|
هل انتهى دور الشاعر؟
عادل صالح الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 2615 - 2009 / 4 / 13 - 00:12
المحور:
الادب والفن
هل انتهى دور الشاعر؟ سؤال ربما يكون أكثر إلحاحا في عصرنا الحالي منه في عصور سابقة. إلا انه سؤال طالما طرح على بساط البحث على مر العصور وخصوصا خلال الانعطافات الكبرى في تاريخ البشرية، أي خلال تلك المراحل التي شهدت تحولات كبيرة في المفاهيم والأفكار وفي نظرة الإنسان إلى وجوده في هذا العالم وبحثه الأزلي عن معنى لهذا الوجود، وغالبا ما ارتبط هذا السؤال بأسئلة أخرى تتناول طبيعة الشعر ووظيفته ودوره في حياة الإنسان. ربما يتوجب علينا معرفة وتحديد ماهية دور الشاعر قبل أن نقر إن كان هذا الدور قد انتهى أم لم ينته. ونقصد بذلك الدور الحقيقي وليس الأدوار البديلة التي طالما حاول الشاعر أن يلعبها بفعل "سلطات" واقعة على سلطة الشعر ولكنها ليست في جوهره ولا نابعة منه. لقد لعب الشاعر أدوارا غير دوره الحقيقي لأنه كان أقدر من غيره على لعب تلك الأدوار لسببين يتداخلان فيما بينهما: أولهما طبيعة الشعر كفن لغوي يتوافر على مختلف أساليب السحر والإدهاش وبالتالي التأثير والإقناع، وثانيهما الظروف السائدة في مرحلة تاريخية معينة والتي كانت تقتضي أن يلعب الشاعر وليس غيره دورا معينا تمليها تلك الظروف في زمان ومكان معينين . لقد لعب الشاعر يوما ما دور الساحر والكاهن، ولعب دور الخطيب والسياسي و المحامي المدافع الذائد عن القبيلة أو عن نظام سياسي ما، ولعب دور المصلح الاجتماعي والداعية الديني أو السياسي أو الفكري مبشرا بأيديولوجيا أو عقيدة معينة، ولعب دور العراف والرائي وحتى النبي كما نرى عند الرومانسيين مثلا. لعله من البديهي القول إن الشعر، شأنه شأن أي نشاط بشري وأي حقل من حقول المعرفة، متداخل ومتفاعل مع غيره من الأنشطة وميادين الحياة. ولكنه من جهة أخرى، شأنه شأنها أيضا، سعى دوما إلى أن يحرر نفسه من ربقة الأطر المرجعية الخارجة عنه والمفروضة عليه وأن يتخذ لنفسه كيانا مستقلا بذاته، ويشهد التاريخ الفني والمعرفي عموما صراع الأنواع بقدر ما يشهد تعايشها، وكل منها ، في خضم جدلية الصراع الأزلي هذا، تتصارع من أجل البقاء، وهو صراع إذا ما نظرنا إليه نظرة تاريخية متفحصة سنجد انه صراع من أجل نقاء، فضلا عن بقاء، النوع، أي انه صراع تتخلله مسيرة متواصلة باتجاه تحقيق الاستقلالية (autonomy) والتكامل صاحبتها في الوقت ذاته عمليات تطوير وتشذيب لذلك النوع. وينطبق هذا الكلام على الشعر مثلما ينطبق على غيره. فطالما حاول الساسة والدعاة العقائديون ومروجو الأدب الدعائي أدلجة الفن والثقافة عموما ومنها الشعر، كما حاولوا تسخيرها لأغراض دعائية تخدم أهدافا غالبا ما تكون بعيدة كل البعد عن الثقافة الأصيلة. فكثير منا يتذكر كيف كان قادة ومنظرو الأنظمة السياسية الشمولية يتبجحون بقدرتهم على جعل المسرح مثلا مكانا تخرج منه المظاهرات الثائرة أو تحويله إلى مدرسة للثوار وغير ذلك من المفاهيم التي تحاول تحويل الثقافة إلى سلوك غوغائي ومطية تحقق بوساطتها بعض الإيديولوجيات أهدافها على حساب الثقافة الحقة. إن وظيفة الفن الكبرى ما هي إلا خلق الحس الجمالي وتشذيبه في النفس البشرية بما يمنحه الفن، بمختلف أشكاله، لهذه النفس من تجارب جمالية تستطيع من خلالها اغناء وتعميق تجربتها في العالم من حولها وفي الكون والوجود، وبذلك يصبح الفن غاية ووسيلة في آن واحد هدفه