|
قبل موت اللغة..!
سامي فريدي
الحوار المتمدن-العدد: 2635 - 2009 / 5 / 3 - 08:36
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
(أو.. اللغة والعولمة) اللغة هي الدالة الأكثر أهمية وحيوية في سفر الانسان، "بها كان كلّ شيء، وبغيرها لم يتكون أي شيء مما تكوّن، بها كانت الحياة."* لا بدّ أن الانسان الأول كانت له لغة خاصة للتعبير عن خلجاته والتواصل مع محيطه الاجتماعي، لغة قائمة على الاشارات (Bodylanguage) أو الرسوم أو الأصوات البدائية، مما يمكن اعتبارها خطوات متتابعة في طريق تكوّن وتبلور واكتمال خصائص (وسيلة الاتصال الاجتماعي)، التي يجدها المرء اليوم في متناول يده كإحدى مظاهر الطبيعة والحياة المتيسّرة، ويجري تعلّمها فطريا عبر أجهزة العائلة والمدرسة والشارع. البعض يتوفر على مهارات مميزة في مجال اللغة كالتأليف أو التمثيل أو الغناء وتقليد الأصوات. البعض يتعلّم أكثر من لغة ويستخدمها في مجال الترجمة والدراسة والعمل. فاللغة اليوم ليست نفسها أمس، والنظر إليها على أنها تحصيل حاصل يشكل خسارة مزدوجة للطرفين، الفرد والجماعة. ماذا يعني أن تتحول اللغة إلى مجال عمل ؟.. يعني اختصاص طائفة من البشر بالاشتغال بها.. والاشتغال بها له معنيان: الاشتغال بواسطتها واستخدامها في مجالات أخرى، أو التخصص فيها والبحث عن أمكانيات تطويرها وزيادة فاعلية أدواتها أو التوفر على أدوات جديدة فيها. هذا على صعيد الآلية. لكنّ ثمة تصنيفا آخر، وهو على صعيد الغاية، فلا بدّ لكلّ أداء أو فكرة من غاية. كما أن لكلّ وجود غاية، أو لكلّ وجود كيان، ولكلّ كيان غاية، ولكلّ غاية وسيلة أو وسائل تمكّن من بلوغ الغاية أو تحقيقها. وغاية الاشتغال باللغة احدى اثنتين، مكسب علمي معارفي، مكسب مالي اقتصادي. العمل العلمي لا يتجرّد في المجتمعات المتقدمة من عائد مالي اقتصادي يقيم أود الحياة ويحقق لصاحبه مستوى من الحياة يليق بعلمه واشتغاله، ويسهل له تأمين مستلزمات دراسته. والعمل الاقتصادي لا يتيسّر من غير دراسة اللغة وخصائصها وامكانياتها وبما يهيء له قاعدة أساسية لازمة للعمل أو التداول. فكلّ من الباحث العلمي والعامل الاقتصادي يبدآن من نقطة واحدة في الدراسة والتعلّم، لكن أحدهما يتوقف في نقطة مفترق منصرفا للممارسة الاقتصادية وتحقيق التراكم المالي، والآخر يستمرّ في الدراسة والبحث حتى الموت!. الأول يراها وسيلة والثاني يعتبرها غاية، الأول يتخذها صنعة والثاني يعيشها حياة، الأول يتعامل معها بسطحية والثاني يتعمق ويسبر أغوارها اللانهائية. * هل اللغة مادة أم روح.. قد يكون غريبا القول، أن اللغة، على خلاف موجودات الكون والكائنات، لم تبدأ مادة في ذاتها، جامدة أو قابلة للحياة. لقد بدأت نظرة الانسان الأول إليها كظاهرة غير عادية فوق مستوى الطبيعة أو ما وراءها. وليس من المتيسّر اليوم وصف شعور الانسان الأول أو ردّ فعله عشية سماعه الصوت الأول. لا حدود للرعب الذي تملكه وهو يسمع.. يستمع.. ينصت.. يتنصّت.. ربما بقي الليل والنهار يرهف سمعه لمجرد الانتباه إلى صوت حفيف الغصون أو مرور الهواء خلال الشجر.. كانت تلك أول بداية اكتشافه وظيفة الأذنين. لقد صار يسمع بالأذنين بعد أن كان يسمع بعينيه. العين وسيلة الاتصال والتواصل الأولى عند المخلوقات، النظر واللمس. بعد ذلك جاء الصوت. وفي البدء