عبدالرحمن الجوهري
الحوار المتمدن-العدد: 2615 - 2009 / 4 / 13 - 04:56
المحور:
كتابات ساخرة
كجائع لم يجد لقمة بعد , كعطشان لم يكفه كلّ هذا البترول , كفقير تصغر معدته باتساع معدة بيت مال المسلمين , كمريض تتبدّل أمراضه بتبدّل وزراء الصحّة , كحزين لا تكفي كلّ بشوت الشيوخ لتجفيف دموعه , كميّت لم يشيّعه أحد , ولم يحضر جنازته سواه , وحارس المقبرة يطلب منه مواراة جثّته سريعاً .. دون ضجيج .
ولأن العالم متحوّل , ولأنّ الثابت يؤلف مع المتحوّلِ كتابا للسيّد "أدونيس" كُتب على قفاه: "طبع على نفقة صاحبة الجلالة: الفاتيكان" ولأنّ تجارة الفديو كليب والجواري والإماءِ الحسان هي أبرز سوق العالمِ اليوم , وما بين شاشة نحيلة , وخصرٍ كذلك , استوجب نتف كثير من الشوارب , وملط الكثير من اللحى والقيم والعقائد , لتعمّ العالم شفافيّة مطلقة , ويصير الدين للدولار .
أتصفّح/أتفحّص الوطن , ليس كصحيفة فحسب , بل كشارع محفور بجدريّ الزفت , كحيّ سكنيّ دونَ أرصفة , كمقبرة دون أسوار , كمدرسة مستأجرة وطلّاب يتحامقون أكثرَ كلما درسوا أكثر , كمستوصف يوظّف الكثير من عاطلي بنجلاديش , ويقتل الكثير من موظّفي هذا الوطن , كورشة يملكها مسؤول ترقيع الشارع المجاور , يحفر حفرة ويصلح سيّارة , كمعلمة نصف عشرينية تموت على طريق سريع غريب بعيد , لا تواريها سوى ورقات دفتر التحضير , كأبٍ مديون مهموم بتسديد آخر ثلاثة قروضٍ قبل استئناف القرض الرابع , ومتابعة قضيّة القرض الأول في المحكمة , كشيخ يثور ويصول ويجول , ويختزل الدين في لثام فتاة , وحاجب أخرى , كصحفي يمارس التكتيك في كلّ شيء , ويعدّ بإخلاص قبل أن ينام عدد أوراقه النقديّة أكثر من عدد أوراقه الصحفيّة , كمذيع يهمّه شكل عمامته , وميلان قامته , أكثر ممّا يهمّه قيمة عقولنا , وجدوى إشعاعاتِ ما يضيء , أو لصالح من يكون ذلك.
أتصفّح الوطن كصحيفة أيضا , وأقرأ الجميع , من الأنيق: علي الموسى , الذي أحيانا ما ينشب أظفاره كقطٍ لم يروّض في عمامة أقرب رجل دين , إلى الهرفيّ الذي أضاعوه , إلى الفوزان الذي حلّل للجميع مصائبهم , ونسيَ نفسه , إلى الفال ذي الفأل الحسن , والكلمة الهادئة , إلى الداعية الأسمريّ الذي يقرأ الإمام الطبريّ كثيرا , آيات الحجاب خصوصاً , ويحبّ بحيرة طبريّة أكثر , إلى ياسر حارب , المحارب الذي يكتب لنا من بين أبراج دبيّ آباد , إلى شاكر النابلسي , الصورة الأنصع لما يمكن أن يكون عليه كاتب الخليفةِ الذي يستلم مرتبّه بفئة خمسين برميل بترول , إلى جمال خاشقجي , الرجل المتحوّل –الثابت في نظري- والمتوقّع أن يفجأنا غداً بتحوّله ما قبل الأخير , حيث يرأس تحرير القسم الفنّي في صحيفة "هارتس" أو يكون مراسلا لـ"معاريف" في بلدة حيفا , إلى الرطيّان الذي منحوه عموداً يشخمط عليه وطنيّاته , ويعلن بغض أمريكا بالكلمات , ليستلم نقود كتبه الجديدة بالدولار –المارك أحيانا- , إلى السحيميّ الذي لم يعد يدري أيدخل في العام القادم لجنة التمثيل في النسخة الثانية من فلم "الليمبي" أم يكتفي بتزييف نشرة الطقس في خلفيّة جريدة الوطن , إلى الشيحى الذي يكتب لا لأنّ حفر الباطن تريده كذلك , وإنما لاعتقاده أنّ لجنة الكونغرس تبني قراراتها على رسائل هاتفه الخلويّ , إلى تركي الدخيل , الجيّد في مادة الإملاء , الراسب في مادة الحساب , حين يحسب مقالاته بالكمّ , وينسى الكيف أجارنا الله وإياكم من الكيفِ والجبر والإجارة والأجراءِ والمأجورين .
