جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2605 - 2009 / 4 / 3 - 05:26
المحور:
مقابلات و حوارات
اليوم الذي قضيته مع الروائي الأردني الكبير : هاشم غرايبه , لم يكن يوماً عادياً فهاشم ليس كأي روائي فهو تاريخ ومعلم وأستاذ وجيل كامل بدأ حياته في الأردن شاباً محباً للأدب وإنتهى به أدبه إلى حب كافة الفنون الأدبية , وحين أرسله والده إلى العراق لدراسة المختبرات الطبية لم يكن أبوه يقصد من ذلك أن يتعلم هاشم غرايبه الشيوعية .
و سافر إلى العراق ليدرس المختبرات والعلوم الطبية ولكنه عاد من العراق شيوعياً بحتاً ومخلصاً لقضيته الشيوعية , عاد لأبيه بشهادته العلمية بالإضافة إلى المسلات الشيوعية العراقية .
وحين حكم عليه في بداية الثامنينيات بالسجن لمدة عشر سنوات بتهمة مزاولة الشيوعية والإنتساب إليها إعتقد أهله أنهم فقدوه نهائياً ولكنه نال الإفراج في 1989في فترة عودة الحياة النيابية والأجواء الديمقراطية في الأردن .
هاشم غرايبه عرفته وأنا مبتدأ جداً في بداية مشواري الأدبي والبحثي وحين نشأت شاباً يافعاً أخط بالقلم كما خط الشعر على وجهي وكما خط شاربي , في تلك الفترة دخلتُ إلى غرفة وقاعة الإنتخابات النيابية وصّوتُ أي أعطيته صوتي علناً... صوتاً شيوعياً لشيوعي ...رغم أنني لم أكن في أي يوم من الأيام شيوعياً .
هذا اليوم أنا والروائي الكبير في عمان وبالذات في وسط البلد حيث تدور أو دارت هنالك أحداث رائعته الروائية (الشهبندر) تلك الرواية التي لم تأخذ حضها كغيرها من الروايات الأخرى لهاشم غرايبه , وعلى كل حال كلانا معجب بصاحبه وأنا الأكثرُ إعجابا به منه حيث الآن نقف سوية في سقف السيل في عمان أمام سبيل الحوريات حيث كانت الرومانيات ينزلن من الجبل المتوسط الإرتفاع لكي يستحممن في ينابيع سقف السيل في (عمون) فلدفيا قديماً, وإذا بنا نتعدى سبيل الحوريات وجمالهن الأخاذ حيث الراحة والإستحمام قد إنتهى زمنه والآن زمن الصمت والأشياء المبعثرة فكرياً والمهمشة عاطفياً فلا توجد حورية واحدة تستحم في سبيل الحوريات .ولكن يبقى الشهبندر حيث فكرة الرواية أصلاً مأخوذة عن دفاتر بيع قديمة لأحد التجار العمانيين سنة 1930-1934م فمن خلال قراءة هاشم غرايبة لذاك الدفتر تعرف على نوعية الحياة العامة في عمان إبان تلك الفترة وظهرت بها الدكاكين الصغيرة والتي بدأ بها الشهبندر قصة حياته وكفاحه المريرة مع التطور والتجارة , إذ بدأ شاباً صغيراً ومن ثم تدرج هذا الشاب وكبر سنه وعمره وتجارته حتى أصبح شهبندر التجار في عمان الذين كانوا يتداولون بالجنيه المصري .
ومن الجنيه المصري إشتق العمانيون والشوام مصطلح المصاري حيث قالوا :جنيه مصري والمصريات والمصاري .
وفكرة رواية الشهبندر أن هنالك شاب صغير تدرج بالتجارة حتى أصبحت لديه أفكار توسعية بالتجارة ومن ثم أفكار توسعية بالإستثمار وبالتطوير الثقافي والتجاري والإقتصادي بشكل عام وكاد أن ينهض الشهبندر بطبقة برجوازية عظيمة وكبيرة لولا أن البرجوازية الطفيلية الطحلبية قد تصدت له وفي النهاية قتلته وقتل معه الطبقة البرجوازية العربية الأردنية الناهضة .