كان الانصات للصوت بالعينين، وما يزال بعض الناس لا يسمعون بغير التوجه إلى جهة الصوت أو النظر إلى المتحدث، أو مراقبة شفتيه. الأصم والأبكم ينظر إلى المتكلم وشفتيه لاستخراج المعنى، أما المستمع فهو يحتاج تركيز أذنيه وليس العينين. البعض يستعمل كل الحواس (الخمس) عند الاستماع أو عند الكلام، وهذا بحدّ ذاته يكشف.. - حالة من البدائية، تعود إلى خطوات التعلم والتداول الأولى للغة. - حالة من التبذير في طاقات الحواس واستعمالها في غير وجهتها. - حالة من الضعف أو انخفاض امكانيات تسخير (حاسة) الجهاز للوظيفة الفسلجية المخصصة لها. ان نمو الجنين في مكان خارج رحم الأم حالة غير طبيعية، انه عدم تسخير الجهاز لوظيفته الطبيعية، أو استخدام جهاز غير مناسب، مما يعني ظهور نتيجة غير مناسبة أو صحيحة. ان أهمية توظسف الآليات، ينعكس على كفاءة اللغة الاجتماعية ممثلة بالمتلقي. فالصوت (كلمة منطوقة أو مكتوبة) مثله مثل خيط يرتبط من جانبين، أحدهما المصدر (الصائت) (Soundsender) ، والآخر المتلقي (المُنصِت) (Soundsreceiver). والاهتمام بكفاءة اللغة، يقتضي.. - الاختيار الصحيح للفظة الدقيقة المناسبة والاهتمام بكفاءة التلفظ الصحيح.. - تركيز الانصات ودقة الاستماع الكامل للصوت، قبل تشتته وتشظيه في الأثير. ان صيوان الأذن له قدرة ذاتية كبيرة على التقاط الأصوات وابتلاعها داخل نقرة الأذن، ويوميا تقوم بالتقاط ملايين الأصوات التي لا تدخل في حيز الاستعمال الشخصي، بينما يتم التفريط بالمقابل بكثير من الأصوات الضرورية للتعامل اليومي مع الأشياء والأشخاص. ويسفر هذا التفريط عن أحد أمرين أو كليهما.. - عدم الانتباه للمعنى الحقيقي المقصود بالصوت.. - عدم الانتباه لدقة الملفوظ، حيث تتطاير أطراف الصوت (الأحراف الأولى والأخيرة أو العميقة) ويجري التركيز على مراكز الثقل اللفظي (Ampheses). وتبرز أهمية هذه الحالة عند تداول لغة أجنبية مما يعيق عملية التعلم الصحيح أو يبطئها، أو يقود لتعلم ألفاظ غريبة وخاطئة، لا يكون من السهل إعادة تصحيحها. إذا كانت هناك مدارس ومناهج ودورات لتعلم النطق الصحيح والتلفظ الدقيق والانتباه لبنى اللفظة ومبادئ ومخارج الأحرف، مما يحرص عليه العاملون في مجال التمثيل والاخراج ودراسات (Phonics)، فأن فن الاستماع والتركيز ما زال بعيدا عن مجال الدراسة والتعلم والتوجيه. اجتماعيا يمكن تصنيف الجماعة إلى مجموعتين أو حالتين: - صنف المتكلمين.. - صنف المستمعين.. فالمتكلم يتصدر الكلام في كلّ موقف، وأصعب ما يكون عليه الانصات لكلام غيره. والمستمع أو المنصت حالة أفرزها وضع اجتماعي معين بحكم التراتبية أو العجز أو اليأس من الكلام. من هؤلاء من يؤمن "اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!". وإذا كان المقابل جبل فلا فائدة من مناطحته، و"الصمت سيّد الأخلاق"، و"لو عضك كلب هل تقوم أنت بِعضّ الكلب أيضا". لكن الصمت قد يكون حالة نسبية وليس صنفا دائما من البشر، كما في حال بعض النسوة أو الأطفال. فهؤلاء قد يسكتون أمام ذويهم حسب التراتبية، لكنهم ينفجرون ويتدفقون بالكلام في غياب أولياء أمورهم، أو عند خروجهم عن الطور. هذه الظاهرة في الكلام والاستماع هي ظاهرة سلبية، لا تنعكس بخير على المجتمع والتطور الاجتماعي. ان الذي ينفع ويطور المجتمعات هو التفكير. والكلام