أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عقيل الناصري - حقائق واسرار الصراع السياسي العراقي في حقبة الخمسينيات















المزيد.....



حقائق واسرار الصراع السياسي العراقي في حقبة الخمسينيات


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 2624 - 2009 / 4 / 22 - 09:10
المحور: مقابلات و حوارات
    


حوار هادئ لموضوع ساخن
أجرى الحوار صبيح نوري
د. عقيل الناصري .. باحث معروف في الوسط العلمي من خلال دراساته المتعددة عن ثورة 14 تموز وشخصية الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.. ويكاد أن يعتبر حسب قول الناقد المبدع الراحل محمد مبارك { المؤرخ المنصف لقاسم وثورة 14 تموز}. اجرت البينة االجديدة معه حوار متعدد المناحي اوضح فيه رؤيته النقدية لواقع العراق السياسي أثناء مرحلة تموز/ قاسم والتي يطلق عليها خلاف لجمهرة واسعة من السياسيين والكتاب اسم { المرحلة النيرة} ترى لماذا هي نيرة؟ وهل تمثل حدثا استثنائيا في تاريخ العراق المعاصر ؟ وما اهمية الراحل الشهيد قاسم ودوره في عملية التغيير ذاتها ودوره ، كما يقول د. الناصري، في التكتل الغائي لحركة الضباط الأحرار؟ تعالوا معنا في هذه الرحلة التاريخية الفكرية ونحاور عقل المبدع د. عقيل الناصري ونتلمس أراءه حول تموز وقاسم والنظر إليهما.
في المقابل لابد لنا في البدء من التعريف المكثف لضيفنا بالقول .. أنه قد ألف 6 كتب و3 كراريس واكثر من 80 بحثا ودراسة ومقالة.. ومشارك في العشرات من الندوات العلمية .. وعمل استاذا في جامعة وهران لمدة 9 سنوات وباحث غير متفرغ في معهد الاستشراق في موسكو، وقبلها باحث في وزارة العمل والشؤون الاجتماعي.. ومتفرغ منذ 20 سنة في دراسة موضوعه الذي تخصص فيه. وهو الان استاذ مساعد في الاكاديمية العربية المفتوحة في الدنمارك ، اشرف ولا يزال على عدة أطاريح ورسائل جامعية.

السؤال الأول:
*ما هي ابرز الأحداث السياسية والاجتماعية التي سبقت ثورة 14/تموز؟
*** إن هذا السؤال يحمل في رحمه ضرورة تتبع المسببات الأرأسية لثورة 14 تموز بصورة غير مباشرة.. لذا سأحاول التكثيف في الاجابة واقول: لقد حفلت خمسينيات القرن المنصرم بجملة من التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في داخل العراق والمنطقة.. اثرت بمجملها في عملية انضاج الظروف الموضوعية والذاتية لعملية التغيير الاجتماعي وإشتداد فعالية صيرورتها . وقد تم رصدها من قبل قوى اجتماعية وسياسية عديدة.. نتيجة استفحالها التي انعكست أحدى جوانبها في جملة الانتفاضات الاجتماعية التي عبرت عن رفضها لنتائج هذه الصيرورة .. والتي برفضها هذا قد انضجت في الوقت نفسه بعض سمات الظروف الذاتية لقوى التغيير الاجتماعي.
في الواقع أن هنالك ثلاثة مستويات لهذه الاحداث وهي :
- التغيرات الداخلية ؛
- التغيرات الافليمية؛
- التغيرات الدولية.
في البدء لا يمكن فصم هذه الحلقات الثلاثة بعضها عن البعض الآخر من حيث التأثير على الواقع العراقي.. فمن الناحية الداخلية تراكمت جملة ظواهر سواء ما يتعلق منها في انبثاق حلف بغداد وما أضاف الى العراق من مهام ومسؤولية لا تصب في مصلحة تطوره وحياده على المستوى الدولي.. اذ اقحم في هذا الصراع بالضد من مصالحه (عراقيا وعربيا) ومركزية صراعهما مع المراكز الرأسمالية آنذاك وخاصة في علاقاته الاقتصادية غير المتكافئة معها.. وكذلك بالنسبة لمركزية الصراع حول فلسطين. ومن الابرز لها في المنطقة هو تاميم النفط في إيران في زمن حكومة مصدق.. وكذلك (الثورة المصرية) وما اعقبها من تطورات بصدد علاقاتها مع المعسكر الاشتراكي السابق وتجديد اسلحة الجيش المصري وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي.
أما على الوضع الداخلي فهنالك بعض (المنجزات) التي فرضتها طبيعة الصراع الاجتماعي/ السياسي ومنطق التطور وفعله الذي هو نتاج لآلية قوانينه وسريان سننه سواءً في المدينة أوالريف ، كتطبيق قانون المناصفة للفلاحين، وزيادة حصة العراق من شركات النفط، والتوسع في عمليات بناء البنى التحتية للاقتصاد والنمو النسبي للطبقة الوسطى وغيرها. في الوقت نفسه تعمق الصراع السياسي مع النخبة الحاكمة وقاعدتها الاجتماعية والتي انعكست في الاجراءات القمعية التي قامت بها وزارة نوري سعيد الثانية عشر وذلك القمع والعنف (المادي والمعنوي) التي رافق الاحتجاجات الاجتماعية السياسية في مختلف قطاعات الانتاج المادي في صناعة النفط والمؤسسات الصناعية وحتى في الريف في مختلف المناطق. ولكن الاهم من هذه الظواهر هو استكمال مقومات النشوء لظاهرة جديدة وهي التكتل الغائي لحركة الضباط الأحرار.. التي رافقها واكمل مهامها هو انبثاق جبهة الاتحاد الوطني الذراع السياسي للفئات والطبقات الاجتماعية المعارضة والمساندة لفعل التغيير. هذا الفعل قد جسد وجوده بقوة حتى أن الكثير من القوى الاجنبي وخاصة (السفارة البريطانية) قد تحسست وجوده وخذت تكثف من جهودها لأجل الضغط على النخبة الملكية الحاكمة من أجل تفريغ مضامينه القابلة للانفجار.
