|
أخلاقيات الترجمة (دراسة)
عبد الواحد محمد مسلط
الحوار المتمدن-العدد: 2603 - 2009 / 4 / 1 - 08:27
المحور:
الادب والفن
1. مقدمة: تكاد الأخلاقيات أن تكون مكونات أساسية في جميع مجالات الحياة .اننا نجد مكاناً أو مكانةً للأخلاقيات في الدين والتربية والتعليم وفي جميع الوظائف والمهن والحرف.وتصنف الأخلاقيات الى صنفين رئيسين هما : الأخلاقيات العامة والأخلاقيات الخاصة ، أي أن لكل مجتمع أخلاقياته العامة السائدة التي تحكم أو تتحكم بالسلوك الأجتماعي العام وبعادات المجتمع وأعرافه وتقاليده وتطبع نظامه السياسي والثقافي وغيره بطابعها المحلي الخاص ، كما أن له أخلاقياته الخاصة بكل مهنة أو حرفة أو وظيفة. لكنّ هذه الأخلاقيات بصنفيها العام والخاص تخضع كغيرها لتقلبات الزمن المتعاقبة diachronic والآنية .synchronic وعليه لاتوجد أخلاقية ثابتة ألا ما ندر ، لأن الزمن يفعل فعله أذ يواصل عملية الثلم والتغيير بتأثير الأحداث السياسية وتغير الأنظمة الأجتماعية وبالتالي تتغير وجهات النظر والمواقف والمفاهيم التي تؤدي بدورها الى تغير الأنظمة الأخلاقية وما تقوم عليه من مبادئ فكرية وقيم values وفضائل virtues . " ولكي نتفهم أخلاقيات الترجمة ينبغي أن نستوعب جنسي الأدب الرفيع والوضيع". (جوانفتش:203) . بعبارة أخرى ينبغي للترجمة ألا تتحيزالى جنس بذاته من الأدب ، وألا فسوف تصنف الأخلاقيات في مثل هذه الحالة الى أخلاقيات نخبوية أو شعبية وليست شمولية. ولا شك أن تصنيفاً كهذا ناشئ عن أحكام أجتماعية عرضة للتغير بتغير الزمن . أن ما يُعد أدباً شعبياً في زمنٍ ما ، قد يتغير مقامه ويصبح أدباً نخبوياً وبالعكس. أن ما ينطبق على الأدب ، ينطبق على اللغة ايضاً، أذ أن ثمة لغة يستخدمها النخبة وأخرى يستخدمها عامة الشعب ومثال ذلك اللغة اللاتينية في أوربا التي تبناها النخبة من المثقفين ، بينما أستخـدم النـاس في البلـدان الأوربيـة لغاتهم المحلية التي كانت لها لهجات متنوعة . ومع مر الزمن صارت بعض هذه اللهجات لغات قياسية جديدة. على أية حال أن الشروط الأجتماعية دائمة التغير وبالتالي فهي التي تملي الشروط الأخلاقية وتقررها. لذلك نلاحظ أن أنطوان بيرمان يزعم " أن نظريات الترجمة وممارساتها الشائعة في الغرب كانت عرقية الطابع في زمنٍ مضى ، كما أنها فوق نصية hypertextual ومنصرفة الى نقل المضمون على حساب حرفية النص". ( 1984 ) آنذاك كانت السمات الأخلاقية التي ينبغي تحلي العضو بها هي : الأستقامة وبذل الخدمة لطالبيها والكد والأجتهاد والأستقلالية والنزاهة وأن تكون الأجور منصفة ومعقولة أضافة الى تحقيق صفتي السرية المهنية والثقة. في الواقع أن هذه السمات تقتضيها أية مهنة تقريباً . ويضرب لنا جوانفتش ( 2001 :203 ) مثالاً عن الترجمة اللاأخلاقية " برواية ( عناقيد الغضب ) الأميركية لشتاينبك " التي ترجمها كارين دي هاتكر الى الفرنسية بدعم سري من لدن الأحتلال النازي في بلجيكا المحتلة ، حيث حذفت من النص وأضافت وحورت فيه فقرات عدة . ففي الرواية يتحدث شتاينبك عن