أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - داود تلحمي - حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لمجلة الدراسات الفلسطينية)















المزيد.....



حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لمجلة الدراسات الفلسطينية)


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 2634 - 2009 / 5 / 2 - 10:10
المحور: القضية الفلسطينية
    


تنشر "مجلة الدراسات الفلسطينية"، المجلة الدراسية الفصلية التي تصدر في بيروت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في عددها الجديد، وقائع ندوة عقدت في رام الله أدارها مدير مكتبها في رام الله خالد فراج وشارك فيها، الى جانب الكاتب داود تلحمي، كلٌ من د. سعيد أبو علي، محافظ رام الله – البيرة والإستاذ الجامعي، ود. ممدوح العكر، المفوض العام للهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن، ود. كميل منصور، مدير معهد الحقوق في جامعة بيرزيت. وتناولت الندوة الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة ونتائجها وآفاق الوضع الفلسطيني. وفي ما يلي مداخلات داود تلحمي خلال هذه الندوة، التي انعقدت في مطلع شهر شباط/فبراير الماضي، أي بعد انتهاء الحرب بفترة وجيزة وقبل الإنتخابات الإسرائيلية بأيام قليلة:

حول الأهداف الإسرائيلية من الحرب

بتقديري، ان الهدف الأول للمسؤولين الإسرائيليين على الصعيد العسكري هو استعادة قدرة الردع التي فقدوها، أو التي استخلصوا أنها مهددة بالفقدان، في أعقاب الحرب على لبنان في صيف العام 2006، على خلفية الفكرة الأساسية التي يتحدث عنها زئيف جابوتنسكي، المرجع التاريخي لليمين الصهيوني والإسرائيلي، فكرة "الجدار الحديدي"، التي جوهرها أنه "لا يمكن ان نصمد ونستمر في هذه المنطقة إلا من خلال فرضنا درجة كافية من الإرهاب والتخويف والترويع، بحيث لا يجرؤ أحد على التصدي لنا أو تهديدنا".
وبات الآن معروفاً وواضحاً أن التخطيط لهذه العملية جرى مسبقاً وعلى خلفية استخلاصات تقرير لجنة فينوغراد. فقد كشفت المصادر السياسية والصحافية الإسرائيلية انها وُضعت مبكراً، وأن إيهود باراك، وزير "الدفاع" الإسرائيلي، أعدها قبل حزيران/يونيو الماضي، أي قبل فترة التهدئة التي تم الإتفاق عليها مع سلطة "حماس" في غزة في ذلك الحين. وبالتالي، استعادة الردع هو الهدف الرئيسي. وهذه الحرب هي، على هذا الأساس، رسالة موجهة ليس فقط الى"حماس"، بل الى كل الأطراف الفلسطينية والعربية والإقليمية المعنية: ان إسرائيل مازالت قادرة على إلحاق أذى غير محدود بمن ترى أنه يمكن أن يهددها. فضرب المدنيين كان أمراً مقصوداً به الترويع والردع ومنع الأطراف المعنية، العربية والفلسطينية، من "التطاول" على وجود و"أمن" إسرائيل!
لكن، الى جانب هذا الهدف الرئيسي، هناك الأهداف الأخرى التي تأتي بعده من حيث الأهمية: هناك هدف انتخابي متمثل بحسابات زعيم حزب العمل إيهود باراك وزعيمة حزب "كاديما" الجديدة تسيبي ليفني، بشكل أساسي، بأن حرباً جديدة قليلة الكلفة البشرية على الجانب الإسرائيلي يمكن أن تمحو آثار الحرب على لبنان على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، وتحسِّن بالتالي من وضعهما الإنتخابي، خاصة في مناخ المزايدات التي كان يطلقها بنيامين نتنياهو، زعيم الليكود المعارض، وبقية تيارات ورموز اليمين الصهيوني المتطرف على خلفية استمرار إطلاق الصواريخ من قطاع غزة واستمرار "تهديد أمن سكان جنوب إسرائيل"، على حد تعبيرهم.
ما كان مطلوباً بالنسبة لأصحاب القرار الإسرائيليين لم يكن الإطاحة بسلطة "حماس"، وإنما إضعافها، والحد من قدرتها على التصعيد والإستمرار في إطلاق الصواريخ أو في السماح بإطلاقها من قبل آخرين أو الصمت عليهم. وذلك ليس حباً بـ "حماس"، طبعاً، بل خشيةً من انفلات الوضع في القطاع، ورغبة في إدامة الإنقسام الفلسطيني. فالإطاحة بأية سلطة، وخاصة سلطة مثل سلطة "حماس" ممسكة بالوضع، يفتح المجال أمام فوضى وأمام نمو فرق وقوى أكثر تطرفاً وأقل انضباطاً في غزة، بما في ذلك ربما أنصار "القاعدة". وفي واقع الحال، فإن بعض الفرق الأصولية الجديدة باتت موجودة هناك، ولكنها، الى حد كبير، تحت السيطرة.
طبعاً، إنطلاقاً من رؤية شارون، صاحب مشروع إعادة الإنتشار خارج قطاع غزة، والذي تم تنفيذه في العام 2005، تأتي هذه الحرب ومجمل هذه الخطوات في سياق العمل على الحؤول دون تحقق مشروع الإستقلال الفلسطيني ومن أجل تبديد أية فكرة لتحقيق مثل هذا الإستقلال عملياً. ففي الواقع، مازالت القوى الصهيونية الرئيسية في إسرائيل ترفض قيام دولة فلسطينية مستقلة بمعنى الكلمة، بالرغم من التصريحات العلنية لبعضهم. وكان هدف شارون الرئيسي من عدوان ربيع العام 2002 على الضفة الغربية، ومن محاصرة الرئيس الراحل ياسر عرفات والعمل على إنهاء دوره، ومن ثم حياته، هو تشجيع الإنقسام والتشرذم الداخلي الفلسطيني، بما يقود إلى إزالة أو تبديد إمكانية تحقق مشروع الإستقلال الفلسطيني، واستبداله بإقامة مجموعة من المعازل (أو البانتوستانات) في قطاع غزة والضفة الغربية، محاصرة ومسيطر عليها من قبل إسرائيل. وهو ما أوضحه بشكل ساطع مستشار شارون المقرّب منه دوف فايسغلاس في مقابلته الشهيرة في صحيفة "هآرتس" في أوائل الشهر العاشر من العام 2004، أي قبل عام تقريباً من تنفيذ خطة إعادة الإنتشار الإسرائيلية خارج قطاع غزة، والتي تحدث فيها بصراحة عن هدف شارون من هذه الخطة، التي نالت، وفق ما قاله، مباركة إدارة بوش، وهو "تجميد عملية السلام" ومشروع الدولة الفلسطينية، على حد تعبيره، الى أجل غير محدد، الى أن يصبح الفلسطينيون "فنلنديين"، كما قال.
***
أود أن أتحدث عن النهج الإستراتيجي الاسرائيلي مستشهداً بالمحلل العسكري الامريكي ماكس بوت Boot الذي يعمل في مجلس العلاقات الخارجية، ونشر مقالة في 4-1-2009، أي أثناء العدوان على غزة، يقول فيها بأن اسرائيل لن تحسم المعركة بشكل نهائي وسوف تكرر هذا النوع من الحروب "منخفضة المستوى" لعدة سنوات وربما لعدة عقود، وبالتالي نحن لسنا أمام مشروع محدد زمنياً، انما أمام استراتيجية متواصلة لها علاقة بطبيعة اسرائيل وعدم استعددها لقبول فكرة التعايش مع كيان فلسطيني مستقل فعلاً ومع محيط عربي متكافئ.
***
حول أداء القوى الفلسطينية