السؤال الثاني:
*لماذا نشأت حركة الضباط الأحرار السرية ؟
*** عند الإجابة على هذا السؤال علينا العودة إلى فترة تاريخية ماضية من تاريخ العراق المعاصر وتكوين الدولة العراقية ودور الضباط فيها ، وإلى ماهيات الفعل السياسي للقوات المسلحة ونشؤها وإلى نظرة الضباط إلى ذاتهم المهنوية و(نظرية البعد التاريخي) لدورهم ومهامهم .. حيث لعبوا منذ الحضارات الأولى دورا مهماً في عقد السلطة وديمومتها، بغض النظر عن ماهيتها وعنوان ذراعها المادي المسلح: مقاتل، مجاهد، محارب،عسكري، ضابط.
وفي العصر الحديث فقد مارس ضباط المؤسسة العسكرية السياسة وتسنموا المناصب الأراسية في الدولة العراقية الجديدة ..وبعد أن توسعت المؤسسة العسكرية والامنية في اواسط الثلاثينيات، فقد تدخلت بقوة في الحدث السياسي عبر الانقلابية العسكرية التي عجت بها سنوات 1936-1941 حيث اصبحت تمارس السياسة بصورة مباشرة أو/و غير مباشرة، وبدأت الحزبية تنمو في رحمها بصورة غير علنية، في البدء، إلى أن اصطدمت بالسلطة آبان بدء الاحتلال الثاني (1940-1947) وتقهقر المؤسسة العسكرية وانعدام الثقة بالعائلة الحاكمة بعد اعدام الحياة لقادة حركة مايس.. وتسريح في حدود ثلثي ضباط المؤسسة العسكرية، ومما زاد الطين بله هو الدخول الواهن لحرب فلسطين الأولى بقوة مادية ضعيفة جدا غير مؤثرة ولعبة سياسية مكشوفة ساهمت العائلة الهاشمية في رسم أبعادها.. مما حفز الضباط على فكرة التكتل الغائي ضمن ظاهرة جديدة عمت بلدان الشرق الأوسط اطلق عليها أسم ( حركة الضباط الأحرار) وهي الترجمة العملية لعودة الضباط للعب ما يمكن أن نطلق عليه ( الدور التاريخي) لهم .. خاصةً بعد ان ضخموا من ذاتهم ومن تصوراتهم باعتبارهم حاملين لفكرة التغيير الاجتماعي .. بغض النظر عن مدى قربهم من هذا المفهوم أو بعدهم عنه.
وفي الوقت نفسه في تلك الفترة كانت البداية الجدية للدخول الامريكي للمنطقة عبر الانقلابية العسكرية المتبناة من قبلها والذي سبق وأن طبقته منذ نهاية القرن التاسع عشر في امريكا اللاتينية.. وهي التعامل مع الوضع من خلال االانقلاب العسكري. وقد بدأ في سوريا في نهاية الاربعينيات ومن ثم (الثورة) المصرية عام 1952.. وغيرها من المحاولات غير الناجحة في العراق وبعض البلدان الأخرى في منطقة الشرق الأوسط كإيران والباكستان ومن ثم تركيالاحقا....الخ.
هذا التبني الامريكي للفكرة الانقلابية لا يعني أن جميع هذا الحركات كانت امريكية التخطيط.. وهذا ما يتضح بقوة الموضوعية، على الاقل، بالنسبة لحركة الضباط الأحرار في العراق .. والتي نشأت بالضد من توجهات المراكز الرأسمالية والحكومات الحليفة لها في العراق. لذا كان الموقف الرافض للحرب الفلسطينية الأولى احد الدوافع الأرأسية لفكرة التكتل الغائي لدى الضباط العراقيين.. ومما عمقه هو (الموقف التابع) لحكومات تلك المرحلة المتماهية مع المشاريع الغربية حتى تلك التي ليس للعراق وانتماءه العربي فيها مصلحة.. وقد تعمقت أكثر نتيجة التناقضات الاجتماعية والسياسية وبروز قوى اجتماعية لها دور كبير في عملية الانتاج الاجتماعي المادي وإزديادة حدة الصراع في الريف ضد الهيمنة الاقطاعية وجملة القوانين التي تنظم الحياة فيها والتي جميعها تصب في مصلحة الشيخ والملاك الغائبين.
وفي اعتقادي لعب العامل السياسي المتمثل في فشل النظام الانتخابي لتداول السلطة سلميا بين الطبقات الاجتماعية دوراً كبيرا في انضاج ظروف وفكرة التغيير لدى الطبقات الوسطى بمختلف فئاتها وخاصةً عبر جناحها العسكري (الانتلجنسيا العسكرية). وهذا ما عبر عنه القائد الأرأس لحركة الضباط الاحرار الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.. عندما اشار ،إلى ما معناه، إلى اننا في القوات المسلحة لم نتدخل في تغيير النظام لو كان بمستطاع الاحزاب الوطنية المعارضة الوصول الى السلطة عبر الانتخابات، إذ كانت كل الحكومات تتدخل فيها وتزورها بصورة فجة.
كما إن فشل حكومات تلك المرحلة في تحقيق تغيرات في بنية الاقتصاد وهيكلية انماطه ورفع مستوى المعيشة عوامل متداخلة لعبت دورا في نشوء هذه الحركة الجديدة ذات الغائية المحددة والمتمثلة في امكانية تحقيق ما كانت تصبوا إليه القوى الوطنية العراقية المعارضة من تحقيق التغيير في الافكار والبنى ، في الانماط الاقتصادية وأولوياتها، في الحياة السياسية وديناميكيتها المعبرة عن تطلعات الكم الكبير من العاملين في حقل الانتاج الاجتماعي بمختلف فروعه. انها عوامل مترابطة جدليا اكتسبت موضوعيتها من قدرتها في التعبير عن مطالب الجماهير الفقيرة والكادحة.. مادة التاريخ الانساني.