قطعة أرض صغيرة يلتصق المرء بها لأنها تمدّه بأسباب الحياة لا عن هوية وطنية. لقد وضعت الترجمة النص في خدمة مصالح المانيا النازية. ومن الأمثلة الأخرى ، تلك الروايات التي ترجموها مترجمونا مبتورة الفقرات أو حتى الفصول الكاملة لأنها تعالج مسائل سياسية أو قضايا جنسية وغيرها لا تناسب ما تواضع عليه مجتمعنا العربي. وعند هذه النقطة نتوقف لنتدبر الموقف الأخلاقي الناشئ عن هذه العملية : فمن ناحية الترجمة من اللغة الأجنبية الى اللغة العربية لم يلتزم المترجم بأخلاقيات الترجمة الخاصة بالأخلاص والأمانة ، لكنه من ناحية أخرى التزم بأخلاقيات مجتمعه. الآن كيف نحكم له أو عليه ؟ بأعتقادي أن الطريقة الأسلم عاقبة هي أن يتجنب المترجم ترجمة ما يتعارض مع أخلاقيات الآخر وأن يطبق أخلاقيات الترجمة الخاصة باللغة المصدر. في العقود الأخيرة من القرن الماضي بدأت تصدر كتب جديدة وتنظيرات جديدة عن نظرية الترجمة وما يتعلق بها ، وظهرت الى جانبها أسماء بارزة تناولت موضوعة أخلاقيات الترجمة. ويدعوا بعض أولئك المنظرين الى ضرورة وضع قسم رسمي للمترجمين شبيه بالقسم الهيبوقراطي لدى الأطباء و ضروب القسم الأخرى في المهن المتنوعة . ويرون أن هذا القسم يمثل الألتزام الأخلاقي الذي يُلزم المترجمين بأتباع تعليماته ومبادئه التي تجنبهم التورط بسلوك لا أخلاقي يتنافى مع طبيعة عملهم الترجمي القائم على الأخلاص والأمانة و الدقة. لكنني أرى أن مثل هذا القَسَم يجب ان لا يُؤدى كيف ما أ تفق ، أي يجب أن يؤديه من أستكمل أدواته الترجمية وأجتاز خبرات وأختبارات قياسية رسمية معترف بها. و تشتمل هذه الخبرات على جانبين : جانب نظري وجانب تطبيقي. وعندما نذكر عبارة " الألتزام الأخلاقي" فأننا نقصد الألتزام بمبادىء أو أسس معينة أو بنماذج أخلاقية قائمة على مفاهيم أو آراء متعارف عليها متعلقة بالسلوك الأمثل فـي أداء الترجمة. وتشتمل أخلاقيات الترجمة على أربعة نماذج هي : نموذج التمثيل ونموذج الخدمات ونموذج الأتصالات ونموذج المعايير ( جوانفتش؛ 139:2001- 142). 2.النماذج : 2 .1 - نموذج التمثيل representation : ويعود بنا هذا النموذج الى الفكرة المثالية عن المترجم الأمين وعن النصوص المقدسة. وفي حالة هذه النصوص يجب أن يلتزم المترجم بالأمانة التامة من جميع الوجوه اللغوية والتأويلية والمفاهيمية وغيرها وأن يسعى لأن يفهم بدقة مقاصد النصوص المقدسة لئلا يقع في فخ سوء الفهم الذي يؤدي بالتالي الى تشويه أو حرف المعاني المقصودة. وبما أن ترجمة هذه النصوص تتطلب كفاءة ترجمية عالية ، نرى أن عدداً كبيراً من المترجمين الكبار ساهموا في أعادة ترجمة هذه النصوص، وبالتالي توفرت لدينا نصوص مقدسة متعددة باللغة الهدف لنص مقدس واحد باللغة المصدر. وعند فحص هذه النصوص ومقارنتها مع النص المصدر ومع الترجمات المتعددة للنص الأصل ، تتجمع لدينا ملاحظات عديدة. ولاريب أن المقصود بهذه النصوص أنما هي النصوص التوراتية والنصوص الأنجيلية والنصوص القرآنية ، كما نستطيع أن نضيف لها النصوص البوذية. وفي