ينبغي أن نؤكد مجدداً أن إسرائيل كانت قد خططت مسبقاً لهذه الحرب، واختارت توقيتها ليأتي قبيل الانتخابات الإسرائيلية، من جهة، ومن جهة أخرى، قبيل استلام باراك اوباما للسلطة في الولايات المتحدة، اي في ظل استمرار إدارة جورج بوش، التي كانت خلال سنواتها الثماني أكثر إسرائيلية وليكودية من حكام إسرائيل. ومعروف الآن أن إسرائيل هي التي خرقت إتفاق التهدئة منذ مطلع تشرين الثاني/نوفمبر بعدوانها على غزة آنذاك. وحتى بعد انتهاء فترة التهدئة في 19/12، كان من الواضح أن الطرف الإسرائيلي هو المعني بالتصعيد وفي التهديد بالعمل العسكري. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت صحيفة "هآرتس" خبراً بتاريخ 25/12/2008، حمل عنوان: "حماس مستعدة لتجديد التهدئة أو وقف إطلاق النار". وهذا كان قبل بدء الحرب الإسرائيلية بيومين. مما يؤكد ان إسرائيل هي التي استفزت أولاً ومنذ مطلع الشهر الحادي عشر (تشرين الثاني)، وهي التي تجاوزت وخرقت وقف إطلاق النار أو التهدئة قبل انتهاء مدتها، وهي التي كانت تنوي شن الحرب وتسعى لاختيار الزمن المناسب وافتعال الذرائع. وهذا بمعزل عن أية أخطاء تكتيكية تفصيلية يمكن أن تكون "حماس" قد وقعت فيها، في التعاطي مع المسألة. من جانب آخر، ما زالت إستراتيجية حركة "حماس" بحاجة إلى توضيح. صحيح انه جرى تطور في مواقف "حماس" منذ انتخابات مطلع العام 2006 وحتى الآن، في ما يتعلق بالموقف من مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة وأمور أخرى، لكن ما زال هناك إشكال حول الرؤية الإستراتيجية:أي، هل "حماس" فعلاً مع دولة فلسطينية في الضفة وغزة؟ وكيف تتصور "حماس" طبيعة وسمات هذه الدولة ونظامها السياسي؟