في الوقت نفسه وحتى نكون قريبين جدا من الموضوعية لابد من الإشارة الى العامل الذاتوي لدى فئة قليلة من الضباط الطامحة للوجاهة الاجتماعية والتماثل مع ضباط الحركة المصرية.. وفي اعتقادي من خلال دراستي لهذه الموضوعة أن أزعم أن اغلب أعضاءضباط اللجنة الوسطية في حركة الضباط الأحرار في العراق كانوا من المتأثرين بهذا العمل.. لا بل حتى لدى بعض القادة المحوريين في اللجنة العليا للحركة.. وقد تجلى هذا في تزعمهم للحركات الانقلابية ومشاركتهم الفعالة فيها، أو على الاقلفي إنزوائهم عن فعل التفعيل صيرورة الحركة واهدافها.
السؤال الثالث
* ما الذي جمع هؤلاء الضباط من أهداف سياسية واجتماعية رغم انحدارهم من أصول وقوميات واديان ومذاهب مختلفة وأيضا ايدولوجيا تتراوح بين الوطنية والإسلامية والقومية واليسارية ؟
*** قبيل الاجابة على هذا السؤال..لابد من التعمق إلى التركيبة الاجتماعية (القومية والدينية، الطبقية والاثنية) للواقع العراقي. إن تعددية هذه التكوينات وتشعباتيها توسم المجتمع العراقي.. وقد تكونت في سياق البعد التاريخي الطويل سواءً لجغرافيته الطبيعية أو/ و السياسية والى تلك القمم الشامخة من حضارته وكبواتها. هذا التكوين وما افرز من تعددية قد يعتبر عنصر من عناصر القوة للمجتمع سواءً في تركيبه أو في تنوع قيمه وسلوكيات وثقافات أبناءه .. لكن في الوقت نفسه يمكن أن يكون عنصر تشتت واحتدام واحتقان خاصة في تلك المنعطفات التي تتعارض فيها مصالح وتطلعات هذه التكوينات المتعددة. وهنا لابد من العودة الى تاريخية تأسيس الجيش العراقي سواءً قبل تكوين الدولة العراقية أو بعد تأسيسها.. وقد تطرقت الى ذلك بالتفصيل في كتابي {الجيش والسلطة في العراق الملكي- دفاعا عن ثور 14 تموز} الصادر من وزارة الثقافة عام 2005. لأقول.. نعم عندما تأسس الجيش وبلور ذاته المهنوية وتطورت عقلية قادته فيمكن أن نرى فيه عالمان :
- عالم الضباط ومنابتهم الاجتماعية التي تتمحور في الفئات المتوسطة (والقليل منهم) الصغيرة من الطبقة الوسطى.. والتي أخذت تنمو لغاية نهاية الجمهورية الأولى( 14 تموز1958-9 شبط 1963) بصورة طبيعية حتى تكونت عوائل عسكرية من حيث المهنة الرئيسية للعائلة. هذا النموذج قد طرأ عليه تغير جذري في الجمهورية الثانية ( شباط 1963- نيسان 2003) من حيث الأصول الطبقية لضباطه. أما مناطقهم الجغرافية فقد كانت تتمركز في بغداد وشمالها وأعالي الفرات. هذا المنبع الاجتماعي جعلهم اقرب الى سياسي وأحزاب الطبقة الوسطى وخاصةً في توجهها الحزبي القومي منها والاسلامي.. أما من ذوي الفئات الصغرة فقد كان ميلهم الأعم مع الاحزاب اليسارية والديمقراطية وتلك ذات المنحى الوطني.
لكن هذا الموقع الطبقي غالبا ما يتغير مع الصعود في المراتب العليا للمؤسسة العسكرية حيث تنسج عندها مصالح طبقية جديدة تبتعد بمسافة عن أصولها.
- عالم المراتب.. حيث أن اغلب منتسبيه والقاعدة الواسعة لهم هم من المطرودين (لاسباب مختلفة) طوعا أو/و اجباراً من عالم الريف وفقراءه المدقعين ومن فقراء المدينة والهامشين منها.. وهؤلاء أغلبهم من المناطق الجنوبية والفرات الاوسط.. ويميل اغلبهم إلى الافكار الرديكالية في صيغتها الشيوعية.. وهذا ما وسم العراق لغاية مطلع سبعينيات القرن المنصرم.وقد لعب منتسبي المرات دورا مهما في احباط عدة محاولات انقلابية ضد نظام الراحل قاسم.. وهي سمة نادرة في عالم البلدان المتخلفة
ومن هنا لوعدنا الى السؤال لقلنا أن لا عجب في تنوع هؤلاء الضباط وفي تعددية انتمائتهم الفكرية والسياسية حيث انهم عكسوا هذا الواقع من جهة وفي كونهم قد عبروا عن مطاليب اجتماعية معبرا عنها ضمن هذه الخريطة السياسية من جهة أخرى. وهذا ما توضح بشكل موضوعي عند المقارنة بين مطاليب الحركة الوطنية على تعدد توجهاتها الفكرية والبرنامج المتبنى من قبل حركة الضباط الأحرار في كل أبعاده السياسية والاجتصادية والثقافية سواءً الداخلية منها أو/و الاقليمية والموقف من التحالفات العسكرية والصراع الدولي. بمعنى آخر أن عامل التمركز كان اقوى من عامل التشتت آبان نضال الضباط الأحرار في الموقف من النظام الملكي ومن الأهداف العامة المراد تحققها. لكن في الوقت نفسه أصبح هذا التباين الفكري عامل تشتت لا بل وتناقض في بعده التناحري المفتعل والمبوصل من بعض الأطراف بعد تأسيس الجمهورية.
