها متابعة نفس الوظيفة التقليدية. وسيجعلها في حالة انتظار دائم للمصير المحتوم.
إن (دولة) البلدان العربية إذا لم تتمثل روح العصر ومتطلباته؛ وتتأهل للإنخراط في آلياته، ستظل كما هي عليه اليوم باهتة، ولن يكون لها أي قيمة حتى لو انضمت إلى تيار رفض ومواجهة العولمة. لأن لعضوية هذا التيار اشتراطات حدها الأدنى لم تتأهل له هذه الدولة بعد، إذ أن من بين هذه الإشتراطات إمتلاك أسلحة ذات أثر يمكن استخدامها في معركة مواجهة العولمة. وحتى لو تساهلت إطارات تيار مقاومة العولمة في اعتبار (دول) البلدان العربية جزءاً، فإن هذه الدول وشعوبها لن يتعدى دورها في هذه المعركة شرف المشاركة الذي نأمل أن تبلور من خلاله ما يساعدها على إرضاء ذاتها والشعور بأنها حققت إنتصاراً في مواجهة العولمة، حتى عندما يكون هذا الانتصار مزاعمياً افتخارياً لا يتجاوز مقولة" رفض الشيء اعتراف بوجوده"، حيث سيرون وفق هذه المقولة أن التساؤل عن وجود" الأمة العربية" في حد ذاته يحمل جانباً مشرقاً يتأطر في رؤية فكرة الوحدة العربية من منظور سياسي، بما يعني اعترافاً صريحاً ولو من هذا الجانب، بها وهذا يعتبر في ضوء العجز والمكانة اللاوزنية التي تمتع بها (دولة) البلدان العربية في معادلة إصطفافات القوى إبان الحرب الباردة وفي تكوينة البنيويات التركيبية لهيكلية نظام العولمة، من جانب أرباب هذه الدول وسادتها أن" الأمة" العربية قد كسبت معركة الأفكار وبرهنت على جدواها ومغزاها الحضاري. وإن الخطاب المحبط والمثبط الذي يرتكز على الإعتقاد باستحالة تحققها قد مُني بهزلية فكرية ساحقة بعد المتغيرات الدولية التي أنتجها إنتهاء الحرب الباردة.
أعتقد أن الحديث عن" الإنتصارات" العربية الفكرية (على الأقل) في ضوء حقائق الواقع المعاش هو أشد أنواع الكلام هراءاً. والحديث عن "الأمة العربية" و" القومية العربية" و"الوحدة العربية" كضرورة لم يستطع النظام الدولي ولن يستطع النظام العولمي تجاهلها أو القفز عنها باعتبارها، والأيلولات الكيانية التي يمكن تنتجها مكوناً سياسياً لا تستقيم بنية النظام الكوني بدونه أو بتغييبه، ليس رغاءاً فحسب وإنما خرافة أيضاً. وهنا اريد أن اذكر هؤلاء الدونكيشوتيين من بعض سادة دول البلدان العربية، الذين لم يلتقطوا أو يستشرفوا حتى الآن، أن اندفاعات العولمة توحي بان استمراريتهم المتواصلة حتى الآن لا تتأسس على صوابية أطروحاتهم حول "القومية العربية"، ولا على برامج" الرفض" و" الممانعة" و" الحق الإلهي" و" النصر الإلهي" و" قدرية وجودهم الإلهية؛ وإنما لان برنامج أيلولات الدول القومية في عصر العولمة هم غير مؤهلين للإنضواء. وانضواءهم يحتاج إلى ابتكار آليات خاصة بهم يمكن أن يستعان بها على هذا الصعيد. فحيث يفرض برنامج الأيلولات العولمية تكسير الأسوار وهدم الجدران وتعولم الحدود ضمان التواصل وتسييح المساحات الجغرافية على بعضها لتؤول المنطقة إلى الإقليم، والأقاليم إلى القارات، والقارات إلى الكونية؛ وهذا ما أخذت بحشده العولمة تدريجياً. إن الشعوب العربية غير مسؤولة عن عدم أهلية