للأسف، ساحتنا الفلسطينية محكومة منذ فترة، وخاصة منذ انتخابات المجلس التشريعي في مطلع العام 2006، بحدّية العلاقة ما بين "حماس"، من جهة، و"فتح" والسلطة صاحبة القرار الحالي في الضفة الغربية، من جهة أخرى. وهذه الحدّية تقود أحياناً الى مواقف غير عقلانية، أو غير متوازنة، بحيث برزت في الأيام الأولى للحرب مواقف من السلطة فيها شيء من تحميل المسؤولية لـ "حماس" عن اندلاع هذه الحرب. وهذه المقولة تراجعت في الأيام اللاحقة، وبرزت لهجة التضامن والدعوة للوحدة. ثم عاد التراشق بين الجانبين بعد انتهاء الحرب، للأسف.
أيضاً، صدرت من جانب "حماس"، بعد الحرب، تصريحات مثيرة للتساؤل، منها تصريح رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل حول المرجعية الفلسطينية الجديدة. بينما ينبغي أن يتركز الجهد الفلسطيني الآن على تجاوز هذه الإشكالية في الوضع الداخلي الفلسطيني، ومحاولة البحث بعقل مفتوح عن إستراتيجية عمل كفاحي وسياسي موحدة متفق عليها، غالباً من خلال عقد مؤتمر وطني فلسطيني تشارك فيه كل الأطياف، بحيث يتم حلّ الإشكال الداخلي بشكل جذري، وتتم استعادة وحدة وإستقلالية القرار المفقودتين.
هذا التمحور الحالي مؤذٍ. ومحاولة الاستنجاد بقوى وتحالفات خارجية يؤدي الى تعزيز الخلاف والإنقسام الفلسطيني. وهنا نستذكر الراحل ياسر عرفات، الذي كان، إلى حد ما وبأسلوبه وطريقته، ممسكاً بالقرار الفلسطيني، ويسعى إلى هامش من الإستقلالية. طبعاً، دفع هو شخصياً ثمن هذا التمسك، خاصة بعد الموقف الذي اتخذه في لقاءات كامب ديفيد عام 2000.
هناك قضية أساسية تحكمنا كفلسطينيين في ظل هذا الوضع الذي نعيشه، وعلى ضوء الحرب ونتائجها، تتمثل في أن أية حرب إسرائيلية على أي طرف تقوّي هذا الطرف ولا تضعفه، حتى ولو أضعفته عسكرياً. مختلف التحليلات العسكرية الأميركية والإسرائيلية بعد الحرب تؤكد ذلك. فحتى لو افترضنا انه جرى إضعاف "حماس" عسكرياً، وهو مجرد إفتراض لا تتوفر إمكانية البتّ فيه، إلا انها كسبت من هذه الحرب على مستوى الجمهور الفلسطيني. وإسرائيل لا يعنيها هذا الأمر كثيراً ولا تعيره أهميةً كبيرة، طالما يبقى الوضع الفلسطيني منقسماً، ويزداد تفككاً. وهو المهم والمركزي بالنسبة لإسرائيل في هذه المرحلة. هنا، لا بد من التأكيد من جديد على الدور السلبي المباشر الذي لعبته إدارة جورج بوش الأميركية في تعميق الإنقسام الفلسطيني. على سبيل المثال، اتخذت الإدارة الأميركية بعد انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2006، توجهاً معلناً بضرورة "إسقاط" أو "هزيمة" حركة "حماس". وهذه الكلمات بالتحديد استعملت من قبل مسؤولين كبار في الإدارة الاميركية، بعد الإنتخابات مباشرة. ثم جرى التحرك في العام التالي من قبل الإدارة الأميركية لإفشال حكومة الوحدة الوطنية التي تشكّلت بعد اتفاق مكة في شباط/فبراير 2007. وهذا التحرك كان واضحاً وعلنياً. ومورست ضغوط كبيرة لإفشال هذه التجربة، بما في ذلك عبر مواصلة الحصار المالي، كما نذكر.
وجميعنا يأمل الآن، من منطلق المصلحة الفلسطينية، ان نتجاوز هذا الوضع وهذه الحدّية في العلاقات، ونعيد بناء حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني. وهذه الحكومة مهمة وضرورية، لكنها ليست المسألة المركزية على هذا الصعيد. فالأهم هو الإتفاق على استراتيجية كفاحية وسياسية للسنوات القليلة القادمة، استراتيجية موحدة وواضحة، يُتفق عليها في كل القضايا الحيوية بالتفصيل، ما أمكن، وليس فقط بالعناوين. لأن تشكيل حكومة بدون مثل هذا الإتفاق لا يحل المشكلة جذرياً على أمد أطول، وإن كان يساهم في حل مشاكل عملية مباشرة للمواطنين، وهي مسألة مهمة طبعاً.
أضف إلى ذلك هناك إشكالية في النظام السياسي، الذي بُني انطلاقاً من اتفاقية أوسلو وما بعدها، لكونه نظاماً رئاسياً وبرلمانياً في آنٍ واحد، إذا صح التعبير في وضع تحت الإحتلال مثل وضعنا. وهو شبيه، الى حد ما، بالنظام السياسي الفرنسي. وهو نظام مربك جداً، يجعل مركز القرار مشتتاً وفي حالة صراع أو تنازع في العديد من الحالات، حتى في بلد مستقل وراسخ التقاليد السياسية مثل فرنسا. حيث شهدت مراحل "التعايش"، كما يسمونها هناك، بين رئيس وبرلمان (وبالتالي حكومة) من لونين سياسيين مختلفين مصاعب غير قليلة، وغالباً ما كانت هذه المراحل تنتهي بقيام رئيس الدولة بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة. وهنا نتحدث عن بلد مستقل وله مؤسساته الراسخة. بينما نحن في فلسطين ليست لدينا لا دولة مستقلة ولا سيادة فعلية، حيث السلطة المنبثقة عن اتفاق أوسلو تبقى محدودة الصلاحيات. وهذا الوضع تفاقم بعد الإطاحة بصلاحيات عديدة للسلطة، على محدوديتها، خاصة منذ مجيء حكومة شارون عام 2001 وإعادة السيطرة المباشرة، عبر الإجتياح العسكري، على مدن الضفة الغربية في العام 2002. لذلك، فإن إحدى القضايا الأساسية التي يجب الوقوف أمامها في المستقبل هي ضرورة بلورة صيغة أخرى تحسم هذه الإزدواجية بشكل واضح. وربما كان النظام البرلماني هو الأفضل في وضعنا. هذه المسألة ليست ذات أولوية ملحة في الأمد الراهن، حيث السلطة بمجملها ضامرة الصلاحيات، وحيث هناك هموم أكبر. ولكنها مسألة مهمة في المستقبل.