من غير تفكير يعني انتفاء المعنى، وانتفاء المعنى يعني انعدام الضرورة الابداعية. غالبا ما يستخدم الكلام لـ(قتل) الوقت. لملء الاجتماعات ومعالجة شغور المناسبات. التقاء الناس يعني التبارز بالحكي، التباري في اللغو واللغات. واللغو مادة غير مسؤولة تتوزع في ما كلّ ما لا طائل منه، الخرافات والدعايات والنكات والأكاذيب. بعضها عمره آلاف السنين وبعضه وليد اللحظة. تاريخ البشر صراع، والصراع غالب ومغلوب، ناصب ومنصوب، فاعل ومفعول. واداة الصراع هي اللغة. اللغة ليس كنشاط ابداعي، وانما كممارسة سلبية ومرض اجتماعي. التخلف والانحطاط والرذيلة ليست أفكار مجرّدة وانما هي نتائج محروثة بمحراث اللغة المتدنية. الانحطاط في أساسه نص لغة. وانحطاط شخص هو نتيجة انحطاط لغته. اللغة المنحطة يعني شخصية منحطة. لغة الجهل يعني شخص جاهل. لغة الدعارة يعني شخص داعر. اللغة هي كلّ شيء عند البشر. لأن البشر سمتهم اللغة، واللغة دالة بشرية. يعتقد الناس أنهم يعملون، يحبون، أو يتعبدون. الحقيقة، هي غير ذلك!.. أنهم يلغون (فعل من - لغة-). عملهم كلام، وحبّهم كلام، وعبادتهم كلام. وهم لا يؤمنون بالشيء، انهم يؤمنون بالكلام (كلمة، لغة). ما هي الأشياء التي يهتم بها الناس.. الصيت.. السمعة.. المخبر.. المهابة.. الدعاية.. الشخصية.. الاعلام.. الخوف.. البطولة.. الشجاعة والجراءة.. الجمال والاخلاق.. الغنى والترف.. كلها لغات وكلمات وألفاظ.. ما يتناقله الناس عن بعضهم لغة.. وما يبحثون عنه في وسائل الاعلام والنت لغة.. يبنون أنفسهم بالكلمات ويهدمون بعضهم بالكلمات.. يحيون بالكلام وبه يموتون. ينتحرون بالحكي ويتحولون أبطالا بالحكي.. لو كان الناس فعلوا كلّ ما قالوه بدلاً من قوله لتغير وجه العالم واختلفت صورة البشر. لكن الذي يقال غير الذي يجري العمل به. وما تقوله ينتهي مفعوله بالقول، أما ما تفعله فيأتي بمفعوله فعلا. لما ذا لا تقول ما تفعله، ولماذا لا تفعل ما تقوله؟.. انت تفعل ما تسمعه، ما يقال لك.. أنت تتحدث بما سمعته.. ما تسمعه في مكان، تحكيه في مكان آخر.. ما تسمعه في النهار تحكيه في الليل، وما تفعله في الليل، تحكيه في النهار.. أنت إذن أداة لنقل الكلام من شخص إلى شخص.. من جهة إلى جهة، والكلام أي شيء ملفوظ، جيد أو سيء.. عملية انتاجية استهلاكية متواصلة بلا كل أو ملل.. البعض ينتج والآخر يستهلك.. يتبادلون الدور.. ينتجون ويستهلكون في نفس الوقت، نفس الشخص.. البعض يأنف من الكلام، والبعض يأنف من الفعل، فيتكلم.. كله كلام.. كلّ شيء يبدأ بالكلام وبه ينتهي.. وربما، كما قال يوحنا البشير.. (بغيره لم يكن شيء).. الشعوب التي تتكلم كثيراً لا تنتج شيئا.. أعلى معدلات الانتاجية في مجتمعات جنوب شرق آسيا، المعروفين بقلة الكلام.. اليابان هي اسطورة العصر الحديث.. اسطورة ليس في الاقتصاد، ولكن في كلّ شيء، في الاقتصاد، في الصناعة، في الاعلام، وفي اللغة.. * العولمة واللغة.. لا عولمة بلا لغة.. العولمة سياسة.. لا سياسة بلا لغة.. العولمة اعلام.. لا اعلام بلا لغة.. العولمة اعلان.. لا اعلان بلا لغة.. العولمة استهلاك.. لا استهلاك بلا لغة.. العولمة تبدأ باللغة.. وبها ستنتهي.. لأن اللغة كائن حي.. ولكل حياة بداية ونهاية.. لكن اللغة لا تموت.. لأنها لا تستهلك مهما تكررت.. لكنها ستنتحر.. الآن تنتحر.. تنتحر