مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 2611 - 2009 / 4 / 9 - 11:56
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
في لقاء جمع الكاتب البريطاني المعروف ه. ج. ويلز بالزعيم السوفيتي ستالين عام 1934 يلفت الانتباه ما اعتبره ويلز تطبيق سياسات اقتصادية متشابهة في روسيا السوفيتية و في أمريكا الرأسمالية , سياسات "البناء الاشتراكي"الستالينية و سياسات العقد الجديد الروزفلتية , هكذا كان تدخل الدولة الأمريكية لإنقاذ الرأسمالية من براثن أزمتها المهلكة في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين يشبه تماما , حسب ملاحظة الكاتب البريطاني الفطن , سياسات بناء رأسمالية الدولة السوفيتية * , حتى أن الاقتصاديين الكلاسيكيين وصفوا نظريات كينز , التي قامت على أساسها كل سياسات العقد الجديد و ما تلاها حتى سبعينيات القرن العشرين في دول مركز النظام الرأسمالي العالمي و غالبا سياسات دول المركز الرأسمالي في السنوات القادمة , بالاشتراكية , بينما اعتبرها بعض الاشتراكيين يومها "ماركسية" عصرهم , لقد انتقد ستالين يومها رأي ويلز القائل بتشابه رأسمالية الدولة الروزفلتية و الستالينية , و استخدم مثالا اعتبره هاما للغاية في التمييز بين الرأسماليتين , و هو موضوع التشغيل الكامل لقوة العمل المتاحة , الذي اعتبره "مبدأ" أساسيا لنمط الحكم السوفيتي , في مقابل عدم اكتراث الرأسمالية الغربية أو استثمارها لخطر رمي العمال في الشارع ضد العمال أنفسهم , لكن هذا النقد الستاليني لفكرة ويلز يعني في نفس الوقت وجود تشابه كبير فعلا بين المشروعين , في سمات أساسية في تحديد شكل علاقات الإنتاج السائد فيهما , مثل ملكية وسائل الإنتاج الرئيسية و علاقة المنتجين المباشرين , أي الكادحين , بوسائل الإنتاج هذه , و طريقة اتخاذ القرارات في المجتمع و دور الكادحين في هذه العملية , لكن هذا الفارق لا ينطلق من خلاف في هذه النقاط الأساسية , التي تشكل جوهر كلا النظامين , بل من خلاف آخر على صعيد مصدر الشرعية في كل منهما ( العقد الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي و عقد جديد شعاراتي في ظل رأسمالية الدولة , يفوض الأول البرجوازية تمثيل من تستغلهم باسم "حريتهم" القائمة على الديمقراطية التمثيلية و "حريتهم في التعاقد كعمال مأجورين مع الرأسمالي" و يفوض الثاني البيروقراطية الحاكمة تمثيل المجتمع أو على الأقل الطبقات التي تدعي تمثيلها , فتضطهدها باسم تحريرها هذه المرة , قد يريد العض مفاضلة أي من هذين الوهمين عن الحرية أفضل من الآخر , فهذه بالنسبة للمستغلين و الطغاة أفضل الطرق لترسيخ الوهم الذي يخدمهم , كما قد يكون من الصعب الآن مقارنة القمع الستاليني بالقمع المكارثي أو القمع الموجه ضد حركة حقوق السود مثلا , لكن الخلاف يبقى , رغم ميل المؤرخين لوصف القمع الستاليني بأنه كان أكثر همجية و وحشية , في الدرجة و ليس في النوع )...