بالمناسبة: البقيّة لا يمكن أن يطلق عليهم كتَبة , ولا كذَبة حتى , قد يجدون لهم وظائفَ أخرى , عطيّة بن سعد , مدير يصدر قرارات حتى في مقالاته , يحي الأمير , جارية من بقايا جواري الخلفاء المعدّات مسبقا للنياحة , خالد الغنّامي , بدويّ تائه في مطارات فرانكفورت , السيف , سكينة مثلومة لا تصلح حتى لترويض شعرات شاربه , الألمعيّ , راعي أغنامٍ ولّوه كتابة عقود النكاحِ في القرية , عبدالله بن ثابت , الكاتب بالعُملة , الصحفيّات الأخريات. أنموذج الفتيات الجيّدات الجديدات المجدّات العاملات في كلّ مجالات الفنّ والشعر والنقد والثقافة والطبخ والنسخ والتصوير والتحوير وركوب الخيل وسباقات الهجن , عضوان الأحمري , أشهر عارضة أزياء نسائية في الملحق الديني , حسن عسيري , ممثل يحترف التمثيل حتى في الكتابة , شريف قنديل , كومبارس سابق يشجّع نادي النصر حاليّا حبّا في عبد الناصر .
هذا القول ليس من أحد ملزماً به , وجريدة الوطن رغم كلّ هذا , تظلّ الأكثر فرادة هنا , في السوء والحسن , ربما حداثة سنّها تكثّر خاطبيها , وجمال مبسمها الماكر كذلك يفعل , ولذا ننتظر الآتي الذي يكشف كلّ شيء , لكنّ هذا لا يعطينا حقّ الإغضاء التامّ عن جميع ما يحدث , إنّنا كقرّاء في هذا الوطن , متعبون منهكون , أضمأتنا الأصياف المتعاقبة , وهجير هذا الوطن الأغبر , أن ننقد كاتبا/كاذبا ما , لا يعني ذلك أن يأتي بمسطرة وفرجار , ليحسب لنا عدد الأعمدة التي خط , ولا أكواباً ليرينا لترات الدموع التي سكب , همّا على الوطن طبعاً , وحزناً عليه .
في المقالة التي بُعثت من مرقدها , لم يكن كثير أمر , رأيت أمراً آلمني أن يكون لكاتب في صحيفة وطني , حقّ أن يكتب عن برجوازيّته , لا أن يمارس فعل غطرستها , ولا أن يرتكب إثم حصولها , وإنّما أن يباهيَ بها , ولولا أن أكون في إثم المدافعة والمرافعة مع من هم من مثله , ولولا فرح آخرين بذلك , لأريته حجم ما يكتب عن تذاكره وحجوزات طيرانه وأمسياتِ الصيف البارد في مروج زيورخ وبساتين السان ومنتجعات البلاد التي لا زلنا نسمع بها خبرا ليس إلا.
لكلّ كاتب في الوطنِ الوطن , اكتبوا ما شئتم , ودعونا نكتب ما نشاء , اكتبوا عن لون سيّاراتكم , ومقاسات أحذيتكم , ونوعيّة زجاج واجهات مساكنكم , ورونق هواتفكم المحمولة , ومدى حرصكم على مراجعة طبيب العائلة المختصّ بعائلتكم , وعن طبيعة ما تفعلون حين تكونون في باريز , أو تحلّون في روما , وعن آخر زيارة مفاجأة لمتحف اللوفر مع أفراد العائلة الغفيرة , وعن آخر كتاب أصدرته دار الساقي , وعن لقائكم بكاتبة تشيكيّة خلسة , عن عتاقة سجائركم الكوبيّة , اكتبوا عمّا شئتم , ولا تلومونا حين نرى كلّ هذا أن نقول لكم: لا تنسوا هذا الوطن , نرجوكم , نحن نريد أن تكتبوا عنّا أيضا , عن حفر الباطن وعن صامطة وعن العجوز التي لا تجد موقداً من نار لا كهرباء في سراة عبيدة , وعن قريتين في رفحاء , وعن معلمات ومعلمين , لم يقرأوا شعرا فرنسيّا حتى اليوم , لأنهم لم يجدوا في قُراهم "شرشفاً" صينيّا حتى .
#عبدالرحمن_الجوهري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