|
النظام البديهي للمنطق الحيوي التوحيدي
عبد الرحمن كاظم زيارة
الحوار المتمدن-العدد: 2601 - 2009 / 3 / 30 - 09:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تنويه : هذا الموضوع مقدمة وفصل من كتاب ألفه الكاتب بعنوان " تأملات على ضفاف الشكل الحيوي " يتعرض فيه لفلسفة المفكر العربي الدكتور رائق النقري المسماة " فلسفة الشكل الحيوي " التي تهتم بهندسة المعرفة عبر مقايسات منطق أسسه باسم " المنطق الحيوي التوحيدي " موضوعه الخطاب الانساني بالمقام الاول وله اعمال تطبيقية منشورة على نحو واسع في الولايات المتحدة وفرنسا والجزائر وفي دول أخرى . كما أدخلت بعض الجامعات في العالم مادة " المنطق الحيوي " في دراساتها العليا تأملات على ضفاف الشكل الحيوي
المدخــل الشكل الحيوي مفهوم تم اكتشافه من قبل الفيلسوف العربي السوري الدكتور رائق علي النقري منذ عام 1967، وهولايكرر ولايوسع مفهوم الشكل كما هوفي الادب والفن الذي يظهركطرف في الثنائية المعروفة : الشكل والمضمون . فمفهوم الشكل الحيوي يتحرر من كل الثنائيات ويمضي لتبني مفاهيم تستوعب المعطيات العلمية في العصر الحديث التي ضاقت بتصورات الفلسفة منذ افلاطون وارسطو ، وتأثيرات تلك الفلسفة في فلسفة العصر الراهن . ويواجه مفهوم الشكل الحيوي مشكلات على مستوى القبول لاسباب عدة لعل اهمها ما ترسب في الاذهان من مقولات الفلسفة الافلاطونية التقليدية والمادية والمثالية حوله. إذ جاءت فلسفة الشكل الحيوي لتتجاوز تلك الفلسفات بتقديم رؤية كلية وشاملة لقراءة الكون وصيرورته ، لا تتبنى تصورات قبلية ، بل توفر منهجية منفتحة الآفاق من شأنها اعادة تشكيل المفاهيم والنظريات والابنية الفكرية والفلسفية على أسس جديدة . وتبشر بتداول وعي حيوي وإحياءاً للوعي عبر مقايسات قابلة للبرمجة أو الصياغة الرياضياتية أو المنطقية تتناول كل شأن في الحياة سواء كان تصنيفه ماديا او روحيا او فكريا او نفسيا ،فيزيائيا اوميتافيزيائيا ، كما تتناول كل شأن له صلة بالتعبير عبر اللغات البشرية واشكال التواصل الآخرى في الحياة على الارض والكون . ولعل من السابق لآوانه القول بأن فلسفة النقري لاتأخذ بمبدأ التصنيف الذي فرضه مبدأ الثناية ، إلا أنه لاينكر على المصنفات أيا كانت وفي أي حقل علمي أو معرفي أو ابداعي وجودها على مستوى التصور أو الحقيقة . إن الصفة الحيوية للشكل والتي يحملها الاصطلاح الرئيس في هذه الفلسفة الحديثة، تعني أن حيوية الشكل تزداد اوتقل بقدر ما يتحواه من تحويات ، طبقا لطريقة تشكله . وهكذا ينظر الى الاشياء ، بل كل شئ بوصفها صيرورة تنطوي على تحويات متعددة ومتغيرة في آن . فنحن بأزاء فلسفة جديدة تمتلك نسقها الفلسفي ـ العلمي ـ التجريبي ، وقد أوجدت أساليب جديدة في طريقة التفكير ما كانت موجودة سابقا . إذ من المعروف ان المعطى العلمي ، وبشكل خاص الفيزيائي منه ، شكل مرجعا لصياغة التصورات الفلسفية ردحا من الزمن ،ومنذ عصر النهضة الحديثة ، إلا ان هذه الصياغات كانت أشبه بعملية محاكاة غير دقيقة وليست امينة في كثير من الاحيان للمعطى العلمي ، والسعي خلفه . ولهذا السبب لم تستطع الفلسفة ان تكشف عن آفاق المعطى العلمي لأنها بقيت أسيرة تصورات فلسفية كانت يوما قادرة على استيعاب المعطى العلمي في عصور ما قبل النهضة . وبأشراقة فلسفة النقري في الشكل الحيوي ، يتمكن العقل البشري أن يحدث انعطافة ثورية في نمط التفكير والمعالجات العلمية ، وكل اشكال الابداع الانساني . ان العالِم في مجال تخصصه ، سيكتشف في نظرية الشكل الحيوي بوصلة تدله على مسارات جديدة قابلة للاكتشاف او الاختراع ، من جهة وتمكنه من وضع علمه في نسق شامل وموحد طبقا لفلسفة الشكل الحيوي . ويمكن تشبيه أهمية هذه الخصيصة كأهمية نظرية المجموعات ، مع استطرادتها الاخرى كنظرية البنى والتبولوجيا بالنسبة الى العلوم الرياضياتية ، إذ استطاعت نظرية المجموعات ان تضع العلوم الرياضية في نسق واحد من جهة وان تفتح آفاق جديدة لايجاد الحلول لمسائل كانت مستعصية . وينتظر ان تؤدي فلسفة الشكل الحيوي دورا مشابها في تنسيق المعرفة الانسانية عبر المنطق التوحيدي ، وان تفتح هي الاخرى آفاقا جديدة ، وأساليب جديدة أكثر فاعلية في تلك المعرفة. كما ان المفكر والمثقف والاديب والفنان ، سيجد ان فلسفة الشكل الحيوي إثراءا للتجربة الابداعية وتقريضا شاملا لها ، ورؤية كلية لمجالات الابداع او لعمل ابداعي ما . وكذلك الايديولوجي والسياسي ورجل الدين والاقتصادي والاعلامي والتقني والمهندس وكل من يعمل عملا متقوّما بالمعرفة والخبرة والتطبيق ، قائدا او منقاداأومستشارا. لفلسفة الشكل الحيوي مفاهيمها الحديثة وأصطلاحات مستحدثة تميزها ، لا على سبيل الرغبة بالتفرد ، بل لضرورات إنبناءها . فهي تفصح عن مفهوم جديد للشكل بإقرانه بطريقة التشكل ، وعن الشكل الحيوي بتحوياته ، ومنطق حيوي توحيدي يتجاوز كلا من المنطق الشكلي الارسطي والمنطق الجدلي ـ الديالكتيكي ـ العلمي. كما تفصح عن فقه المصالح ، وعن التطور التاريخي للمنطق كما هو في التجربة الانسانية عبر التاريخ .ما تبشر به فلسفة الشكل الحيوي هو أننا: ـ نعيش عصر الشكل الحيوي . ـ ومنطق العصر هو المنطق التوحيدي للشكل الحيوي . قد تبدو نصوص وكتابات موقع دمشق للمنطق الحيوي ،شائكة ، متداخلة ، لاتعرف لها بداية او نهاية وهذه الملاحظة صحيحة لاتفصح عن خلل في العرض على الاطلاق ، بل ان طريقة العرض منقادة الى الشكل الحيوي دون قصد مسبق وهذا ينهض دليلا كافيا للقول ان كاتب هذه النصوص ـ النقري ـ يتمثل فكرته تمثلا حرا ،ويجسده تجسيدا حقيقيا . لذلك أية بداية نراها لعرض فكرة الشكل الحيوي ، انما هي أيضا تصح ان تكون البداية . ووفقا لهذه الملاحظة ان ما نكتبه هنا حول هذه الفلسفة عرضا اوتقريضا قابل لاعادة الانتاج ببدايات ونهايات أخرى . بمعنى ان فكرة الشكل الحيوي حتى على مستوى السرد تفصح عن حقيقتها الدائرية . أن واحدة من الاسباب التي تقف حائلا دون رواج سريع لفلسفةالنقري توظيفها " مفردات " واصطلاحات لاتمتلك طاقة التأييد المعنوي ، بسبب ان المضامين والمداليل المتداولة لدى الناس عامة ومن بينهم المثقفين يأخذون بما يمنك ان نطلق عليه بالنسخة الاولى لتلك المضامين في مدركاتهم التي تكرست حول تلك المفردات. فمن بين المفردات الاساسية في فلسفة الشكل الحيوي هي : الشكل والمصلحة والعولمةالتي تتضائل مكانتها في العرف الاجتماعي ، بل والمعرفي امام " سمو " التعابير المقابلة لهما عند عامة الناس : الجوهر والثبات والمضمون والايثار والتضحية . ان النقري قد اعاد الاعتبار لمفرداته الاساسية " الشكل ، المصلحة ، التغير ، العولمة ... " ومنحها الاعتبار الايجابي ، الحيوي ، والدينامي بوصلها مع أنصبتها المرجعية من معاجم اللغة العربية والقران الكريم . حقا ان "النسخة الاولى " المتداولة عرفا في اللغة اليومية لمعاني المفردات قد تضيّع فرصا كثيرة امام امكانية الانفتاح على أعادة تشكيل مدركاتنا ..
( (1)الشكل لا الجوهر
من الامور المتداولة معرفيا ذلك التقابل التقليدي بين الشكل والمضمون ،وهما صعيدا النظريات النقدية في الادب والفن ، وقد نالا نصيبهما في اطار المفاضلة بينهما ودراسة اوجهما المعرفية والابداعية . إلا ان فلسفة الشكل الحيوي تنطلق من مقابلة الشكل للجوهر لا على سبيل الثنائية التي كرسها تقابل المضمون والشكل ، بل على سبيل الاطاحة بمقولة الجوهر تمهيدا لتأسيس منطق حيوي وتوحيدي لكل القطاعات الابداعية والعلمية ، على أساس مفهوم جديد للشكل، يتجاوز دلالته القشرية والعرضية والوسائلية . ان الشكل الذي يقول به النقري ليس بمعنى او بمضمون مفهومه كما ورد لدى كانط وبروب وغيرهم من الشكلانيين ، بل هو الشكل الذي يقترن بطريقة تشكل الاشياء ليستغرق كل ماله صلة بالشئ : شكله الخارجي و صورته ومضمونه ومحموله ومكوناته الداخلية والخارجية وصلاته بالاشياء الاخرى . ولكي نقطع الطريق على ما قد يحتمل ان يتصوره القارئ من أن مفهوما جديدا للشكل يضاف الى نظرية النقد الادبي في داخل سياق تقابل الشكل و المضمون ، نقول ان المفهوم الجديد يجد تعبيره الكامل في اصطلاح : الشكل الحيوي . ومن هذا المصطلح ، وانطلاقا منه ، تتأسس فلسفة الشكل الحيوي التي تستغرق مفاهيمها وأسسها كل موجود ومعدود ، وكل معقول ومحسوس ، وكل مادي وروحي ، وكل مادي وطاقي ، وكل نور وظلام .. الادب والفن والعلم والمنطق والوعي .. وكل شكل ومضمون ...كل شئ. لقد هيمن مبدأ الثنائية على الفلسفة والعلوم ونقد الاعمال الابداعية ردحا طويلا من الزمن ، حتى عُدَّ مبدأ الخصب والتخيل العلمي لقرنين سابقين في الاقل ، والاساس الاول في تأسيس المعرفة الانسانية .وهو على أي حال عُدَّ تكريس لأحد تداعيات مقولتي الجوهر والعرض كما صيغت في الفلسفة التقليدية والحديثة منذ افلاطون وسقراط . ولعل من السابق لأوانه القول ان الثورات العلمية في القرن الماضي والحالي ما كان مقدرا لها الظهور ، إلا بالتحرر من التصنيف الثنائي المتقابل : الجوهر والعرض ، على مستوى الوعي. إلا ان القول ـ وهذا ليس اعتذارا بل إقرارا ـ بأن الثنائية قد أسست نسقا معرفيا غطى احتياجات مرحلة تاريخية سابقة بمعطياتها ـ لكنه لم يتوصل على نحو كامل ومتكامل الى منطق توحيدي يتجاوز المسارات الضيقة والمعطلة في الثنائيات العقيمة على مستوى العلم، ومسارات قاتلة ومعطلة ومشوهة لبناءات المجتمع الانساني . فما علاقة الثنائية بمقولة الجوهر . وما علاقة كل ذلك بفلسفة الشكل الحيوي ؟ لقد أسس التصنيف المزدوج ، ومنه : الجوهر والعرض لثنائيات ،غطت معظم العلوم والمعارف الانسانية ،ولقد واجه هذا التصنيف اعتراضات خجولة تارة واعتراضات صاخبة تارة أخرى. ففي سبيل المثال ان رولان بارث يقرر ( ان اهمية وبساطة التعارض (مُعْلَم / مُغـْفل ) وهو تعارض تناوبي اساسا ، قد افضيا الى التساؤل عما اذا لم يكن من الضروري تقليص كل التعاراضات المعروفة الى النموذج المزدوج . أو بعبارة أخرى ؛ عما إذا لم يكن الازدواج واقعة كونية . والتساؤل ،من ناحية أخرى عما اذا لم يكن ـ وهو الكوني ـ ذا اساس في الطبيعة . بصدد السؤال الاول ؛ من المؤكد ان الازدواج واقعة عامة جدا ، من المبادئ المعترف بها منذ قرون .. إلا اننا اذا تركنا صعيد التقنية وعدنا الى صعيد الانظمة غير المصطنعة ، فأننا سنجد ان كونية الازدواج موضوع شك كبير ) (1) . وبالمثل فأن دي سوسور لم يتصور المجال التجميعي على انه مزدوج ابدا فهويقول(كأن اللفظ مركز لكوكبة ، والنقطة التي تلتقي فيها الفاظ مترابطة غير محددة المقدار ) ( 2). إلا انه قد نظر الى الصوتاتية التي اثارت الانتباه للازدواج في اللغة .كما ناقش مار تيني كونية الازدواج ودقق فيها ووجد ان التعارضات المزدوجة هي الاغلبية ولكنها ليست هي الكل (3). وفي مجال آخر يشن مؤلفو" ليس في جيناتنا " (4)،حملة على اصحاب مذهب الثنائية في علوم البايلوجيا والاجتماع والسياسة ، حيث التكريس المفتعل للعنصرية وازداوجية المعاييرواللتان صيغتا من ركام من التزييف العلمي ، او انحراف في النظرة للمعطيات العلمية في العلوم الطبيعية بخاصة ، الامر الذي كرس ما سمي بالحتمية البايلوجية ، تلك الحتمية التي تؤبد وراثة الصفات العقلية والثروة والمكانة الاجتماعية عبر الجينات الوراثية للاقوام او المجموعات الاثنية . يُعرَّف ( الجوهر ؛ بأنه القائم بنفسه ، الحامل للاعراض ، لاتتغير ذاته ، موصوف واصف. والفصل بين الجوهر والعرض : ان الجوهر لايقبل الزيادة ولاالنقصان ، والعرض يقبلهما) (5). وعند مستوى معين من الكشوفات العلمية ، وتحديدا قبل اكتشاف طبقات الطاقة في التركيب الذري للذرات ، ظل مفهوم الجوهر ذا وظيفة تصنيفية تهمش ما عداها في كل الابنية والتركيبات على اختلاف طبيعتها وكيفياتها وتجلياتها . بمعنى ان التزام مفهوم الجوهر مقابل العرض مثل مرحلة معرفية تجاوزها الزمن بفعل الاكتشافات التي تمت على صعيد كيمياء وفيزياء الذرة والتي اثبتت ان ما يعتقد بأنه جوهر لايحول ولايزول ولا يتغير ، هو اعتقاد غير صائب . فالكتلة قابلة للتحول الى طاقة ، وهذا تغير لو نظرت له ، تغير " جوهري " ، أي ينقل المادة من جوهر الى آخر فليس ثمة جوهر بدلالة هذا التحول . وهذه احدى معطيات العلاقة التالية التي اقرها انشتاين : الكتلة = الطاقة مربع سرعة الضوء فلقد وُجد ان كتلة ذرة نظير مستقر تزن دائما اقل من مجموع اوزان النويات والالكترونات التي تتكون منها . ان الكتلة المفقودة تحولت الى طاقة تدعى طاقة الارتباط النووية وهي الطاقة الضرورية للتغلب على التنافر بين البروتونات الموجبة وللمحافظة على النويات سوية داخل النواة ضمن حجمها الصغير جدا . كما ان امكانية تحلل التركيب الجزيئي الى ذرات حرة " أو عناصر نبيلة " قد وسع من البرهان التجريبي على تقادم مقولة الجوهر وخطؤها . ان الاستحالات التي يمكن ان تمر على الماء بفعل التغير في درجات الحرارة لتحيله الى بخار او سائل اوجليد ، هي استحالات لاتطيح بجوهر الماء بل تغير عرضه . الا اننا ونحن ننشد العلم والعلم هو علم بالكليات ، فأن الاستحالات هذه ليست نهاية المطاف إلا اذا عَدَدْنا ان هذه الاستحالات هي وحيدة ولايمكن تجاوزها الى ما هو اعمق اوعلى مسارات أخرى .ولكن التحليل بفعل الاستقطاب القطبي بأمرار التيار الكهربائي في الماء ينتج عنه ذرتا اوكسجين وذرة هيدروجين ، الامر الذي صيّر الماء شيئين آخرين ، وبهذا تنتفي مقولة الجوهر في الماء .