حول استراتيجية العمل النضالي الفلسطيني

بتقديري، انه من المهم، بالإضافة إلى ضرورة السعي الجاد لإعادة بناء الوحدة الوطنية وضمان استقلال القرار الفلسطيني، والخروج من حلقة الضغوط الخارجية، كهدف مباشر واستخلاص مباشر في إطار السعي للحل، من المهم والحيوي العمل على تنظيم حوار وطني شامل بالعمق، حوار على نمط حوار الدوحة اللبناني، وربما "دوحة+"، أو حتى "طائف" فلسطيني، إذا شئتم، تجري خلاله إعادة نظر فعلية باستراتيجية العمل الفلسطينية المتبعة في السنوات الأخيرة، مع الإصرار على الوصول الى رؤية مشتركة وموحدة، ليس فقط حول الهدف العام، وإنما حول الطريق والأساليب والتكتيكات التي تؤدي الى الوصول الى هذا الهدف، في ظل المتغيرات الكبيرة في المحيط المباشر وعلى الصعيد العالمي، بما في ذلك تطورات الوضع لدى الطرف الإسرائيلي القائم بالإحتلال. في النهاية، نحن كشعب فلسطيني نريد الوصول إلى نتيجة في إطار هذا الحوار. ولا بد هنا من إشراك كل الفعاليات الفلسطينية في هذا الحوار، بحيث لا يقتصر الحوار أو الحل على "فتح" و"حماس". صحيح أنهما القوتان الأكبر في الساحة الفلسطينية، لكن إلى جانبهما هناك قوى وتيارات سياسية أخرى، وهناك فعاليات مجتمعية لها حضور وتأثير. هكذا يمكن أن يكون الحوار على الطريقة اللبنانية، أي على أساس تمثيل مختلف تيارات وفعاليات الشعب الفلسطيني. ومن المهم أن يشمل ذلك أهلنا في الوطن المحتل وفي أقطار اللجوء والمهاجر على حد سواء، في سياق البحث عن حل للوضع الفلسطيني على أساس إعادة بناء الوحدة الوطنية في إطار م. ت. ف. وتكريس إستقلالية القرار الفلسطيني. فبغض النظر عن الأحجام والتأثير، إلا ان هناك أهمية لوجود القوى والتيارات الأخرى والفعاليات المجتمعية المختلفة داخل الوطن وخارجه، بما في ذلك ممثلي الجاليات في البلدان المختلفة، وهي التي كان لها دور مهم في الآونة الأخيرة، فهي التي حرّكت، أو ساهمت بشكل فعال في تحريك، التظاهرات في أنحاء العالم تضامناً مع أهلنا في غزة ابان الحرب وبعدها. وهكذا، من الضروري أن تكون هناك جهود لتفعيل كل مكونات الشعب الفلسطيني، فهناك دور مصيري للجميع في السعي للخروج من المأزق الناجم عن استمرار الإحتلال والتوسع الإستيطاني وعن الهجمة الإسرائيلية المتواصلة وعن مشروع شارون والتواطؤ الإميركي معهما. ولا أعتقد أن وضعنا مغلق وبدون أفق، مع انه ليس سهلاً.
فهناك متغيرات مهمة في المحيط الإقليمي المباشر وفي الوضع العالمي أظهرته حركة التعاطف الشعبية العربية الهائلة وحركة التضامن الواسعة في البلدان الإسلامية وبلدان "العالم الثالث"، وفي مختلف بلدان العالم. ولا بد من الإشارة في هذا السياق الى بلد هام إقليمياً مثل تركيا، التي شهدت، في العقد الأخير خاصةً، تغيراً كبيراً في المزاج الشعبي لديها لصالح التضامن مع قضايا شعوب المنطقة العربية، وخاصة مع شعبنا الفلسطيني، وهو ما عكس نفسه على صعيد الموقف الرسمي أيضاً. وهناك تضامن القوى اليسارية المتنامية النفوذ في بلدان اميركا اللاتينية، بحيث وصلت الأمور الى حد إقدام دولتين مثل فنزويلا وبوليفيا على قطع العلاقات مع إسرائيل. وهناك دور الجاليات العربية والمسلمة والقوى اليسارية والديمقراطية وذات النزعة الإنسانية في أوروبا وفي بلدان مثل أستراليا وكندا واليابان وفي الولايات المتحدة نفسها. بحيث تتنامى مؤخراً وبشكل ملحوظ دعوات مقاطعة السلع والمؤسسات الإسرائيلية والدعوات الى ممارسة ضغوط شبيهة بتلك التي مورست في السبعينيات والثمانينيات الماضية على النظام العنصري المنهار في جنوب إفريقيا. كل ذلك يضع الفلسطينيين أمام تحدٍ كبير للبحث عن نقطة انطلاق جديدة لحركة تحررهم الموحدة، مستفيدين من هذا الزخم وهذا التعاطف العربي والعالمي الواسع. ولا بد من الإشارة أيضاً الى أهمية الحدث الذي شكّله رحيل إدارة بوش الأميركية اليمينية المتطرفة بالنسبة لشعبنا وسائر شعوب المنطقة والعالم، دون الركون الى كون الإدارة الأميركية الجديدة ستغيّر جوهرياً وتلقائياً سياسات الولايات المتحدة التقليدية في منطقتنا، في غياب دور مؤثر وفاعل وضاغط عليها فلسطينياً وعربياً وعالمياً.