دولة البلدان العربية لمسار العولمية، لأن أنظمتها السياسية هي السبب ولكن الخط الذي يهدد هذه البلدان ستعاني من الشعوب العربية، لأن الاستعداد للتماثل مع الاشاراطات العولمية، سيوصلنا إلى ضع نجد فيه أن على دولة البلدان العربية أن تمر بايلولة أخرى قبل ذلك، وهي تفسيخ الدولة إذا كان في ــــ القائمة ما يستوجب ذلك، وحيث سيجري تجزئتها إلى دول وفق موجبات تحتفل بها أحشاؤها التكوينية كالقومية والإثنية واللغة والدين والطائفة والمذهب واللون، و.... إلخ، وهي قد شرعت بذلك فعلاً في دول عديدة من العالم العربي: إقامة إمارة إنفصالية إسلامية في غزة بفلسطين وتقسيم السودان إلى دولة دارفور، ودولة الجنوب، ودولة الشرق... إلخ. والحديث عن تقسيم العراق (دولة كردستان في الشمال ودولة السنة في الأنبار وبعض الوسط، ودولة الشيعة في بعض الوسط والجنوب، وترويج فكرة نسخ النموذج المقترح للعراق في لبنان ( أي أقامة ثلاث دول طائفية واحدة للشيعة وأخرى للسنة وثالثة للموارنة المسيحيين)؛ وكذلك الحال في سورية عبر تقسيمها إلى كيانات للسنة والعلويين والأكراد... إلخ. وتبديد مركزية دولة مصر إلى كيانات للعرب والأقباط والنوبيين والبربر. وتشير متابعة أحداث العقد الحالي إلى أن خطر التقسيم يتهدد كذلك السعودية واليمن بواسطة نفخ الإنتسابات الجهوية والطائفية والمذهبية، وتأجج النعرات المتصلة بها لتتحول تدريجياً إلى مفاعيل تفرقة وانقسام وتحارب لا يتوقف إلا بالانفصال كيانياًٍ عن بعضها البعض.
وتشير هذه المتابعات إلى أن الخطر نفسه داهم في الجزائر، وربما هو موجود ولكنه ساكن والمغرب وتونس وليبيا لاعتبارات تتعلق بصراع الإنتسابات القومية واللغوية، حيث يسود في كل واحدة من هذه الدول قوميتنان، أولهما القومية العربية ولغتها العربية وهي القومية الحاكمة والمسيطرة على مقاليج السلطات جميعها، وتقهر القومية الأمازيغية أي القومية الثانية برغم أنها قومية السكان الأصليين لهذه الدول. وتحرم الامازيغيين من ممارسة أي حق من حقوقهم الثابتة بما فيها الحقوق الثقافية.
إن ضرورة مرور دول البلدان العربية في الصف التمهيدي قبل الأول في منظومة هرم نظام العولمة، لا يراد منه كما يفسر أصحاب الخطاب القومي الخشبي، نفي وجود" الأمة العربية" وعبث الدعوة " للوحدة العربية"؛ وذلك لأن الموقف من كل منهما قديم ويعود إلى أواسط القرن التاسع عشر، ولكن هذا المرور تأسيسي بنيوي يتصل بتأهيل دول البدان العربية بمعنى المواطنة والحقوق والآخر والإنتسابات الهوياتية في دفيئات بيوريتانية الانتماء العرقي والقومي والإثني في مساحة جغرافية محددة، ثم دفعها بعد التأهل للانفتاح الاندماجي بالإقليم تمهيداً لإنتقالها إلى رحابة عالم العولمة.
ويبدو أن المرور بهذه المحطة إجباري ولا مفر منه، برغم ما يمكن أن يكون فيه من مرارات وصدمات قاسية تتجاوز الأفراد والمجموعات إلى الشعوب العربية وأنظمة دولها المختلفة. وهي بالتحديد ليست كيدية أو قصدية تنطلق من ضغائن عدائية للعرب وللفكر والعمل العربي؛ وإنما بسبب استحقاقات العولمة ليس إلا.