فالماء ذات بحسب تعريف الجوهر ، أضحى قابل للتغير في ذاته وفق شروط معينة وممكنة . وبهذا علينا اختيار " تعبير " آخر يستوعب احتمالات التغيير بأنواع وكيفيات ومسارات مختلفة ، بعد ان رأينا ان الجوهر ليس بالتعبير الصائب اطلاقا ، بل تعبير معطل حتى للطبيعة ذاتها ، ليس في دواخلها ومحيطها بل في وعينا نحن وما قد ننظمه من تصورات تبسيطية عقيمة . انشتاين يقول ( اننا بمعونة من النظريات الفيزيائية ، نحاول ان نشق طريقنا من خلال متاهات الحقائق المشهودة لكي ندير عالم انطباعاتنا الحسية ونفهمه .فمن غير الايمان بامكانية الامساك بالحقيقة بمعانينا النظرية ، ومن غير الثقة بالانسجام الداخلي لعالمنا ، لايمكن ان يكون هنالك علم .ان هذا الاعتقاد سيكون على الدوام ، وسيبقى ،الدافع الاساسي لكل الابداع العلمي )(6) . اذن ، مقولةالجوهر ليست هي التي تضمن لنا حياتنا وحياة الكائنات الحية الاخرى ،باستمرارتدفق الماء بوصفه جوهرا في سبيل المثال، بل الذي يضمن لنا ذلك "وجوده في لحظة تاريخية " مع عدم الغاء احتمال تحوله الى طاقة او الى ذرات الاوكسجين والهيدروجين . فالماء هو كل هذه الاشياء وغيرها ، الامر الذي يضيق بها مفهوم الجوهر ويعطلها .فالغاء مقولة الجوهر لايؤدي الى الغاء كلمة ماء من المعجم ولا من الاستعمال ولا من مصادره الطبيعية ولا من المركبات الكيمائية ، سواء كان سائلا اوجمدا او بخارا . فهو موجود في حالاته المتغيرة والمختلفة كلها ، واجزائه وذراته موجودة بغير صيغة الماء ايضا ، وان اجزائه وذراته وبروتوناته والكتروناته ونيتروناته ليست وقفا عليه ، ولا وجودها موقوف عليه . وبما أنه ماء فهو طريقة تشكل وصيرورة ، وليس بجوهر(7). إن مقولة الجوهر ، تقرر ثبات المعطيات العلمية ، عندما تتضمن اعتقادا بثبات الذات ، أي ذات الشئ . بمعنى انها تعد المعطيات العلمية حقائق معرفية نهائية، غير قابلة للتغيروالتطور ويمكن ان يبنى عليها نظرة توحيدية وكونية في آن ، على وفق سياقها .إلا ان الثورات العلمية منذ بداية القرن العشرين قد اطاحت بهذا المنحى الذي انتج زيفا واقام تعطيلا في مضمار الفلسفة ونظريات علم الاجتماع والتعليم والاقتصاد والسياسة . فلم تعد الصورة التقليدية للنواة الذرية المحاطة بالكترونات مدارية قائمة اليوم ، وقد استعيض عنها بوصف لايكون فيه موقع الالكترونات معروفا برغم وجود امكانية للتنبؤ بمواقع محتملة رياضياتيا . فلقد تم اكتشاف جزئيات فلزية نووية داخل النواة فضلا عن البروتون والنيترون اللذين كانا معروفين ،وقد سميت هذه الجزيئات بالميزون المزدوج او البايميزون وهو موجود بثلاثة اشكال مختلفة تتألف بالاساس من ثلاث كتل متماثلة ولكن بشحنة كهربائية مختلفة . وفي الخمسينات تم اكتشاف لكل جزئ يوجد بازاءه جزئ مضاد ، متساويان في الكتلة ويختلفان في كل الصفات الاخرى ،اضافة الى اكتشاف ما سمي بجزئ لمبدا ، وهو عبارة عن مجموعة من الجزيئات المتشابهة والتي سميت ايضا بالجزيئات " الغريبة " لأنها لم تكن متوقعة على الاطلاق وان غرابتها انها مشابهة الى حد ما للشحنة الكهربائية وتنتج بسرعة فائقة على هيئة ازواج ولكنها تضمحل ببطء شديد (8). ومع ذلك ان المعطيات العلميةالسابقة على هذه الاكتشافات مثلت مرحلة سابقة في تاريخ العلم وبالتالي فأن لها تطبيقاتها المثمرة في حينها . ولكن الجنس البشري تعرض للابادة والحروب والتمييز العنصري والعزل والتجويع ، بسبب اتجاهات تبسيطية اسقطت المعطى العلمي " الجوهري في طبيعته " في تلك المرحلة على الحياة الاجتماعية للبشر . والاتجاه التبسيطي مجموعة من المناهج والطرائق لتفسير عالم الاشياء المادية والمجتمعات البشرية معا وفي وقت واحد ، وبمعيار واحد . ولعل الديكارتية والماركسية والنازية الالمانية ومنهج المحافظين الجدد في الولايات الامبرياليةالمتحدة الامريكية والمملكة الامبريالية المتحدة ، نماذج انتجتها دينامية تبسيطية مفتعلة ، عمادها مقولة الجوهر الثابت الذي لايحول ولايزول ولا يتغير ، كأنها ـ كما هي عندهم ـ مسكوكات ابدية ونهائية في احكامها ، تنظم المجتمع وفق تقسيمات على أسس من الحتميات البايلوجية تارة والحتميات الثقافية تارة اخرى، تتمدد رؤيويا وايديولوجيا لتكرس ازدواجية المعايير . فدماغ الزنجي كما يدعون اصغر من دماغ الابيض وكذلك معامل ذكائه ، وهكذا تنتظم سلسلة الاختلافات المبررة لكل السياسات العنصرية المبنية على ثنائية مادية سمحت لنفسها بالتشيّئ على مستوى النظريات الاجتماعية والسياسية ، لتشمل مقولات الحرية التي لايستحقها الا صنف معين من البشر . والتي تبرر سياسات الاحتلال لكونها المعادل الحركي للتمييز والاقصاء العنصري . وما احتلال العراق من قبل الولايات الامبريالية الامريكية المتحدة تحت اسم ذي دلالة واضحة في زيفها وهي " عملية تحرير العراق " ، وقبل ذلك السياسة العنصرية الصهيونية التي انتجت الكيان الاسرائيلي الصهيوني على حساب الحق العربي الفلسطيني في فلسطين العربية المحتلة ، هي تطبيقات لمقولة الجوهر التي كرست ازدواجية المعايير . لقد كان كافيا حتى الخمسينات وتحديدا قبل تفسير الشفرة الوراثية ، لتفسير الكون البايلوجي والبشري معا عن طريق فهم ثلاثية : • التركيب : أو الجزيئات التي يحتويها الكائن . • والبنية : أوطريقة تنظيم هذه الجزيئات في الفراغ . • والدينامية : أو التفاعلات الكيمائية ما بين الجزيئات . حتى اصبح تاليا من الضروري واللازم إضافة مفهوم رابع هو "المعلومات" التي تنتقل الى البروتين*. والأمر لايتوقف عند هذا الحد فيما تتحواها طرائق تشكل بايلوجية الانسان ، وما تتحواه طرائق تشكل المجتمع البشري او المجتمعات البشرية المحلية .بكلمات اخرى أن هذه الثلاثية ومن ثم الرباعية تظل قاصرة في الكشف الشامل عن "كل " ما يتعلق بقطاعين هما البايلوجيا والمجتمع ،فكيف اذا كانت هذه الطرائق يراد منها ان تكوّن رؤية توحيدية للكون عبر حتميات بايلوجية او ثقافية او سواهما لتوظف في تبسيطات ، هي في الاغلب ذات نتائج كارثية على المستويين الابستملوجي والانساني. فنحن ننظر الى كل من التركيب والبنية والدينامية والنظام وسواها بوصفها طرائق منهجية محدودة بخصائص معينة دون سواها للاشياء عندما تكون قيد الدراسة .
وعلى هذا فأن نظرية المعرفة بها حاجة الى مراجعة جذرية وشاملة ، تتجاوز كل ما من شأنه تضييق الافاق العلمية بالتوقف عند محطة تطورية ما . وان هذه الحاجة تتمثل في هذا العصر ، بالمفهوم البدهي للشكل ، وهومفهوم كلي وشامل . لايعني بقشور الاشياء وصورها وظواهرها حسب بل هو مفهوم يستغرق كل شئ وفي أي شئ . بمعنى ان الاشياء مهما أختلفت هي تشكيلات تتشكل وفق طرائق معينة من تحويات متعددة ومتغيرة في آن واحد . ومفهوم الشكل لايطرح بوصفه اضافة ، او ملحقا بنسق معرفي ما ، بل هو مفهوم يؤسس لفلسفة ونظرية في المعرفة غير مسبوقة ، وتفصح عن ذاتها بأصالة متفردة ، كما سنرى .
( 2 ) المفهوم البدهي للشكل الحيوي
قبل الخوض في عرض ما نعده بداهة مفهوم الشكل ، ومن ثم بداهة الشكل الحيوي، لنذكر وتفاديا للتكرار إننا نقصد بمفردة "شئ " كل ما يشار اليه بلفظ يدل عليه . هذا التوضيح يجعلنا نتفادي تعداد الاشياء على اختلافها ، إلا انه لايجب أن يُوهِم بأننا نتخذ من اللسانيات مدخلا لعرض مفهوم الشكل الحيوي ، فهذا خطأ وقع فيه البنيويون عندما ألْسنوا العلوم التي تناولوها في ابحاثهم ومقالاتهم . وبنفس الوقت ان هذا التنبيه لايعني اقصاء علم اللغة العام أو اللسانيات من مقولة الشكل ، فهو، وهي شكل أيضا . للاشياء على اختلافها ، طـُرُق تتشكل بها ، فلكل شئ طريقته في التَشَكـُّل ، وفق نظامه الخاص . وكل طريقة تَشَكـُّل تُسْفرُ عن شكل ما ، فكل الاشياء أَشكال .و كل شئ هو شَكْل ، بدلالة طريقة تشكله. فالشكل في الادب هو طريقة تشكل ، وكذلك الشكل ذاته لأنه طريقة تشكل أيضا . والمضمون هو شكل بدلالة طريقة تشكله . *أقول تشكله ، وليس تكوينه او تركيبه أو بناءه أو نظامه حسب ، لأن هذه المفاهيم وغيرها هي مفاهيم جزئية بينما التشكل مفردة غنية ، أغنى من التكوين والتركيب والبناء والنظام ؛ ذلك ان التكوين لايشمل الفساد والانحلال ، وهما تجليان من تجليات صيرورة الاشياء . وان التركيب يقبل الوحدات من اصعدة مختلفة ، وان انضمام الوحدات المنسجة هو الكيفية المبسطة للتركيب ، الا ان التركيب لايشمل الانحلال تجريبيا ، بل يقبل التحليل صوريا . فمقولة الشكل تستوعب ، على انفراد ،أو معا ، كلا من الكون والفساد ، النماء والاضمحلال ، البقاء والزوال ، وغير ذلك ، وليس كذلك التركيب او التكوين او التنظيم . ونظرا لأقتران الاشياء بكينونة وصيرورة ـ دون ايلاء اهمية للترتيب ـ فأن طرق تشكلها ، هي أيضا تقترن بلحظة تاريخية ، فالشكل هو لحظة تاريخية قابلة للتغير ضمن ابعاد معينة ، في مكان ما وزمان ما . ايضا " لكل تعبير " له طريقة تـَشَكـُّل ، مهما اختلفت وسائله : اللغة ، أو الكلام ، أو الكتابة ، أو لغات البرمجة على الحاسب ، أو قوانين المنطق ، أو اللغة الخاصة بكل علم : رموز ومعادلات واصطلاحات ، أو أشارات البكم والصم ، أو اشارات المرور ، او الفرمونات التي تعمل عملا مشابها للهرمونات ، تنظم الرسائل والمثيرات الجنسية بين الحيوانات والحشرات عبر أعداد هائلة من الروائح العطرية ، وغيرها من لغات التواصل والتعبير، انما هي تسفر عن أشكالها الخاصة ،والمميزة ، تبعا لطرق تشكلها المختلفة . ومعروف ان الانسان يتميز عن سائر جنس الحيوان بشكله ، والناس تتعرف على بعضها بالشكل ،كذلك نحن نتعرف على الاشياء ونعرفها لانها أَشكال ، فالقلم شكل قلمي ، والتفاحة شكل تفاحي ، والادب شكل ادبي والمعنى شكل معنوي واللغة شكل لغوي ... ومرّد الاختلاف في هذه الاشكال الى طريقة تشكلها . ولا نعني هنا بـ " شكل " الذي هو مثلا الانسان صورة الانسان ، فصورته شكله الخارجي وفي معنى آخر طبيعته ، إنما نعني بـ" شكل " ، شكل انساني لأنه طريقة تشكل تستغرق الانسان كله ، بكل ابعاده ، وتحوياته ، وتشريحه البايلوجي ، وعقله ، ونفسه ، ومشاعره ، وصحته ، وغرائزه وتاريخه في الخلق والسيرة وحركته وصيرورته وميلاده وموته وضعفه وقوته ..وكل شئ فيه وله وعنه وعليه. وان الصورة والخاصة والصفة والوظيفة والفاعلية والطبيعة وغيرها انما هي " محتواة " في الشكل وكل منها شكل أيضا، بدلالة طريقة تشكلها . فمفهوم الشكل يستوعب كل هذه المتعلقات .وقد (كان الانسان اجزاءاً مبثوثة في هذا العالم ، فلما صمدت النفس لها، حركت الطبيعة على تأليفها ، وتوزيع الحالات المختلفة فيها ، واعطتها النفس بوساطة الطبيعة صورة خصّتها بها ، ودبرت اخلاطها ، وهيّأت مزاجها فظهر الانسان في الثاني بشكل غير الشكل الذي كان لاجزائه .. إذ كان بددا في حكم المعدوم ، فنظم نظما ، بعيدا عن العبث)(9). وكل محسوس ، وكل معقول ، وكل مايقع في النفس ، هو شـَكل ، يتشكل بطرق معينة يمكن معرفتها، وله كيفيات مختلفة يمكن الوقوف عليها. فالفكر وكل العمليات العقلية ، كالتذكر والذهن والتصور والادراك والوهم والظن والحدس.. والتفكير المجرد ، هي اشكال ايضا ، و كل منها ـ وليس لكل منها ـ شكل . * كما ان " كل محتوى " و" كل مضمون " في النص إنما يتشكل على وفق طريقة تشكل ما ، وكذلك جنسه : شعر ، رواية ، بحث علمي ، قصة قصيرة ، اقوال وحكم ، مقالة ، خبر صحفي .. كل منها شكل . وما يُعرف بـ " شكل النص الادبي " ايضا هو شكل لا بالمعنى الشكلاني الدارج ، بل بالمعنى الذي يفيض عن طريقة تشكله .. والنص له وحدته ، مثل أي شئ ، فهو شكل دون انقسام ، او تفكيك ، او تجزئة ، وكل ما من شأنه ان يبدد وحدته .. فقصيدة الشعر بنوعيها : المقفى والحر ، انما تعرف بهذا الاسم بدلالة طريقة تشكلها ، فهي شكل يتحوى أَشكال : شكله ، ومضمونه ودلالاته وأسلوبه اللغوي ، وغير ذلك . واللغة هي شكل لغوي ،بدلالة طرق تشكلها .وكذلك الصوت هو شكل ان اردنا الاعمام وهو مجموعة أشكال ان اردنا التخصيص ، فكل مايقع في سمعنا هو شكل صوتي وفق طريقة تشكله التي تتدخل فيها المثيرات اوالحاجات ونوع الصوت ودرجته وطبقاته وتداخلات امواجه ، إذ من الممكن معرفة طريقة تشكل القطعة الموسيقية ، كما يمكن ان تتوزع توزيعات مختلفة تبدو للموسيقار لانهائية ، اضافة الى امتلاكها المؤكد لقابلية التغيير بتدرجات متجاورة كتدرج قيم خط الاعداد الحقيقي ، المتقابل لتدرجات أخرى مصاحبة له . ومن ذلك ان الكلام بما هو كلام هو طرق تشكل الصوتيات " الفونيمات " بطرق تشكل مختلفة تنتج ادلتها المختلفة . ان مواء القطة ومواء المرأة في المخدع كل منهما شكل صوتي دال ، وقد اختلفا بسبب اختلاف طرق تشكلهما ، والاختلاف يبدأ من المثيرات والمسببات والحاجات والعلل فهي ليست سابقة على التشكل بل هي جذوره الاولية من حيث التشكل ، كما يمرالاختلاف في اثناء صيرورة التشكل ، بل وفي تمامه وتمامه في كينونته المستمرة وليس في سكونه ، فالسكون مجرد تقويم نسبي وليس هو بالمطلق ولاوجود له بذاته . واذا أتفق ان المعدوم "شيئا " ، وهو مفترض بالعقل ، هو ايضا شكل ! اما كيف ، فلأنه محض تصور ، والتصور تعبير ، ولايوجد تعبير دون طريقة يتشكل بها ، فالعدم شكل . ذلك ان (الشئ يطلق على المعدوم على تفاوت درجاته ، كما يطلق على الموجود على تباين طبقاته ، ويعين به ما في الحس تعيينا ، كما يشار الى ما في العقل اشارة ، ويستعمل فيما يفرض فرضا من غير حقيقة ، كما يستعمل فيما هو موجود وله حقيقة ، فيقع على كل ما عدم ووجد ، ويعدم ويوجد ، والناس اذا عدموا شيئا عدموا اسمه ، لان اسمه فرع عليه ، وعينه اصل له ، واذا ارتفع الاصل ارتفع الفرع ، هذا مالادفاع له ، ولاامتناع منه . وخواص الخواص معدومة الاسماء. فالعدم لايقتبس منه علم شئ بوجه ، ولايستفاد منه معرفة حال ، لافيما يتعلق بالحق ، ولا فيما يتعلق بالباطل) (10). فأذن الشكل : البرهان البدهي ، التجريبي لكل شئ. فلايعرف الموجود او المعدوم ، المحسوس والمعقول ، المادي وغير المادي ، الروحي والنفسي ، العدل والظلم ، .. من دون " مثوله " على هيئة شكل وصيرورته في طريقة تشكله، فالشكل هو الدليل " الشامل :الكوني والعدمي " للاشياء على اختلافها وتنوعها ، يثبت وجودها ، ويقر تنوعها اللامتناهي . وبهذا المعنى ؛الشَكل هو المعادل الموضوعي لكل شئ .