السؤال الرابع
* هل ساهمت جبهة الاتحاد الوطني /1957في تقريب وجهات النظر عبر برنامج مشترك لإسقاط الحكم الملكي ؟ ثم انفرط عقدها بعد استلام السلطة والاستئثار بها ؟
*** ممكن تلمس بعض جوانب السؤال مما ذكر سابقاً. في حين أنا اعتبر أن جبهة الاتحاد الوطني مثلت بعض اوجه النضوج الذاتي لمطلبية التغيير التي قادها الجناح المسلح للطبقة الوسطى.. وقد كانت هنالك علاقات بين الطرفين وعلى مستويين:
- المستوى الأول .. وهو الذي ربط الجبهة باللجنة العليا للضباط الأحرار من خلال شخصية سكرتير اللجنة (رجب عبد المجيد).. رغم ما اكتنف هذه العلاقة من بعض الغموض و الادعاء وعدم قبول بعض أعضاء اللجنة العليا ،على الأقل، من الاتصال بالجبهة حيث ليس لديهم تلك التصورات الواضحة لمثل هذه العلاقة.. ولذا اقتصرت العلاقة هذه على العموميات ولم يساهم أي عضو من اي طرف في اجتماعات الآخر.. وكان هناك اجماع على رفض اللجنة العليا من مساهمة اي مدني في اجتماعاتهم.
- المستوى الثاني.. هو العلاقة الثنائية بين بعض الاشخاص المحوريين في اللجنة العليا للضباط الاحرار وبعض الاحزاب المؤلتلفة في جبهة الاتحاد الوطني.. فقاسم كان على علاقة بكل من الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي، وكان رجب عبد المجيد على علاقة بالاحزاب القومية كالاستقلال ومحي الدين عبد الحميد كان مع الحزب الوطني الديمقراطي، ووصفي طاهر مع الحزب الشيوعي.. كما أن هنالك علاقة ببعض الضباط الأحرار الصغار من خارج اللجنة العليا بحزب البعث.
هذه العلاقات لم تكن بمستوى التنسيق الجمعي بين كلا الطرفين.. فقاسم كان يعبر عن ذاته المحورية ويرسم العلاقة مع الحزبين اعلاه من خلال تبنيه لمنطلقات فكرهم والاسترشاد به.. في الوقت نفسه كان رجب عبد المجيد يؤكد ذاته المحورية من خلال علاقته ببعض أحزاب الجبهة أو بالاحرى ببعض شخصياتها القيادية. وبالتالي لا اعتقد أن عملا جادا كان قد تم بين الجهتين.. إذ أن ليس كل الاحزاب المؤتلفة بالجبهة قد علمت بموعد الثورة ، والحقيقة تبدو أنها كانت مرتكزة في الحزبين الشيوعي والوطني الديمقراطي.. اما بقية الاحزاب والمنظمات المهنية والشخصيات المستقلة المؤتلفة .. فإنها لم تعرف على وجه اليقين بالموعد المحدد. لذا انفرد الشيوعيون بنشر توجيهاتهم العامة لما سيحدث بمنشور داخلي للكوادر المتقدمة دون غيرها وحتى الضباط والمراتب المُنْظَمة الى الجناح العسكري للحزب قد تفاجئت بيوم الثورة.
ومن جهة أخرى نلاحظ أن الاهداف المعلنة لجبهة الاتحاد الوطني ذات النقاط الخمسة.. لم تصل من حيث مدها وطموحها سوى للمطالبة بالتغيير في سياسة السلطة وإصلاح ما أمكن لقوام السلطة واطلاق سراح السجناء السياسيين وإجراء انتخابات نزيه. في حين كانت اللجنة العليا للضباط الأحرار قد تبنت تغيير النظام برمته وإجراء تغيرات بنيوية في السلطة وقوامها وفي الانماط الاقتصادية واولوياتها ومضامينها وفي البنية الاجتماعية وتطلعاتها ضمن العقد الاجتماعي الاقرب الى الواقع الموضوعي لعراق تلك المرحلة وفي الاصلاح الزراعي وواقع الملكية الاقطاعية والموقف من الطبقات الفقيرة والكادة وفي السياسة النفطية والموقف من الاحلاف العسكرية.. كل هذه الاجراءات التي قامت بها ومن ثم مشروعها المستقبلي قد فاقت تصورات احزاب الجبهة مما افقدها البوصلة العقلانية وتبنيها للنزوع الاستعجالي كل من طرفه. مما أدى بها الى السجال ومن ثم الصراع وبالتالي الاحتراب غير المبرر.. الذي أوضح عدم قدرة هذه الاحزاب على تشخيص ماهيات المرحلة وقواها وفهم قواعد اللعبة السياسية ومن ثم ضرورة الاتفاق على القاسم المرحلي المشترك.. وهو عين ما نحن فيه في الوقت الحاضر .. ولولا قوة المحتل لراينا أن الصراع كان على شدته بين هذه القوى وعلى الاقل مع تلك التي خسرت مواقعها في السلطة.
إن فكرة الاستئثار والمنزع الاستعجالي الرامي في صيغته الفلسفية ( لحرق المراحل)، حالة عامة في التجارب الانسانية وفي عالم الواقع المادي كما تدلل الكثير من الوقائع عليه.. وهذه الحالة في حالة صراع متناقض مع سيرورة قوانين التطور وسننها والتي تفعل مفعولها بصورة موضوعية.. وهذا النزوع تزداد وتائره في المجتمعات غير المتبلورة طبقيا الضعيفة في قواها المنتجة..وبالتالي التشوش في تجليات الوعي الاجتماعي : الفلسفية، السياسية، الجمالية، الدينية والقانونية. وهذا ما دللت عليه تجربة تموز العظيم ولا تزال التجربة العراقية الحالية.