فالخلاف هنا هو في الشكل و ليس في الجوهر , فذات السبب الذي يدفع الرأسمالية إلى إبقاء البطالة سيفا مسلطا على رقاب العمال هو نفسه الذي كان يدفع البيروقراطية الحاكمة الستالينية لتشغيل شبه كامل لقوة العمل , ألا و هو تكريس و تبرير سلطتها على العمال هنا و هناك , بالنسبة للبيروقراطية الستالينية كان هذا التشغيل الكامل أو شبه الكامل , إلى جانب أشياء أخرى , المبرر الأساسي لتسمية المشروع كله بالاشتراكي , و مبرر السلطة المطلقة التي راكمتها بيروقراطية الحزب و الدولة في يدها و التهميش الكامل لجماهير العمال و الفلاحين الروس و لتحويل السوفييتيات إلى مجرد ألعوبة بيد البيروقراطية الحاكمة و لقمع أية معارضة للزعيم حتى داخل رأس هرم الحزب , استخدمت رأسمالية الدولة القومية عربيا شعارات مشابهة لتبرير وضعيتها كسلطة مطلقة , كطبقة جديدة مستغلة و استبدادية , بشكل ربما فاق ما فعلته البرجوازية الناشئة في أنظمة ما بعد الاستقلال , يجب أن نذكر أن شعارات مثل بترول العرب للعرب كانت هي البداية لصعود ديكتاتور دموي كصدام حسين , و أن الجماهير المصرية و العربية , و ربما الكثير من غيرهم من البشر , صفقوا بقوة يومها لعبد الناصر و هو يعلن تأميم قناة السويس , نفس عبد الناصر الذي أباح كل شيء لأجهزة أمنه و للمقربين منه بما في ذلك رقاب المصريين العاديين و كرامتهم و خيرات بلادهم , كان خلف كل هذه الشعارات إصرار هائل لا يعرف الهوادة على استبعاد أي نشاط مستقل عن السلطة , و منذ وقت مبكر جدا , قمع أية معارضة أو حتى بوادر معارضة للنظام , و إصرار هائل على استبعاد أي نشاط مستقل للجماهير و على ضرورة إلحاقه بأجهزة النظام و وضعه تحت رقابتها , كان من أوائل أعمال ما تسمى بثورة يوليو تموز 1952 إعدام خميس و البقري لكسر إضراب عمالي , و كان رد عبد الناصر على موقف الشيوعيين السوريين و المصريين من الوحدة السورية المصرية قاسيا لا يعرف الرحمة , تماما كما كان رده على محاولة حلفاء الأمس , الإخوان المسلمين , مقاومة نفوذه , كان حافظ الأسد أيضا لا يتساهل أبدا مع أي ظهور للسلاح الفلسطيني في الشارع السوري رغم أنه كان يدعم وجوده و تظاهراته المسلحة في الشارع اللبناني , كما أن البعثيين السوريين و العراقيين أصروا بشدة في إطار مفاوضات تأسيس جبهات محلية "تقدمية و وطنية و قومية" مع الشيوعيين و الناصريين على أن يوقف هؤلاء أي نشاط تنظيمي ذا شأن بين العسكريين و بين الطلبة , أن يتحولوا في الواقع إلى جزء من الصف الثاني أو الثالث من بيروقراطية السلطة المشاركين عمليا في تغطية سياساتها و من ثم جرائمها , مقابل بعض المقاعد المضمونة في مجالس ألعوبة بيد النظام و في حكوماته , هكذا أصبح القرار منذ الساعات الأولى للانقلاب الناصري أو البعثي في سوريا و العراق بيد أقلية محدودة جدا , و جرى بناء السلطة المطلقة لهذه الأنظمة لبنة لبنة , حتى رأينا بشار الأسد يرث أباه و كذلك جونغ إيل يرث والده الزعيم الكوري الشمالي الستاليني , هنا كما هو الحال في روسيا السوفيتية و سائر الدول التي كانت تسمى بالاشتراكية , و التي سميت بالدول القومية أو الممانعة عربيا , كانت الدولة تعتبر , في ظل حكم الحزب الشيوعي أو القومي الاشتراكي , اختزالا للمجتمع , خاصة الطبقات