هذا المجال برز المنظر الأمريكي يوجين نيدا في ترجمته وتحليلاته للنصوص الأنجيلية، مثلما برز عبد الله يوسف علي في ترجمته وتعليقاته للقرآن. أن تعبير " ترجمة معاني القرآن " ، ليدل على أن المترجم لا يريد أن يورط نفسه بترجمة القرآن الكريم. ولا شك أن مثل هذا التحفظ يؤشر علامة أخلاقية كما يؤشر تهيباً أمام هذه النصوص المقدسة. أنه تهيب من الأسلوب اللغوي ومن المعاني الحقيقية التي يحملها الأسلوب. وهذا الأمر واضح جيداً في الأسلوب القرآني الذي توصف فيه آيات القرآن بكلمة verses أي أبيات شعرية. وفي مثل هذه الحالة يجب أن تمثل الترجمة النص المصدر أو مقصده بدقة متناهية دون أضافة أو حذف أو تغيير. أذن يعد هذا النوع من الترجمة تمثيل مطابق correspondent أو مكافئ equivalent للنص المصدر وأحياناً تمثيل حرفي. ويتمثل هذ الأرث الأخلاقي بتمثيل الآخر، أي بالعلاقة بالغير alterity كما يلاحظ ذلك في الحركة الرومانسية الألمانية وما تلاها من أسهامات نظرية تؤكد قيمة السماح لأن يظهر الأخر بنوره الخاص دون تدجين كما ورد في مناقشات شلايرماخر وبيرمان (1984) و فينوتي (1995). ويرى عدد كبير من المنظرين أن كل ترجمة تُعد تأويلاً بحد ذاته. ويُعد تمثيل النص المصدر بالنص الهدف تأويلاً. وعندما يُساء التمثيل نحصل على ترجمة مغرضة أو محابية قد تؤدي الى نتائج لا أخلاقية بما يتعلق بالعلاقات والمفاهيم الثقافية المتبادلة . لذلك يسلط المبدأ الأخلاقي للتمثيل الضوء على قيم الأخلاص والحقيقة وعكسها كما تعكس المرآة الأشياء. أما الأخلاص المنقوص ، حسب رأي لويس (1985) فيسمح بظهور الآخر كشخص مختلف في ترجمة تغريبية foreignization أو foreignness . ويمثل هذا النوع من الترجمة تمثيل شيء بشيء آخر وهو تمثيل علاماتي حيث أن الترجمة علامات للأصل أو المصدر. وتختلف الترجمة التغريبية عن الترجمة التدجينية : حيث تعطي التغريبية الأنطباع بأنها تمثل النص المصدر بمحافظتها على المسحة الأجنبية ، بينما تعطي التدجينية الأنطباع بأنها جزء من تراث الآخر المتمثل أساساً بلغة النص الهدف. 2 .2 - نموذج الخدمات : services وللخدمات وتقديمها للزبائن والمخاطبين ومدراء الأعمال والتجار وجميع من له علاقة بالمسائل الخدمية ، أخلاقيات نوعية تتمثل بتطبيق ما يُسمى بالترجمة الوظيفية التي يدعو لها هولز مانتاري : Holz Manttari والترجمة الغرضية skopos التي قدمها هانز فيرمير Hans Vermeer . ويدعو مانتاري الى ترجمة محترفة غير أدبية ضمن سياق أجتماعي وثقافي يتضمن التفاعل بين المترجم والمؤسسة المبادرة initiating institution . وتصف هذه النظرية " الجانب المهني " ، لدى المترجم ومدى أهميته في تحقيق الوظيفة التي ترمي اليها الترجمة. وتعلق نورد Nord (1991) على هذه النظرية مؤكدة " أنه في الوقت الذي تكون فيه الوظيفية functionaltyميزة مهمة للمترجم ، فأن هذا لا يسمح للمترجم بحرية العمل المطلقة ". أما النظرية الغرضية فتعتمد على الغرض المراد من الترجمة. وكلمةskopos التي تعني غرضاً مأخوذة عن اليونانية . وقد شاركت الألمانية كاثرينا ريس Katharina Reiss زميلها فيرمير في أرساء مبادئ هذه النظرية . وتركز هذه النظرية الغرضية على غرض الترجمة الذي يحدد ستراتيجيات الترجمة وطرقها لغرض تقديم نتيجة دقيقة عملياً والحصول على ما يسميه فيرمير بالنص الهدف translatum . ويعتبر المترجم في ضوء هذه النظرية كما هو الحال في النظرية الوظيفية اللاعب الأساسي في عملية الأتصال بين ثقافتين. وبرأي ريس و فيرمير (1984) ينبغي أن يترجم النص الهدف بطريقة يكون فيها مترابطا ًترابطاً منطقياً مع النص الهدف الذي يستقبله الجمهور المتلقي ، آخذين بنظر الأعتبار ظروف هذا الجمهور ومعرفته. وتعتمد هاتان النظريتان على قانون الأمانة الذي يؤكد : أستلام المترجم لمعلومات النص المصدر وتأويله لهذه المعلومات وتحويلها الى علامات من أجل الجمهور المتلقي. أضافة الى ذلك ، تتضمن أخلاقيات الخدمة الألتفات الى قيمة الوقت والألتزام بالمواقيت. 2 .3 - نموذج الأتصالات . communication : لايعني هذا النموذج تمثيل الأخر بقدر ما يعني الأتصال أو التواصل مع الأخر. بعبارة أخرى يعني هذا النموذج خروج المرء من عالم الأنا المحدود. ويعد التواصل نقطة الأرتكاز عبر الحدود اللغوية والثقافية. وفي هذه الحالة ينجز المترجم تفاهماً ثقافياً متبادلاً ، أي فهماً للأخر. ويحصل هذا عبر فهم النصوص والرسائل والعلامات والمقاصد والمعاني. أن فهم ترجمة ما يعني التواصل الى تأويل يتناسب مع القصد الأيصالي للمؤلف والمترجم الى حد يعبر عن غرض ما. يلتزم هذا النموذج في تحقيق الأتصال أو التواصل بمستويين : أصغر micro وأكبر macro . والمقصود بالمستوى الأصغر هو التعامل مع المفردات اللغوية lexemes ومتلازماتها collocations ودلالاتها المعنوية semantic وتراكيبها النحوية syntactic . أما المستوى الأكبر فيعني الفقرات والنصوص والدلالات الشمولية الناشئة عنها ضمن سياقاتها اللغوية والأجتماعية . ويجري تحليل النص المصدر بأعتماد أسلوب فك الشيفرات decoding فيه. وعند الترجمة تجري عملية تركيب الشيفرات encoding في اللغة الهدف. 2 .4 - نموذج المعايير أو القواعد : norms : نجم هذا النموذج ، ظاهرياً أو باطنياً ، عن الترجمات التوصيفية وعن نظرية المعيار العامة. ويرمي هذا النموذج الى دراسة المعايير أو القواعد التي يجب أن يلتزم المترجمون بها ، وهي المعايير التي تحدد نوع النتاج الترجمي وتؤثر فيه كما تؤثر في عملية التلقي. والسؤال : ماهي المعايير التي تجعل النتاجات الترجمية مقبولة ؟ وكيف تختلف الترجمات بين فترة زمنية وأخرى وبين ثقافة وأخرى ؟ ومثال على ذلك ، ترجمة الأنيادة لفرجيل من اللغة اللاتينية الى اللغة السويدية في فترات زمنية مختلفة حيث ترجمها أندرز نكاندر Anders Nicander في القرن الثامن عشر ، وغدمند جوران أدلربث Gudmund Joran Adlerbeth في القرن التاسع عشر ، وفي القرن العشرين ترجمها جوهان بيرغمن Johan Bergman في ( 1921 – 1923 ) وأنغفار بيوركسن Ingvar Bjorkeson في ( 1988 ). تميزت ترجمة نكاندر بحذف الكلمات والتراكيب وأضافة كلمات وتراكيب وحتى فقرات طويلة. بينما تميزت ترجمة أدلربث بنفس لاتيني Latinized . كان هدفه أن يحافظ على أداء النص المصدر. أما بيرغمن فقد تحاشى لتننة النص ونقل المحتوى بدقة الى الشكل السويدي. أما الترجمة الرابعة لبيوركسن ، فقد أعتبرها النقاد حدثاً أدبياً وترجمياً حداثاوياً ، مكتوبة بلغة سويدية أصلية ومفهومة مستخدماً بحر الهكساميتر hexameter ( Sorvali ، 1994 : 99 – 102 ). 3. اشكاليات وملاحظات : 3 .1 - أن كل نموذج من هاتيك النماذج الأربعة يسلط الضوء على قيم أخلاقية مختلفة. فنموذج التمثيل يمثل ( الحقيقة ) ونموذج الخدمات يمثل ( الأخلاص ) ونموذج الأتصـالات يمثل ( الفهم ) ونموذج المعايير يمثل ( الثقة ) . والأسئلة هي : هل أن بعض القيم أرقى من غيرها ؟ هل أن بعضها يعتمد على البعض الآخر ويطورها ؟ والراجح أن الناس الذين يقولون الحقيقة يوثق بهم أكثر من الذين لايقولونها ، وأن الناس الذين يلتزمون بالأخلاص يوثق بهم أكثر من غيرهم. وربما تؤدي الحقيقة والثقة الى الفهم. وعندما تتصارع القيم لايمكن أن تكون واضحة المعالم. 3 .2 - مع ذلك ، أن للنماذج الأربعة مجالات مختلفة وحدوداً للتطبيق. لقد طبقت بعض النماذج أكثر من غيرها في الترجمة الأدبية وترجمة الأنجيل ، وطبقت بعض النماذج الأخرى في ترجمة العلوم التطبيقية والأدارية. ويلاحظ أنه لاتوجد ترجمة تمثيلية تامة. 3 .3 - يؤشر نموذج الخدمات براعة المترجم. ويبدو أن المترجم ، في هذا النموذج ، يفيد من حسنة الخفاء الترجمي الذي يساعد في التخفيف أو التقليل من أستقلالية المترجم الى حدٍ ما. 3 .4 - يقوم نموذج الأتصالات بالمجازفة بتوسيع مسؤولية المترجم لتغطية جوانب العلاقات الثقافية المتبادلة التي لها علاقة أكبر بالزبائن والقراء وليس بالمترجم. ولنفترض الأن أن العلاقات ناجحة لكنها تؤدي الى نمو وتطوير أهداف غير أخلاقية مثل ترجمة تعليمات متعلقة بصنع متفجرة صغيرة ؟ هل سيلقى بتبعات هذه المسؤولية على المترجم ؟ 3 .5 - يبدو أن نموذج المعايير متحفظ الى حدٍ غير ملائم ويلعب دوراً تحتياً في أمكانية احداث تغيير أو تحسن لاسيما أن هذه المعايير لاتبقى على حال واحدة دائماً بل تتغير جزئياً عبر الزمن من جراء الفعل الترجمي. 3 .6- تكمن الصعوبة الأخرى في الطريقة التي تركز فيها نماذج مختلفة على مستويات مختلفة من الأخلاقيات. فنموذج المعايير ، والى حدٍ ما ، نموذج التمثيل يعملان عموماً في المستوى الأخلاقي الأصغر المتعلق بالعلاقة ما بين المترجم والنص. أما النموذجان الأخران فيتجهان نحو المستوى الأخلاقي الأكبر المرتبط بعلاقة المترجم بالعالم الأرحب. كيف لنا أن نقرر المدى الذي تتوقف عنده المسؤولية الأخلاقية ؟ في الواقع أن المترجمين مسؤولون عن الكلمات التي يختارونها في الكتابة ، لكن الى أي حدٍ يكونون مسؤولين عن التأثيرات أو الأثار التي تحوزها هاتيك الكلمات ؟ على القراء المقصودين وربما غير المقصودين أيضاً ؟ وما هي مسؤولية العالم تجاه المترجمين ؟ بالتأكيد أن هذا الأمر يتعلق بالأخلاقيات العامة المتعلقة بالترجمة وبما يسمى السلوك الترجمي . ولمزيد من المعرفة في هذا المجال يمكن النظر في توصية نايروبي الصادرة عن منظمة اليونسكو. 3 .7 - وتختلف هذه النماذج الأربعة أيضاً من ناحية أرتباطها بالأنواع الأساسية من الأخلاق. ان نموذجي الخدمات والمعايير يمثلان الأخلاقيات التعاقدية القائمة على أتفاقات سابقة : خاصة بالعقود والتعهدات وغيرها. وغالباً ما تكون هذه الأتفاقات واضحة وغير غامضة. أما القرارات اللاأخلاقية فأنها معرضة للنقد لأنها تكسر العقد أو المعيار. ويمثل نموذجا التمثيل والأتصالات الأخلاقيات النفعية. 3 .8 - وبنظر عدد كبير من المترجمين يعدّ الوضوح قيمة أخلاقية يسعون الى الأرتقاء بها في عملهم. وهي كذلك بالنسبة للمنظرين وأداريي الخدمات الترجمية. لنلاحظ مثلاً القول الشائع : حاربوا الضباب Fight the Fog ، أي حاربوا الغموض ، في حملة تسعى لتطوير الوضوح في الوثائق الأصلية ونظيراتها المترجمة. ويحاول بوبر ( 1962 ) أن يبرهن بأن الوضوح يعد شرطاً مسبقاً لجميع أنواع التواصل المنطقي الذي من دونه لايستطيع المجتمع أن يقوم. 3 .9 - تقدم نماذج الأخلاقيات المختلفة تفسيرات مختلفة . ففي نموذج التمثيل ، يعني الوضوح الشفافية بحيث يبدو الأصل مرئياً بوضوح ويكون ( الآخر ) حاضراً دون تشويه . وأذا أريد بالتمثيل المرغوب أن يمثل مقصد المؤلف وليس النص المصدر ، فينبغي أن يكون هذا المقصد مرئياً بشفافية وأن تكون النتيجة ترجمة تدجينية. أما في نموذجي الخدمات والتواصل فيفسر الوضوح بأنه حالة الوصلية أي سهولة منال المطلوب. وفي هذه الحالة تؤثر درجة الوضوح على العلاقة ما بين الترجمة والقارئ وليس بين الترجمة والنص المصدر. وفي نموذج المعايير يكون الوضوح نسبياً ، أي بحسب توقعات الجمهور المتلقي. ويعتمد شكل الوضوح المطلوب ودرجته على هذه التوقعات . ويطالب هذا النموذج بأن يكون المترجم واضحاً بقدر ما يتطلب الموقف من وضوح وبالطريقة التي يتوقعها القراء ويؤكد أن هذا الوضوح مرتبط بالسياق وبالثقافة. وأجمالاً تعد هذه النماذج الأربعة جزئية ، أي أن كل واحد منها يغطي جزءاً من المجال العام لأخلاقيات الترجمة . 4. أخلاقيات الألتزام : نستطيع القول أن لكل مهنة أو حرفة أو ممارسة أخلاقيات خاصة تميزها عن بعضها بعضاً. فأخلاقيات الصحافة تختلف عن أخلاقيات الفنون وأخلاقيات الطب تختلف عن أخلاقيات الدين وهكذا. الأهم هو ليس الأخلاقيات ذاتها ، بل الألتزام بها. خذ مثلاً الأخلاقيات التي تطرحها الأديان أو الفلسفات التربوية. ما قيمة هذه الأخلاقيات بلا ممارسات حقيقية ، أي بلا ألتزام ؟ فالألتزام يعد العروة التي تجمع المحترفين على قيم الممارسة. ويمكن وصف الألتزام بأنه وعد أو قسم. فالتعاقدات والأتفاقات مثلا تنطوي على وعود قد تمتلك جوانب نفعية . ومن أمثلة الألتزام بالقسم الشائعة : القسم الطبي ( الهيبوقراطي ) والقسم الفيزياوي ( أرخميديسي ) Archimedean والقسم العسكري والقسم الجامعي وغيرها . 