السؤال الخامس:
*- كيف نشب الصراع وما أسبابه بين الضباط الأحرار العراقيين رفاق الأمس والخصومة التي حصلت بين جمال عبد الناصر والزعيم عبد الكريم قاسم ؟
*** يشمل سؤالك يا صديقي الفاضل على شقين مختلفين من حيث الدوافع.. الأول بين قوى الثورة من العسكريين والثاني مع الرئيس ناصر. فبالنسبة للشق الأول فقد توقفت كثيرا وبصورة مسهبة على تحليل هذه المسببات.. في كتابي الذي سوف يصدر في دمشق هذا الشهر أو الشهر القادم على ابعد احتمال . وهو بعنوان{ 14 تموز- الثورة الثرية} وهو يمثل الجزء الاول من الكتاب الثاني من ثلاثية من ماهيات سيرة عبد الكريم قاسم. وتكمن عوامل عديدة وراء الصراع الذي نشب بين رفاق الأمس .. وهو ليس وليد فعل الثورة أو/و من الذي قام بها ( أو كما يدعون سرقها ). إن تاريخية حركة الضباط الأحرار تكشف عن هذا الجوانب المتعددة والتي قسم متعلق بالمواقف الفلسفية والحياتية للضباط الأحرار ورؤيتهم للمستقبل المنظور وماهية موضوعاته الأرأسية ومفرداتها.. كما يكمن أحد الاسباب في الطبيعة الموضوعية للثورات التي تقودها الطبقات الوسطى وتضارب مصالحها الانية والمستقبلية.. كما أن النزعة الذاتوية لبعض الضباط، وخاصةً أولئك الذين لم يحصلوا على تلك النزعة الصمدانية ( الكرازمية) المتوقعة من مشاركتهم في الثورة.. ثم إن النجاح السهل للثورة وعبقرية الخطة وسرعة تنفيذها وترابط عناصرها الجدلي.. عوامل ساهمت في دفع المغامرين ركوب (الدبابة) ثانيةً وبدون مؤازرة شعبية ، قدر اعتمادهم على فتات تلك المساعدة الخارجية ، الاقليمية والعربية والدولية. حيث تخادمت هذه القوى الخارجية مع القوى الداخلية لحرف الثورة عن مسارها ومضمونها في البدء وعندما لم ينجحوا قرروا ذبحها وقائدها.. كما يكمن سبب آخر، لكنه ليس أخير، في التآمر الداخلي للقوى المتضررة من الثورة أو/و من مسيرتها اللاحقة.. من هذه الاسباب وغيرها التي تشتق .. تكمن عوامل الفرقة والتشتت. إن اختلاف الرؤى الفلسفية والمنطلقات الحياتية عوامل مهم في هذا الصراع وسياقاته اللاحقة.
أما بالنسبة إلى الشق الثاني .. وهذا ما أنا دراس له في الوقت الحاضر، ففي اعتقادي أن ذاتوية الرئيس ناصر لعبت دورا كبيرا في تخريب هذه العلاقة.. خاصة عندما حدثت ثورة 14 تموز كان ناصر يتربع على قمته النيرة تلك ، بعدما اقنعته تجارب السياسة بالابتعاد عن الخطى والنصائح الامريكية.. وأخذت شعبيته تطغي في الشارع السياسي.. وخاصة في مصر حيث أن عمق المعضلة الاقتصادية أجبرته على الخروج من مصريته إلى عروبته لاجل ايجاد سبل عمل للعمالة الفائضة والحصول على موارد اضافية للخزينة المصرية وبالتالي التخفيف من الضغط الاجتماعي الداخلي.. ضمن هذه الظروف بدأ قاسم منطلقاً من عراقويته نحو عروبته.. وإن لم يتخندق في الأولى بل رأى في الثانية عمقا استراتيجيا له ولثورة تموز.. ومن هذا المنطلق بدأ يساعد البلدان العربية كالجزائر وعمان وظفار ويؤلف جيش التحرير الفلسطيني ويمد يد العون للحركة الوطنية اللبنانية في صراعها آنذاك..
هذا المنطلق اصطدم بقوة بنظرة ناصر الذي رأى في الوحدة الفورية أحد القنوات الارأسية لتزايد قوته في فوضى ( لعبة الأمم).. ومنفذا كبيرا لحل المعضلة الاقتصادية المصرية مما سيضفي عليه الهالة ( الصمدانية ( الكرازمية) ليس داخل مصر فحسب بل في عالم دول عدم الانحياز وكذلك في المعسكر الاشتراكي السابق.
وهنا لا يفوتنا من القول إن الظروف الموضوعية والذاتية لحركة التحرر العربية آنذاك لم تكن تشجع على قيام وحدة سياسية دون إرساء المقدمات المادية لها.. حيث أن العقلية السائدة كانت، ولا تزال في الكثير من الاقطار العربية، قبلية المضمون ومتريفة في تعاملها مع الحياة فكيف بنا القفز على ذلك الواقع وتبني الفكرة القومية – وهي مرحلة تتطلب وعيا متقدما وأسس وعلائق اقتصادية مترابطة-. كما أن قاسم انطلق في موقفه هذا من كون أن هذه العملية تمس حياة الناس فلا بد من أخذ رأيهم في موضوع يهم مصالحهم وتكويناتهم ومستقبلهم.. وكذلك كما قلنا أن المجتمع العراق يتكون ولا يزال من تكوينات متعددة، ترى بعضها في الوحدة الاندماجية الفورية مساسا بذاتها القومية. لذا فقد احترم قاسم هذا الشعور الذي كان قائماً في الواقع العراقي.. في الوقت نفسه وقفت قوى سياسية عراقية فعالة ضد توجهات ناصر السياسية وخاصة ما يتعلق بالحياة الحزبية التي منعها ناصر في دولة الوحدة.. وهذا يتمثل في القوى العراقوية( تفضيلا وليس تصغيرا) على مختلف منطلقاتها النظرية.