وهو (تعبيرشامل، لكل تعبير، أو كينونة أخرى، دون بواقٍ، وكما في المسائل الرياضية، التي يكون حاصل الطرح فيها "صفراً": وهو تعبير لا يبقى شيئاً خارجه.. وهو تعبير واحد ،ووحيد يشمل كل شيء.)(11). بمعنى ان تعبير " شكل " هو التعبير الذي لايهمل أي شئ في كل شئ . والشكل ليس خاصة من خواص الشئ ، ولاعَرَضا من أعراضه ، ولا صورته الخارجية حسب كما قلنا، انما هو الشئ ذاته ، به نعرفه ، وبدونه لاتتأسس لنا معارف ، إذ ان المعرفة تتأسس على : المثولية و الفروقات والتحويات والصيرورة والابعاد، بدءاً. وبهذا يكون الشكل الاساس المعرفي الاول والاخير . وهذا لايتضمن القول بوقف العمليات العقلية عند مستوى المحسوسات بحسب نظرية جان بياجيه في التعلم ،ولا يعنيه أيضا . بل ان مستويات المعرفة طبقا لمقولة الشكل الحيوي ليست خطية او جزئية ، إنما هي تظل متعددة الابعاد منذ ادنى مستوى معرفي وتظل هكذا في نموها التحصيلي . وقولنا ان الشئ هو شكل ، لايعني تساويهما ، لأنهما غير منفصلين او منعزلين عن بعض ، وليس بالضرورة ان يكونا قابلين للمقايسة الكمية ، فثمة أشياء كذلك وأشياء ليست كذلك . كما لايعني انهما : متكافئان او متوازيان او متطابقان او متحـّابان ـ متحدان ـ او مشتركان ، فكل هذه المفاهيم ، انما تفترض وجود شيئين اثنين لا واحد ، وهذا خلاف بداهة الشكل . فالشئ وجود ، والشكل " تمثـّل معرفي " لهذا الوجود ، والامر كذلك في المعدوم من حيث ان المعدوم يتشكل على صعيد تصور، وشيئيته ولنا ان نقول بثقة : ان المُدْرَك هو ما كان مُتمثـّلا بهيئة شكل عند المُدرِك .اما وعيه وسبر أغواره فيتحصلا بالالمام بطريقة تشكله وتحوياته وابعاده، وعليه ليس ثمة اشياء غير مُدرَكة ..ومفهوم الشكل بهذا المعنى تجاوز لمبدأ العلة ، لقصورهذا المبدأ عن إدراك الاشياء غير المعلولة ، ويحرر الادراك من شرط العلة. يتأسس الاختلاف بين الاشياء طبقا لاختلاف طرق تشكلها . ومقولةالشكل وبداهته لاتعني ان الاشياء متطابقة وغير محدودة ، فالاختلاف خاصة وجود شئ ما ، وبدون هذا الاختلاف تستحيل الاشياء الى شئ واحد وهذا مخالف لحقيقة الوجود المتنوع ، الذي يستمد وحدته من تنوعه كما هومعروف . ذلك ان ، وفي سبيل المثال :( قلب التفاحة لا يختلف عن قشرتها إلا في طريقة التشكل!!. وكلمة القلم شكل لغوي، والقلم نفسه شكل قلمي.. والوعي هو شكل أيضاً.. فالشكل يضم القانون ويضم الاستثناء عن القانون.. والشكل هو العام والشكل هو الخاص.. ولكن الخاص ليس عاماً، والعام ليس خاصاً.. مع أنهما، معاً، طريقة تشكل!!)( 12 ) . حتى الآن اقتصر عرضنا لبداهة الشكل .. والآن نكمله بعرض مماثل لمفهوم "الشكل الحيوي" ، وما تعنيه مفردة " تحويات " لدى النقري في هذا المفهوم وقد شرحها شرحا وافيا نثبته هنا بنصه ،إذ لايمكن التعويض عنه بشرح آخر ، فيقول : (تعد كلمة "التحوي" من الكلمات القليلة الاستعمال، فإنها بالغة الدلالة وشديدة الصلة بمفردات شائعة كالحياة والاحتواء. فالتحوي مستمدة من الجذر (حوا) الذي يدل عليه أصغر قاموس مدرسي (مختار الصحاح) على النحو التالي: (الحوايا) الأمعاء جمع حوية، والحواء جماعة بيوت من الناس. والجمع. و (حواه) يحويه (حيا) واحتواه (مثله) واحتوى الشيء، استولى عليه وتحوت الحية تجمعت واستدارات. وفي الريف المصري تستخدم كلمة "حوايا " لتدل على (الكعكة) أو اللفافة القماشية التي تضعها المرأة على رأسها عندما تحمل عليه شيئاً كقرب الماء مثلاً. وتعبير (وحوي) يستعمله الأطفال في رمضان مع تدوير الفوانيس في أيديهم.. كناية عن الخير وطلبه. وهذه المعاني يمكن أن نجدها في كل اللغات السامية كالعبرية، السريانية والأثيوبية.*والتحوي استدارة كل شيء. ويمكن إطلاق تسمية (حوية) على أي كائن أو فرد أو فئة. والتحوى هو المنظومة المنطقية التي تلتف- بها- الحوية حول نفسها، وحول ما فيها، وما في محيطها. وصيغة الأمعاء بوصفها حوايا تحتوي على ما فيها من غذاء، تحول الغذاء إلى ما يجعله قابلاً للتحول إلى حواء { فجعله غثاء أحوى} (الأعلى :5). وتوضح انعدام وجود فرق جوهري بين الأمعاء (المحوى) والغذاء (المحتوى) فعملية تمثل الغذاء التي تتم من خلال عملية الاحتواء في المعدة والأمعاء، تجعل المحوى والمحتوى شيئاً واحداً يعطي الحياة ويكفل استمرار التحوى والدوران لتغذي نفسها بنفسها في الوقت نفسه الذي تتحوى فيه لتغذي الجسم عامة وفقاً لما يحتويه الغذاء. وبحسب قدرتها وقدرة الجسم عامة على الاحتواء والتمثل.ولذلك فإن التحوى هو التعبير المناسب للدلالة على تغذية المنظومة المنطقية المعيشة بوصفها حوية تغذي نفسها بنفسها وتغذي غيرها.*في القاموس المدرسي لوزارة التربية السورية شرح مختصر لكلمة حي (فالحي) من أسماء الله الحسنى والنسبة حيوي. والحيوية لدينا ـ والكلام ما زال للنقري ـ هي التحوى الفعّال والاحتواء الضروري والحواء المتجدد.والحيوية بوصفها مفهوماً ليست مجرد معنى للفاعلية والتجدد والتي تختلط بالمعاني البيولوجية. بل هي صيغة أشمل للدلالة على التكون، التشكل عامة، سواء أكان بيولوجياً أم آلة صناعية،أم منظومة تجارية أو بيئية أو فنية أو فكرية أو دينية أو عائلية.. الخ.وهذه الدلالات الحيوية تأتي – هنا- من خلال طريقة الاحتواءات والالتواءات التي تصنع من ظاهرة ما دارة حية يمكن وصفها بـ "حواء" وبـ "حياة" وبذلك فالحيوية هي تشكل حوائي- إحيائي ، وتتضح هذه المعاني من دمج اشتقاقات (حيا، وحوا) المتقاربين لفظاً والمتحدين معنى، ولا بأس من التوقف لحظة عند الترابط والتقارن اللغوي بين (حو وحي) حيث نرى معاني متطابقة. تحت باب حواء نجد الحواء بمعنى الحي، فالحواء مجموعة من الأحوية يداني بعضها من بعض فنقول هن أصل حواء واحد ، والعرب تقول لمجتمع بيوت الحي (محتوى) ومحوى وحواء ، والحواء بيوت مجتمعة من الناس على ماء.وتحت باب (حي) نجد المعاني ذاتها ومترادفاتها حيث يمكن القول لا يعرف الحي من اللي، أي الحق من الباطل ويمكن قولها (لا يعرف الحو من اللو). والحي.. هو واحد من أحياء العرب، ويلاحظ ابن منظور أن الكلمتين تسببان التباساً في التعريف بسبب تقاربهما ويقول: إن (أبا علي) ذهب إلى أن (حيه) و(حواء) كـ (سبط وسبطر ولؤلؤ ولآل) وفي قول (أبي عثمان) أن هذه الألفاظ اقتربت أصولها واتفقت معانيها وكل واحد لفظه غير لفظ صاحبه كذلك (حية) مما عينه ولامه ياءان (وحواء) مما عينه (واو) ولامه (ياء) كما أن لؤلؤاً رباعي و (لآل) ثلاثي لفظاهما ومعناهما متفقان ونظير ذلك قولهم جبت القميص وإنما جعلوا (حواء مما عينه) (واو) ولامه (ياء) وإن كانت يمكن أن يكون لفظه مما عينه ولامه (واوان) من قبيل أن هذه الأكثر في كلامهم.ويؤكد هذا السياق (تاج العروس) بشكل واف.والحيوية لدينا تعبر عن صيغ التحوى الكوني والاجتماعي والفردي والمعرفي والسياسي.. والفئوي والعقائدي والاقتصادي والبيئي.. الخ.) (13). فالتحويات هي موضوع من موضوعات طرائق التشكل للاشكال / الاشياء ، وهي أوسع مجالا من الوحدات او العناصر او الاجزاء او المركبات...مايجعل مفهوم الشكل بدوره الاوسع مجالا من كل تعبير ليشمل كل شئ . وان الصفة الحيوية التي يحملها تعبير " الشكل الحيوي " مستمدة من التحويات ، فهو حيوي بقدر ما يتحوى من تحويات ، ولكن ليس ثمة شكل حيوي وآخر خامل فكل الاشكال / الاشياء حيوية بدلالة ما تتحواه من تحويات. أضافة الى المعنى الشامل والكلي لتلك الصفة التي تجمع كل اصناف الحيوات والحركة والدينامية والنمو والضمور والولادة والزوال . ولأن الحيوية والآلية هما الصنفان الابرز في التداول المعرفي ويغطيان تقريبا الحركة في الاشياء والمواد والتعابير والمشاعر والابداع والحس والفكر وفي كل شكل ، فاننا نتبنى اقتراح اصطلاح " الحيوالية " ليكرس كل هذه الدلالات (14) ان الاشياء تختلف فيما بينها برغم انها أشكال ، وهذا قول يعادله القول : ان الاشكال تختلف فيما بينها .والاختلاف يمكن حصره في ثلاثة نواحي : طرق التشكل ، والتحويات ، والابعاد الزمانية والمكانية . ويهمنا في هذا البند ان نتحدث قليلا عن طرق التشكل .*فالتحويات أياً كانت انواعها او طبيعتها او اسماؤها او ترميزاتها ، هي أطراف علاقة. ، وكلاهما ، اعني "التحويات" و"العلاقة" هما موضوعان للتشكل . تتنوع العلاقات في الاشياء كما تتنوع وحداتها على سبيل الاختلاف ، كما تتنوع الظروف والابعاد التي تغطي عملية التشيّئ ، في حال وجودهما الحقيقي وليس الافتراضي .. ان العلاقة تعمل عملها وفقا لقاعدة ، وكلا من العلاقة والقاعدة يُعرفان ويُدركان من مثولهما ، أي من حيث انهما شكلان. وقد تستوعب العلاقة منطقها الخاص فتستغني عن القاعدة ، ولا ينعكس . ولربما تعبير " العلاقة " غير كافٍ في طاقته التعبيرية أو الدلالية في هذا التعريف ، فتعبير " العملية " أشمل منه ، ذلك أن العلاقة لابد ان تكون في الاقل بين طرفين او حوائين ، وليس لها أثر في العمليات الأحادية كالنفي مثلا ، فهو ليس بعلاقة ، ولايتطلب وجود طرفين ، فالنفي عملية وليس علاقة . والعلاقة هي ايضا عملية لكنها على الدوام هي " عملية ثنائية " في الاقل . ولهذا المفهوم خطورته وينبغي ان لانمرره دون التوقف عنده قليلا . فلنتذكر دوما الفرق بين " العملية " و" العلاقة " ، وان ليس ثمة علاقة دون ان تكون ثنائية . لهذا فبدلا من تعبير العلاقة سنستخدم تعبير العملية الثنائية . العملية الثنائية والقاعدة يتحواهما قانون التشكيل الداخلي للشكل / الشئ. و يمكن ان نطلق على العملية الثنائية بـ " العملية الداخلية " فهي تختصر التعبيرين السابقين وتدل عليهما بذات الوقت . واهم خصائص العملية الداخلية : الإغلاق ، بمعنى انها تنتج (= تُشكـّل) التحويات المنسجمة ذاتها داخل الشكل ، وانسجامها يعني ان لها خاصة مميزة مشتركة ، إلا انها بذات الوقت تتسع للفرق بين حوية وأخرى او بين حواء وآخر، إذ لا يتواجد حواءان ليس ثمة فرق بينهما . وبفضل هذين العاملين : الانسجام والفرق ؛ تتواجد التحويات في الشكل ، وهما ما يبرر وجودهما . ولكل علم من العلوم صياغاته المعبرة عن هذه العملية ، الا انها تتسم جميعها بهذه الخاصة . والامر لايتعلق فقط بالعلوم ، بل بكل المعارف والخبرات . ومن ابسط الامثلة على العلاقة الثنائية هي توليد المِثل في الجنس الحيواني ، وأيضا في الجنس النباتي حيث تتكاثر النباتات تكاثرا جنسيا او لاجنسيا منتجة النوع ذاته ، وعملية جمع الاعداد الطبيعية التي تنتج اعدادا طبيعية ، وتقابل الالوان في لوحة تشكيلية لها دلالات متلازمة مع ذلك التقابل ، وتحليل مضمون النصوص الادبية الذي لايخرج عن تحويات التحليل وهي وحداته ذاتها ، وغيرها . ولكن هذا لايعني كل الاشياء تستمد صيرورتها من العملية الثنائية حسب ، بل ربما ثمة عملية احادية أوثلاثية أو اكثروهذا ما يكشف عنه التحليل العلمي ، وليس عن طريق آخر. يتدخل مفهوم القاعدة مع المنطق ، الا انه في مرحلة متقدمة من التحليل يضحى التفريق بينهما أمرا ضروريا . العملية الثنائية هنا ليس لها علاقة بمبدأ الثنائية ، انهما مفهومان مختلفان ومتمايزان، حيث ان العملية الثنائية تتواجد في كل الكائنات والتعابير ، وفي كل المحسوسات والمعقولات . وهي احدى قواعد تشكل الكائنات ، ففي طرق التشكل التي يمكن مشاهدة نتائجها نلحظ ان مزج الالوان هي طريقة تشكل ، يتشكل منها اللون الابيض ، وبنحو معاكس ان الضوء غير الملون يتحلل الى اطياف لونية متدرجة عبر الموشور . وفي كلا التجربتين تتواجد العملية الثنائية . فعلى مستوى المشاهدة لايتيح لنا ضآلة الزمن كي نرى كيف تعمل العملية الثنائية بشكل تدرجي مثل ناتج مزج لونين فقط ، ثم ناتج المزج الاول مع لون آخر وهكذا ، او النتائج المتدرجة والمتسلسلة لتحليل الضوء الى اطياف لونية . وهنا علينا ان ننظر في افتراض وجود تحولات زمنية وأخرى لازمنية . ومن الامثلة الملائمة في التحولات اللازمنية هي عمليات الجمع الاعتيادي ؛ فناتج جمع عددين يساوي " فورا " عدد ثالث ، فليس للزمن هنا وجود . وعلى خلاف ذلك التفاعلات الكيمايئية التي تتطلب زمنا بقدر ما . التحول اللازمني بهذا المعنى هو لحظة لايمكن تسجيلها ، وهي بمثابة البرزخ الذي يعني انعدام الزمن الخاص بالكائن ولايعني نفيا مطلقا لظاهرةالزمن ، حيث ان الصيرورة دال قوي على الحياة والكينونة والحركة ، ولا صيرورة دون زمن . ان نظرية الشكل الحيوي تقول بأن الزمن بُعد للاشياء ، الا ان ديكارت يقرر ان المادة تتحيز بينما العقل لايتحيز. وهذا يضيف صعوبة فلسفية أخرى امام نظرية الشكل الحيوي موضوعها البعد المكاني . أليس العدد شكل ، اليس العقل شكل فأين هي ابعاد الزمان والمكان لكليهما ؟.