4 .1 - وفي بلدان كثيرة توجد أنظمة قسم معتمد للمترجمين المحلّفين أو المرخصين. ومن أمثلة ذلك القسم الفنلندي الوارد في القانون عن أولئك المترجمين بالشكل الأتي : ( أني - الأسم – أتعهد وأقسم بشرفي وضميري أنني سأنفذ في عملي مترجماً مرخصاً المهمات التي تعهد اليّ بما يمليه عليّ الضمير وبأفضل مالديّ من قدرة ، وأنني لن أستخدم لفائدتي الخاصة أو أفشي من دون ترخيص أيـة معلومات قـد أكتسبـها في مجـرى عملـي ). ( جيسترمن : 150 ). 4 .2 - كذلك بوسعنا أن نطلع على قانون أو مبادئ السلوك الحرفي وممارسات العمل التي يلتزم بها أعضاء جمعية المترجمين الأمريكيين. وتظهر التزامات عضو الجمعية بالشكل الآتي :
1. بوصفي مترجماً تحريرياً أو مترجماً فورياً ، وبوصفي جسراً لتبادل الأفكار من لغة الى أخرى ومن ثقافة الى أخرى ، ألزم نفسي بأعلى معايير الأنجاز والسلوك الأخلاقي وممارسات العمل : أ0 سوف أحاول أن أترجم الرسالة الأصل بأمانة وأن ألبي حاجات المستخدم النهائي . أني أعترف بأن هذا المستوى من التفوق يتطلب : 1. أمتلاك ناحية اللغة الهدف التي ينبغي أن تكون مكافئة للغة الناطق الأصلي المثقف. 2. تحديث المعرفة من مادة الموضوع ومصطلحاته في كلتى اللغتين. 3. بلوغ مصادر المعلومات ومصادر المواد وتكوين معرفة عن أدوات حرفتي. 4. مواصلة الجهود لتحسين المهارات والمعرفة وتوسيعها وتعميقها. ب. سوف أكون صادقاً في مؤهلاتي ولن أقبل بأية واجبات لست مؤهلاً لها. ت. سوف أحمي منافع زبائني كأنها منافعي وأن لا أفشي سر المعلومات السرية. ث. سوف أقدم أشعاراً لزبائني عن الصعوبات التي لم تحل. وأذا لم نستطع حل نزاع ما ، فسنلجأ الى التحكيم. ج. سوف أستخدم زبوناً من لغة المصدر حينما أكون مستعداً لتسمية شخص يؤيد خاصية عملي . ح. سوف أحتـرم وأمتنـع عن التدخـل في أيـة علاقـة عمل بيـن زبوني وزبون زبوني. ( جيسترمن : 150 ). 4 .3 - لو تسنى لنا أن نطلع على قوانين ومبادئ أخرى في بلدان أخرى لجمعيات ترجمة ، ربما سنقع على صيغ متعددة من القسم الحرفي . ونتوقع أن يكون بعضها ذا صبغة محلية وأن يكون بعضها الأخر ذا صبغة عالمية . والحقيقة أنه كل ما كانت الصيغ ذوات مضامين عالمية ، كل ما كانت أعم وأشمل ، بحيث تستغني الجمعيات المحلية عن قسمها المحلي وتتمسك بالقسم العالمي الشامل . أن مثل هذا القسم العام سوف يساعد على تعزيز حركة الترجمة وتوجيهها في كل أنحاء العالم بمستويات متشابهة. ولدينا الأن قسم من هذا النوع أقترحه اللغوي أندرو جيسترمن Andrew Chesterman ، العضو التدريسي في قسم اللغات الرومانسية في جامعة هلسنكي في فنلنده. ويتألف القسم من تسع فقرات كالأتي : ( جيسترمن : 153 ). 1. أقسم أن أحافظ على هذا القسم بأفضل ما أملك من قدرة وأحكام ( ألتزام ). 2. أقسم أن أكون عضواً مخلصاً في حرفة المترجمين محترماً تاريخ الحرفة. وأني على أستعداد أن أشرك في خبرتي زملائي وأن أنقل خبرتي الى المترجمين المتدربين. ولن أعمل لقاء أجور غير معقولة. وسأترجم دوماً بأفضـل ما أملك من قدرة ( الأخلاص للحرفة ). 