اللغة عندما لا تجد تداولها الجادّ والصحيح بين الناس.. اننا لا نقتل الوقت باللغة.. أنما نقتل اللغة.. انفصال اللغة عن المعنى، انتحار، وانفصال المعنى عن الواقع، انتحار، وانفصال الواقع عن الحاجة، انتحار، وانفصال الحاجة عن الانسان، انتحار.. اللغة تمرّ بحالة اغتراب، غربة عن البشر وعن الواقع وعن الضرورة.. الكلام الذي يتردّد في الاعلام منفصل عن الحقيقة.. الأشياء التي تشغل اهتمام الناس ليست واقعية.. الناس لا يتكلمون ما يجري في أفكارهم، بل ما يسمعونه.. في الصباح تتصفح الجريدة أو النت، وأول شخص تلتقيه تسأله.. هل سمعت آخر خبر.. لا أحد يهتمّ بما يجري في بيته أو بلدته أو وطنه، انه يهتمّ بما يجري في بلاد أخرى بعيدة.. لا أحد يتأمل ما يدور في ذهنه، يستنبط منه الملحّ من المعاني.. فيتخير لها المناسب من الألفاظ.. القليل والدالّ.. لا الكثير والسمج.. كم من المعاني ضاعت في سوح البلاغة والبديع والاطناب.. وكم من الألفاظ اقسرت على السوق في جيوش لا يجمعها غير سماجة الاسلوب.. وأنه إذا كان قد قيل (ما قلّ ودلّ).. فذلك أن المتبع فيه قليل.. وقلة اتباعه يعود إلى صعوبة مورده، ومورده هو الاجتهاد في النص، والاجتهاد في اللفظ، والاجتهاد في الاسلوب، والاجتهاد في النفس.. والاجتهاد بحدّ ذاته إصر ومشقة، فكيف بجمع الاجتهادين أو الاجتهادات.. فالسهولة في المسعى مقتل اللغة.. السهولة منجاة الجاهل.. ومَنْ مِن الناس لا يميل للسهل ولا يرد المورد المتيسر.. لا غرو من الوقوع في التكرار، والتكرار التقاط المعاني دون جهد، واجتناب الجهد مورثة للكسل، واستدامة الكسل مرجعة للعجز.. والعجز السائد يورث العادة.. ومن تعوّد أمراً شقّ عليه اقتلاعه.. والعادة هي التكرار.. والتكرار مبالغة في الاستهلاك.. والاستهلاك لغة العولمة.. ارتفعت معدلات الاستهلاك اليومي لجميع معدلات الأعمار في كل المجتمعات، وتحولت بعض الحوائج المترفة محل الضرورات كما استحالت بعض العادات والنزعات الاستهلاكية محل الموضة أو التقليد المقدّس.. وناس اليوم أحوج ما يكونون للتواصل الاجتماعي (communication) لتبادل آخر أخبار الصرعات والموضات ومنتجات السوق الرأسمالية.. كما نجحت مجتمعات عديدة في تطويع منتجات الغرب بما يناسب عاداتها ومعتقداتها الخاصة.. فدخلت العولمة في أخصّ الخصوصيات وأدقّ التفاصيل.. ولكن ما علاقة اللغة بكل ذلك.. وكيف تأثرت.. ان من خصائص الاعلام التغريب والتعريب والترجمة.. أي أن انتقال الحاجات والمظاهر يتم من بلد إلى بلد آخر تختلف بينهما اللغة والثقافة والمرجعيات.. فيتم التعريب والتمصير والتعريق واللبننة والأفغنة والتتريك.. وهذه غير الترجمة.. فالترجمة اختلاف في اللفظ واتفاق في المعنى، حين تسعف المترادفات.. وإن عزّ هذا جرى (نحت) الكلمة أو تضمينها كما هي.. وقد دخلت اللغات المحلية من الملفوظات الأمريكية (الانجليزية) ما لا يستقيم حديث يومي بدونه، في مختلف الأوساط.. وفي العموم لم تعد لغة محلية خالصة ولا هوية خالصة ولا تقليد شعبي خاص.. لقد بدأت الأشياء الأممية تسيل على بعضها البعض والمرء ينتقي من بينها ما ينتقي تارة عن معرفة أو حاجة و تارات بدونهما.. تساوت في هذا لغة المحادثة مع لغة الكتابة، ولغة الاعلام مع لغة السياسة ولغة الغناء مع لغة الدين.. وهذا التماهي او التداخل أو التعاشق