حول الإنقسامات في الساحتين الفلسطينية والعربية

الإشكالية ليست حديثة العهد في المنطقة. والإنقسام تعزز منذ بدايات هذا العقد الأول من القرن الجديد، وخاصة بفعل السياسة الأميركية التي كانت تحضّر للحرب على العراق، ومن خلال توجه إدارة بوش لخلق شرخ في العالم كله على قاعدة: "من معنا ومن ضدنا". هذا الإنقسام أدخلته إدارة بوش على الساحة الفلسطينية نفسها، حيث تواطأت في هذا المجال مع مشروع شارون المشار إليه سابقاً والعامل على تفتيت وإضعاف الوضع الفلسطيني. المفارقة في الموضوع أن الأطراف الرسمية الأميركية التي لعبت دوراً كبيراً باتجاه الدفع لإجراء انتخابات تشريعية في بداية 2006 هي التي ضغطت وعملت بعد الإنتخابات من أجل عدم احترام نتائجها، تحت عنوان "إسقاط حماس" وتحت حجة عدم موافقة "حماس" على شروط اللجنة الرباعية الدولية. ومعروف أنه كانت هناك لدى الجميع تقديرات مسبقة للنتائج، وكان هناك توقع بحصول "حماس" على حصة كبيرة من المقاعد، لكن ليست بالصورة التي أتت بها.
عموماً، الآن بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبعد رحيل إدارة بوش، هناك مواقف أميركية وأوروبية جديدة بشأن التعاطي مع مشاركة "حماس"، وهناك آراء تم التعبير عنها من قبل مسؤولين أميركيين وأوروبيين حاليين وسابقين ومن قبل مثقفين ومحللين، وحتى من قبل بعض المعلقين السياسيين الإسرائيليين، تفيد بأن سياسة استبعاد "حماس" ومحاصرتها أعطت نتائج عكسية. إذاً، فالانقسام العربي والفلسطيني كان، الى حد كبير وليس حصرياً طبعاً، نتيجة ضغوط وتوجهات الإدارة الأميركية، بنفوذها الكبير في العالم، وفي منطقتنا خاصةً، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات الماضية.
لكن الوضع العالمي تغير في السنوات القليلة الماضية، وهناك تراجع وحتى تجاوز لصيغة القطبية الكونية الأحادية، وبدايات تبلور أقطاب جديدة أخذت ترفع صوتها داعيةً الى عالم متعدد الأقطاب، خاصة منذ منتصف العقد الحالي، والمقصود بشكل خاص صعود الصين وروسيا. هذا، دون التقليل من شأن التوزع الواسع للتأثير الكوني لأطراف أخرى تحدث عنها خاصة المحلل والمسؤول الأميركي السابق ريتشارد هاس، المدير الحالي لمركز العلاقات الخارجية الأميركي، في مقالة شهيرة نشرت في مجلة المركز "فورين أفيرز" في ربيع العام 2008 تحت عنوان مثير: "عصر اللاقطبية: ماذا سيعقب السيطرة الأميركية".
هذه الإنقسامات تفاقمت على الصعيدين العربي والفلسطيني، وباتت تتأثر وتؤثر إحداها على الأخرى، كل طرف يؤثر ويدفع باتجاه مزيد من التمحور. وهناك، منذ عدة سنوات، تركيز وتزايد في اللهجة ضد ما أُسمي بـ"الخطر الإيراني". ومن جانبها، وبعد أن انتهت إسرائيل من التركيز على مشكلة العراق في التسعينيات، أخذت تركّز على ما تسميه هي "الخطر الوجودي الإيراني"، منطلقة من قضية الجهد الإيراني في المجال النووي وبعض التصريحات الرسمية الإيرانية حول وجود إسرائيل. وقد لفت الإنتباه في مداخلة وزيرة الخارجية الإسرائيلية وزعيمة حزب "كاديما" تسيبي ليفني في مؤتمر هرتسليا الأخير، في مطلع شهر شباط، حديثها عن وجود عنصر جديد، برأيها، في الوضع الإقليمي، قائلة، بأن هناك أطرافاً عربية تعتبر إيران هي الخطر وليست إسرائيل، على حد تعبيرها. ومعروف أن إدارة جورج بوش الإبن كانت تدفع بهذا الإتجاه، أي باتجاه إعادة الإصطفاف في المنطقة العربية – الشرق أوسطية بحيث تكون إسرائيل جزءً من تحالف إقليمي واسع ضد ما كانوا يسمونه بـ"التطرف الإسلامي"، وضد إيران.
ربما من فائدة التغير الهام الذي حدث في المناخ الشعبي التركي، الذي أشرنا إليه والذي تؤكده استطلاعات الرأي الدولية، بما في ذلك استطلاعات رأي أميركية من قبل مؤسسة مثل PEW، حول الموقف الشعبي التركي من إسرائيل وحتى من الولايات المتحدة، وهو التغير الذي انعكس في الموقف السياسي للحكم في تركيا، من فائدته انه يعيد توضيح الصورة باتجاه يُسقط مقولات "الخطر الشيعي" ودعوات استبدال المواجهة مع الإحتلال الإسرائيلي بمواجهة مع خصم مزعوم هو هذا "القوس الشيعي"، أو "الإرهاب" أو "التطرف" أو "الفاشية الإسلامية"، وفق التعبير الذي استخدمه بوش نفسه، الذي كان يمكن أن ينظر في المرآة قبل أن يستخدم تعبير "الفاشية" هذا.
وعلى خلفية خطواتها الأولى، فإنه يبدو أن الإدارة الأميركية الجديدة، إدارة أوباما، ستقوم بتغيير ملموس في عدد من سياسات الإدارة السالفة، ليس بالضرورة باتجاه تبني مواقف أقرب الى مواقفنا في قضايا الشرق الاوسط والصراع العربي- الاسرائيلي، ولكن باتجاه أكثر براغماتية وأقل أيديولوجية من إدارة بوش اليمينية المتطرفة. فهذه الإدارة الجديدة، وإن كان رئيسها من أصول نصف إفريقية، هي، في نهاية المطاف، إدارة أميركية وليست عربية أو إفريقية، ولا تبحث عن مصالحنا بالدرجة الأولى، وإنما عن مصالح الولايات المتحدة ونخبها الحاكمة. ما لفت الإنتباه في تصريحات أوباما منذ بداية ولايته انه لم يستخدم كثيراً تعبير "الحرب على الإرهاب"، الذي كان يكثر الحديث عنه سلفه جورج بوش. وهناك تركيز في تصريحاته وتصريحات معاونيه على أهمية الدبلوماسية والحوار في السياسات العالمية، بما في ذلك مع منطقتنا. وهذا واضح ايضاً في الأدبيات التي صدرت عن مؤسسات بحثية ودراسية كتوصيات للإدارة الأمريكية الجديدة، وغالبيتها تركّز على الدبلوماسية كبديل عن الحرب في التعاطي مع القضايا الدولية، ومع قضايا منطقتنا خاصةً. ونشير هنا، على سبيل المثال، الى الوثيقة المطولة التي أعدها كتوصيات الى الرئيس الأميركي الجديد كلٌ من ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ومارتن إنديك، مدير مركز سابان لسياسات الشرق الأوسط التابع لمعهد بروكينغز، تحت عنوان "إعادة التوازن"، ونُشر الملخص التنفيذي لفصلها الأول تحت عنوان "زمن للتجديد الدبلوماسي: من أجل استراتيجية أميركية جديدة في الشرق الأوسط". ومعروف أن هاس عمل في وزارة الخارجية في السنوات الأولى من إدارة بوش الجمهورية، في حين عمل إنديك في إدارة كلينتون الديمقراطية.