إن ما يعجب بعض شعوب البلدان العربية تسميته" الفكر القومي العربي" كان عرضة على الدوام للنفي والإنكار من التيارات الفكرية اليمينية واليسارية على حد سواء. فالإسلام السياسي وقطبه" جماعة الإخوان المسلمين" وما خرج من تحت جبته السوداء من اتجاهات ومنظمات وأحزاب إسلامية لاحقة، يرفض ويعادي كل الأفكار غير الإسلامية، السماوية والوضعية، ويتجهز دائماً للإنقضاض عليها كلما لاحت الفرصة المواتية لذلك، في أي مكان وزمان. ونجد تعبيرات هذا الفكر الإسلامي في موقفه من حركة النهضة والمطالبة بالاستقلال والانفصال عن الدولة التركية في بداية القرن الماضي، ثم في المواقف السلبية للتوجهات الإسلامية السياسية التي توالدت في البلدان العربية إبان خضوعها للإستعمارين البريطاني والفرنسي، قبل قيام الجماعة كتنظيم سياسي سنة 1928م، في مواجهة النتائج التي ستترتب على قيام كمال أتاتورك بإنهاء دولة الخلافة الإسلامية وإقامة الجمهورية التركية، كدولة علمانية حداثية سنة 1922 م، وإعلان دستور سنة 1923م في مصر، الذي يؤسس لبناء دولة مصرية حداثية مدنية.
ويتجلّى ذلك الموقف الإسلامي السياسي في البرامج التي اعتمدتها جماعة الأخوان المسلمين وامتداداتها العربية وتفريعاتها الدولية في مراحل الكفاح اللاحقة من اجل التحرر والاستقلال الوطني والتطور والتقدم الاجتماعي وكذلك موقفها من قوى وفصائل وأحزاب هذا الكفاح ،بما فيها فصائل الكفاح المسلح الفلسطيني من أجل تحرير فلسطين الذي فجرته حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فاح) بتاريخ 1/1/1965م.
تتبنّى اليمين الإسلامي موفقاً عدائياً منذ البداية ضد فكرة" الوحدة العربية" و" الأمة العربية" و"الكفاح الوطني" و" الكفاح القومي" و" الكفاح الطبقي" إرتكازاً على موقف عقدي ينهله من العقيدة الإسلامية التي تدعو إلى فكرة" الأمة الإسلامية" و"الوحدة الإسلامية" و"الجهادية" و"الإخوة الإسلامية" كبديل نقيضي لمنطلقات ودعوات الفكر الوطني الذي ينضوي في كنفه الفكر اليساري الذي يشتمل على الفكر القومي" أحياناً. وحبذ اليمين الإسلامي لمعركته العدوانية الضارية على الفكر المغاير له حشداً من الآيات القرآنية المنتقاة وترسانة من الآيات القرآنية المجتزأة والمسحوبة من سياقها، وافتعل لها تأويلاً أيديولوجياً يتناسب وأهداف أطروحاته وتبرير موقفه العدائي للفكر غير الإسلامي: السياسي والإقتصادي، والاجتماعي، والثقافي وغيرها. واستخدم في هذه المعركة إضافة للأسلحة التي يمتلكها، الجوامع والمساجد، والمدارس والمعاهد التعليمية الدينية التي يجب أن تنزه عن الصراعات؛ لأن وظيفتها تسهيل وأداء فرائض الدين والعبادة، ثم إن وظيفة المدارس والكليات تعليم أصول وفقه الدين والشريعة إلى جانب العلوم الأخرى.
ولم تتورع القوى الدينية عن المزاوجة في هذه المعركة الدائمة بين نصوص المقدس ورموزه. وهذا الأمر وفر للخطاب الإسلامي نفسه طريقاً مختصرة تتجنب مسالك الجدل والحوار العقلاني في سبيل اجتذاب أعداد متزايدة إلى صفوف الاتجاه الإسلامي على اختلاف أطره. كما وضعت هذه المزاوجة بين أيدي قادة التنظيمات الإسلامية وخصوصاً جماعة الأخوان المسلمين وإستنساخاتهم – في فلسطين حماس مثلاً – حزمة إتهامات تربط الفكر الوطني والقومي و اليساري بالعصبية والجاهلية النتنة من جهة بالعلمانية كتعبير عن الإلحاد والعداء للدين من جهة أخرى. ووجدت قوى اليمين الإسلامي في حملتها على اليسار كل عون من أنظمة دول البلدان العربية. وبدت كما لو أنها متخالفة مع اليمين الإسلامي أو تخوض المعركة ضد اليسار بالنيابة عنه. ولم يدر في خلد هذه الأنظمة أن حليفها هو الذي يكسر رجلها عندما يطلب منها السير في ركب نظام العولمة، ولن يأبه هذا الحليف الإسلامي حتى لانتهاء هذه الدول. وإن اليسار الذي تعتبره بعض أنظمة البلدان العربية عدوها هو الذي سيأخذ بيدها ما أمكن ذلك وسيساعدها على مواكبة المعاصرة والانخراط في نظام العولمة.