(3) بديهيات الشكل الحيوي يقوم البناء البدهي للشكل الحيوي ـ وكذلك منطقه ـ على ثلاثة تعابير مرتبة: طريقة التشكل والتحويات المتعددة والصيرورة . فهذه مفاهيم تستقطب اليها الفهم المشترك ، والتوحيدي ، لأنها معروفة ومعرّفة بالبداهة . وهنا سنخرق العادة في تناول ما هو بدهي ،بالتعرض الى ما تعنيه هذه العبارات ، ليس على سبيل البرهان ، بل على سبيل الايضاح والتعريف ، لاسباب نراها مقنعة ومبررة ، تدور حول تداخل هذه التعابير مع تعابير أخرى لها تاريخ أصطلاحي في قطائع مختلفة . وفي الحقيقة أن هذه المشكلة ظلت تلازم طروحات مدرسة دمشق للمنطق الحيوي في مراحلها الاولى ، إلا انها تجاوزتها في انطلاقتها الجديدة الايضاحية ، والتي تولاها النقري بنفسه ،عبرمقايسات للخطاب الانساني والتي اثبتت جدواها وأدت فيما بعد الى زيادة سرعة انتشارها الحالي .لدينا المقولات الأربعة التالية التي نفترض انها تمثل حزمة بديهيات النظام البدهي للشكل الحيوي ، كما كتبها النقري:
1ـ كل كينونة هي طريقة تشكل متعددة ومتغيرة التحويات . 2ـ كل كينونة هي طريقة تشكل حركي حيوائي ( قابل للحياة والموت ). 3ـ كل كينونة هي طريقة تشكل حركي حيوي احتمالي نسبي. 4 ـ الشكل الحيوي : هو طريقة تحوّي متعددة القيم (15). ان "التحويات " ما يتحواه الحواء ، ولها صفة دائرية ،بمعنى انها تعد كل ما ينتمي للشئ اساسي : شكله الخارجي وصورته واعراضه ولبه ودواخله واسراره التكوينية وطريقة تشكله.. فليس فيه ما يعد ثانويا . ان طريقة التشكل تستحوذ على كل كينونة ،وكل تغير ومن ثم تستحوذ على كل تحول في الكينونة . وبتعبير اعم ؛ليضم في معناه الاتجاهات المتعددة للشكل الحيوي : ان طريقة التشكل تستحوذ على كل "صيرورة" سواء كانت باتجاه النماء او الضمور، الحياة او الموت ، الضم او الاستبعاد .. الى آخره ، في اطار العلاقة بين الاشكال. ما تريد قوله حزمة البديهيات المذكورة ؛ هو نفي للسكونية بكل تجلياتها الافتراضية، لأن السكون أمر ليس حقيقيا ، وليس تجريبيا . مانراه ساكنا على مستوى المشاهدة ، هو امر نسبي ، حيث ان الحجر الساكن متحرك في ذاته ، هذا ما تقوله الحقائق العلمية بصدد التركيب الجزيئي والذري للمادة . وكذا الحال مع الطاقة فهي دائمة الحركة . فالسكون محض تصور افتراضي ، يمكن تخيله بوصفه لقطة فوتغرافية للكائن ، أي كائن ماديا كان ام روحيا ، عقليا أم حسيا .والسكون بعد هذا تجلي من تجليات الجوهر النافي ،إذ ما "كان دائم الحركة فجوهره دائم الحياة "بحسب الفلسفة الافلاطونية الحديثة . ويترتب على ذلك ثمة كائنات ساكنة غير دائمة الحياة ، وهذا خلاف الحقيقة العلمية حيث ان المادة ـ مثلا ـ لاتفنى ولا تستحدث . وهنا يقول النقري (فإذا، أقررنا أن الكون شكل، فهذا يعني أننا سنقر أنه حركة لأن طريقة التشكل كطريقة.. ليست سكوناً.. والسكون – نفسه- شكل!! والسكون- نفسه – بوصفه شكل وطريقة تشكل، فهو- أيضاً- حركة.. وقد تكون "حركة ساكنة"، "حركة مستقرة"، "حركة سريعة"، "حركة غير منظورة أو منظورة"، "حركة استعمالية"، "حركة ذرية".. الخ.)(16). أما كيف تكون الحركة ساكنة فهذا أمر نسبي منوط بحضور اوغياب المشاهدة ، او بصفة غياب او حضور الاستدلالات الحسية او العقلية على الحركة . على ان الحركة صنو كل شئ على وجه الاطلاق ، وهي بُعد متلازم مع الشئ ، هذا ما تفصح عنه طرق التشكل في الاقل ، ذلك أن (الحركة والسكون لم تختلف في اعيانها ، بل للقوابل التي هي لها ، وبحسبها انقسمت النعوت عليها ، واشتركت العبارات عنها) (17) . ومادامت طرق التشكل تقترن بصفة دائمة بالحركة ، إذ لاوجود لعملية التشكل مهما كانت ابعادها وتحوياتها دون الحركة ، فانعدام الحركة معادل للنفي. فلكل شكل ظروف وابعاد معينة تتزامن ، بل وتقرر بشكل وبدرجة ما صيرورته، فلا وجود لكائنات غير تاريخية انها دائما وابدا تاريخية بحكم صيرورتها التي تفصح عن تحولاتها وفق احتمالية ونسبية . على ان الكائنات أيا كانت هي ليست محض صدف تاريخية أو لاتتحكم بها الضرورة .كما ان كل صيرورة هي ليست عشوائية إلا بقدر جهلنا المعرفي بها ، فعشوائيتها هي ما نعتقده نحن حسب ، وما قد يغيب عن علمنا بها . ان الاشياء في الطبيعة تتكون وتنشأ وتتعالق فيما بينها توافقا او تنافرا او استقلالا بمعزل عن تصوراتنا ، وبالتزامن وبفعل مع امكانات الصيرورة التي اكتسبتها من طرق تشكلها. فالظواهر والحقائق الملموسة وفعاليالت الحياة والطبيعة تخضع الى قوانينها الخاصة ، بل ـ ربما ـ الى قانون توحيدي . ولانريد هنا ان نعيد ترتيب الصلة بين الصدفة والضرورة ، بل نريد ان نعيد الى الاذهان بأن الصدفة هو حكم غاب عنه العلم والتوقع والاحتمال . بكلمات أخرى ان الاحداث والاشياء التي تباغتنا في تشكلها وظهورها هي حوادث واشياء لم نتحصل المعرفة بمقدماتها وضروراتها وعللها وما كل ما يشير لها ويبشر بها . ووفق هذا الفهم لاشئ يحدث مصادفة البتة إلا بمعيار غياب المعرفة . وبقدر ما شكل رفض مبدأ العلة في العلوم تخفيفا من عبء البحث عن علل الاشياء والاكتفاء بوصف الحقائق المكتشفة والاكتفاء بإقرار تساوقهما عبر خطية الزمن ، فأنه شكـّل أيضا نأيا غير مناسب لقدرات التنبؤ حول ما يمكن ان يحصل او ينشأ او يتغير او يتطور . وبأختصار شكـّل نأيا عن الاتجاهات التوحيدية في العلوم .ان ظاهرة التعاقب تمثل الوجه الآخر لمبدأ العلية ، لا وفق الصياغة الافلاطونية له ، والتي تقرنه بالادراك ، بل بمعنى السبب الذي سيشكل مقدمة لأية حركة بالمعنى الاجمالي . ومن جانب آخر تلقي الشكوك بظلالها على الضرورة المطلقة ، أو على مبدأ الحتمية للتشكيلات وهي في طور تشكلها الواعد . بسبب ما نعتقد انه مدخلا لتبسيطية مفرطة في تعسفها . ان اللذين يؤمنون بالحتمية يعتقدون بأن التاريخ والحياة معطيات تقوم مقام العلل السابقة وهذا من شأنه ان يخبرنا على وجه اليقين بالمستقبل ، كما لو كان المستقبل بمثابة البذرة التي حتما ستكون شجرة بصفات معروفة . وتأسيسا على هذا الاعتقاد يضحى الاحتمال تفكير غير منطقي . إلا اننا نعتقد بأن التاريخ الانساني هو ما تقرره إرادة الانسان اضافة الى عوامل أخرى محتملة غير مُسيطر عليها كالحوادث والكوارث الطبيعية . أما في الطبيعة ، في المادة تحديدا ، فأن النظام المكتشف فيها اضافة الى تحوياتها المتعددة والمتغيرة على الدوام ، يفرضان ضرورة ما ، لا ترقى الى الحتمية الانتقائية السابقة على التجربة ، فكل شئ في المادة تسوسه الاحتمالات المنفتحة على ابعاد هي الاخرى متغيرة . ولكن كيف نقوّم القوانين العلمية ؟ اليست هي مظهر من مظاهر الحتمية ؟ ان هذا السؤال ينطوي على شبهة رفض القانون العلمي لصالح الاحتمال . ان القوانين العلمية تصف وتفسر اللحظات التاريخية المحتملة ، ولايعني هذا القول ان القانون العلمي هو مجرد احتمال بل العكس هو الصحيح . ولسنا نبرر قولنا هذا بـ " احتمال " إثبات عدم صحة قانون علمي ما في فترة معينة ، فهذا لايشكل ظاهرة عامة او مستدامة ، بل اننا نبرر قولنا برفضنا للاتجاهات التبسيطية التي انتجت حتميات من نوع الحتمية البايلوجية والحتمية الثقافية والحتمية الميكانيكية . هذه الحتميات وغيرها تـُورث معتقدات غير مبرهنة اذا اخذت بالمنظور الكلي والتوحيدي . ومن المعروف ان منشأ التضارب في الفلسفة المعاصرة حول الموضوعات المتقابلة اوالمتلازمة من نوع : العلة والضرورة والقانون والحتمية والاحتمال ، يتحدد بعاملين كلاهما يفصح عن خلل في الرؤية : *الاول : تصادم الرؤى التي بنيت على حقائق ما سمي بـ " الجواهر " التي هي الجزئيات فالذرات في مرحلة علمية لاحقة مع معطيات الاكتشافات العلمية في مكونات نواة الذرة . فالمعطيات العلمية الجديدة دفعت بالفلسفة المعاصرة الى التخبط، بين نفي للتصورات الفلسفية المستندة الى المعطى العلمي حول مكونات الذرة والحقائق المضافة الاكثر دقة على صعيد نواة الذرة . * الثاني : طريقة بناء التصورات الفلسفية حول ما يسمى بحقائق " الجوهر " . تلك الطريقة التي تنقطع فيها الصلة بين خبرة العالِم المتخصص ورؤية الفيلسوف غير العارف . ان التوفيق بين حقائق العلم وتصورات الفلسفة يحصل بتعديل طريقة تناول المعطى العلمي من قبل المشتغلين في الفلسفة . فليست الحقائق القصية في التركيب الذري مناقضة للحقائق المماثلة في التركيب النووي للذرة . انها دوائر من الحقائق تتحواها المواد بحويات متداخلة . بمعنى ان حالات عدم التعيين او الشواش في الذرات لايطيح بحقائق التركيب الذري السابقة ، وهنا يمكننا القول بوجود مستويات للحقائق تتوالد عن بعضها بصورة غير منقطعة الجذور . ان الانتظام المبرهن عليه في التركيب الذري المؤلف من : البروتانات الموجبة والالكترونات السالبة والنيترونات المتعادلة الشحنة ، هو حقيقة صامدة الا انها ليست نهائية فهي ـ أي الحقائق المذكورة ـ مرحلة دائرية في الكشف العلمي لايعدم ان تعقبها مرحلة دائرية أخرى فأخرى وهكذا الى ما لاينتهي . ان ظاهرة النفي ، وفي افضل الاحوال التجاوز ، في تاريخ الفلسفة ، قد انعكست بمرضها على استكناه الدلالة الفلسفية بابعادها الشاملة والكلية على المعطى العلمي. والخلاصة ما يعد ضرورة او صدفة او حتمي او احتمالي او عشوائي هو امر نسبي يرتبط وثيقا بمستوى معرفتنا وليس بالحقائق الموضوعية . فما دمنا متأكدين من المعطيات فلامناص من الاخذ بالحتمية. انشتاين نفسه يقول ( ان معطيات الفيزياء المعاصرة " اللاتعيين " لاتلغي امكانية الوصول الى قوانين علمية دقيقة فيها تترتب الحالات المستقبلية على الحالات الراهنة )(18 ). ومادام العلم لايني يتقدم دائما ليكشف ما هو جديد من الحقائق فأن هامش الجهل ما زال اكبر مساحة من العلم ، وهذا ما يسوغ في الاقل الاخذ بالاحتمالية في طرق تشكل الاشياء على مستوى التصور والرؤية المتغذية من المعطى العلمي . بكلمات أخرى ليست هنالك حقائق فلسفية مطلقة ، بل هنالك حقائق موضوعية متطورة بدوائر متداخلة ، كل دائرة حوية ، وهي محتواة في آن واحد في حوية أخرى. وهذا الاحتواء والتحوي يتم بابعاد لانهائية تنفتح معها كل الاحتمالات . والاحتمال هونسبي بمعنيين : يمكن قياسه إذا ما تم الالمام بعينة شاملة من المشاهدات او بعينة ممثلة ، وهذا ممكن عند حصر معلوم للمجال ومن ثم المدى. والمعنى الآخر يفيد بأن الزمان والمكان متلازمين لكل صيرورة .
لايثير الزمان إشكالا بقدر ما يثيره المكان : فهل العقل متحيز؟ كلا بالطبع ، فالعقل ليس إلا وظيفته ؛ فكل معلومة ، حسا ، شعورا ، رمزا .. لها بعد مكاني بشكل ما ، ويظل المكان شاخصا في كل تحويات العقل . ان الكائن هو احتمال من احتمالات غير محدودة من طرق التشكل ، فهو متغير في صيرورته ليس على صعيد المُشاهَد بل على الصعيد الحسي المعان بادوات وآلات البحث والتقصي . هناك في الذرة ، وفي نواتها ، وفي كائنات مكوناتها ، عالم كوني عجيب ، مضطرد الانتظام وحصتنا فيه من الحتم ـ كمقولة معرفية ـ بقدر حصتنا من العلم اليقيني . يعمل الاحتمال في صيغ متغيرة تفصح عنه هيئاته وقوانينه ، وهو ـ أي الاحتمال ـ ليس بالضرورة صنوا للجهل بما تؤول اليه الاشياء والظواهر والحوادث ، بل هو بمعنى آخر خيارات ممكنة معروفة . فلكل شئ فضاءه الاحتمالي المتكامل ، له حد اعلى يساوي الوحدة ، وحد ادنى يساوي قدرا ضئيلا يقترب جدا من العدم ، إلا انه ليس عدما . إلا ان احتمالات الحوادث المتنافية لاتحتمل سوى الوحدة او العدم ، بينما القيم المتقطعة ـ المحدودة ـ تصف الاحتمالات وفق قيم معلومة ، في حين تشكل القيم المستمرة احتمالات غير منتهية ، فبين العددين واحد واثنين مثلا ما لانهاية له من الاعداد . وفق هذه الهيئات التي يمكن ان يتواجد عندها الاحتمال تضحى طرق تشكل الكائنات على اختلافها ، لانهائية (18). في المقولة الرابعة من مقولات النقري (الشكل الحيوي : هو طريقة تحوّي متعددة القيم ) ، تتكافئ " طريقة التحوي " و " الشكل الحيوي " ، وهو أمر يقود الى ماهية متفردة للشكل الحيوي ، يتعادل فيها الكائن مع كينونته . ويفصح عن الغاء لترتيب حوادث التشكل ناهيك عن عللها . وعند أساليب التعبير المعتادة يمكن قبول المقولة المذكورة اذا ما كان الشكل الحيوي يعني صيغة ما ، تصف طريقة التحوي ،وهذا ينطوي على تناقض . لذلك ان ما تعنيه المقولة الرابعة هو الغاء للحدود بين طريقة التشكل والشكل الحيوي ذاته ، يمثل ذلك رفعا للتناقض .وما يؤكد هذا الاعتقاد هو اعتبار الشكل الحيوي مفهوما بدهيا ليس به حاجة لتعريف أو أثبات ، بل هو ما يبنى عليه من تعريف للحدود والماهيات والمفاهيم ، وما يبنى عليه تاليا من قوانين اومبرهنات. المقولات الاربعة تشكل مقدمة ملائمة للتعبير عن القانون الموحد لتشكل الاشكال ،ومن ثم ، قواعد تشكلها . وانها تتصف بصفات النظام البدهي ، وهي : ـ الاستقلالية : إذ لايمكن استنتاج ايا من المقولات الاربعة البدهية من بقية البدهيات الاخرى . ان الفوارق بين بديهية وأخرى هو الذي منحها هذه الصفة على نحو أساسي . ــ التمامية : حيث ان البدهيات المذكورة كافية للحكم على حيوية التعابير غير المعرفة ـ البدهية ـ وكذلك العلاقات في النظام البدهي . ــ القطعية : ان البدهيات ـ المقولات الاربعة ـ يمكن التعبير عن مفاهيمها أوكلماتها البدهية برموز أو كلمات أخرى ، بحيث يكون النظام البدهي الجديد هو النظام الاول نفسه . ــ الكمالية : إذ لايوجد تناقض في حزمة البدهيات ، ولا فيما يبنى عليها ، سواء كان قانون او قاعدة يتحواها النظام البدهي للشكل الحيوي . ولايعدم ان يتصف النظام البدهي للشكل الحيوي بالكمالية النسبية ، لأنه ببساطة لاينكر المعرفة الانسانية ، وانما يتوجه بالنقد الى طريقة تناولها ، وطريقة ترتيب الاثر عليها علميا وسياسيا واجتماعيا ودينيا ودلاليا ...