أنا ألآن أقف مع الروائي أمام متجر الشهبندر ونطل منه على منزله المرتفع إلى الأعلى حيث الجبل وحيث كان يجلس الشهبندر هنالك مراقباً لسوق عمان المالي والسياسي , فتظهر التفاصيل من الأعلى أمامه وحركة الناس في إنتظام وغير إنتظام وحركة العمال وكل شيء ما عدى سوق الحَب(الخضروات والفواكه والحُبوب) حيث لا يبدو للشهبندر به أي دخل .
فمن قتل الشهبندر ؟
من المعروف أن بطل رواية الشهبندر يموت قتلاً وهنا القتل تصفية سياسية برجوازية من طبقة برجوازية نتنة , إن هاشم غرايبه وظف تراثه الشيوعي والماركسي في تلك الرواية في شخصية الشهبندر التقليدية , فالراوي شيوعي قديم وبطل الرواية شيوعي عفوي عن غير قصد منه فلم يكن الشهبندر يوماً يحلم بأن يكون شيوعياً حتى أنه لم يسمع عنها ولكن تصرفاته العفوية تدل على أنه حاول تأسيس برجوازية حقيقية ناهضة .
وحلم الشهبندر تبدد في الأرض حين إعتلت طبقة من التجار (الأوليغارشيين) سدة الحكم التجارية , فرفعوا الأسعار وتسلطوا على المواطن وقاوموا التنمية الشاملة بمقابل ذلك قطع (لورنس العرب) سكة الحديد الحجازية التي كانت تربط بين بلاد الشام والحجاز وكانت توفر على المواطن عناء السفر والمشقة .
ولكن لماذا قطع لورنس سكة الحديد ؟
هو نفس أسباب قتل الشهبندر , فالإستعمار الكونلياني البغيض هو الذي قطع سكة الحديد من أجل المساهمة في حصار الأمة العربية وتخلفها وهي سياسة إستعمارية قديمة , وهنا رواية الشهبندر تجسيد للحلم العربي الضائع بإقامة برجوازية عربية حقيقية بلغة الشعب المتواضعة فقتل التجار الشهبندر وقطع لورنس سكة الحديد الحجازية .
هاشم غرايبه شخصية غير عادية إذا كتب أما إذا عشتَ معه يوماً كاملاً مثلي فهو يبدو وكأنه شخص عادي طبيعي مواطن يقوم كل يوم بأعمال عادية يقوم بها أي مواطن آخر , كان هاشم غرايبة وزمرة من الماركسيين الأردنيين الكبار يرتادون مقهى (عمون) و(مزات أبو أحمد) يحتسون الخمرة بين الحين والآخر ويتجاذبون في الأحاديث السياسية ويطرحون الأفكار , ولكن معالم عمان الحديثة ساهمت بإخفاء عمان الأصالة والتاريخ , أو أنها قتلت أحلام ومشاريع الشهبندر الجميلة والجريئة , كان للشهبندر أحلام جريئة مثل تلك الأحلام التي كان يحلم بها الشهبندر فعمان الشهبنر وعمان الشيوعي قتلتهم جميعاً المشاريع الإستعمارية البغيضة , وقتلت أحلام هاشم غرايبة التي كان يحلمُ بها مع مؤنس الرزاز الراحل هذا الأديب الأردني الذي مازالت مقاهي عمان السياسية تتحدثُ عنه وعن حكاياته على المقاهي .
إستمرت جولتي مع هاشم غرايبة منذ الصباح الباكر مع أنه تأخر عليّ قليلاً ولكنني تحملت ذلك لأعيش يوماً تاريخياً ولأشهد بنفسي وقائع كتابة رواية الشهبندر الذي يموت كل يوم في عمان مثله شهبندرات جديدة .
فشهبندر الشيوعيين مات .
وشهبندر التجار مات أولهم .
وشهبندر الكتاب مات عن بكرة أبيه .
وشهبندر الرومنسية لم يبقى منه أثر , لقد كانت عمان تنعم بكثير من الحياة الرومنسية والتي تخلوا من عُقد العقائد والمسحات الدينية والبرجوازية ولكن جميعها مات نهائياً بحيث لم تعد تظهر مجدداً كالأزهار التي تموت وتنبتُ من جديد.
شهبندر الشباب العاطفيين مات .
ولورنس قطع خطوط التواصل بين الإنسان العربي الحجازي والعربي السوري والشآمي والعراقي حتى الكردي الذي ما تراجع يوماً عن كونه من سلالة صلاح الدين الأيوبي .