أحد المؤشرات ذات المغزى في السياسة الأميركية الجديدة تمثّل في الإسراع في تعيين جورج ميتشل مبعوثاً خاصاً للرئيس الأميركي بشأن الصراع الفلسطيني والعربي- الإسرائيلي، وتعيين مندوب آخر (هو ريتشارد هولبروك) بالنسبة لأفغانستان وباكستان. ويبدو أن الهدف الرئيسي لميتشل في المرحلة الأولى من عمله سيتمثّل في تثبيت وقف التهدئة على جبهة غزة، أما مهمته الأوسع المتعلقة بمعالجة الصراع في المنطقة، فهو بدأ بالتحذير من صعوبتها وترك المجال الزمني مفتوحاً للتعاطي معها. فهو نفسه ذكر، في المداخلة التي قام بها عند تسلمه الرسمي لمسؤوليته بحضور أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، أنه في جهوده لحل مشكلة إيرلندا الشمالية شهد 700 يوم من الفشل وعدم الوصول الى نتيجة، ويوماً واحداً من النجاح، على حد تعبيره. بمعنى انه لا يتوقع إيجاد حلول سريعة للصراع في منطقتنا.
اعتقد، من خلال ما قرأته من كتابات وتحليلات، انه رغم وجود تغيير واضح في السياسة الأميركية ورغم حديث بعض المعلقين الإسرائيليين عن احتمال نشوء اختلافات مع هذه الإدارة، الى حد أن تسيبي ليفني نفسها تحدثت أثناء حملتها الانتخابية عن صدام محتمل بين نتنياهو والإدارة الأميركية في حال تشكيله للحكومة الاسرائيلية الجديدة، فنحن لا نستطيع أن نتوقع تغيّيرات كبيرة في السياسات الأميركية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي في غياب دور فاعل ومؤثر ومتماسك على الصعيد الفلسطيني، كما على الصعيد العربي الأوسع.
في كل الأحوال، فأن التوجه الأميركي الحالي في منطقتنا هو نحو التهدئة على كل الجبهات، والإنطلاق، على الأغلب، مما ورد من توصيات في تقرير بيكر - هاميلتون الشهير حول العراق في أواخر العام 2006. ومثل هذه التوصيات واردة، بشكل أو بآخر، أيضاً في التقرير الذي أشرنا إليه والمعدّ من قبل مدير مركز سابان، مارتن إنديك Martin Indyk، ورئيس مركز العلاقات الخارجية، ريتشارد هاس Richard Haass ، حيث تبنى الإثنان نفس الفكرة الواردة في تقرير بيكر – هاميلتون بشأن أهمية معالجة الصراع الفلسطيني والعربي- الإسرائيلي في تغيير مناخات المنطقة. ويلفت الإنتباه في التقرير الأخير، تقرير إنديك- هاس، اعتبارهما أن معالجة المسار السوري - الإسرائيلي أسهل من معالجة المسار الفلسطيني – الإسرائيلي. ولذلك، هناك تقديرات بأن ميتشل، ومن ورائه الرئيس أوباما مباشرة ووزيرة الخارجية، سوف يعملون على خطين، المسار السوري والمسار الفلسطيني. وبالنسبة للمسار الفلسطيني، هناك تركيز على تثبيت الوضع في غزة أولاً، كما ذكرنا، وفي مرحلة لاحقة باتجاه مفاوضات حول قضايا ما يُسمّى بـ "الوضع الدائم"، ربما وصولاً إلى اتفاق مبدئي لعناصر الحل، بحيث يجري تطبيقه لاحقاً على مراحل، وعلى مدى سنوات. وهو ما جرى مع اتفاق إيرلندا الشمالية، الذي استغرق التوصل إليه زهاء الثلاث سنوات واستغرق تطبيقه بعد ذلك تسع سنوات.
ولكن هناك، بالطبع، فروقات كثيرة في الوضع بين المنطقتين والمشكلتين، ولا شيء يمكن أن يتم توقعه بشكل كامل، حيث هناك الكثير من التعقيدات في منطقتنا، بما في ذلك في الوضع الداخلي الإسرائيلي الذي ما زال ينحو باتجاه مواصلة توسيع الإستيطان والسيطرة الزاحفة على أراضي القدس والضفة الغربية، لوضع الجميع أمام أمر واقع. وفي الوقت ذاته، لا يمكن التقليل من مركزية الملف الأهم لدى إدارة أوباما، وهو ملف الأزمة الإقتصادية الطاحنة، التي يرى بعض المحللين انها أسوأ حتى من أزمة الثلاثينيات الماضية، كبرى أزمات النظام الإقتصادي الرأسمالي العالمي حتى الآن، وليس هناك من يستطيع أن يتنبأ الآن حول المدى الزمني المحتمل لهذه الأزمة الحالية وكيف سيكون مسار التطورات التي تقود الى الخروج منها. وذلك سيؤثر، بالضرورة، كثيراً على السياسات الخارجية الأميركية، بما في ذلك تجاه منطقتنا. وليس واضحاً بعد بأي اتجاه يمكن أن يكون هذا التأثير.
بالنسبة للموقف الأوروبي، هناك ضياع كامل للموقف الخاص، حيث تراجعت الإتجاهات الإستقلالية التي كانت تمثلها فرنسا وألمانيا عشية بدء الحرب الأميركية- البريطانية على العراق، بعد التغيرات السياسية في البلدين. والتيار الغالب على أوروبا حالياً هو التيار الأميركي، التيار الداعي الى تعزيز التحالف مع الولايات المتحدة. ودخول العديد من دول أوروبا الشرقية التي كانت متحالفة مع الإتحاد السوفييتي السابق، أو كانت جزءً منه (كما هو حال دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وإستونيا وليثوانيا) الى الإتحاد الأوروبي زاد من الميل لصالح التيار الأميركي داخل الإتحاد. ولكن، مرةً أخرى، الأزمة الإقتصادية الطاحنة، التي شملت دول أوروبا أيضاً، قد تقود الى تطورات يصعب توقعها الآن.
من جانبنا، يجب ان نستفيد من المعطيات الجديدة في الوضع الدولي، بدءً بصعود الدور الكوني لكلٍ من الصين وروسيا خلال السنوات الأخيرة. وهذان طرفان مهمان على الصعيد العالمي. فهما عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي، وأحدهما، روسيا، عضو في اللجنة الرباعية. ينبغي الإهتمام بهذا الوضع الكوني الجديد، ولا ينبغي الرهان فقط على آلية العمل الأميركية وحدها، لأنها لن تعطي بالضرورة حلولاً قريبة ومناسبة لنا لأزمات المنطقة.
يمكن الإستفادة من هذه التغيرات الهامة في خارطة الوضع الدولي، ومن التضامن الواسع، العربي والإسلامي والعالمي، الذي عاد الى الظهور على السطح بمناسبة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بما يشمل أميركا اللاتينية ذات التوجهات اليسارية الغالبة ودورها المتزايد ككتلة متعاونة في ما بينها، ويشمل التحول في مواقف تركيا، وهو تحول هام، كما أشرنا، بحكم موقع تركيا الإستراتيجي وعلاقاتها التاريخية الحميمة مع إسرائيل والولايات المتحدة. وبالتالي، فإن التطورات في الوضع الدولي يمكن أن تفتح أمامنا أفقاً للفعل وللتأثير والضغط على الإدارة الأميركية ذات العلاقة التاريخية الإستثنائية مع إسرائيل ومصدر الدعم المالي والسياسي الأكبر لها، الى جانب الضغط على إسرائيل بشكل مباشر.