والاستسهال، يعني الترحّم على النوع الأدبي والتخصص في الآداب والفلسفة .. * انتفاء الطبقية اللغوية.. كانت لغة الشارع من نصيب العامة ( Slang Language).. وكانت الثقافة من نصيب الطبقة المتوسطة (Middleclass Culture).. وكانت الآداب والفلسفة من نصيب الأرستقراطية (Noble Language). أين نحن من ذلك اليوم.. هل كان مارتن لوثر وغوتنبيرغ وراء هذا الانحطاط؟.. هل كان هؤلاء اشتراكييين يسارييين لنسف احتكار الأرستقراطية للثقافة واللغة العالية؟.. بغض النظر عن اليمين والشمال، كان لهؤلاء دور في نسف مفهوم الاحتكار الثقافي واللغوي. بعد قرون من ذلك جاءت الثورة الاشتراكية لتجعل الثقافة والتعليم في متناول الجميع.. تراجعت مناسيب الأمية في كثير من المجتمعات.. تراجعت أمية الأبجدية.. وظهرت مشكلة الأمية الثقافية.. الأمية الأيديولوجية.. ثم جاءت العولمة لمعالجة كل الأزمات بنهجها وأدواتها العولمية.. "اتركْ ما عندك واتبعني".. لقد عرضت ما لديها بسخاء.. في اللغة والثقافة.. في العلم والتكنولوجيا.. في الدين والاقتصاد.. وبدل البحث عنها حفرت لها أنهاراً بين البلدان وجعلت للأنهار روافد تتخلل جدران البيوت والمنازل والمحلات والمؤسسات.. واليوم تمثل شبكة النت الأكثر حجما وانتشارا بين بحار العالم وأنهاره، ويفوق ما تصبه من معلومات وتداولات يومية ما تسعه المحيطات.. لكنها في ذلك تتجاوز الجغرافيا، إلى صفائح الماغنيت الرقيقة والتي لا تتجاوز حجم الأظفر.. كما تجاوزت الفيزياء التقليدية إلى تقنية الـ (wireless), أما أجهزة الكمبيوتر فقد تصاغرت حتى أمكن تجاوزها اليوم في أجهزة النقال الخلوي، الذي يضع العالم والتاريخ أمام عينيك.. ينقل لك آخر موضة وآخر شتيمة والآخر في كل شيء.. ولا يبقى لديك غير الضحك.. الضحك فقط. (popculture)هو منتج أمريكي في الأساس، بدأ العمل به في وقت مبكر. واشتهر في الثمانينات مع مايكل جاكسون. لا يوجد بلد من غير ثقافة شعبية، ولكن الثقافة الشعبية لا تتعدى حدودها إلى الثقافة (المثقفة). في الحقيقة أن مصطلح (ثقافة) لا يرد في قاموس الفنون الشعبية، أو لم يكن ليرد لولا تطور دراسات الأركيولوجيا وأفكار اليسار وعصر الجماهير. على غير ما موعد التقى الشرق والغرب في منح الانسان الكادح مجالا أوسع للحركة ومغادرة موقعه الاجتماعي في التراتبية الجدلية التاريخية. فالطبقة الكادحة تتحول إلى بروليتاريا وتتسلم السلطة لقيادة المجتمع في الفكر الماركسي، والشعب مصدر السلطات. وفي الفكر الرأسمالي ينتخب الشعب من بين مرشحيه حكومة دمقراطية علمانية، وفق دستور لبرالي قائم على اساس القانون والعدالة والمساواة بين الجميع. وإذا كانت التجربة الاشتراكية سباقة في طرح مفهوم الجماهير والثقافة الجماهيرية وكتب (الجيب) الجماهيرية الشعبية، المجانية أو ذات أثمان رمزية.. فأن الرأسمالية طرحت مفهوم الثقافة الشعبية في إطار امبريالي عولمي لتعميم نموذجها الخاص على بقية النماذج الأممية.. أو لتضع الجميع في حلبة منافسة إزاءها. ورغم أن الأهداف البعيدة للمشروع ليست خافية، فأنه يمكن الخروج عن النص إلى أبعاد أخرى.. - الثقافة الشعبية تعني تعميم النموذج الأميركي في العيش، وهو المستقى من قاع المجتمع الأميركي وجنوبه الفقير والملون.. - الثقافة الشعبية تعني إعلاء شأن ثقافة الفئات الدنيا (الكادحة