كما يمكننا أن نضيف أثر القوى القومية في العراق وأجهزة ناصر الامنية التي لعبت دورا غير محمودا حيث نقلت إليه تصورات غير واقعية عن اللوحة السياسية في العراق وبالغت في قواها العددية وتأثيراتها على الساحة.. وكان بعضها، كحزب البعث كما يقول هاني الفكيكي، تحاول عن طريق رفع شعار الوحدة الفورية حسم موضوع ضآلتها العددية إزاء الاكثرية الشعبية ذات المنحى العراقوي يسارية كانت أم ديمقراطية أو/و من التكوينات الاثنية التي يزخر فيها المجتمع العراقي. لذا قدم ناصر العون المادي والمعنوي الكبير الى أحزاب التيار القومي لاجل الاطاحة بقاسم.. وقد ندم على ذلك .. لكن بعد فوات الآوان. وأخيرا، وليس آخر، كان التخادم بين المراكز الدولية، التي تضررت من ثورة تموز، وناصر قد عملت بكل ما وسعها لتعميق الخلاف بين النظامين وحرفهما عن مضامينهما التقدمية...وهذا ما تحقق في الواقع على صعيد حركة التحرر العربية. في الوقت نفسه ساهمت طبيعة المعركة بين الفصائل السياسية داخل العراق في تعميق هذه الفجوة.. ورغم إلحاح القوى العراقوية في ردم هذه الفجوات ومطالبت ناصر بالابتعاد عن شعار الوحدة الفورية.. إلا أنه رفض هذه العروض كان منها ما اقترحه الجادرجي في نهاية عام 1958.. وتتحمل القوى السياسية والحكومة العراقية، وخاصة عند إدارتها للحملة الاعلامية المناهضة ، دورا في تصعيد هذا الخلاف وليس حله أو على الاقل التخفيف من حدته. وهكذا اصطدمت واقعية ومنطلقات قاسم باحلام ناصر وأنويته وتصوراته لواقع العلاقة.. وكانت النتيجة خسارة الجانبان وتضررت حركة التحرر العربية من أنوية زعامتها ولا تزال.
السؤال السادس
* ما هي المحاولات المضادة لحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم وإلى أي الإطراف السياسية والاجتماعية تنتمي؟
*** تدلل تاريخية الانقلابية العسكرية في القرن المنصرم على أن الجمهورية الأولى قد شهدت على محاولات عديدة لم تشهدها أية مرحلة في القرن المنصرم، حيث بلغ عددها في حدود 39 محاولة أي بمعدل محاولة كل 43يوماً. ولقد توقفت طويلا عند تحليل هذه الظاهرة ووحاولت تفكيك أبعدها في الكتاب الثالث من ماهيات سيرة عبد الكريم قاسم والذي صدر في مطلع عام 2003 في بيروت وتوزيع دار الحصاد وكان بعنوان { عبد الكريم قاسم في يومه الأخير- الانقلاب التاسع والثلاثون}. ومن الملاحظ ما يتعلق بهذا الصدد أن نرصد ظاهرة لم تتوفر في اية مرحلة زمنية من تاريخ العراق المعاصر وتتمثل ماهية هذه الظاهرة في نشوب حالة من العداء من كل دول الجوار العراقي والتي جميعها ساهمت بدون إستثناء بهذه الدرجة أو تلك في مساعدة حركات الردة أو/و في تهيأت تربة تأزم الوضع أو/و في فبركة الاعلام المضلل ومحاربة التجربة العراقية الثرة، خوفا من سريان مفعول تاثيراتها على هذه الدولة ، خاصة وأن هنالك قطاعات معتبرة من الحركات السياسية في هذه البلدان قد تبنت الافكار العامة للثورة وبرنامجيتها المستقبلية. وهذا ما لمس في هذه الحركات حيث اضحت تموز وما قامت به دافعا لتشديد وترشيد نضالها.
هذا الزخم الكبير من الحركات الانقلابية تبنتها قوى وأحزاب متعددة منها:
- اغلب احزاب التيار القومي أن لم يكن جميعها، رغم اختلافاتها وصراعاتها؛
- بعض قيادات الحركة الكردية التي تحالفت مع العدو الاستراتيجي لتطلعاتها القومية التحررية؛
- جمهرة واسعة من قيادات الحركات الدينية ، الاسلامية على وجه الخصوص، حيث اتفقت هذه القيادات، بغض النظر عن مذهبيتها المختلفة، لكنها توحدت في عداءها لقاسم؛
- قوى نخبة الحكم من العهد الملكي وقاعدته الاجتماعية من اقطاعيين ومتضررين من الثورة ؛
- شركات النفط الاجنبية العاملة في العراق؛
- جميع الدول الاقليمية التابعة وتلك التي كانت ترتاب من مسيرة الثورة في الشرق الأوسط؛
- المراكز الراسمالية العالمية المتضررة كالولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل.
لقد لعب هذا الكم من الاحزاب والقوى السياسية دورا تخريبياً من الثورة بحكم مصالحه وافكارها.. لكن في الوقت نفسه ساهمت بعض قوى اليسار والديمقراطية وحتى قاسم نفسه في تهيأت تربة التصعيد من خلال تبني سياسة ردود الأفعال التي لا تتناسب وذات الفعل .. كذلك من ضغط الشارع السياسي من الاسفل وتبني افكار ومطاليب رديكالية لا تتوائم ولا تتزامن مع سنن وقانونيات التطور للثورة الوطنية وطابعها الطبقي. كما ان الزعيم قاسم ساهم هو الأخر في .. ضياع الثورة من خلال نظرته الطوباوية الثورية لعملية الصراع الاجتماعي من جهة ومن سعة الاهداف التي كان يرنو لتحقيقها من جهة ثانية كذلك من جهة ثالثة فقد كان للتباين الفكري وللاختلاف السياسي لطاقمه الاداري المساعد.. لا بل حتى أن بعضهم كان يتآمر عليه كما هم اعترفوا في مذكراتهم من امثال جاسم العزاوي ومحسن الرفيعي وغيرهما. هذه الظروف جميعها ساعدت على خلق حالة من الارتباك التي مهدت الى الانقلاب الدموي الاخير في 8 شباط 1963، والذي اقترنة به مقولة علي صالح السعدي { جئنا بقطار امريكي}.
السؤال السابع
*ما هو دوره في توزيع الأراضي السكنية للفقراء من صرائف الشاكرية والميزرة (المجزرة) والنازحين من العمارة والناصرية هربا من ظلم الإقطاع؟ ومنها قول الزعيم عبد الكريم (يجب أن يمتلك كل عراقي مسكناً يحفظه وعائلته من قيض الصيف وبرد الشتاء ويحفظ كرامتهم) وفعلاً بنيت في عهده على قصر مدتها (أربعة سنوات ونصف) مجمعات سكنية فأصبحت مدناً كمدينة الثورة (الصدر) حالياً ومدينة الشعلة والحرية.