التي كان الحزب الحاكم أو القائد يدعي تمثيلها , و بالتالي كانت ملكية السلطة لكل شيء و خاصة لأدوات الإنتاج تعتبر وفق هذه الإيديولوجيا السائدة ملكية "عامة" , و كانت أية معارضة للسلطة توصم بمعاداة الشعب أو الاشتراكية أو القومية العربية و التآمر مع "العدو" الطبقي الداخلي أو الخارجي و تلاحق و تقمع بقسوة , هنا للحقيقة و للإنصاف , يجب أن نذكر أن أنظمة رأسمالية الدولة التابعة في السعودية و الأردن و المغرب و مصر السادات و مبارك , التي كانت تعادي المشروع "القومي و الاشتراكي" استخدمت مبررات مختلفة مضادة أو متناقضة تماما مع التي استخدمتها أنظمة رأسمالية الدولة القومية , غالبا الأصولية الإسلامية ( و المسيحية في لبنان ) على الأقل حتى سقوط الاتحاد السوفيتي , لتبرير ذات شكل و حقيقة السلطة المطلقة حيث تكون البيروقراطية الحاكمة هي الرأسمالي الأساسي إن لم يكن الوحيد و رب العمل الأكبر و بالتالي القوة الأساسية المهيمنة على مجمل النشاط الاقتصادي كما يهيمن على أي فعل أو تعبير سياسي , لنعد إلى التنظير الستاليني لرأسمالية الدولة السوفيتية و لنقرأ كيف وقف ستالين بقوة ضد اقتراح تمليك التعاونيات الكولخوزية للتراكتورات و غيرها من أدوات الإنتاج التي تستخدمها و تحصل عليها من الدولة في أوائل الخمسينيات ** , يعترض ستالين بشدة هنا على هذا الاقتراح و يتساءل "لنفترض لحظة أننا قبلنا اقتراح الرفيقين سانينا و فنجر و بدأنا نبيع للكولخوزات بيعا باتا أدوات الإنتاج الرئيسية ... فماذا يمكن أن ينتج عن ذلك ؟ ينتج عن ذلك أولا أن الكولخوزات ستصبح صاحبة أدوات الإنتاج الرئيسية , أي أنها ستجد نفسها في وضع استثنائي لا تعرف مثله أية مؤسسة في بلادنا , لأن المؤسسات المؤممة نفسها كما هو معلوم ليست صاحبة أدوات الإنتاج عندنا . فكيف يمكن تبرير هذا الوضع الاستثنائي للكولخوزات و بأي اعتبار من اعتبارات التقدم ؟" , "الكولخوز يعمل بواسطة أدوات إنتاج أساسية ليست ملكية كولخوزية بل للشعب بأسره" , طبعا هنا ستالين يقصد بالشعب الدولة تحديدا , كما أنه يتناسى أن المؤسسة الوحيدة التي كانت تملك وضعية استثنائية في روسيا الستالينية كانت هي الدولة تحديدا , و أنه برفضه منح التعاونيات تلك الوضعية الاستثنائية , الحصول على أدوات الإنتاج التي تستخدمها مباشرة, التي يصر على أن تبقى ملكية عامة أي ملكية خاصة بالدولة , فإنه يصر على أن تبقى الدولة هي وحدها التي تتمتع بوضع استثنائي , أن تبقى الدولة هنا هي صاحبة وسائل الإنتاج الفعلية و ليس الكادحين الذين كانت تدعي التحدث باسمهم و تمثيلهم , الأمر الذي كان يتطلب بالضرورة إخراسهم فعليا ( عن طريق قمع أي صوت مستقل أو مبادرة ذاتية و حتى أي معارضة ) كي تبقى أسطورة التمثيل تلك جدية , نفس أسطورة تمثيل البشر من قبل بعض السياسيين المحترفين في ما يسمى بالديمقراطية البرجوازية التي تعمل على تحويل السيطرة الاجتماعية و الاقتصادية للرأسمالية إلى سيطرة سياسية في شكل أقل توليدا للأزمات , مرة أخرى نجد أنفسنا أمام التشابه الهائل بين أنظمة رأسمالية الدولة و الرأسمالية , فيما