وما هو أكثر من ذلك أن الإرتيابات الدولية في أهلية دول البلدان العربية ترجع في بعض منها إلى تاريخية إنحياز الأنظمة السياسية في هذه الدول إلى القوى اليمينية الإسلامية في معادلة معاداة اليسار العربي، بما فيه الأحزاب الشيوعية العربية إشراك القوى الإسلامية معها في السلطة. وأكثر من ذلك أن الأنظمة (دأبت على ممالئة القوى الإسلامية إلى الجد الذي توافقت فيه معها على عداء اليسار والانخراط في الحرب ضده خارج الإقليم العربي. وفي إطار ذلك كان تسهيل ومساعدة وتمويل بعض أنظمة البلدان العربية" غزو المجاهدين العرب لمواقع الكفار السوفييت في أفغانستان دعماً للمقاومة الإسلامية الأفغانية. فكان أخيراً "الأفغان العرب" وكانت" القاعدة" وكان" بن لادن" وكان الإرهاب الإسلامي الذي يطيال خطره جميع دول العالم بما فيها البلدان العربية. وكان الموقف الدولي من دول البلدان العربية الذي لن يعترض على تفتيتها وتبديدها وتشطيرها إلى دول تفوق في مجموعها ضعف أعدادها الراهنة بكثير، وذلك تمهيداً لتأهيلها من اجل الانتقال إلى مفهوم العالم الجديد والانخراط فيه وفق مفاهيمه العصرية وليس بالمفاهيم الدينية الأصولية والسلفية والقومية المزاعمية.
إن المطلوب من دولة البلدان العربية في المرحلة الحالية التأمل في حصاد السنوات السابقة والتفكير في كيفية الخروج من مأزق اللاتنمية أو التنمية الصورية التي عشناها في ظل مفاهيم أيديولوجية لم تعزز إلا واقعاً صعباً يمثل مرجعية لكل أشكال المعاناة والمراوحة والتردد التي نعيشها اليوم، وكذلك لكل حالات الذهول والاندهاش أمام ما يحيط بظهرانينا من عظمة إنتاج الدول الصناعية.
وقد آن لدولة البلدان العربية أن تدرك وبشكل قطعي أن عليها الانفتاح على المعاصرة وعلى ما يشهده العالم للتعرف عليه وبلوغ كيفيات الإندماج فيه والاستجابة لاستحقاقات هذا الاندماج، وخصوصاً فيما يتصل بوظيفة الدولة ودورها والتحول المطلوب فيه، تحديداً في مجالات:
- إعادة التوازن بين القطاعين العام والخاص، وإعادة الإعتبار لمفاهيم الكفاءة الإقتصادية والإدارية في استثمار الموارد. وتشجيع القطاع الخاص (المحلي أو المتشارك مع رأس المال الأجنبي ) للعب دور فعلي؛ والإقلاع عن الانزواء خلف الحماية الحكومية والإدعاء بهيمنة الدولة. وإن هذا الأمر غير ممكن من دون اعتماد الحكومة سياسة تخفيض قيود التخطيط المركزي، وتدعيم آليات السوق الحرة.
- تعظيم الإنفاق على التعليم والاستفادة مخرجاته التعليم والاهتمام بحسن توجيههاً، وكذلك الاستفادة من ظاهرة تبادل المعلومات والأفكار وتطور التكنولوجيا إلى الحد الأقصى الممكن؛ وتوظيف ذلك جميعه في خدمة دعم الإنتاج وتطويره.
- تهيئة المواطنين لدور ينتظرهم للمشاركة في اقتصاد العولمة. وهذا يتطلب من دول البلدان العربية رفع مستوى الكفاءة المهنية للعمال عن طريق التدريب والتأهيل النقابي. وهذا هو الأسلوب الوحيد لمساعدة الدولة في الضغط على الشركات الكبرى لاستيعاب العمال المحليين.
- خلق آليات إستفادة الإقتصاد المحلي من تخفيض حدود حرية انتقال رؤوس الأموال إليها، وتخفيض الضرائب على منتجاتها على الأقل في السوق العربي.