ماتت بنظر هاشم غرايبة كل الشهبندرات وها نحن الآن نجلس في وسط البلد في منزل (ممدوح بشارات) الذي بناه (عبد الرحمان باشا ماضي) سنة 1924م وإشتراه من ورثته (دوق الحمة الأردنية) أو دوق عمان , وهذا لقب أنعم به جلالة الملك الحسين الراحل على ممدوح بشارات , وهذا المنزل الذي أنا والروائي الأردني هاشم غرايبه نجلس به ما زال يحتفظ بتراث عمان القديم إذ جعله الدوق مرجعاً للحياة العامة في عمان إبان الفترة الأولى من حكم الهاشميين في الأردن وبلاد الشام.
البيت الذي نجلس الآن بشرفته فيه الراديو القديم وفيه الكنبايات القديمة وبعض الصحف المصرية والتي كانت تصدر في أواخر القرن التاسع عشر , فيه عمان بحلتها وأدراجها فعمان الأدراج لا تقل روعة عن عمان البشهبندر , الأدراج التي ظهرت كنظام تنظيمي سكني , ومن تحت المنزل سبيل الحوريات الرومانيات وسقف السيل الذي عاش به الإنسان الأول وكان لا يقل أهمية عن مدينة البيضاء وأريحا , عين الغزال وسقف السيل تجمعات سكانية عمرها 9000-7000عام قبل الميلاد فمنذ بدأ الإنسان الأول بالإستقرار وإستئناس الحيوانات كانت عمان إحدى المدن الأليفة التي تآلفت مع الكلاب والخيول والقطط ولكنها عمان التقدم التي قتلت الشهبندر وعمان لورنس التي قطع بها سكك الحديد.
عدنا في غياب الشمس أو عند غياب الشمس و:انني أسير في قارب الإله زيوس في وادي النيل ركبنا السيارة معاً وأنهينا يومنا بتناول الغداء في مطعم القدس الشهير والقديم الذي كان هاشم غرايبه وهو شاب صغير يأكل به وما زال يأكل المأكولات العمانية , ومن ثم تصافحنا وجلسنا مع أبو علي الكتب أقدم مكتبة في عمان أو أقدم صاحب كشك لبيع الكتب .
وأنهينا جولتنا في رابطة الكتاب الأردنيين كانت الساعة السابعة تقريباً , والمحاضرون يستعدون لإنهاء محاضرة عن يوم الإحتلال للأرض الفلسطينية جلسنا سوية وسمعنا أراءأ لا تقل تفاهة عن أراء بعض الذين كانوا يحيطون بالشهبندر , وسمعنا أراءاً أخرى عظيمة وكبيرة لا تقل عظمة عن أراء الروائي الذي كتب رواية الشهبندر وسمعت أحلاماً من رجال لا تقل جرأة عن أراء الشهبندر نفسه .
إن شهبندر عمان أو شهبندر هاشم غرايبة ما زال موجوداً في كل مكان تذهب ُ به في عمان فهو في غرفة التجارة وفي غرفة الصناعة ومن الممكن لك أن تشاهده في الحمامات العامة وفي الوزارات وفي الكلاجيات وفي الخمارات , ما زالت عمان الشهبندر هي هي وما زال المحيطون بالشهبندر ينون قتله بحجة دفاعهم عن مكتسباتهم الغوغائية والإنتهازية .
ما زال الشهبندر لا يملك ولداً يرث مشروعه افأولاد الشهبندر هم بنات ونساء وإناث ضعيفات في مجتمع برجوازي ذكوري طفولي لا يؤمن لا بالمرأة ولا بالأم يؤمن بفحولته التي يشربها كل يوم كما يشرب الداء والدواء .
إن يوماً رائعاً عشته من عمري مع روائي أردني كبير يروي لي قصة الشهبندر , وكأن الشهبندر يجلس أمامنا في كل مكان ذهبنا وجلسنا به : في عمون مقهى عمون وفي مقهى جفرا ومررنا بجانب مزات أبو أحمد ولكننا لا نشرب المزات لا أنا ولا الأستاذ هاشم كان حلماً جميلاً ويوماً رائعاً شعرتُ به لأول مرة كيف تحتضن عمان العاصمة أبنائها من شتى الأصول والمنابت : أردنييون وفلسطينيون وشاميون وعراقيون حتى المصريون قدموا من وادي النيل وإستمعوا للشهبندر .
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