يتعلق بوجود قوة تتمتع بوظائف استثنائية , بوضعية استثنائية , في مقابل جمهور المنتجين الأوسع الذي يجب أن يكون مستثنى تماما من هذه الوضعية , لا يمتلك وسائل الإنتاج , و ليس له أي دور في عملية نقاش و اتخاذ القرارات التي تقوم بها في المرة الأولى مجموعة من السياسيين المحترفين "المتخصصين" لصالح البرجوازية التي تملك وسائل الإنتاج و في الحالة الثانية بيروقراطية حاكمة تملك و تحكم فيما يبقى المنتجون المباشرون دون وسائل إنتاج أو أي دور في تقرير مصيرهم..المبرر يختلف , تختلف الشعارات , لكن الجوهر وحده , و حتى السياسات نفسها.....لاحظ تشومسكي في وقت سابق ذلك التوافق أيضا بين منظومتي الدعاية الستالينية و الإمبريالية في اعتبار الاتحاد السوفيتي ممثلا عن الاشتراكية *** , فقد استفادت الرأسمالية من حقيقة أن خصمها كان هو الاتحاد السوفيتي و أنظمة مثل الخمير الحمر و صدام حسين كسلاح دعائي و إيديولوجي فعال لتلميع "ديمقراطيتها" أو سياساتها العدوانية ضد شعوب العالم , و لذلك عملت على تكريس فكرة أن الستالينية كانت نموذج الاشتراكية الفعلي , و تريد اليوم أن تؤكد أن أنظمة إيران و سوريا و كوريا الشمالية هي نماذج الممانعة الحقيقية المعادية لسياساتها العدوانية , إلى جانب منظمة القاعدة التي تتفنن في القتل و التكفير كيفما شاءت , لتشرعن قتلها و انتهاكها لحقوق كل الناس في كل مكان تريد , لا تتحدث الرأسمالية أبدا عن أشكال أخرى حقيقية لحرية البشر خارج إطار سيطرتها , أو شكل سيطرتها الذي يقوم على تهميش الناس لصالح الأقلية التي تملك و تحكم في النهاية , هكذا تستطيع الرأسمالية أن تمايز نفسها عن رأسمالية الدولة "الاشتراكية" أو "القومية" و تحاول أن تقنع كل من اكتشف , مثل ويلز , ذلك التشابه الهائل بين محاولتها إنقاذ سيطرتها و نظامها باستخدام سلطة الدولة الرأسمالية و بين تلك الأنظمة المرعبة التي تقلدها , أنها مختلفة "جذريا" على الرغم من ذلك....إن البديل الذي يمثل حرية الناس , حرية المنتجين , هو هناك , بالضبط حيث حاول ستالين أن يقضي عليه لصالح دولته و هو يعتقد , كأي مستغل و طاغية , أنه قادر على تأبيد سيطرة طبقته الجديدة على الناس , و حيث تحاول الرأسمالية أن تقمعه و تقتله بتجاهله مفضلة عليه خصومة طغاة و حتى مجرمين كصدام حسين و عمر البشير , إنه في امتلاك المنتجين لوسائل إنتاجهم مباشرة , لا عن طريق أية مؤسسة استثنائية ما , إنه في حرية الناس , في امتلاكهم مباشرة كل وسائل الإنتاج التي يستخدمونها , و في مؤسسات ديمقراطية حقا يناقشون من خلالها شؤون حياتهم و إنتاجهم و يقررون كل ذلك بحرية فعلية...........
مازن كم الماز
* J. Stalin , Marxism versus Liberalism , interview with H. G. Wells ,
www.marxists.org/reference/archive/stalin/index.htm
** جوزيف ستالين , القضايا الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفيتي ,الحوار المتمدن , العدد 2575
*** Chomsky , The Soviet Union versus socialism , 1986
//Chomsky.info
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