(1)رولان بارث " مبادئ في علم الادلة ":124 (2)دي سوسير " علم اللغة العام " نأخذ المصدر من الكتاب العراقي ، في رولان المصدر محاضرات علم اللسان 174 (3) مارتيني " اقتصاد التحولات الصوتية " في رولان بارث : 125 (4) هذا العنوان الاصلي للكتاب الذي حمل عنوانا آخر في نسخته العربية المترجمة " علم الاحياء والايديولوجيا والطبيعة البشرية " ، تأليف ستيفن روز وآخرين ، راجع بشكل خاص الفصول الثالث والتاسع والعاشر ، وفي الكتاب يبين مؤلفوه كيف ان التزييف العلمي في مجال البحوث السلوكية ومجال البحوث البايلوجية يضفي الشرعية على التمييز العنصري والطبقي في اطار العلاقات داخل مجتمع ما وبين المجتمعات الانسانية ككل ، استنادا الى ما يقدمه مبدأ الثنائية من زيف الاحكام القبلية والمستندة بدورها الى ثنائية مفتعلة في العلوم والمعرفة .إلا ان ما يؤخذ عن مناولات هذا الكتاب حصره الاهتمام بعلاقة البايلوجي بالبيئي والثقافي في الصيرورة الاجتماعية دون ان يوسع مناولاته لتشمل ابعاد أخرى ، وان كان مما هومسوغا لهذه المناولات جدير بالاعتبار وهو على أية حال يقدم الادلة على خطل الحتميات البايلوجية والثقافية مثلما يرفض الاتجاهات التبسيطية في الفلسفة . (5) مقابسة المقابسات : 88 (6) الهندسة المعمارية في الالفية الثالثة "الثورة العلمية" ـ ترجمة المهندس المعماري محمود حمندي عن مجلة PROGREESIVE ARCHITECTURE، الموقف الثقافي العدد 10 ، ص 77 دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد1977 . (7) لفظة الجوهر ليست عربية ، ونحن نؤمن بأن اللغة العربية أفضل حواء للفكر والتصور في ما هو اساسي وما يشكل مفاتيح للعلوم ، ولقد وفدت هذه اللفظة على اللغة العربية من اللغات اليونانية والسريانية التي نقلت الفلسفة الافلاطونية الى العرب منذ القرن الرابع الهجري . ولكن هذا لايعني اننا نرفض اية لفظة غير عربية لعدم وجودها في اللغة العربية ، فللرفض اسباب ، وعدم وجودها يضاعف تلك الاسباب لاغير . (8) لمزيد من المعلومات حول الاكتشافات العلمية في مجال الفيزياء النووية ، راجع " الهندسة المعمارية في الالفية الثالثة ، م.س .ذ * ومن المعروف ايضا ان المعلومات احتلت اهميةاستثانئية في معظم الميادين المعرفية ،حتى ان علماء الحرب النفسية مثلا كانوا يولون أهمية خاصة لما يسمى بحرب المعلومات في ابحاثهم الاكاديمية وفي التطبيقات الميدانية على مستوى الاعلام الخارجي . ناهيك عن ولادةتخصصات علمية اساسها معاجة وتداول المعلومات كالذكاء الصناعي " السبرنتيكة " . بصدد خبرة الحرب النفسية من منطلق حرب المعلومات انظر في سبيل المثال د. حامد ربيع ( الحرب النفسية في لوطن العربي ) الفصل الاول . (9) مقابسة المقابسات : 104 (10) المصدر السابق :80 (11) الدكتور رائق النقري " الشكل اساس التوحيد" :،موقع مدرسة دمشق للمنطق الحيوي . (12) النقري :المصدر السابق . (13) النقري : المصدر السابق
(14) الحيوالية اصطلاح ممكن توليفه على غرار توليف اصطلاح الزمكان ، وحول طريقة توليفه راجع دراستنا " مبادئ في التحليل البنيوي " المنشور في موقع الحوار المتمدن . وبذات الطريقة يتم توليف اصطلاح الحيوالية بتحليل لفظي " الحيوية " و" الالية " الى مقاطعها الصوتية ـ سنتاكم ـ } الحيوية { U } الآلية { = } أل ، حيو ، ية {U } أل ، آلي ، ية {= } أل ، حيو ، آلي ، ية { = } الحيوآليّة { ومنه حيوالي .وهو افضل من تعبير " حيوائي ". مع ملاحظة ان مجموعة الاتحاد تتضمن العناصر المشتركةاو غير المشتركة مع التقيد بشرط كتابة المجموعة وهو عدم تكرار العنصر في المجموعة ، وعناصر المجموعة هنا السنتاكم ( المقطع الصوتي) وليس الحرف. (15) النقري : جذور منطق المصالح / موقع مدرسة دمشق للمنطق الحيوي: http://www.damascusschool.com (16) النقري : الشكل اساس العصر / موقع دمشق للمنطق الحيوي . (17) مقابسة المقابسات : 101 (18) انشتاين في الدكتور زكريا ابراهيم " مشكلة الحرية " مكتبة مصر ، القاهرة 1963 : 105 (19) هنا العددان واحد وأثنين بوصفهما قيمتان مجردتان وليسا دالين . فأذا وضعا على خط الاعداد الحقيقية فكلما اردنا ايجاد قيمة تتوسطهما يمكن ايضا ان نجد قيمة أخرى بين القيمة في الوسط واحد العددين المذكورين وهكذا الى ما لانهاية له من الاعداد الحقيقية مكونة متسلسلة متباعدة ليس لها نهاية . في أحد الافلام الاجنبية تقترب عالمة الرياضيات الشابة من صديقها خطوة قائلة : مني خطوة ومنك خطوة .. مني خطوة ومنك خطوك .. فتصيح متعجبة عندما يلتصقان : كيف حصل هذا وبيني وبينك " ما لانهاية له من الخطوات " . اراد كاتب الفلم وعبر ما قالته عالمة الرياضيات ان يفرق بين المفهوم المجرد لعدد الخطوات المتجهة صوب نهاية ما وبين دلالتها على المسافة . صديقها كان يتمتع بمهارة تقنية في الميكانيك عالية جدا ، ما يجعل الفارق واضحا بين المفهومين كما تقدم .
الفصل الثاني (المنطق الحيوي التوحيدي) ( (1منطق الوعي ووعي المنطق
يعيد النقري الترتيب بين الوعي والمنطق بإظهار فرقا حاسما بين منطق الوعي ووعي المنطق ، انطلاقا من حقيقة أن : ( منطق الوعي هو الذي يحتوي وعي المنطق ..وليس العكس )(1) . بمعنى ان الوعي حواءا يشمل كل التحويات المنطقية الممكنة ، والمنطق كمقولة عامة هو ايضا حواءات تشمل منطقيات متعددة ، والفرق بين التحويات المنطقية والمنطقيات المتعددة بدوره واضحا لا لبس فيه . بكلمات أخرى ان وعي المنطق ـ أيا كان ذلك المنطق ـ هو مجموعة جزئية من المجموعة الشاملة التي هي منطق الوعي .ان هذا الترتيب من شأنه ان يعيد للوعي الانساني رياسته وتحرره من كل الاحكام ونظم التفكير المستحكمة وذات الصبغات الاحادية او المسطحة كالمنطق الشكلي والمنطق الجدلي بنسختيه المثالية الهيجلية والمادية الماركسية . فالوعي فضاء يتحوى طرق التفكير وفق منطقه الذي يفيض عن طريقة تشكله ، وهذا يحيل الى رفض التقابل الزائف بين الوعي والمنطق ، لانه يلغي علاقة الاحتواء بينهما ، تلك العلاقة تقرر فاعلية التفكير الانساني واتجاهاته ومصالحه . وعلى صعيد الكائنات الحية غير الناطقة والكائنات غير الحية ثمة دارات منطقية تفصح عن صيرورة تلك الاشياء .(فالوعي القائم على مبدأ الجوهر انما يقوم بذلك لكون منطق الوعي يسمح له بذلك ويتطلب منه التأسيس والتحوي ،حول وعلى مبدأ الجوهر ، ضمن وجود ظروف ومصالح وتقنيات تستلزم ذلك. وعندما تتغير هذه الظروف او يضعف حضورها ، فان منطق الوعي- نفسه- يسمح بالتأسيس على غير مبدأ الجوهر. وفي الحالين فان منطق الوعي يعبر عن مبدأ الشكل)(2). ان اول مايريد التنبيه عليه منطق الشكل الحيوي ، هو خطل الاسس الجوهرية والثنائية والاحادية في تقويم المعتقدات والتصورات السابقة على الاشتغال بأشكال الفكر وقوانينه . تلك الاسس تعتبر احكام قبلية من شأنها ان تخدع الوعي ، وتقصي على نحو متعسف التحويات المحتملة التي يضمها منطق الاشياء والكائنات بأجمعها، وبأختصار : منطق الشكل ذاته .إلا ان منطق الوعي هو شكل يتسع لكل الاحتمالات الممكنة طبقا لصيرورته ،بأبعاده المختلفة وظروفه الزمانية والمكانية المتغيرة . ومن ذلك ان الدلالات التي تفيض عن العبارة ، ومن ثم ، القضية المنطقية هي مجرد احتمال من احتمالات عدة . وان محدودية تلك الاحتمالات لاتعود بنا الى المنطق الارسطي الشكلي ـ او لنسمه "المنطق الصوري" لكي نميزه عن منطق الشكل الحيوي ـ بل تنقلنا الى منطق اشمل في تحوياته، يحايث المنطق الرياضياتي . تتمحور الاختلافات ـ او في الاقل الفروقات ـ بين منطق الشكل الحيوي من جهة والمنطقين الصوري و الديالكتيكي من جهة اخرى حول الرؤية الفلسفية للحقيقة . وان بدا ذلك الاختلاف او الفرق واسع في مداه الى درجة يفرض معها نوعا من الضبابية وربما تماهيا مع ادعاءات تفتقد الى المعيار العلمي والمنهجي معا . ولايمكن بكل تأكيد الوقوف على الفرق بين رؤيتين او منطقين مالم يكونا على درجة تتجه الى ان تكون عالية من التشابه. وليس كذلك التشابه ، فهو يتطلب الفرق وإن كان ضئيلا . لهذا السبب فأن الاختلاف الذي نزعمه يقرر التشابه بين المناهج المنطقية الثلاثة ،وهو تشابه يقترن بتباين ينبثق من طريقة البحث في الحقيقة وعنها. يظل المنطق الشكلي الارسطي" الصوري " محتفظا بفاعليته ومنفعته برغم ظهور منطقيات أخرى ،لا بل برغم التصحيحات التي اجراها كل من "وايتهيد" و " رسل " وآخرون عليه وصيرته منطقا رياضياتيا في مرحلة تالية ، والذي يسمى احيانا بالمنطق الرمزي لاشتغاله بالرمز الدال على الاشياء او العبارات او القضايا البسيطة والمركبة او الكيفيات . ان الصياغة الرياضياتية للمنطق مثـّل نقلة هامة من القضايا الثابتة الى القضايا المتغيرة الامر الذي حرر المنطق التقليدي الصوري من تحكمات الرؤى الفلسفية السابقة على التجربة .فالمنطق الرياضياتي يأخذ بما يسمى بفضاء العينة وهي كل الاحتمالات الممكنة للقضية محسوبة على اساس الاحتمالات الممكنة لصواب او خطأ العبارات. بكلمات أخرى ان المنطق الشكلي يهتم بالتتولوجي فقط ولايهتم بسواه ، في حين ان المنطق الرياضياتي يتحوى ما هو تتولوجي ـ مؤكد ـ ومتناقض في حواءات احتمالية التشكل دون إحالة. لذلك فأن العسف أبعد ما يكون عن المنطق الرياضياتي ، حتى يمكن القول ان المنطق الرياضياتي هو الوريث الشرعي للمنطق التقليدي الارسطي وتصحيحا له. في كلا المنطقين الارسطي والرياضياتي تتواجد قوانين الفكر الاربعة : الهوية ـ الذاتية ـ والتناقض والعكس والبرهان . وكذلك أشكال الفكر : المفهوم والحكم والاستنتاج. إلا ان جبر القضايا اوجد للمنطق الرياضياتي قوانين أخرى وهي على أي حال ليست مقطوعة الصلة عن المنطق الشكلي الصوري برغم ان القسم الاكبر منها مستحدثا وتمثل تجاوزا وليس نفيا للمنطق الشكلي الصوري . ومن هذه القوانين ، القوانين المزدوجة التي تصح عند عمليتي الاتحاد والتقاطع ، مكرسة خاصة المِثلية أو ما يسمى"مبدأ الثنوية "، وهي : قانونا اللانمو ـ وهما تعبيران جبريان موسعان لقانون الهوية ـ وقانونا الدمج (= التوزيع )، وقانونا الإبدال ،وقانونا التوزيع، ووقوانين المحايد،وقوانين المكمل ،وقانون مكمل المكمل، وقانونا دي مورغن . وللحتمية المنطقية في هذا المنطق شروط معروفة وهي وثيقة الصلة بفكرة التكافؤ المنطقي ، إذ ان قضية ما تحتم أخرى ، يعني إنهما يمتلكان قيم الصدق ذاتها ، ما يجعلهما متكافئين .أضف الى ذلك ، إن الاستقراء الرياضياتي قد الغى ما يعرف بالاستقراء الناقص عبر توظيف قانوني الهوية والاضافة اللذان يصدقان على نمو الظاهرة أيضا ، ما يجعل من الاستقراء تاما وليس ناقصا . ويخطأ من يعتقد ان ذلك تحوّل صوب الاستنباط . ومن الافضليات التي يتمتع بها المنطق الرياضياتي ـ وهذا شأن الرياضيات ككل ـ هي الصياغات المبرهن عليها التي تقصي أثر الدلالة اللغوية المتغيرة لدى المتلقي ، لصالح الحقيقة النسبية . المنطق الديالكتيكي ، بشقيه الهيجلي المثالي والماركسي المادي،يعترف بأهمية المنطق الشكلي" الصوري " . والقائلين بالمنطق الديالكتيكي لايقرون او يزعمون انفصال المنطق الديالكتيكي عن المنطق الشكلي الصوري او تنافيهما ، بل يعدون المنطق الشكلي "الصوري" درجة دنيا والمنطق الديالكتيكي درجة عليا وهما يتمايزان باسلوب مواجهتمها المعرفية للشئ ، وبـ " درجة " المعرفة التي يعطيانه عنه .