اغناء التجربة الحياتية للإنسان بما يمكنه من أن يحيا حياة أكثر امتلاء وعمقا ومعنى. هكذا يؤكد أكثر الفلاسفة وعلماء الجمال منذ أرسطو حتى العصر الحديث، وما زالت مقولة أرسطو بأن غاية الفن الأسمى هي " راحة النفس البشرية وسكينتها واستقرارها" كما يؤكد في كتابه ((فن الشعر)) مقبولة إلى حد كبير بوصفها توصيفا لوظيفة الفن بشكل عام. إن استقلالية الشعر كفن قائم بذاته مكتف ومكتمل بها (autotelic)، لا يقبل الوصاية ويتأبى على أية صيغ اشتراطية سلطوية تفرض عليه من خارجه. إلا إن ذلك لا ينفي بأي حال من الأحوال علاقة الشاعر بالواقع وبأطره المرجعية الاجتماعية والسياسية والدينية والأخلاقية والنفسية وغيرها. لذلك لا يمكن للشاعر أن يضطلع بدور غير دوره الحقيقي ويبقى شاعرا في الوقت ذاته. لا يمكن للشاعر أن يلعب أي دور إلا ويكون ذلك على حساب دوره الأساس ولا بد حينئذ أن يخسر الشعر بقدر ذلك الدور الذي لـُعب على حسابه. إن ما يبرهن صحة ذلك هو إننا لا يمكن أن نختزل العمل الفني أو النص الشعري إلى شيء آخر، شيء يحدده هذا الإطار المرجعي أو ذاك، على الرغم من أننا قد نحكم على العمل الشعري أحيانا وفق معايير هذه المرجعيات، إلا أننا لا بد في نهاية المطاف أن نضع الحكم الفني الخالص النابع من طبيعة ذلك العمل فوق أي حكم آخر.
فالشاعر إذا ما خضع إلى سلطة غير سلطة الشعر وارتبط بغرض غير غرضه الأساس والجوهري النابع من طبيعته كفن لغوي محض ميدانه الخلق والابداع في اللغة، وبوصفه فنا تحكمه وتشكل دوافعه قوانين الشعر المحض، حينئذ سيخرج الشعر من ميدان الفن الخالص ليقع في براثن الفن الغائي، والفن الغائي، بمختلف أشكاله وأنواعه، لابد أن يكون خاضعا لسلطة أخرى تتحكم به وتسخره لأغراضها وغاياتها المختلفة. وما الحركات والمدارس الشعرية والجمالية التي ظهرت على مدى التاريخ الفني والشعري إلا محاولات لتخليص الفن من سطوة هذه السلطات والقوى ويخبرنا تاريخ علم الجمال والنظرية الجمالية كيف كان الشعر والفن عموما في صراع مع هذه السلطات والقوى، وكيف كان صراعا ترجح كفته لصالح الشعر مرة وضده مرة أخرى. ولعل امرأ القيس في سيرته الحياتية والشعرية خير من يمثل هذا الصراع وهذه الإشكالية في أدبنا العربي، يشبهه في ذلك الكثير من الشعراء في العصر الجاهلي والعصور التالية، وخصوصا أولئك الذين ألصقت بهم صفة الصعلكة. لقد اعترف له الفرزدق بأنه "أشعر الناس"، وأشار عمر بن الخطاب إلى انه "سابق الشعراء"، وانه "خسف لهم عين الشعر"، ورأى فيه علي بن أبي طالب "أحسن الشعراء نادرة، وأسبقهم بادرة" وقال فيه قولا يربط ربطا شديدا بين جوهر الشعر وطبيعته من جهة ووظيفة ودور الشاعر الذي هو موضوعنا الحالي من جهة أخرى، قال فيه عبارة تظهر وعيا متقدما جدا ومبكرا جدا في تراثنا النقدي العربي باستقلالية ولا غائية دور الشاعر وهي إن من بين أسباب تفوق امريء القيس على أقرانه من الشعراء هو انه "لم يقل الشعر لرهبة أو لرغبة." اما في العصر الحديث فربما كان الصرع على أوجه مع بواكير حركة الحداثة الشعرية في أوربا والتي بدأت تتبلور أفكارها الأولى خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا وانكلترة على وجه الخصوص، حيث ظهرت حركات ومدارس عديدة تدعو إلى الفن الخالص مثل المدرسة الجمالية في انكلترة وحركة الفن من أجل الفن في فرنسا وما تلاها من حركات، لعل أبرزها وأوسعها تأثيرا في حركة الحداثة الشعرية عموما، من حيث منطلقاتها