أهمية الفعل الذاتي الفلسطيني والعربي

هناك مسألة أعتقد أنه ينبغي التأكيد عليها، وقد جرى التأكيد عليها بأشكال مختلفة في مداخلات الزملاء، وهي أهمية الفعل الفلسطيني، وعدم الإكتفاء بمجيء الفرج من الخارج. لا ننتظر من إدارة اوباما أن تعطينا شيئاً، فلن نحقق شيئاً إلا بمقدار ما نحن نستحق من خلال جهدنا وفعلنا. الفرق بين أوباما وبوش لا يكمن في كون أوباما أكثر تعاطفاً معنا: فآراؤه الشخصية السابقة ليست هي التي تقرر سياساته، بل حساباته المنطلقة من رؤيته لمصالح الولايات المتحدة ومواقف مراكز القوى الرئيسية فيها، وخاصة تلك التي دعمته في الوصول الى رأس السلطة. من خلال خطوات أوباما الأولى كرئيس، من الواضح أنه يعيد السياسة الأميركية إلى مدرسة البراغماتية التاريخية. ليست هناك ايديولوجيا تكبّله أو تتحكم في قراراته ورؤيته السياسية كما كان حال جورج بوش، صاحب الخلفية الأيديولوجية التي جعلته شديد القرب من اليمين المتطرف في إسرائيل والحركة الصهيونية، على خلفية علاقته مع "التيار المسيحي ـ الصهيوني" في الولايات المتحدة.
الفعل الفلسطيني هو المركزي في المقام الأول، أكان ذلك بالنسبة إلى تعاطينا مع إدارة أوباما أو مع الوضع الدولي بشكل عام: وذلك بدءً من إعادة بناء الوحدة الوطنية على قاعدة وضوح البرنامج الموحد، وعلى أساس المشاركة الواسعة في القرار، والسعي الى رسم استراتيجية كفاحية وسياسية موحدة وواضحة للسنوات القليلة القادمة. ليست القضية ان نعيد النظر في هدف أو برنامج الدولة المستقلة في القدس والضفة وغزة، الأراضي المحتلة عام 1967، لأن أي بديل وطني آخر مطروح هو بديل غير مرئي إطلاقاً في أي أمد قريب. هو، في ظل المعطيات الحالية، خيار نظري، قد يكون أفضل من حيث المبدأ أو نظرياً، لكنه ليس قابلاً للتحقيق في أمد قريب.
في هذا السياق، قد يكون مفيداً الإشارة الى كراس نشره مؤخراً (في أيلول/سبتمبر 2008) الجنرال الإسرائيلي غيورا آيلاند، الذي كان رئيساً لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي في ظل حكومة آريئيل شارون في الفترة 2004-2006. وقد صدر الكراس، الذي يتشكل من حوالي 60 صفحة، عن مؤسسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، القريبة من وجهات نظر اليمين الإسرائيلي، (Washington Institute for Near East Policy (WINEP بعنوان "إعادة النظرة بحل الدولتين". Rethinking the Two-State Solution
يقول آيلاند ان قضية الدولتين (والمقصود طبعاً إقامة الدولة الفلسطينية، حيث ان الدولة الإسرائيلية قائمة) طويت صفحتها، وهناك بديلان، برأيه: "الخيار الأردني"، أي إعادة معظم أراضي الضفة إلى الأردن، والأردنيون ليسوا متحمسين حالياً لهذا الخيار، لكن يمكن للوضع أن يتغير، برأيه، وقد يفضّل الفلسطينيون في الضفة الغربية النظام الأردني على "حماس"، كما جاء في الكراس.
والبديل الثاني هو توسيع قطاع غزة عبر إلحاق أراضٍ مصرية به مقابل إعطاء مصر أراضيَ من صحراء النقب! وهو خيار ليس متوقعاً أن تقبل به مصر طبعاً. وفي الواقع، فإن الإدارة الأميركية الجديدة، بما في ذلك جورج ميتشل، ليست لديها مواقف مسبقة حول الحلول، إنطلاقاً من براغماتيتها، لذلك قيل ان ميتشل سيكون مستمعاً في زياراته الأولى للمنطقة.
يقول آيلاند في كراسه: في سنة 2000 كانت فرضية الدولتين ممكنة، وفي 2007 و 2008 تغيّر الوضع بشكل جذري. وهنا يشير، من جهة، إلى موضوع التوسع الإستيطاني، ومن جهة أخرى، الى ما أسماه تجربة غزة، حيث قام شارون بترك غزة للفلسطينيين، وتبيّن بعد ذلك أن السلطة الفلسطينية التي يتحاورون معها غير قادرة على الحفاظ على سيطرتها عليها، وبالتالي تحوّل الرأي العام الإسرائيلي، حسب رأيه، باتجاه رفض تكرار تجربة غزة في الضفة الغربية.
وفي الواقع، فإن السلوك العملي الإسرائيلي على الأرض يذهب باتجاه صيغة "المعازل" أو "البانتوستانات" الفلسطينية المسيطر عليها من قبل إسرائيل. وهو الوضع الذي يبدو أن أصحاب القرار في إسرائيل يميلون عملياً إليه، بمعزل عن تصريحاتهم العلنية.
بالمقابل، فإن أي تطور يحدث في الوضع الإسرائيلي الداخلي باتجاه القبول بمبدأ الإستقلال الفلسطيني مفيد، حتى لو كانت الأصوات المتمسكة به بشكل فعلي ضعيفة حالياً. وفي الحقيقة، فإن الوضع يختلف عن أي وضع استعماري تقليدي، لسبب بسيط هو ان الإسرائيليين، أي الطرف المستعمر، موجودون على الأرض. ومن ناحية أخرى، فإن الأيديولوجية الصهيونية تتعارض مع أي حل على طريقة جنوب إفريقيا، وهو بديل جيد إذا كان ممكناً. لذلك، فإن الضغط الخارجي، العربي والدولي، مهم بكل أشكاله. والكفاح الفلسطيني متعدد الأشكال يمكن أن يُناقش، ويتم الإتفاق عليه وطنياً، وعلى ضوء ذلك تتم إعادة التفكير في طبيعة السلطة القائمة حالياً وحدود دورها وصلاحياتها، على قاعدة أهمية إعادة إحياء دور م.ت. ف، كإطار موحد لكل الشعب الفلسطيني. ومن هنا أهمية تفعيل حركة الشعب الفلسطيني خارج الوطن أيضا، ودوره في إطار هذه الاستراتيجية الموحدة.
ولا يجب أن يقلقنا بعض مظاهر التحرك العالمي المتضامن معنا، واحتمال أخذه طابعاً أو لوناً معيناً يبدو، ظاهرياً، وكأنه يعزز تياراً على حساب غيره في الساحة الفلسطينية. فالعلم الفلسطيني كان واضحاً في تظاهرات تركيا وفي أميركا اللاتينية وفي إندونيسيا وبلدان أخرى. وبالتالي، يجب العمل على تنمية واستثمار هذا التعاطف الدولي لصالح قضية الشعب الفلسطيني بمجمله، بكل تياراته وتلاوينه السياسية والفكرية، على أرضية إصلاح وتدعيم الوضع الذاتي الفلسطيني. والخروج من المأزق الراهن وحالة الإنقسام يفتح آفاقاً جديدة للدفع باتجاه الحل الذي يطالب به الفلسطينيون في الأمد المنظور، أي خيار الإستقلال، وهو حل ليس الآن معطىً مسلماً به، لا من قبل إسرائيل، بكل أطيافها الرئيسة، ولا من قبل الولايات المتحدة، ولا حتى من قبل الأوروبيين، بغض النظر عن التصريحات العلنية التي ترد على ألسنة البعض منهم.