فهما متلازمان في المبدأ من حيث انهما يقران اشكال الفكر الاساسية . ويبدأ التمايز بينهما بعدم وقوف المنطق الديالكتيكي عند قوانين الفكر الاربعة بل ان "علم الفكر الديالكتيكي "يرتكز على اربعة خطوط اساسية : الاقرار بالترابط العام ، وبحركة التطور ، وبقفزات التطور ، وبتناقضات التطور . بمعنى ان ( الفرق بين المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي ينحصر في واقع انهما يواجهان ، بصورة مختلفة ، المسألة الاساسية للمنطق :وهي مسألة الحقيقة ، فمن وجهة نظر المنطق الديالكتيكي ، ليست الحقيقة شيئا معطى مرة واحدة لاغير ، ليست شيئا مكتملا ، محددا مجمدا ساكنا ، بل الامر خلاف ذلك . فالحقيقة هي عملية نمو معرفة الانسان للعالم الموضوعي خلال كل تاريخ المجتمع ) ( 3). ولعمري ان هذا من وجهة نظر تطبيقية او عملية لهو َخوض وهرس خارج الاناء ، فليس المطلوب من المنطق خلق التصورات الفلسفية بقدر ما هو طريقة سليمة ومنظمة للتفكير، وربما يكون مطلوبه هذا اذا كانت تقاريره وقضاياه من حقل الفلسفة او الايديولوجية ، الا ان ذلك هو ليس موضوعه الوحيد . ولاتوجد حقائق يمكن الامساك بها إلا في لحظة ما ، وما يطرأ من تطور بمعانيه المختلفة انما هي لحظات أخرى للشئ ، تسلتزم العلم بها . وهنا علينا ان نفصل بين الشئ في صيرورته وعن علمنا به ، ففي هذا الفصل الضروري امتناع ضروري هو الآخر لمطابقة الفكر والعالم الموضوعي على الدوام . ان الترابط بين الاشياء والظواهر والقفزات ـ التي نقبلها بوصفها احتمال ممكن من بين احتمالات عدة ـ تصح في معرفة العالم والاشياء من حولنا .. وهنا علينا ان ننظر الى الصلة بين المنطق والعالم الموضوعي بوصفهما سلستين مستقلتين ، منفصلتين عن بعضهما . فالافكار بصفة عامة هي مجرد محاولات للوصول الى الحقيقة بينما الاشياء بذاتها تمثل ،بل تتحوى الحقيقة الكاملة. إذن كيف تكون الصلة بين " التغيرات" التي تصيب افكارنا وتصوراتنا وبين " التغيرات " التي تصيب الاشياء المستقلة عن وعينا . بكل تأكيد ان التغيرين مستقلان عن بعضهما .. ما يقوله الديالكتيكيون حول ثبات وجمود المنطق الشكلي أمر مردود ، ولكن اذا وجه هذا القول الى " فلسفة ما " فأن ذلك فيه نظر وقابل للمناقشة . والا ماهي الاضافة الديالكتيكية لأبسط اولأعقد حقيقة هندسية او جبرية او فلكية مثل : سرعة الضوء ، وتقاطع المستقيمين بنقطة وحيدة ، وجزيئات أي عنصر كيميائي في سبيل المثال لا الحصر ؟. ان الفارق الذي يقول به الديالكتيكيون يمكن قبوله على انه فارق بين تصورين فلسفيين ، او في الاقل بين حزمتين من المعرفة ، تتفاوتان في تحوياتهما . صحيح ان المنطق الارسطي نتاج للفلسفة الافلاطونية ، الا انه المنطق الذي يؤسس لصواب أي منطق آخر دون جدال ، انه اداة يمكن استخدامه حتى لأثبات عدم صحة الاطروحات الافلاطونية نفسها. واذا كنا نريد ان ننظر الى الاشياء والظواهر على انها متغيرة فليس ثمة في المنطق الشكلي ما يمنع ذلك. ان حصر التغيرات والتطورات يمكن استيعابها بحسب مراحلها في المنطق الشكلي، ولايمكن استيعابها دفعة واحدة . فهل قصد الديالكتيكيون انهم بقادرين على ايجاد قوانين منطقية بديلة غير قوانين المنطق الشكلي التي تكرس او تعكس الجمود بحسب نظرهم ؟ يُشبّه "فلاديمير لينين " المنطق الشكلي بالعمليات الحسابية البسيطة ، والمنطق الديالكتيكي بالرياضيات العالية والتي لاتستغني عن العمليات الحسابية البسيطة ! وهذا تشبيه لاينطوي الا على رغبة متعسفة على رد الافكار الجيدة والنافعة الى الفلسفة الماركسية ، حيث ان الفرق المشبه بين المنطقين المذكورين ليس له وجود على الاطلاق .واذا كان المقصود بالرياضيات العالية تلك التي تتناول معالجة وتحليل دوال المتغيرات الحقيقية او المعقدة فأن المنطق الرياضياتي يتحوى القيم والاشياء الثابتة مثلما يتحوى القيم والاشياء المتغيرة . ومرة أخرى ننبه كيف ان الرياضيات المعاصرة قد ذهبت الى معالجة اكثر مما هو كمي ثابت وما هو متغير ، إذ عالجت اشياء كيفية . فلقد وجد ان إبدال المتغيرات باشياء اخرى امر ممكن على صعيد التحليل الرياضياتي . إن مفهوم المتغيربوصفه "شاغل مكان" في الرياضيات ، قد مكن الاخيرة من تحليل ومعالجة موضوعات مختلفة في طبيعتها كاللغة وعلم النفس والنقد الادبي وعلم الاجتماع وغيرها . ان الفارق الذي قال به الديالكتيكيون بين المنطق الديالكتيكي والمنطق الشكلي لاينفي ولايصحح قوانين المنطق الشكلي ، ولم يغنها بشئ اضافي ، وكل ما في الامر ان المنطق الديالكتيكي يقرر نظرية في المعرفة ، عمادها النمو المعرفي طبقا للحركة والتطور ، ويتخذ من الفلسفة المادية التاريخية أساسا وحيدا في التحليل والرؤية .وهذا لايشكل نقطة تصادم بين المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي انما يصح كفرق بين فلسفة تأخذ بثبات المعرفة وأخرى تأخذ بتطورها ، بين فلسفة مادية وأخرى ليست كذلك. اما المنطق الشكلي " الصوري " لم يوضع لمعالجة هذا النوع من المسائل فقط . لذا اذا اردنا الدقة علينا اعادة اطلاق التسميات الدالة على التوصيفات الصحيحة ، فالمنطق الشكلي وكذا المنطق الرياضياتي هما منطق ، بمعنى ان كل منهما آلة للتفكير المنظم والصائب ، ولايوجد منطق ديالكتيكي بالمعنيين الارسطي والرياضياتي بل ثمة منهج ديالكتيكي للتحليل . بكلمات أخرى ان الديالكتيك يتناول الظواهر والاشياء والقضايا المعبر عنها بمنهجية تكشف عن "منطق تحولاتها المتغيرة " باتجاهات مختلفة ومحسوبة ، وهذا الكشف ينطوي على تحديد لقوانين الصيرورة بما في ذلك التغييرات الحتمية . ايضا ، يمكن قبول المنطق الديالكتيكي على انه " منهجا ديالكتيكيا " نافعا لتحليل الواقع الموضوعي إلا انه ليس ذي صلة بالعلوم ، فلكل علم منطقه الخاص غير المتعارض مع المنطقين الرياضياتي والشكلي ، بل ان العلوم اذا احتاجت اداة منطقية فليس امامها سوى المنطق الرياضياتي وادوات رياضياتية معروفة الاستخدام . ان الدعوى القائلة بوجود منطق لتشكل الاشياء ، هي دعوى صائبة بقدر ما تعنيه لفظة منطق من الانتظام وقواعد التشكل . على ان منطق الاشياء شئ والمنطق الصوري اوالديالكتيكي شئ آخر . في الحالة الاولى ؛إعمام لتشكل التفكير من حيث ان المنطق علم الفكر . وفي الحالة الثانية ؛ كشف عن كل ما يختص به الشئ المعين : قاعدة ، قانون ، خصائص العلاقة الداخلية ، ...واذا ما اردفنا هذين بمفهوم ثالث هو "المناهج التحليلية" فتتشكل لدينا ثلاثية قابلة للتحوي وبالتالي فأنها تؤلف شكلا فكريا يستولي على مجموعته الشاملة . إن هذه الثلاثية تمثل الدائرة البدهية ، الاولية .. وبها حاجة الى عنوان جامع لها ، ونجد في اصطلاح النقري " الفكرياء " الذي ذكره ذِكْرَا ً عرضيا ًدون إيضاح ، المصطلح المناسب لهذه الثلاثية . عندئذ يمكن القول بثقة ان : الفكرياء شكل يتحوى المنطق الصوري والرياضياتي ومنطق الاشياء ـ الكائنات أيا كانت ـ والمناهج التحليلية النظرية والامبريقية (= التجريبية ). فالفكرياء توظف كل انواع المنطق والمناهج التي تؤسس للمنطق الحيوي التوحيدي.زد على ذلك ان المنهجيات والاكتشاف المضطرد للقوانين والعلاقات والعمليات والقواعد ، والاكتشاف المماثل لمنطقيات تشكل الاشياء من وجهات نظر مختلفة في قطائع علمية مختلفة تسبغ على الفكرياء بوصفه المنطق الحيوي التوحيدي صفة اللانهائية ، بسبب ان الحقلئق ذاتها لانهائية في نموها وتطورها عبر خطية الزمن والحركة . الامر الذي يتيح للمنطق الحيوي التوحيدي ان يستشف أو يستكشف القوانين الكونية . هل ما ذهبنا اليه من قول بصدد مُؤلِفات الفكرياء ،يمثل تلفيقا لايمكن البرهنة على صوابه ؟ وهل هو محض عملية سطو على المنطقين الرياضياتي والصوري والمناهج المشار اليها ، ومصادرة لها لحساب المنطق الحيوي التوحيدي ؟ نعم يكون الامر كذلك إذا لم تستطع فلسفة الشكل الحيوي ان تضع على نحو واضح منهجها التحليلي في الاقل ، ناهيك عن ما يمكن عدها مُؤسِسات منطقها الحيوي. إذ أن المنطق الحيوي التوحيدي مطالب ان يرينا كيف هي الانتقالة من " وعي المنطق " الى " منطق الوعي " ، وما هي الطبيعة المنهجية لمنطق الوعي. وكيف هي الاختلافات التي يمتاز بها المنطق الحيوي التوحيدي عن المنطقيات الاخرى بحيث يمكن تأسيس منطق يتصف بالبداهة الكونية وينظم منطقه الكلي والشمولي ؟. لاينبغي للمنطق الحيوي التوحيدي ، ان يزيح المنطقيات الاخرى ،ولا المنهجيات العلمية الاخرى ، كما انه ليس مطالب بأن يأتي ببدائل لها لتسد الفراغ في حال رفضها أو نفيها . في الدارات الكهربائية أمكن تطبيق النظام المنطقي المُؤسَس من جبر القضايا ونظام العد الثنائي ، سمي هذا النظام بجبر " بوول " نسبة الى واضعه. وهويمثل إيضاحا للفسحة التي يمكن ان يكون عليها منطق الوعي ، تلك الفسحة التي اعطيناها تعبير التحويات المتعددة والمتغيرة . فجبر القضايا بدوره مؤلف من المنطق الرياضياتي وقوانين نظرية المجموعات . إلا ان جبر بوول ليس وقفا على الدارات الكهربائية ، إنما هذه الاخيرة مثلت قطاعا لتطبيقات جبر بوول اخذت شهرتها هذه في الرياضيات . كما ان توليفة جبر بوول ذاتها يمكن ان تعالج بنيويا ً طبقا الى نظرية البنى ، وتبولوجياً طبقا الى النظرية التي تحمل هذا الاسم . والامر لايتوقف عند التداخلات الخطية بين آلات البحث المذكورة ، بل هي تأخذ منحى تداخل لا خطي ايضا ومن ذلك مثلا التكافؤ بين نظرية المجموعات والمنطق الشكلي والمنطق الرياضياتي. أضف الى ان رمزي النظام العددي الثنائي 1,0 يكافئان خطأ او صواب العبارة على الترتيب ، كما انهما تطبيقيا يمثلان انطفاء المصباح وتوهجه على الترتيب ايضا. كل هذه المعطيات تسمح ببناء منطقي كوني ، أو في الاقل تؤسس لأواليات المنطق الكوني ، وهو عندنا منطق الشكل الحيوي . ويبقى هذا طموحا مؤملا يتطلب خبرات مركبة ، رياضياتية وعلمية ومعرفية وفلسفية . وليس لأي منطق ان يدعي الصواب مالم تصاغ قوانينه صياغة رياضياتية ، إذ لامناص من علم الرياضيات حتى في الفلسفة .ذلك ان التفكير ، به حاجة الى التنظيم الذي يحرره من الخرافة ،والعسف ،والـتأويل ، والاستسهال . وإلا كيف نفسر وجود نظريات متضاربة ومتناقضة في العلاقات الدولية والاعلام وعلم الاجتماع وعلم السياسة . اننا هنا لانشير الى التعددية المنهجية في العلوم على انها أمر غيرمحبذ ، فالتعددية لاتعني التناقض بل هي مظهر من مظاهر الاغناء في العلوم ، وانما الذي نشير اليه هو ذلك التناقض في الرؤى : رؤية الحقيقة الواحدة بحقائق مختلفة ، متناقضة ، احدها ينسف الآخر.
(2) الحدسي واللاحدسي
طالما تضمنت الدعاوى التي تدعي العلم بالكليات ، تناقضات وإحالات في منطقها الامر الذي أبقى هدف صياغة فلسفة كلية بعيد المنال .فمن بين الاساليب او التشكلات المتنوعة في مثل هذه الدعاوى ما يعتقده " هيجل " بصدد العلم بالكليات ، فهي عنده حاصل مجموع الحقائق الجزئية . ويُفـْهَم من ذلك ان الاستقراء طريقا وحيدا للعلم الكوني ، وهو خلاف الحدس الذي يذهب مباشرة الى الاحاطة بالبداهة الكونية والتي لاتحتاج في اقرارها لأي دليل برهاني . وقولنا هذا يعيد المشكلة الى نقطة البداية .لم لا ؟ فالعودة الى نقطة البداية شكل من اشكال حرية التفكير والبحث المجرد عن النزوات والسقطات غير المحمودة . ان الحس السليم ، الفطري ، الغريزي ، له مُؤدِيات فاعلة في الفكر الانساني والعطاء العلمي .وان النسبة بين البديهة اوالحدس من جهة والمنطق من جهة أخرى ـ أو إجمالا بين الحدسي واللاحدسي ـ متذبذبة فاذا حضرت احداهما غابت الاخرى ولايجري الاعتماد على احداهما دون الاخرى لحظة الاشتغال العلمي اوالفكري بصفة عامة .وليس ثمة قاعدة مطلقة تقرر متى يكون حضور الحدسي ضروريا ومتى يكون حضور اللاحدسي ضروريا .ولعل من المناسب هنا ان نورد النسبة بين الحدسي واللاحدسي كما جاءت في الموروث الفلسفي العربي (فالبديهة هي قوة تقمع الروية ، وهي ابعد من معاني الكون والفساد ، واغنى من ضروب الاستدلال والاستشهاد . وهي تحكي الجزء الالاهي بالانبجاس ، وتزيد على ما يروض عليه بالقياس ، وتسبق الطالب المتوقع ، وهي ـ البديهة ـ منوطة بالحس ، وان كانت معانة من جهة العقل )(4). ( و الروية والبديهة تجريان من الانسان مجرى منامه ويقظته ، حلمه وانتباهه ، وغيبته وشهوده ، وانبساطه وانقباضه ، فلابد من هاتين الحالتين . ومتى ضعف فيهما فاته الحظ المطلوب من الحياة ، والثمرة الحلوة من السعي . وليس حكمهما في اللسان اظهر من حكمهما في القلب ، لان للقلب بديهة بالسانح ، وروية بالاستقراء . واحداهما في حواء الهيولى* ، والاخرى في حواء الصورة . ولما كان الانسان متقوما بهما ، كانت نسبته فيما يفزع اليه ، على حد حصته فيما تأصل عليه) (5) . وبغض النظر عن الاعتراضات التي تنشأ بصدد النسبة بين الحدسي واللاحدسي ـ المنطقي ـ فأن الحواء الذي يتحوى كليهما هو علم الرياضيات لأنه يقوم على الاساس البدهي الذي يمكن معه تركيب الاستدلالات المنطقية البحتة . وان توسعة الاساس البدهي مَهمَة تقع خارج المنطق ، فمهما كانت المجموعة الشاملة التي يفترض انها تتحوى البداهة الكونية بدرجة او مرتبة كافية من الشمول ، فأنها وبسبب اننا في داخلها ، ستفرض علينا احكاما لايتضح فيه الصواب عن الخطأ . وسأستعين هنا بمفهوم المجموعة الضبابية وهو التعبير الانسب لهذه المعضلة . فالمجموعة الضبابية مجموعة كل الاشياء المرتبة على نحو متصل بدرجات مختلفة لدالة الانتماء التدرجي. نحن هنا نتحدث عن حواءات تصفها ادواتنا التحليلية على نحو تدرجي من التراكم المعرفي والذي ليس بالضرورة ان يلم بكامل الحقيقة ، انما يفترض هامشا وهامشا عريضا من الجهل . ان الاعتراف بوجود مثل هذا الهامش ضرورة اخلاقية وعلمية في آن واحد . ان صفوف الاشياء التي نواجهها في الحياة لايمكن تعريفها بدقة عبر دالة انتماء تفصح عن التحويات ، اضف الى ذلك فأننا في كل يوم نستخدم الخواص التي لانستطيع التعامل معها بقناعة وبساطة بنعم أو لا ، سواء كانت هذه الخواص تشير الى نسبة من الجواب غير المحدد ، كقولنا ابيض أو اسود .