- وقف المبالغة في الخوف من انتهاء الثقافة العربية بسبب التأثيرات المتوقعة للثقافة العربية الوافدة مع المنتجات الأجنبية إلى البلدان العربية على الوعي والمفاهيم والقيم العربية، لأن الإحتمالات المتوقعة على هذا الصعيد هو إغناء هذه الثقافة التي ستتعرف على عوالم ثقافية جديدة وتتفاعل معها، وتنخرط في منتدى حوار الثقافات الذي دشنه الصراع الدائر بين الثقافة الأمريكية والثقافة الأوروبية في المداولات بينهما حول (الغات)، والذي كان من نتائجه إرساء فضيلة الحوار وتأكيد المصالح وليس إلغاء الآخر..
ويجدر قبل كل هذا أن تتذكر دول وشعوب البلدان العربية أنه برغم أن العولمة تجري في الدول الكبرى ولحماية مصالحها، وتتمثل في صراع المصالح الأمريكية – الأوروبية – اليابانية، لكنها تؤثر فينا ( البلدان العربية ومعها بلدان العالم الثالث ) بكل تأكيد؛ وليس في الوقت الراهن فحسب وإنما في المستقبل أيضاً. وإن التغيير في واقعنا بفعل العولمة قادم ومحتوم، ولذا فإن المطلوب أن ننتهز التغيير فرصة ونتبناه حاجة، ولا نتعاطى معه كخطر، وذلك على رغم أن تعاملنا معه إلزامي وإكراهي.
إن الدولة في البلدان الرأسمالية الصناعية سوف تظل قوية لتتمكن من القيام بمهام مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية. وإن هذه المهام قد تفرض على الدولة التدخل في الشؤون الإقتصادية والإجتماعية كما حدث في قمة (G20) في لندن أوائل نيسان (إبريل) 2009م حيث اتخذت عدداً من القرارات لمعالجة الأزمة المالية على الصعيد الدولي وأجرت تصويبات في بعض مفاهيم العولمة النظرية على الصعيد الإقتصادي وأعادت لها بعض شمائلها عندما أكدت على ضرورة أن تقوم العولمة على التعاون والتكامل والعدالة والتكافؤ بديلاً لمفاهيم الهيمنة والاستتباع والإستيعاب. وهذا يقتضي فعالية أقوى لدور الدولة ولوظيفتها حتى في عصر العولمة. ولكن هل هذا سينسحب أيضاً على دول العالم الثالث حتى عندما يتناقض مع نظريات الفوكويامية ؟!. الجواب حتماً هو يرسم قادة مجموعة الدول العشرين (G20)، وبمدى التزامهم بقرارات قمة لندت ربيع عام 2009م.
إن هناك من يعتقد بأن دور الدولة القومية لن ينتهي في عصر العولمة، لا بل سيتعزز، وستترشح وظيفتها إلى مثلما كانت عليه في العصور السابقة، وربما أكثر. وإنني أعتقد أن التأويلات التي يؤسس عليها فرضيات نهاية الدولة، وإنمحاء الحدود وغزالة الحواجز في عصر العولمة، هي غير منطقية أو واقعية في المدى المنظور، وهي تبسيطية الإستنتاج أيضاً؛ ولا تأخذ بعين الإعتبار نوع مكانة التراث والأشواق والأذواق الإنسانية التي اكتسبت خلال السنين الماضية والتي تصل العلاقة القيمية معها إلى درجة القداسة. إن التأويل الأصح لمصير وظيفة ودور الدولة في زمن العولمة هو أن تغيراً جدياُ وفعلياً سيحدث عليها، وربما سيكون عاصفاً في مظهره إلى الحد الذي يمكن معه الإعتقاد بأن الدولة قد زالت أو هي في طريقها إلى ذلك. ولكن هذا التغير لن يبلغ حد تأهل الشركات عابرة القارات لأن تحل محل الدولة فتزيلها. ولكن وظيفة الدولة القومية ستظل، وكدولة قومية؛ ولكنها ستكون مختلفة عن المفهوم التقليدي للدولة القومية. كما أن طبيعتها ستتغير أيضاً، وستكون بالفعل الدولة القومية (العولمية) المختلفة عن (هذه) التي نعرفها الآن، والمختلفة عن الدولة القومية في مركز العولمة. وربما ستكون الدولة القومية (العولمية) في بلدان العالم الثالث والبلدان العربية، دولة منزوعة السيادة ومقيدة بجملة اتفاقيات دولية تكف يدها عن اتخاذ أي تدابير حمائية. وتكون تشريعاتها وإجراءاتها الإدارية في خدمة تمكين الإستثمارات الأجنبية من التغلغل والعمل باطمئنان وأمان. وربما ستستشرف في سياساتها توصيات وتعليمات صندوق النقد الدولي، وتستجيب لمقترحات واستشارات خبراءه وتوجيهاتهم.