*** لقد لعب قاسم دورا كبيرا في عملية البناء الا جتصادي( الاجتماعي –الاقتصادي) من خلال تغير اسس البناء المادي للدولة العصرية ووضع العراق على سكة الحداثة الروحية والثقافية والدخول في العصر من خلال الانطلاق في أول مشروع نهضوي في العصر الحديث سواءً في اشباع جزء حيوي من الحاجات الاساسية للطبقات الفقيرة والكادحة أو من خلال تبني عقد اجتماعي جديد حيث ساهمت اغلب القوى الاجتماعية في عملية البناء هذه.. وما بناء المساكن وتوزيع الاراضي في اغلب الحواضر العراقية إلا سمة أرأسية للجمهورية الأولى.. قابلها استفادة اكثر من 300 الف عائلة فلاحية عندما استلمت اراضي بموجب قانون الاصلاح الزراعي.
ان عملية الارتقاء بالانسان مهمة ليست سهلة في ظروف البلدان المتخلفة.. وقد جسدت هذه العملية الفكرة الغائية الآرأسية للثورة لآن قاسم كان مسكونا بفكرة مناقضة لتصورات كل حكام العراق في العصر الحديث تمثلت في كونه يحقق الغاية السامية بوسائل تناسبها من حيث السمو. من جانب آخر ارى في قاسم وبنيته الفكرية والنفسية أنه كان شغوفا بالطبقات الفقيرة والكادحة.. ولهذا هو لم يطعمهم الأمل الكاذب والأمنية الواهمة لخلاصهم من الفقر المزمن، قدر ما حقق لهم ماديا بعض من هذه الاماني الانسانية.. وما الموقف من المرأة إلا جانب مضيئ من سيرة تموز/ قاسم والتخفيف من قانون التفاوت بين الريف والمدينة كان أيضاً من سمات هذه المرحلة من خلال إزالة أو التخفيف من حدة العوامل الطاردة من الريف من جهة ومن خلال تمدن الريف من جهة ثانية.. فضلا عن استيعاب المدنية لهؤلاء القادمين إليها وليس العكس كما رأيناه في الجمهورية الثانية وخاصة في عقديها الأخيرين.
ويتجلى من جانب آخر موقف قاسم من ذاته في هذه المواضيع .. حيث نرى أنه لم يكن يملك بيتاً خاصاً به بل كان مستاجرا لدار حكومية عائدة للاموال المجمدة.. وهنالك قصة معروفة يتداولها الناس وقد تحققت منها بالفعل مضمونها أن احدى أخواته كانت وعائلتها مستاجرة بيتا بغداديا بسيطاً وحالتها المادية لاتساعدها على شراء بيت.. لذا طلبت منه ان يعطيها دار من الدور الحكومية.. نعم اوعدها باعطاءها .. لكن بعد أن تلغى كافة الصرائف وأحزمة الفقر المحيطة ببغداد.. واستشهد الرجل ولم تستلم أخته بيتاً بل فقدت ابنا بارا قتله الانقلابيون يوم 8 شباط وهو الظابط الطيار طارق القيسي.
هذا التناغم بين قاسم وفقراء بلدي عكسته الماهية الحقيقية لجوهر العلاقة الذ تبناها قاسم حيث كان الفقراء يمثلون العصب المركزي لهذا المشروع.. ومن هنا بالذات كسب قاسم المسار الحقيقي لتاريخ العراق المعاصرواصبح معيارا للحاكم العادل الذي يقاس به مدى خدمة الحاكم للشعب. ومن هنا يمكن الاجابة على سؤالك التالي:
السؤال الثامن:
* هل لا زلت تعتقد بدور القادة في التاريخ من حيث الإلهام والتأثير ( الكاريزما)؟ وهل كان عبد الكريم قاسم زعيما أم قائدا؟
*** نعم يلعب القادة دورا مهماً في التاريخ حيث تم دراسة هذه الظاهرة الجوهرية { دور الفرد في التاريخ}، وليس كل قائد له دور وويمنح لمن يشاء.. قدر كون أن هذا الدور يستنبط من قدرة الفرد القائد الذي يستطيع ان يستوعب ماهية وضرورة الظروف الموضوعية لعملية التغيير وشروطها.. ما يتمتع به من امكانيات ذاتية لفهم ذلك هذا من جهة ومن جهة ثانية إن هنالك علاقة جدلية بين القائد والجمهور.. فما قيمة نابليون لولا جنوده المحاربين؟؟ وما أهمية ثورة تموز ومساراتها لولا وجود قيادة متمثلة بقاسم بحيث لم يكتفي بعملية الزحف لبغداد دون ربطها بسلسلة من الحلقات الرئيسية والثانوية أكملت الحلقة الأرأسية للاستيلاء على بغداد؟ ومن جهة ثالثة فإن القائد هو نتاج للضرورة الموضوعية وهو لا يظهر بفرمان أو ارادة ذاتوية.. بل هو المعبر عن هذه الضرورة والمدرك لماهياتها وأهميتها. ومن هذا نستنبط أن قاسم كان قائداً للحركة السياسية العراقية وقد مهد لتربة التغيير والاكثر من ذلك إنه قاد فعل التغيير في المجتمع.. مما مهد العراق لآن يدخل التاريخ من اوسع ابوابه.