ففي سبيل المثال ان صف الحيوانات من المؤكد انه يتضمن الطيور والخيول والغزلان .. الى آخره ، وعندما نستثني بعض الاشياء طبقا لدالة الانتماء كالصخور ،والنباتات ، والسوائل،.. الى آخره ، فأن بعض الاشياء مثل البكتريا ونجم البحر ... ستوضع في مرتبة "غامضة " نسبة الى صنف الحيوانات .وكذلك الحال مع العدد عشرة عندما يوضع في صف الاعداد الحقيقية التي هي اكبر من العدد واحد بكثير ، وايضا صف من النساء الجميلات ـ آخذين بنظر الاعتبار معايير وعوامل وظروف غير محددة على نحو دائم للحكم على جمال أمرأة او صبية ما ـ .. فليس بالامكان تمثيل مثل هذه الصفوف واضرابها بصيغة رياضياتية اعتيادية . في الحقيقة ان مثل هذه الصفوف المعرفة على نحو غير دقيق مثار للسقطات الفلسفية وما تنطوي عليه من عسف رزح الفكر البشري في ظله ردحا طويلا من الزمن ومازال. مرة أخرى ، مثل هذه الصفوف تلعب دورا جذريا في التفكير البشري وفي كيفية الوصول الى الافكار المجردة . ان المعضلة هنا لاتظهر فقط وجهها التصنيفي، بل تظهر ايضا فيما يترتب عليه الحكم الفلسفي المسبق على هذا النوع من المجموعات التي اطلقنا عليها تسمية " المجموعات الضبابية " . هنا ايضا تظهر لنا فاعلية الحدس والبديهة ، فبقدر ما يكونا على درجة عالية من النقاء ، بمعنى تحررها من الاحكام القبلية ، سيكونا الاداة الاكثر فاعلية في توسعة الاساس البدهي للرياضيات ، بوصفها تمثل الصياغة التي ستجمع ما هو معرف الى جانب غير المعرف ، كما تجمع في حواءها المنطقي ماهو معروف الى جانب المجهول ، أي غير المعروف لدينا ولو بأدنى اشارة تدل عليه وبكلمات أخرى : المعدوم ولكن بوصفه حواءا إفتراضيا لأشياء لها وجود افتراضي هي الاخرىوليس لها وجودا عينيا اوحسيا. وهكذا يضحى الادراك متأثرا بالحدسي واللاحدسي ، فهو يفيد منهما في وحدة او علاقة لاتنفصم . والمنطقي لايثير اختلافا كالذي يثيره الحدسي ، فالاختلاف حول المنطقي يدور حول كفاية منطق ما ، كما هي اعتراضات اصحاب المنطق الديالتيكي ـ الجدلي ـ حيال المنطق الشكلي ـ الصوري ـ بينما الاختلاف بصدد الحدسي يدور حول علميته ، وبالتالي عن المدى الذي يمكن ان يعول عليه في اصدار الاحكام . ( ومن أهم الامثلة على الحكم الحدسي الاصيل ذلك المتعلق بكفاية عدد محدود بالضرورة من الاختبارات التجريبية لتأييد صحة توكيد معين . هذا النوع من الحكم يمكن ان يعبر عنه أي فيزيائي ، او أي كيمائي او عالم احياء او طبيب . النوع نفسه من الحكم يمكن ان يعبر عنه قاضي في محكمة اذ يقرر ان الدليل المقدم كاثبات ـ وهو بالمعنى المنطقي الشكلي ليس اثباتا ـ يكون كافيا لحكم معين )(6). ان البرهة التي يتلاحم فيها الحدسي واللاحدسي ، برهة ديالكتيكية "جدلية " ، بمعنى انها برهة تستقطب اليها النظرية المعرفية بذات القدر والكيفية التي تستقطب بها المنطق الشكلي . على ان المعرفة الانسانية هي ليست انتاجا محتكرا من قبل القطائع العلمية على اختلافها . فللفن والادب دورا لايقل في اهميته بل وفي كميته في انتاج المعرفةالانسانية .. الا انه يمكن القول ان الفارق بين المنتجين في كلا الحقلين العلمي والفني ، هوان الاول يأخذ بالمنطق الشكلي والصياغات العلمية التخصصية لكل علم أضافة الى الحدس خاصة في لحظة صياغة القانون ، فيما يأخذ الثاني بالحدس والبداهة الى حد بعيد جدا . وأن كلا الحقلين وسواهما تتحواهما البداهة الكونية ، وهي ما ينبغي السعي الى الامساك باطرافها ووعيها ومعرفتها . ثمة قضايا وأشياء على غاية من الاهمية قد وجدت في حياتنا بفعل الحدس وفرضت نفسها بطرق واساليب ليس للمنطق فيها أي دور في تأسيسها ، الا انها بدت كما لوكانت أمور مفروغ من صحتها وقابلة للتداول المنطقي ، بل انها اضحت في وعينا مسلمات منطقية . ان الدين والاخلاق يظهران مثالين بارزين في هذه الظاهرة ،إذ ان التشريع الالهي ملزما بالضرورة وادراكه الحدسي يتقدم على أي نوع آخر من الادراك ، وليس كذلك الاجتهاد الوضعي فهو في الاغلب مقيد باللاحدسي ـ المنطقي ـ وبنفس السياق نفهم انظمة القيم الاخلاقية التي لها النشأة الاولية بفعل الحدسي ، ثم يترتب عليها كل ما هو لاحدسي . ويذهب " ي . فينبرج " الى ان التميز عن الادراك اللاحدسي مطلق بينما التميز عن الادراك الحدسي في الحقائق العلمية نسبي ما دام في كلتا الحالتين يكون متعلقا ببصيرة تركيبية ومباشرة بالحقيقة (7). وخلاصة المطالعات السابقة ، لايمكن الركون الى الحدسي لوحده ولا الى اللاحدسي لوحده في السعي نحو تبني منطق توحيدي . كما لايمكن المغالات في المواضع المناسبة لتوظيفهما معرفيا وفي الكشف عن الحقيقة . في الرياضيات مثلا ثمة أمكانية غيرمحدودة للاستعانة بالحدس لبناء الانظمة البدهية وأمكانية محدودة في إيجاد حلول المسائل ، وان يبدو ذلك مفارقة في مثل هذا العلم . والى اليوم لم تحدد الشروط التي تظهر الحدس كطريق مقنع لايجاد الحلول ، ولكن الرياضياتي يعيها جيدا ويمكن له ان يصف تلك الظروف الا ان ادواته العلمية لاتسعفه في بناء تصور نظري للحدسي مقابل ما يوظفه من اللاحدسي في الغالب عند إثبات صحة القوانين والصياغات العلمية . وثمة فرق لايمكن وصفه في الواقع بين الحدسيات والترّهات سوى النتائج الامبريقية المترتبة على كليهما . وتقدم الانظمة البدهية سلسلة من الوقائع المقنعة على صحة حدوس التجربة أيا كانت وفي أية قطيعة علمية أو معرفية . فالصلة بين ما هوحدسي وما هو لاحدسي صلة دائرية ، برغم افتقادنا لمقاييس ملائمة وحاسمة في تقرير نسبة كل منهما في تجربة تسفر عن معطى علمي على قدر ملائم وضروري من الاقتناع . وتحت أية ظروف معرفية ، سواء اكانت شحيحة ام غنية حول قضية ما، لايعد أمرا مبررا ادعاء الحدوس العلمي الا اذا كان المعطى المنطقي حاضرا وبقوة . فليس دائما ظاهرة التكرار وأساليب الاغراق الاعلامي المتكرر ، تؤسس بدهيات لاتحوم حولها الشكوك . ما نملكه من قيم اخلاقية مشتركة على مستوى المجتمع الانساني في سبيل المثال هي ليست نتاج ظاهرة تكرار المواقف وانعكاساتها الشرطية ، بل للضرورة ـ بالمعنى البدهي ـ في بناءها الدور الاكبر . أما على صعيد العلوم الطبيعية والعلوم الصرفة فالتكرار فيها ليس الا حقائق قابلة للاختبار منهجيا ومنطقيا. وليس أمرا جديدا القول ان المنطق الارسطي قداغنى والى حد بعيد الفلسفة الافلاطونية ، بل وجددها . وهذه واقعة تاريخية غير قابلة للدحض تكشف لنا جانبا من الاسفاف في توظيف الحدس في غير مواضعه . أضف الى ان حدوس التجربة الدينية في بعدها الانساني قد ازاحت ركاما من المعتقدات الفلسفية ، لا لضعف اوانعدام صواب تلك المعتقدات حسب ،بل ان التجربة الدينية في استقرارها البنّاء في المجتمع الانساني قد اعادت توزيع الحدسي واللاحدسي في مدركات البشر على نحو اطلق القدرة البدهية في قوى الانسان الخلاقة ، وتحقيق الانعتاق والتحرر الكبيرين على المستوى الانساني الجمعي والفردي . والنقلة الكبرى الاخرى ، والتي لم تكتمل بعد ، تكمن في الحقائق العلمية المكتشفة حول الكون ، من الذرة حتى الفضاءالخارجي الفسيح .هذه النقلة قد انارت مسالك الحقيقة واطاحت بكل الغمام الذي وضعه المتاجرون باسم الدين وبه ، حول البداهة الكونية التي نطقت بها الرسالات السماوية بصفة عامة والرسالة الاسلامية التي خُتمت بها الرسالات بصفة خاصة . ومع كل ذلك فأن إرادة الحياة : الحرية ، بحسب تعبير "النقري " لم تكتمل انطلاقتها الكاملة . تلك الانطلاقة ممكنة ، وملزمة بحكم الضرورة ، عندما يعيد الوعي الانساني كل شئ الى اساسياته البدهية ، بما في ذلك الدين . إن "المنهج العلمي الجدلي التاريخي "، يصح منطلقا للاحاطة ببداهة الاشياء . فهو يتحوى الحدس واللاحدس ، مثلما يتحوى المنطق الشكلي والمنطق الرياضياتي ، ومنطقيات انبناءالاشياء والتصورات والنظريات والمبرهنات ، وانفتاحه على البدهيات والضرورات . فما هو المنهج العلمي الجدلي التاريخي ؟ إنه ببساطة لايقرر منهجية لعلم من العلوم بقدر ما يوظف المعطى العلمي في رؤيته وحل القضايا التي يتناولها ، لا على سبيل التبسيط المفتعل ، بل على صعيد التجربة المعاشة ، وواقعيته ونظرته الشمولية للواقع والوقائع على اختلافها يمثل احد ابعاد سمته العلمية . كما ان جدليته تعني في المقام الاول العلاقات الضمنية للظاهرات والوقائع وليس فقط الاقرار بالترابطات بينها . وان تاريخيته تضمن له رؤية مستمرة وليست متقطعة للظواهر والوقائع المختلفة ، كما تضمن له وعيا مركبا لكل المعطى الانساني في كل القطائع . وبهذا الوصف فأن المنهج العلمي الجدلي التاريخي ليس نظرية معرفية نقدمها بديلا عن النظريات المعرفية الاخرى ، انما هو وعي لايهمل شيئا في الحياة بما في ذلك صيرورة الاشياء وتضمنها وتداخلها وترابطها . كما انه ليس من مهامه تقديم منطقا ما ، بقدر ما يقدم طريقة ناجعة لتوظيف الوعي الانساني ، بكامل قدراته ، انطلاقا من بداهة الاشياء والحقائق والصلات المتعددة والمركبة بكيفيات متعددة هي الاخرى فيما بينها . ومنكل ذلك فأن المنهج العلمي الجدلي التاريخي هو منهج فكري ، يمثل انعكاسا كاملا ومتكاملا للوقائع أنّا كانت . مثلت ومازالت كل من الاسطورة والفلسفة والعلم والفن والآداب، محاولات انسانية حثيثة نحو اكتشاف الحقيقة أو الحقائق والظواهر التي تفرض نفسها على المجتمع الانساني ويتعامل معها . وفي كل هذه القطائع ثمة خصيصة مشتركة تجمعها فيما اطلقنا عليه بـ " منطق الوعي " . وتتمثل هذه الخصيصة بـ " الاشارة الدالة " على شئ ما يحظى بأهتمام العقل البشري وحسه . أن الاشياء التي يتعامل معها الانسان مازالت محتفظة بخواصها وشيئيتها النمطية وستبقى كذلك ،وهذا لاينفي تغيرها المستمر ، بل ان " التغير والتحول " وغيرهما ،هي في الاساس معنى آخر للتنوع من جهة واكتشاف مستمر للعلاقات والعمليات المتنوعة والمختلفة بين الاشياء من جهة أخرى . انما المتغير هو نتاج انساني محض : عقلي تارة ، وتقني تارة أخرى ،ومركب تارة ثالثة ، وبكيفيات ليست قابلة للحصر ، تجد حضورها الدال في الاسطورة والفلسفة والعلم والفن والآداب . لذلك ان "الاكتشافات " في أي من هذه القطائع تمثل بمجموعها ما تيسر للانسان من معرفة الحقيقة ، وليس كذلك " الاختراع " ، فهو بمعنى ما ؛ استثمار امثل للمعطيات في الطبيعة وفي الحياة الانسانية والكائنات بأجمعها حية او غير حية بالمعنى البايلوجي ، وفي منطق الوعي. ما يلفت نظرنا هنا ، ان كل القطائع المعرفية المذكورة قد لامست الحقائق من حيث انها ظفرت بوجودها في مواضعها ولو على مستوى الاشارة الدالة ، وبغض النظر عن الدرجة العلمية التي يقرر منحى وطبيعة وفاعلية تلك الاشارة على مستوى التداول المعرفي وصلته بالحياة . فعلى سبيل المثال ، بغياب الالات المكبرة "المجاهر " وسواها من التقنيات العلمية الاخرى ، ورَدَت على العقل الانساني إشارات متكررة تدل على ما اسموها بـ " الهيولى " التي هي " قوة منفعلة". ان اهمية هذا الاكتشاف لايتعلق من اسمه او من خواصه التي وضعت له بوصفها محاولة الاقتراب الى ماهيته . مرة أخرى " الهيولى " إشارة دالة على شئ ما ، موجود ، استدل عليه العقل البشري ، وقد يحل ـ او حل بالفعل ـ بدلا عنه مفهوم او مفاهيم متعددة اوضحت وفكت رموز تلك الاشارة الدالة عليه بأعادة ترتيب تحوياته وصلاته عبر سلسلة من الكشوفات المستقلةعنه بوصفه مفهوما اتخذ اسم الهيولى. الا ان تلك الكشوفات قد أ ُعملت في الموضع او الحواء الذي أشير اليه بهذه الاشارة الدالة . وهذا يقودنا الى ان نفهم كيف ان المجموعات الضبابية موجودة ولايمكن التعبير عنها بدالة الانتماء ، إلا انه من الممكن اضفاء الاشارة الدالة عليها حيث يمكن الاستدلال عليها ، حدسيا . ان الفرق بين كتلة ذرة نظير مستقر و مجموع اوزان النويات والالكترونات التي تتكون منها ، مثـّل اشارة دالة على حوية ما قد تكون شيئا ما ، من شأنه الغاء الفرق، اوربما خطأ في الحساب ، فكان اكتشاف تحول الكتلة في جزء منها الى طاقة لضرورة كونية . ان المثالين السالفي الذكر ربما لايسعفاننا على نحو كاف لايضاح ما قصدناه بـ " الاشارة الدالة " على حوية تكتنفها الضبابية ، فهما بسياقين مختلفين وقابلين للتأويل بتأويلات عدة تحيد عن المفهوم الذي اقترحناه . ولكن ما يرفع من درجة تفاؤلنا في امكانية ايضاحه تلك المقاربات الممكنة بين تحويات الاسطورة مثلا والمعطى الابستمولوجي " المعرفي" المعاصر وكذلك بين المفاهيم الفلسفية وما يقابلها من معطى علمي وهكذا ..