ويشير الدكتور صادق جلال العظم في كتابه" ما العولمة" إلى أن الأمر لن يقف عند حدود الدولة القومية، إذ يرى" إن دور الدولة الإقليمية والمحلية يبقى مهماً جداً وحتى حاسماً في حماية الإستثمار الأجنبي المباشر، وتشجيعه ورعايته وتوفير المناخ الملائم له واللازم لازدهاره وتقدمه في البلدان المعنية كلها. وفي الواقع أعتقد أن أي نظام إقتصادي رأس مالي عالمي بالمعنى الجدي للعبارة مستحيل دون الدولة وقوتها وجبروتها وأجهزتها ووظائفها ومهماتها وعسكرها".
ويرى مثقفون آخرون أن الرأسمالية ولدت الثروة داخل مجتمعاتها ولكنها ولدت البؤس أيضاً. واستطاعت أن تصل ببعض الدول إلى الثروة والرخاء، ولكنها خلقت دولاً وشعوباً عديدة بائسة وفقيرة. ومن الممكن أن يستمر مثل ذلك لبعض الوقت، ولكننا لا نستطيع الرضوخ والاستكانة لإحتملات التغيير باعتبارها قدرية، لأن بان ذلك سيستمر طويلاً.
وأما دول البلدان العربية فيرى أن دورها لا يزال وإلى أمد غير معلوم ضرورياً، وتريده الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الرأسمالية الدولية. وإن على هذه الدول القيام بهذا الدور على أكمل وجه، لأن ذلك هو المبرر الرئيس لاستمرار الدول في عصر تنتفي فيه لزومها. وإن هذا الدور يتمثل في تهيئة المناخ المناسب لتسلل رأس المال الأجنبي إلى البلدان العربية، وتحقيق الإنتقال إلى اقتصاد السوق، والقيام بأعمال خصخصة القطاع العام، والإعتناء بقمع معارضة الشعوب، والمشاركة بفاعلية في مكافحة الإرهاب الدولي. والتأهل التدريجي في اكتساب استحقاقات الإنخراط في العولمة. ولكن هل تؤسس هذه الإحتمالات على لزومية بقاء واستمرار وظيفة دولة البلدان العربية، لا سيما وأنها في جواب هذا التساؤل وهي تتساير مع الآراء التي تؤكد على عدم وجوب زوال الدول القومية في عصر العولمة وإنما تحولها إلى دولة قومية من نمط جديد ولوظيفة جديدة وربما مختلفة؟ وهل يوجد في جواب هذا التساؤل إلى ما يطمأن الشعوب في دول البلدان العربية قبل أنظمة هذه الدول إلى انه لا خطر على مستقبلها في عصر العولمة؟!
إن عرض الوقائع والمعطيات واستشراف دلالاتها تؤشر إلى أن لا ضمانة لمثل هذه الطمأنة، لأن الأمر مرهون بمدى الإستجابة (العربية) لشروط المعاصرة واستلهام روح العصر وثقافته ومفاهيمه؛ وكذلك استيعاب العرب لضرورة انخراطهم في نظام العولمة؛ وقبل هذا أو ذاك بمدى ودرجة ومدى درجة تأهلهم لدور تشاركي لا استهلاكي فيه، والقدرة على اكتساب مقومات أن يصبحوا منه جزءاً، وليس المتطفل عليه.