السؤال التاسع
* لماذا أنت متخصص بالبحث عن تفاصيل حياة الزعيم عبد الكريم قاسم من خلال تأليفك الكتب عنه والتي يغلب عليها الجانب الايجابي جدا في الوصف وهذا صحيح إلى حد بعيد ومن صفات الزعيم (الوطنية – الشعبية – الزهد ) لكن المنهج الأكاديمي يستدعي بالضرورة البحث عن السلبيات والإخفاقات التي أدت إلى انتكاس الثورة لمجموعة من الأسباب يتحمل بعضها الزعيم شخصيا رغم المؤثرات الشخصية (الحاشية) وطبيعة العراقيين من عدم الثقة و الملل و حبهم لإجراء التغيير حتى لو كانوا من الأنبياء والأئمة والمصلحين والثوار والإبطال والزعماء والشواهد كثيرة خصوصا في التاريخ الإسلامي !!!؟؟؟
*** سؤالك هذا فيه مناحي كثيرة ومقاربات متعددة .. بعض منها قد تتلمس الايجابة عليها من خلال الاجابة أعلاه.. فإذا بدأت بالقسم الأول من السؤال فيمكني الاجابة من أني من خلال دراستي لتاريخ العراق المعاصر وتحليل الشخصيات القيادية لقادته سواء أثناء العمل في وزارة العمل أو أثناء كتابة الاطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في اقتصاديات العمل، وكذلك اثناء عملي الاكاديمي في جامعة وهران حيث انيط بي، من جملة ما انيط ادارة حلقات دراسية عن الحركة العمالية واحزابها السياسية في العراق.. ضمن هذا العمل المتواصل قررت منذ منتصف الثمانينيات الوقوف وقفة جدية عند الاهمية التاريخية لثورة 14 تموز وكذلك عند اشخاصها المحوريين وعلى راسهم قاسم.. قد توصلت من قراءتي ( وهي قابلة للخطأ والصواب) إلى أن ثورة 14 تموز هي ثورة عظيمة ووحيدة في العالم العربي في القرن العشرين حسب رصد المستشرق مكسيم رودنسن. ومن هنا دخلت في اغوارها وحاولت تحليلها وتفكيك معاضلها التي زورت طيلة الجمهورية الثانية.. وبابشع الصور..حيث أبرزت هذه القراءات اللا موضوعية شخوص وقوى لم يكن لها دور فيها.. بل والاكثر من ذلك جردوا الثورة من ماهياتها الأرأسية ومن نتائجها واهميتها. كل هذه كانت الدافع الرئيسي لدراستي للثورة وقاسم..
من جهة ثانية لا اتفق معك من أني لم انتقد قاسم.. أني ضد عبادة الفرد .. إذ كان قاسم قائدا وحولته الجماهير الشعبية الى رمز أخرجته خارج تخوم الزمان والمكان.. لكن كما قلت أعلاه وقد سبق وان تناولت قاسم بالنقد أيضا وحملته جزء من المسؤولية في ضياع فعل التغيير الذي قاده. وهذا مانشرته في كل كتبي وخاصة في خطة بحثي الموسوم{ قراءة أولية في ماهيات سيرة عبد الكريم قاسم} المنشور سنة 2003. حيث خصصت فصل كامل لهذا الموضوع.
من جهة ثانية أني متأثر بالفكرة القائلة { إن كما الوجود.. وجود النقص فيه} ومن هذا المنطلق قرأت قاسم.. لكن الاشكالية أن أغلب من اتهمني بهذا الموضوع لم يقرؤا كتبي بصورة حقيقية. لآن اغلبهم قرؤا العناويين. وبالمناسبة اخبرني احد الصحفيين في جريدة الصباح الذي كان حاضرا في محاضرة لي في مجلس السلم والتضامن حول نشوء المجتمع المدني عند تأسيس الدولة، قال هذا الصحفي أنه طلب من رئيسه في العمل الذهاب الى المحاضرة فقال له: أن د. الناصري سيبدأ بقاسم مدحا دون نقد له. هذه رؤية غير موضوعية ولا تعبر عن كامل حقيقتي.. رغم أني اتفاعل مع شخصية قاسم .. لأنه بدون هذا التفاعل لا يمكن ان تنجز عملا مبدعا.
في الختام اشكرك من الاعماق واتمنى ان تقرأ ما أنا فيه عن الظاهرة القاسمية



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما يزال العراق يدفع ثمن إغتيال ثورة 14 تموز
- الانتفاضات الشعبية.. إرهاصات مهدت للثورة الثرية:
- مرثية الرحيل القسري- كامل شياع
- من تاريخية مناهضة الأحلاف العسكرية:حلف بغداد- في ذكرى إنهيار ...
- شخصية عبد الكريم قاسم تمثل شموخ الثقافة الشعبية
- القاعدة الاجتماعية لثورة 14 تموز
- - البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (4-4)
- البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (3-4)
- البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (2-4)
- - - البيئة والمنطلق الفكري لعبد الكريم قاسم: (1-4)
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: - ثورة 14 تموز وردود الفعل الإق ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى:واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ا ...
- مرثية الروح.. في وداع الدكتور عطا الخطيب
- 14 تموز_ العطاء الدائم، مقابلة
- دراسات في التاريخية الفعلية للتغيير الجذري : ثورة 14 تموز وا ...


المزيد.....




- تزامنا مع جولة بوتين الآسيوية.. هجوم روسي -ضخم- يدمر بنية ال ...
- نشطاء يرشون نصب ستونهنج التذكاري الشهير بالطلاء البرتقالي
- قيدتهم بإحكام داخل حقيبة.. الشرطة تنقذ 6 جراء -بيتبول- وتحتج ...
- مستشار ترامب السابق: روسيا قد تسبب مشاكل للولايات المتحدة في ...
- كاتس تعليقا على تهديد حزب الله لقبرص: يجب أن نوقف إيران قبل ...
- طريقة مجانية وبسيطة تثبت فعاليتها في منع آلام أسفل الظهر الم ...
- كيف تتعامل اليابان مع الكميات الكبيرة الصالحة للأكل من بقايا ...
- أوكرانيا تنشئ سجلاً لضحايا الجرائم الجنسية الروسية
- كشف فوائد غير معروفة للدراق
- السيسي يطالب الجيش بترميم مقبرة الشعراوي بعد تعرضها للغرق


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عقيل الناصري - حقائق واسرار الصراع السياسي العراقي في حقبة الخمسينيات