3. سوف أستخدم خبرتي لتوسيع التواصل أو الأتصال ولتقليل سوء الفهم عبر حواجز اللغات ( فهم ). 4. أقسم بأن ترجمتي لن تمثل النص المصدر بطرق غير سليمة ( الحقيقة ). 5. سوف أحترم قرائي محاولاً أن أجعل ترجمتي سهلة المنال بقدر ما أستطيع وحسب شروط كل مهمة ترجمية ( الوضوح ). 6. أتكفل بأن أحترم الأسرار الحرفية لزبائني ولن أستغل معلومات الزبائن لمكسب شخصي. وأعد بأن أحترم المواقيت وأن أتبع تعليمات الزبائن ( الأعتمادية ). 7. سوف أكون صادقاً بخصوص مؤهلاتي وحدودها. ولن أقبـل بعمل يتجاوز حدود قدراتي ( الصادقية ). 8. سوف أطلع الزبائن على المشكلات العصية على الحل وأن أوافق على التحكيم في حالات النزاع ( عدالة ). 9. سوف أفعل كل ما أستطيع لأدامة قدرتي وتحسينها في النواحي اللغوية والتقنية ذات الصلة الوثيقة ومعرفة المهارات ( تفوق ). 4 .4 - لا أزعم أن هذه النماذج تلبي الغاية النهائية المنشودة وأنها نماذج مثالية لايتوقع أحلال نماذج أفضل منها في المستقبل. لكنها الأن يمكن أن يعّول عليها ويؤخذ بها وأن يوجه المترجمون الى الأعتراف بأهميتها وقيمتها. ولاريب أن هذه النماذج لم تأت من فراغ ، بل أتت من سلسلة طويلة من الخبرات والممارسات والتنظيرات ، وأذا أعقبتها خبرات أخرى ، فربما يحصل حذف أو أضافة في بعض فقراتها . أني أعتقد أن هذا الميدان ، أي ميدان أخلاقيات الترجمة ، ميدان جديد ، في الأقل ، في بلادنا العربية ومنها : بلدنا العراق . لذلك يحتاج الى دراسة وتطوير في أقسام الترجمة وفي الجمعيات والمنظمات التي تتعاطى في الشأن الترجمي .
References ************** 1.Berman,Antoine(1984), L Epreuve de l etrang. er. Culture et traduction dan l Allemague Romantique,Paris :Gallimard.
2.Chesterman,Andrew(1993) " From Is to Ought " : Translation Laws , Norms and Strategies, Target 5 (1):1-20.
3.Gouanvic,Jean-Marc(2001), " Ethos ,Ethics and Translation :Toward a Community of Destinies" in The Translator,vol.7,No2,PP.203-212.
4.Lewis,Philipe E. (1985) The Measure of Translation Effects , in Joseph Graham (ed.) Difference in Translation, Ithaca, Ny: Cornell University Press, 31-62.
5.Mac In tyre, Alasdair(1981),After Virtue. A study in Moral Theory, Notre Dame, Indiana. University of Notre Dame Press.
6.Nord,Christiane (1991) Text Analysis in Translation, Amsterdam : Rodopi.
7.Popper,Karl(1962)The open society and its Enemies, London : Rutledge & Kegan Paul. 8.Sorvali, Irma (1994) " on Criticizing the Different Translations of One Original Text " in FIT (Committee for Translation Criticism, Miscellany on Translation Criticism. Prague: Faculty of Arts, Charles University.
9.Venuti ,Lawrence (1995) The Translator s invisibility. A History of Translation. London & New York : Rutledge.
#عبد_الواحد_محمد_مسلط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|