#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة ...
- نجاحات جبهة فارابوندو مارتي الإنتخابية في السلفادور تؤكد است ...
- الحرب على غزة... وخطة شارون- داغان لتصفية مشروع الإستقلال ال ...
- بعد عشر سنوات على رحيل عالم التاريخ والتراث هادي العلوي...ما ...
- نهاية نهاية التاريخ..!
- حول الموقف السوفييتي من مسألة فلسطين في العامين 1947-1948
- حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-
- في أربعين -الحكيم- جورج حبش... نكبات فلسطين المتعاقبة وتحديا ...
- -اليسار والخيار الإشتراكي... قراءة في تجارب الماضي وفي احتما ...
- 90 عاماً على الثورة البلشفية في روسيا.... هل كان بالإمكان تف ...
- حروب النفط والصراعات على منابعه وممراته مرشّحة للإتساع
- القرن 21 سيكون قرناً آسيوياً؟
- صعود الصين وتنامي استقلالية روسيا...يؤشران لتوازنات عالمية ج ...
- ملاحظات على هامش إنتخابات الرئاسة في فرنسا
- اليسار يرسم خارطة جديدة لأميركا اللاتينية، ومشروع عالم بديل
- تحديات تواجهها المساحة العربية في عصر العولمة الرأسمالية
- اليسار الجذري والديمقراطية التعددية هل يلتقيان؟ فنزويلا قالت ...
- الأيديولوجيا والسياسة... إستقلال نسبي، وضوابط ضرورية
- إنتصارات اليسار في أميركا اللاتينية -الخلفيات والآفاق
- داود تلحمي في حوار مع العربية ضمن برنامج السلطة الرابعة


المزيد.....




- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان
- تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020- / غازي الصوراني
- (إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل ... / محمود الصباغ
- عن الحرب في الشرق الأوسط / الحزب الشيوعي اليوناني
- حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني / أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
- الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية / محمود الصباغ
- إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين ... / رمسيس كيلاني
- اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال / غازي الصوراني
- القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال ... / موقع 30 عشت
- معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو ... / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - داود تلحمي - حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لمجلة الدراسات الفلسطينية)