في اعتماد سياسة الإنزواء والركون إلى الرفض؛ لأن تلك السياسة لن تفلح في توفير أي نمط من الحماية ولن توفر أي ضمانة للاستمرار. كما أن السير في ركب معارضة العولمة لم يتأهل له العرب، لان تيار معارضة العولمة هو من شعوب دول العولمة نفسها. أي بمعنى أن معارضة الإنضمام إلى العولمة تحتاج إلى نفس مواصفات ومؤهلات الإنضمام إلى العولمة، فأين هذا من اقتدار شعوب دول العالم الثالث وبضمنهم دول البلدان العربية على ذلك، لا سيما وان أيديولوجيا معارضة العولمة تبدو كأنها قائمة على" الاقتدار على المشاركة والإنتقاء والرفض من خلال قوة هذا الإقتدار وتأثيراته التفاعلية في مداره ومحيط وسطه".
إن واجب دول البلدان العربية على نفسها وواجبها تجاه شعوبها والدول المثيلة لها من بلدان العالم الثالث، أن تجتاز الاختيار العولمي وإن تتأهل ليس لرفض وظيفة الدولة الضعيفة والمهام الموكلة إليها في غير مصلحة أوطانها وشعوبها وحلفاءها فحسب، وإنما لتحقيق نهضة تنموية شاملة تجيز لها أن تجعل دورها قوياً، وذلك باقتدارها على المشاركة في النظام العولمي، وفي مواجهة منعها من هذه المشاركة، وفي التصدي للضغوط التي ستتعرض لها للرضوخ لمطلب القبول بوظيفة المهام القمعية والخدماتية وتحقيق مثل هذا الأمر غير ممكن لأي دولة من دون أن تتأهل في الحد الأدنى للتكامل إقتصادياً مع دول البلدان العربية الأخرى، وصوغ مشروع نهوض إقليمي يستحوذ على عناصر قوة تحوله إلى كتلة أو محور إقليمي يتمتع بمواصفات عضوية نظام العولمة، ويكون رداً شافياً من شعوب المنطقة على المحاور الإقليمية المقترحة للمنطقة في غير مصلحة تطور شعوبها، مثل الشرق أوسطية الجديدة" وغيرها، والمدّعى جزاماً بأنه استحقاق للعولمة. إن توفر هذه الاستعدادات والجاهزيات في دول البلدان العربية هو الضمانة الأكيدة لتمثل المعاصرة، والحفاظ على الهويات، والإنخراط في نظام العولمة؛ وإن مستقبل شعوب دول البلدان العربية منوط بمدى قدرتها على تحقيق ذلك.


المصادر والمراجع
1. سيكولوجية العلاقة بين الجماعات، د. أحمد زايد. عالم المعرفة، الكويت 2006م.
2. الثقافة والعولمة، مجموعة مؤلفين. تحرير أنتوني كنج. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2005م.
3. ما العولمة، د. صادق جلال العظم. دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية 2000م.
4. صدام الحضارات، صمويل هنتنغتون. الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، مصراته (ليبيا) 1999م.
5. نهاية اليوثوبيا، راسل جاكوبي، عالم المعرفة، الكويت 2001م.
6. الاتصال والهيمنة الثقافية، هربرت شيلر. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993م.
7. العولمة والثقافة، حاتم بن عثمان. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1999م.

- محمد سليمان كاتب وباحث فلسطيني يقيم في رام الله.
*فصل من كتاب للمؤلف بعنوان" العولمة... مفاهيم وأسئلة" سيصدر قريباً عن المؤسسة الفلسطينية للنشر – رام الله / فلسطين.
E. mail: [email protected]






#محمد_باسل_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوم الارض بعيون -وفا-
- النقد الادبي الفلسطيني 1870-1922/الجزء الثاني
- تطور النقد الأدبي الفلسطيني 1870-1922
- سؤال الهوية بين المثاقفة والعولمة
- الصحافة في قطاع غزة
- المثاقفة، تفاعلات واستيعابات
- الصحافة حارسة اللغة العربية في فلسطين
- مقهى الصعاليك
- امهات المطابع واثرها في نشوء الثقافة الفلسطيني
- نشوء المسرح في فلسطين
- القوانين البريطانية وتطور الصحافة الفلسطينية
- العولمة والاستقلال الثقافي


المزيد.....




- دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك ...
- مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
- بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن ...
- ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
- بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
- لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
- المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة ...
- بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
- مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن ...
- إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد باسل سليمان - العولمة والدولة ودولة البلدان العربية