( 3 ) منطق الشكل الحيوي يعرّف "رائق النقري " المنطق التوحيدي للشكل الحيوي بأنه (الصيغة التي يمكن أن نتتبع فيها صيرورة الكائن بأبسط صيغة تعبر فيها عن وحدة صيغ ظهوره وتنوعه وزواله ، بوصفه حركة ،و صيرورة احتمالية ، ونسبية) (8).فهل هو مجرد " صيغة " للتتبع حسب ؟ماهي هذه الصيغة على وجه التحديد ؟ ام ثمة ما يمكن عده اشكال وقوانين للفكر تطرحه فلسفة الشكل الحيوي ، بديلا عن المنطقين الشكلي والديالكتيكي ؟ لانكاد نعثر على اجابات محددة لهذه الاسئلة الاستفاهمية ، في كتابات مدرسة دمشق للشكل الحيوي وهي صاحبة الامتياز في اكتشاف مفهوم الشكل الحيوي والمنطق التوحيدي الذي يكرسه هذا المفهوم . وتضحى عملية تحديد هوية واركان وقوانين منطق الشكل الحيوي ابعد منالا مع اعتبار وجود صيغ متعددة وليس صيغة واحدة ينبغي تتبعها حيث ، والقول للنقري (ان منطق توحيد الشكل الحيوي يشمل جميع صيغ و اشكال التكون ويحتوي كل الظواهر الفيزيائية والميتافيزيائية ويتحوى نقديا كل الصيغ والحواءات المنطقية وغير المنطقية، الخاطئة والمتناقضة والمشروطة والصائبة وغير المشروطة وغير المتناقضة. وسواء كنا نعرفها ام لانعرفها ، سواء كنا قادرين - كبشر - على تحويها ووعيها واحتوائها والبرهنة عليها ام لا، وبوصفها لحظات منطقية تعبر باختلاف مصالح طرق تحويها عن وحدة تشكلها المنطقي واحتوائها وتحويها جميعا في المنطق التوحيدي للشكل الحيوي)(9). فمع النصين المذكورين فنحن مازلنا عند مقولة منطق الوعي بعموميتها التي تمهد الى امتلاك المنطق الكلي والشمولي للمعرفة الانسانية .. دون ان تتوافر فيها تحديدات توضح من خلالها آلة الفكر الملائمة والتي تجعل من وعينا ذا طاقة منهجية ،ذات صياغة كلية هي الاخرى .كما نلمس ملمحا ديالكتيكيا في تحويات منطق الشكل الحيوي ،ولكن دون التوقف عند ماديته ... وبذات القوة نلمس ملمحا براغماتيا ، دون تكريس مقابل لاعلاء شأن الغاية بصفة عامة أو المصلحة بصفة خاصة على حساب المضمون الاخلاقي الايجابي للوسائل المتاحة .. لذلك ان المنطق التوحيدي يتأسس من البدهية العامة من أن كل شئ ناتج عن طريقة تشكل ، ويتحوى تحويات متعددة ومتغيرة ،فهوكينونة او بتعبيراعم هوصيرورة احتمالية ونسبية . بمعنى ان الحقائق ليست معطى نهائي ، وليست ثابتة. كما ان صواب أية قضية من المحتمل ان لاتكون صوابا مطلقا بل ان لها الصواب النسبي بسبب حالات التغير ، ما يستتبع ذلك تأثرها بشروط مسبقة او متولدة اثناء الصيرورة . وبضوء هذه الحقيقة يمكن تقريض قانون الهوية ( أ هي أ ) على انها ذات مركبتين : " أ " الاولى بوصفها واقعة ما ، شئ ما ، او بتعبير أدق شكل حيوي . أما " أ " الثانية فهي تصور دال على الواقعة " أ " الاولى ، وهو ما يشتغل به منطق الوعي . وبكلمات أخرى ان قانون الهوية ليس مكافئا لخاصة الانعكاس كما هي في جبر القضايا . ويترتب على ذلك ان الواقعة " أ " هي دالة التصور " أ " ، هذه الدالة متغيرة وبذات الوقت متعددة : متغيرة لأن الاشياء لها صيرورة حيث يمكن الوقوف عليها والتعرف اليها طبقا الى الاستدلالات المتوفرة لدينا في العلوم والفنون والاداب وفي كل ما يندرج تحت عنوان الخطاب الانساني ايضا ، وهي متعددة لأنها متحولة القيم ، وبتعبير أدق أن " أ" متغير وبتعبير مكافئ "شاغل مكان" قابل لتحوي قيم لحظية عبر حركته في ازمنة وامكنة مختلفة . ما يتغير في تصورنا " أ ـ الثانية من قانون الهوية " ، هو على الدوام تغيّر مركب : • تغير على صعيد الواقعة " أ ـ الاولى في قانون الهوية " ، وهو ما يكون بعلمنا او لايكون . • تغير على صعيد الدالة " أ ـ الثانية في قانون الهوية " ، وهو لاينفلت اطلاقا عن التغير على صعيد الواقعة ، الا ان الخطأ الانساني قد يتدخل في انتاج هذا التغير بمجانبة بدهيات الصيرورة . ان اللحظة التي يصدق فيها قانون الهوية عندما يقارب مفهوم الدالة الثابتة ، هي لحظة منطقية عبر خطية الزمن . كيدروف يعتقد غير هذا ، في اثناء شرحه للديالكتيك الماركسي يقول بأن ( أ هي أ ) ليس ما يقابلها في الواقع ، فهو يخلط بين دلالة وهوية أ ـ الاولى ودلالة وهوية أ ـ الثانية .إذ لاحاجة بي لأن أؤكد ان الكرسي الذي اجلس عليه الآن هو كرسي ، انما الحاجة تلزمني الى التعبير عن الكرسي بكل تحوياته : مادته أو مواده المصنوع منها ، تركيباتها ، طريقة تشكله ، تسويقه ، دلالته الوظيفية ، دلالته على المستوى المعاشي للمستخدم ، ذوق المستخدم ، عمره الاستعمالي ، كفائته ، مريحا بقدر او مزعج بقدر ،وظيفته المحفزة للذكريات ، .. فـ " أ ، الاولى " هي ليست أ ، الثانية كواقعة ، فكلاهما واقعتان على صعيدين مختلفين . قال كيدروف ما سبق ذكره بسبب انه يأخذ بمفهوم الجوهر الذي هو " مقلوب الشكل " بحسب تعبير النقري . ان الادلة التي يُعبر عنها بالقيم المطلقة : صائبة ، خاطئة ،هي ادلة " طـَرَفية " ، أي تعبر عن مدى دالة الحكم بقيمتيه المتطرفتين. ولايدخل في حسابها امكانية ان يكون الدليل او العبارة او القضية ، هي صادقة بقدر احتمالي ما ، وغير صائبة بقدراحتمالي ما أيضا . ولكن كم هي عدد القضايا التي تتسع لمثل هذه الاحكام النسبية ، وكم عدد تلك التي تتسع للاحكام المطلقة . لايمكن بطبيعة الحال تنظيم احصائية عددية ولو بطريقة الصفة المميزة لتعريف المجموعات الا بقدر مقارب للحقيقة وليس الحقيقة كاملة .. في العلوم الطبيعية نجد صنفي الاحكام حاضرا بقوة ، ذلك ان الاحكام المتعلقة بمعايير الطاقة ازاء الكتلة المتحولة في سبيل المثال هوأمر احتمالي وبمثل ذلك يقال على القياسات الحسابية للفوتونات . ولكن في جبر بوول وكذلك في المنطق الشكلي ، يكون لاضاءة المصباح أو انطفائه تعبيران مطلقان طالما ان الوهج وانعدامه هما المعياران اللذان يستوليان على اهتمامنا في الدارات الكهربائية .أما في الصنف الثاني الذي يظهر فيها الخطاب الانساني مثلا نقيا فيها، فأنها اكثر طواعية لقبول الاحكام الاحتمالية بتعابير وقيم نسبية قابلة للقياس. مرة ثالثة تتأكد هنا نجاعة وفاعلية مفهوم المجموعات الضبابية على نحو جلي . فهل ان الاقرار بالاحتمالية والنسبية في المنطق التوحيدي يدل على عجز علمي ، أو جهل في العلم لايمكن معه الوصول الى رؤية كلية كمستوى متواضع من المطلوب ؟ كلا بالطبع . ان الاحتمالية والنسبية تقرران طرق متعددة لتشكل الاشياء ،كما تفصحان عن تعددية التحويات بذات الوقت .أن الجهل الافتراضي هنا يبدأ من انكار البدهيات التي تؤسس لمفهوم الشكل الحيوي ، وهي تلك البدهيات التي تفترض من بين ما تفترض حواءات لانهائية تنعكس معرفيا في عقولنا ووعينا ، فهي تفتح أساليب لانهائية صوب الحقيقة الكلية . ولايعد جهلا إنعدام او ضعف القدرة على تعريف ماهية تلك التحويات كوقائع ملموسة او كوقائع مفترضة بأفتراض تحويات يمكن تحديدها عند ادنى مستوى معرفي من خلال " الاشارة الدالة " التي تترك اثرها دوما في تحويات الوعي المتضمنة في منطق الوعي .ولهذا لاغرابة في ان منطق الشكل الحيوي في الخطاب الانساني بخاصة وفي المدركات بصفة عامة ، يشمل الصواب والخطأ في الوعي من حيث انه طريقة تشكل. وكذلك فيما نعتقده حول مناولاتنا من الاشياء بالاجمال. إن معاييرالخطأ والصواب من وجهة نظر الشكل الحيوي ، هي كل ما توصل اليه العقل البشري من بدهيات كونية ، وأساليب منطقية ، وقوانين علمية ،وانظمة قيم، في لحظة تاريخية ما. ومنظورا اليها "عند" و "خارج" لحظتها التاريخية ،وعدم التوقف عندها .نظرة كهذه ، مركبة بابعادها الزمنية تجعل من منطق الشكل الحيوي ، تساميا متفردا على ترددات موجات الادراك في وعينا . مثلما تسمح والى ابعد الحدود بأعادة تشكيل مدركاتنا بالتساوق ليس مع المعطى العلمي المبرهن على صحته حسب ، بل مع الافاق القصية لاحتمالات التشكل على مسار "الوقائع ـ العلم " .إذ أن والقول للنقري :(من المسلم به بداهة ان وعي الظاهرة وتسميتها يختلف عن كينونة الظاهرة نفسها)(11).ويعد هذا القول إختزالا لقول " غرانجر": ( من المؤكد ان المفهوم ، ليس شيئا ، لكنه ليس ايضا مجرد وعي بمفهوم. المفهوم اداة وتاريخ ، أي أنه حزمة من الامكانات والعوائق في العالم المعاش )(12).وفي كلا القولين نلحظ حضور قانون الهوية ، ولكن حضورا متفاوتا في اقتراناته الدالية . اقتصرت تطبيقات المنطق الحيوي التوحيدي ، كما تفصح عنها اعمال الدكتور النقري ، على الخطاب الانساني : نص ، صورة ، فيلم ، كلمة ... وهي مقايسات تكشف عن شكل الخطاب الانساني فيما اذا كان شكل كلي ،أو شكل جزئي ،أو شكل جوهر جزئي ، أو شكل جوهر كلي . فهي على الدوام أربعة احكام محتملة ليس بها حاجة الى مقدمة ،بل هي احكام تستنتج من جذور أو أنماط أو أطوار أو أحوال أو أزمان أو فئويات أو رموز المصالح . وما يعطي المنطق الحيوي التوحيدي في الخطاب الانساني استقلاليته توافره على تقنية مربع المصالح . وهذا ما سنغيطه لاحقا . وما دمنا نتحدث عن استقلالية هذا المنطق فلنذكر بم َ يختلف عن المنطق الشكلي : 1ـ المنطق الأرسطي لايعطينا أي شيئ جديد او هام فيما يتعلق بمنطق المصالح لم يتضح مسبقا في المقدمة التي نقيس استنتاجاتها ،حيث الاستنتاج في القياس الأرسطي لايكشف اي جديد غير متضمن في المقدمة موضوع القياس ويركز فقط على ترابط المقدمات مع نتائجها . ولكن الاستنتاج في القياس الحيوي يكشف جديدا غير واضح - مضمر - في المقدمات والنتائج بصرف النظر عن ترابطها. 2ـ المنطق الأرسطي - كما هو معروف منذ ظهوره - لايمكن تطبيقه الا على النصوص ولكن المنطق الحيوي يمكن تطبيقه على النصوص والصور والاحداث. 3ـ المنطق الأرسطي لايملك أي قدرة على التطبيق إلا على نص يتضمن مقدمة واضحة . بينما المنطق الحيوي يملك قدرة على التطبيق على اي تعبير حتى ولو كان مجرد كلمة. سواء اكانت واضحة ام غير واضحة ، وسواء كانت في جملة مترابطة ام غير مترابطة . 4ـ المنطق الأرسطي لايستطع تقييم حيوية المصالح في اي نص او تعبير او صورة او حدث . بينما المنطق الحيوي يستطع تقييم حيوية المصالح في اي نص او تعبير او صورةاو حدث . 5ـ لا يمكننا - في المنطق الارسطي - من تأكيد وجود او عدم وجود عنصرية في النص المقاس. في حين يمكننا في المنطق الحيوي التمييز في منطوق النص او الفعل او الصورة او الحدث بحسب كونه منطوقا عنصريا او توحيديا. 6ـ المنطق الارسطي يهتم بصدق اوكذب القضايا ، والمنطق الحيوي التوحيدي لايهتم بصدق التعابير او كذبها بل بحيوية منطقها ومصالحها (14). وهنا تتضح أكثر الفروقات الحاسمة بين المنطق الحيوي التوحيدي من جهة والمنطقين الشكلي الارسطي والمنطق الرياضياتي والمنطق الديالكتيكي ـ الجدلي ـ من جهة أخرى . كما تتضح فرادته في استنتاج الاحكام السريعة على الاشكال النصية واللغوية والفنية والادبية والخطابية . واذا اردنا ان نتم تكوين خلاصة وافية حول المنطق الحيوي التوحيدي ،فلابد من الوقوف قليلا على دعوى لم توضحها كتابات مدرسة دمشق للمنطق الحيوي تلك القائلة (( بأن الاشكال / الاشياء لها قانون تشكل واحد )) .مع العرض اننا نعلم ان لها طرق متعددة تتشكل وفقا لها . فما هو ذلك القانون التوحيدي ؟ وما الفرق الحاسم بينه وطرق التشكل ؟ إن طرق التشكل لاتثير أية إشكالية ، فهي طرق احتمالية ونسبية وهذا ما لادفاع فيه . وينبغي الكشف عن طريقة تشكل الشئ طبقا لما يتحواه من تحويات ،هي في الخطاب الانساني جذور او فئويات او اتجاهات أو .. أو .. فأي قانون هذا الذي يستقطب اليه ـ بل يتحوى ـ كل الطرق المحتملة للتشكيلات وصيرورتها ؟ ان لانهائية الشكل الحيوي تفرض الظاهرة التناوبية في ماهو " داخلي " وما هو خارجي " من طرق التشكل . بكلمات أخرى ان طرق التشكل الخارجي التي تعبر عنها سلسلة العمليات الثنائية بين التحويات في لحظة ما ستضحى في وعي الظاهرة او الواقعة صيرورة هي في الاساس استطرادا ـ وإفصاحا ايضا ـ لطرق التشكل الداخلي . وهذه الحقيقة المعرفية تسمح لنا بالقول ان التناوب بين قوانين التشكيل الخارجي وقوانين التشكيل الداخلي التي تمتاز بخاصة الترتيب ، لهي أحد ملامح القانون الموحد للشكل الحيوي . وعلى فرض وجود حوائين مختلفتين ، لكل منهما قيم مختلفة عن الاخرى ، ولكل منهما علاقة داخلية تختلف عن الاخرى . أن علاقة الحواء الاول تنتج عناصر ، هي أصلا داخل الحواء، بمعنى انها ذات طبيعة مغلقة . وكذلك الامر مع علاقة الحواء الثاني . فاذا كانت العناصر التي تنتجها العلاقة الاولى لها صور ، هي عناصر تنتجها العلاقة الثانية فان التطبيق الدالي من الحواء الاول الى الحواء الثاني ، يكون تماثلا ، واذا كان التماثل متباينا فيدعى عندئذ بـ " التشاكل " (15). ويمكن إعمام هذين القانونين عندما نفترض حواءات لانهائية للشكل الحيوي .علما ان كلا منهما يمثل تطبيقا له مجال ومجال مقابل ، وليس بالضرورة أن يُملأ المجال المقابل بكامله ، وفي هذه سينصب اهتمامنا على المدى وهي صور(= قيم) تنتجها طريقة التشكل عبر تغذيتها بقيم المجال . وتأسيسا على ما تقدم من القول : إن " التماثل المتباين " ، بمعنى التشاكل حسب التعريف ،هوالقانون الموحد للشكل الحيوي ، سواء في صيرورته او في لحظة تعالقه مع اشكال اخرى قابلة للتحوي معه. وان هذا القانون يغطي القوانين العلمية في القطاعات المختلفة وليس في الخطاب الاعلامي او عند تحليل مضمون الرسالة الاعلامية حسب . وله من المتعلقات والتطبيقات ما يضيق عنه مجال هذا الفصل . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) النقري " المنطق التوحيدي للشكل الحيوي " ، موقع دمشق للمنطق الحيوي . (2) النقري : المصدر السابق . (3) كيدروف " المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي " ، بيروت 1959 ، ص 9 . (4) عبد الرحمن كاظم زيارة " مقابسة المقابسات " : 25 * الهيولى هي " قوة منفعلة " ، وان مطالعة النصوص التي ورد بها هذا الاصطلاح يكرس هذا المعنى ، اضافة الى معاني أخرى مجاورة له : كالعلاقة ، والقوة الرابطة ، والعملية الثنائية . انها تعبير اجمالي لكل هذه المعاني وهو الى الضرورة اقرب . قارن مع المباحث ذات الصلة في " مقابسة المقابسات " وبشكل خاص معجم الثاء الفلسفي ، ومبحث الصورة . (5) المصدر السابق : 161 . (6) ي . فينبرج " الفن والادراك " مجلة الثقافة الاجنبية العدد 2 ، 1988 ، ص 34 . (7)المصدر السابق: 41. (8) ، (9 ) النقري : م. س. ذ (10) كيدروف :م.س.ذ (11) النقري : " منطق الشكل الحيوي " : م.س.ذ (12) النقري : المصدر السابق (13) " غرانجر " في رولان بارث " مبادئ في علم الادلة : 30 . (14) راجع النقري : المصدر السابق . ( 15) حول التماثل والتشاكل قارن " عبد الرحمن كاظم زيارة " ـ علم البنى ـ التأصيل الرياضياتي للبنيوية ، الفصل الاول : مقدمة في علم البنى ، المنشور في موقع "الحوار المتمدن "وفي موقع "فلسفة". ومن المناسب ان نذكر هنا ان مفهوم الشكل الحيوي بالرغم من عدم اشتغاله بنظريتي المجموعات والبنى الرياضياتية ، ناهيك عن البنى التبولوجيا حتى الان فأن ذلك لايمنع من الكشف عن توافقه مع المفاهيم البنيوية ، وليس بالضرورة تطابقهما . ان امكانية الاشتغال بهذه النظريات تبرهنها هندسة الشكل الحيوي وهي موضوع الفصل القادم .
#عبد_الرحمن_كاظم_زيارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنطق الحيوي للشكل الحيوي
-
الادب الفلسفي في المقابسات
-
مبادئ في التحليل البنيوي
-
التوازن في مقالة المقابسات
-
مقدمة في علم البنى
-
البنية الزمرية
-
الاناسة اوعلم تالاجتماع
-
التباديل واحصاءات البنية
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|