والمعدمة) في المجتمع ورفعها إلى مستوى المشهد الوطني أو العالمي، وقد نجحت هذه التجربة في مصر ممثلة بأحمد عدوية وعادل أمام وشعبله.. - الثقافة الشعبية تعني مفهوم النخبة الثقافية وتجريدها من صدارة المشهد والإدارة الثقافية للمجتمع، لصالح عصر جديد يتحكم فيه المثقف الشعبي بالمجتمع ويتسلط على المثقف الأكادمي.. - الثقافة الشعبية تعني طرح الفلسفة والفكر والثقافة المنهجية جانبا وتسويغ ثقافة تعنى بمتطلبات الواقع وحاجات الانسان المباشرة والسريعة، وعندما تنعكس هذه الأفكار (الشعبوية) في مجال التعليم والجامعات ومؤسسات الدولة الرسمية والسياسية، فأنه ليس العامل الذي سيتولى منصة الحكم فقط وانما رجل الدين وشيخ العشيرة وبائع (الحمص)، بغض النظر عن التكوين الثقافي والأهلية السياسية. لقد تحققت جوانب عدة من هذا المشروع، ويمكن اعتبار صعود العسكر للسلطة جزء منه، - وهو مشروع يرجع الفضل فيه للمخابرات الأميركية ودورها في انقلابات أميركا اللاتينية عقب الحرب العالمية الثانية -*. ان ثمار الثقافة الشعبية هي السائدة في مجتمعات الألفية على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأدبي. وعند الحديث عن الاتصالات والتوسع الاعلامي، فذلك يشير إلى حجم ونفوذ الثقافة الشعبية في بلد ما، وبنفس المنظور يمكن تصور الفرص المتاحة أمام ما يدعى بالطبقة المثقفة والاكادمية، في السباحة ضد التيار، أو الانجراف مع الموجة. أما السؤال الذي يتبقى من ذلك عن صورة المستقبل.. المستقبل يولد من رحم الحاضر..! * لندن في الثلاثين من نيسان 2009 ـــــــــــــــــــــــــــــــــ • الانجيل بحسب يوحنا (1: 3-4). • يختلف المنظور الانجليزي في حركة تسييس الضباط عن المنظور الأميركي. فقد لجأت انجلترا للتعامل مع العسكر في مجتمعات قبلية متخلفة تفتقد مفهوم النخبة المتعلمة التي يمكن لها إدارة المؤسسات، وكان الضباط يومئذ من صفوف المتعلمين. والأمر الثاني أن الانجليز لم يرفعوا العسكر إلى قمة سلطة الحكم المطلق كما حدث في الخمسينيات وما بعدها، ولكنها استفادت منهم على مستوى الوزارة وتحت سلطة (ملك) أو (سلطة التارج البريتاني).
#سامي_فريدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
براءة العراق من علي ومزاعمه..
-
شتائم اسلامية في أهل العراق
-
(عليّ) في العراق..
-
العراق من عمر إلى علي..
-
المقدس.. من السماوي إلى الأرضي.. (جزء 2)
-
المقدس.. من المطلق إلى النسبي.. من السماوي إلى الأرضي
-
محاولة في تعريف الدين والمقدس
-
العنف والمقدس (2)
-
(كوتا.. كم.. نوع!!..) المرأة العراقية والمرحلة..!
-
دعوة لحماية الحيوان وحفظ كرامته واحترام حقوقه..!
-
الكلام.. جدلية الكم والنوع
-
العنف والمقدس
-
فصل الدين عن الدنيا
-
فكرة الاشتراكية.. بين صنمية النظرية وأسواء التطبيق
-
ثورة أكتوبر .. (نعم) أو (لا)
-
من قتل فيصل الثاني؟..
-
تأملات في الحالة العراقية - 5
-
نحو يسار اجتماعي.. ومجتمع مؤسسات دمقراطية
-
تأملات في الحالة العراقية (4)
-
تأملات في الحالة العراقية (3)
المزيد.....
-
ماذا نعرف عن صاروخ -أوريشنيك- الذي استخدمته روسيا لأول مرة ف
...
-
زنازين في الطريق إلى القصر الرئاسي بالسنغال
-
-خطوة مهمة-.. بايدن يشيد باتفاق كوب29
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|