وتوجهاتها الفكرية والجمالية، بما فيها الموقف من دور الشاعر ووظيفة الشعر، هي الحركة الرمزية الفرنسية. لقد دعت الرمزية الفرنسية على نحو غير مسبوق إلى تنقية الشعر ولغته من أية عناصر تقحم فيه وهي دخيلة عليه وليست في طبيعته وجوهره، سواء على مستوى بناه الدلالية أو النحوية أو الصوتية وغيرها، حتى ذهب بعض منظريها وممارسيها بعيدا في مسعاهم هذا فعبروا عن مطمحهم في أن ترقى لغة الشعر يوما ما حتى تصبح نقية نقاء لغة الموسيقى. وانطلاقا من هذه النظرة، دعا الرمزيون، ومن بعدهم رواد الحداثة الشعرية خلال العقود الأولى من القرن العشرين ومن تأثر بأفكارهم وحذا حذوهم فيما بعد، أن يضطلع الشاعر بدوره لا بدور غيره، ويعتلي منبر الشعر لا منبر الخطابة، لأنهما منبران مختلفان تمام الاختلاف، كما أكد أهم رواد الحداثة الشعرية الأنكلوأميركية، ت. س. أليوت، بقوله إن على الشاعر أن لا يلعب دور الخطيب ويتعامل مع متلقي شعره تعامل الخطيب مع جمهور المستمعين، كما دعا إلى أن تكون علاقة الشاعر بمتلقيه ليست علاقة تأثير وتأثر سلبيين بل علاقة تفاعلية وتكاملية فاعلة وايجابية إلى حد يكون معها المتلقي قادرا على المشاركة في إنتاج المعنى أو الأثر الذي يريد الشاعر إحداثه في ذلك المتلقي. ولا يتحقق ذلك، بحسب أليوت، إلا حينما يكون موقف الشاعر ذلك نابعا من فهم صحيح للدور الحقيقي للشاعر والوظيفة الحقيقية لمنجزه الإبداعي. يقول أليوت بهذا الصدد ما يأتي: "الشاعر يصنع شعرا، الفيلسوف يصنع فلسفة، النحلة تصنع عسلا، العنكبوت يفرز خيوطا..." وهكذا، مؤكدا بذلك أهم انجازات الحداثة الشعرية في العصر الحديث وهو تحقيقها انتصارا كبيرا في ذلك الصراع التاريخي لصالح استقلالية الشعر واستقلالية دور الشاعر. بضوء ذلك يمكننا القول إن دور الشاعر التقليدي، أو أدواره التقليدية المتعددة التي طالما لعبها وما زال البعض من الشعراء يلعبها، قد انتهى، وبدأ دور الشاعر الحقيقي. فمثلما ذهب عصر العالم الموسوعي الذي يلم بكل علوم عصره— وهو ما أصبح أمرا مستحيلا في عصرنا الحالي، إذ كلما اتسعت مساحة علم من العلوم، كلما ضاقت دائرة التخصص فيه— كذلك الحال بالنسبة للشعر، وكذلك الحال بالنسبة للشاعر، الذي لن يتحرك إلا في دائرة الشعر الضيقة الواسعة، دائرة الشعر الذي لن يكون هو وشعره فيها بديلا عن أي شيء آخر.
عن: ((المسار))، نشرة دورية تصدر عن جامعة السلطان قابوس
#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كارولين فورتشه – العقيد
-
بين الشعر والعلم: نظرة تاريخية (القسم الأول)
-
جيني جوزيف – إنذار
-
مساعد الباحث في الجامعات العراقية: طاقة مستقبلية معطلة
-
ماثيو آرنولد-شاطيء دوفر
-
تشارلز بوكوفسكي- شريحة انتل 8088 ست-عشرية
-
بيلي كولينز - سونيتة
-
ت. س. أليوت-البشر الجوف
-
مارغريت آتوود - أنت تبدأ
-
لغة الشعر: أداة أم أداء
-
حذائي .. قصيدة للشاعر الأمريكي تشارلز سيميك
-
جيمس تيت - تعليم القرد كتابة القصائد
-
عبقرية الحشود للكاتب الامريكي تشارلز بوكوفسكي (1920-1994)
-
لا أومئ بل أغرق للشاعرة البريطانية ستيفي سميث (1902-1971)
-
التأمين على القصيدة
-
دونالد جاستس – خمس قصائد
-
راسل أيدسون- ثلاث قصائد نثر
-
مدرس التاريخ للشاعر الأمريكي بيلي كولينز
-
قبلاي خان لصاموئيل تيلر كولرج (1772-1834)
-
الظهور الثاني للشاعر الايرلندي وليم بتلر ييتس (1865-1939)
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|